{اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق].
أهمية العلم:
للعلم
أهمية كبرى في حياة الإنسان، ولما له من أهمية كان أول ما أنزله الله قلب
رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي اقرأ؛ فكان أول ما أمر الله به رسوله
صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده القراءة والتعلم ليعلم الإنسان مدى
أهمية هذا العلم وعظم احتياجه إليه. ولما كان الأمر {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ} عُلِمَ أن هذا العلم الذي كان أول ما أمر الله به هو العلم الذي
يعرف الإنسان بربه وخالقه سبحانه وتعالى، فَقَرَنَ الله العلم باسمه لأن
الله عز وجل هو مصدر العلم ومعرفة الانسان، بما في ذلك ملكاته الجبلية التي
فطر عليها، فهي كذلك من الله عز وجل وهو خالقها قال تعالى: {وَاللَّـهُ
أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ
لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} [سورة النحل: 78].
فجعل السمع والبصر أداة تلقي العلم
والفؤاد يستقبله، فَفَهِمَهُ على مراد الله عزوجل؛ فالله منه كل خير
والإنسان مهما بلغ وارتفع، فإن ما به من نعمة من علم أو توفيق إلى أي خير
كان فإنما هو من الله تعالى، ليس من عنده، فلينسب الفضل لأهله، ولا يكن
كقارون حين أنعم الله عليه بنعمة المال فـ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي} [سورة القصص: 78]، وليشكر نعمة الله -تعالى- عليه:
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ} [سورة النحل: 53]؛ فالله
سبحانه هو الذي علمك أيها الإنسان.
وليس هذا فقط وإنما ذكر الله عز وجل أداة حفظ العلم:
قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق: 4-5].
فالطريق
في تحصيل العلم وفهمه وحفظه يكون عبر القَلَم، قال ابن القَيم عن القلم في
(مفتاح دار السعادة) كما نقله عنه القاسمي: "إذ به تخلد العلوم، وتثبت
الحقوق، وتعلم الوصايا، وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين
الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين، ولولا الكتابة لانقطعت
أخبار بعض الأزمنة عن بعض، ودرست السنن وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف
مذاهب السلف، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم إنما
يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم، فجعل لهم الكتاب وعاءًا
حافظا للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان،
فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجلِّ النعم".
العلم الخشية:
{....
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ
عَزِيزٌ غَفُورٌ} [سورة فاطر: 28]... فالعلم خشية الله عز وجل، فهو الهدف
المرجو من العلم. فيتعلم المرء ليفيد نفسه أولاً ويعمل بما علمه لكي
يُحَصِل تلك الخشية، فالذي يتعلم الوضوء أو الصلاة لكي يتقنهما كما شرعهما
الله عز وجل وعلمها نبيه صلى الله عليه وسلم فذلك الذي يخشى الله حق
الخشية، لأنه يخشى أن لا يقيمهما على الوجه المشروع من ربه العلام فيفرط في
أركانهما، فخشيته تلك هي التي أوصلته إلى ذلك العلم.
ومن ذلك أن
الخشية تؤدي إلى العلم الصحيح، قال الإمام الزاهد الحسن البصري رحمه الله:
"العلم علمان: علم باللسان، وعلم بالقلب؛ فعلم القلب: هو العلم النافع،
وعلم اللسان: هو حجة الله على ابن آدم" (الذل الانكسار ضمن وسائل ابن رجب
1/296).
فالعلم النافع إذاً: هو ما باشر القلوبَ فأوجب لها
السكينةَ والخشيةَ، الإخباتَ لله، التواضعَ والانكسارَ له، وإذا لم يباشر
القلوبَ ذلك العلمُ، إنما كان على اللسان: فهو حجة الله على ابن آدم، تقوم
على صاحبه وغيره، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إنَّ أقواماً يقرؤون
القرآنَ لا يجاوز تراقيَهم"، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع صاحبه"
(الذل الانكسار ضمن وسائل ابن رجب 1/296).
أدلة العلم:
{أَفَمَن
يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ
أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة الرعد: 19]،
فَضَّلَ الله الذي يعلم الحق، وهو هنا الإسلام، على الأعمى الذي يبصر ويسمع
ولكن لا يفقه مما يرى من شعائر الإسلام؛ ذلك من أراد الله به الخير، قيل
أنها نزلت في حمزة وأبو جهل.
رفعة أهل العلم:
رفع الله
تعالى من قدر العلماء فقرنهم باسمه، ورفع شأنهم مبيناً أهمية العلم
والعلماء، فقال جل ثناؤه: {شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا
هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ...} [سورة آل عمران: 18]، وقال
أيضا: {يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...} [سورة المجادلة: 11].
اقتضت حكمت الله ذلك
لأن الذي لا يعلم ليس كالذي يعلم، فالذي يعلم أدرى بالله ممن جهل به
سبحانه وتعالى فَيُقَرِب الله من عرفه أكثر، كسالكي طريق أحدهما يعرف
معالمه والآخر يخطؤه لجهله به، فالأولى بالوصول والمرتبة والمكانة والإيمان
العالم بها وليس من جهلها.
العلماء ورثة الأنبياء:
عن
كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي
مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّي
جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ، قَالَ: «فَإِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ
طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ
أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ
لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى
الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ
الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ
الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا
الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"» [رواه أبو داود وصححه
الألباني].
ولذلك كان الأنبياء والرسل هم أعلم الناس؛ لتمام علمهم
بالله ومعرفتهم به وشرف العلم، وأهميته بأهمية موضوعه ومدى احتياج الناس
له، وليس هناك ما البشرية أحوج له من معرفتها بالله وبشرعه، ولهذا كان هذا
العلم هو ميراث الأنبياء؛ فالأنبياء لم يورثوا مالا وإنما ورثوا علما،
ولهذا كان فرضا على المسلم أن يطلب من هذا العلم ويتعلم منه القدر الذي لا
بد لكل إنسان منه ولا تستقيم حياته به.
وذكر الرسول صلى الله عليه
وسلم أجر من سلك طريق العلم وما فيه من المثوبة وتذليل الطريق لذلك. وأن
الكائنات كلها تستغفر له حتى الحوت في جوف الماء؛ لأنه بهذا العلم الذي
تعلمه سينشره بين الناس ويعلمهم الحق من الباطل فينعم الناس والدواب
بالأمان والعدل الذي يستتبع نشر العلم.
العالم الرباني:
{...وَلَـٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [سورة آل عمران: 79].
فالرباني
هو من يبني نفسه ويبني غيره، يعمل بما علم ويُعلم ما تَعلم وهو من يعلم
الناس بصغار الأمور قبل كبارها؛ فالرباني صاحب حكمة وصاحب فقه يتدرج
بالمدعويين وييسر عليهم على علم وبصيرة وحسن عمل، قال الأصمعي والإسماعيلي:
"الرباني نسبة الى الرب؛ أي الذي يقصد ما أمره الرب بقصده من العلم
والعمل" (هذه أخلاقنا حين نكون مؤمنين حقا، لمحمد الخازندار).
عَنْ
حُذَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ
الْعُلَمَاءَ أَوْ لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِتَصْرِفُوا
وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ»
[رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني].
فالقصد من العلم وجه الله وليس للمِراء والرياء، فتلك علامة بارزة في العالم الرباني تميزه عن من ادعى العلم.
ومن
صفات العالم الرباني أنه يثبت على ما تعلمه من علم حتى ولو حاد الناس عما
بلغهم إياه، ولا يتبعهم في ضلالهم، وليس بالضرورة أن يكون الحق مع الكثرة؛
فإن الله عز وجل ذم الكثرة في مواضع مختلفة من القرآن:
{أَمْ يَقُولُونَ
بِهِ جِنَّةٌ ۚ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ
كَارِهُونَ} [سورة المؤمنون: 70]، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي
الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام: 116].
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق].
أهمية العلم:
للعلم
أهمية كبرى في حياة الإنسان، ولما له من أهمية كان أول ما أنزله الله قلب
رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي اقرأ؛ فكان أول ما أمر الله به رسوله
صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده القراءة والتعلم ليعلم الإنسان مدى
أهمية هذا العلم وعظم احتياجه إليه. ولما كان الأمر {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ} عُلِمَ أن هذا العلم الذي كان أول ما أمر الله به هو العلم الذي
يعرف الإنسان بربه وخالقه سبحانه وتعالى، فَقَرَنَ الله العلم باسمه لأن
الله عز وجل هو مصدر العلم ومعرفة الانسان، بما في ذلك ملكاته الجبلية التي
فطر عليها، فهي كذلك من الله عز وجل وهو خالقها قال تعالى: {وَاللَّـهُ
أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ
لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} [سورة النحل: 78].
فجعل السمع والبصر أداة تلقي العلم
والفؤاد يستقبله، فَفَهِمَهُ على مراد الله عزوجل؛ فالله منه كل خير
والإنسان مهما بلغ وارتفع، فإن ما به من نعمة من علم أو توفيق إلى أي خير
كان فإنما هو من الله تعالى، ليس من عنده، فلينسب الفضل لأهله، ولا يكن
كقارون حين أنعم الله عليه بنعمة المال فـ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي} [سورة القصص: 78]، وليشكر نعمة الله -تعالى- عليه:
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ} [سورة النحل: 53]؛ فالله
سبحانه هو الذي علمك أيها الإنسان.
وليس هذا فقط وإنما ذكر الله عز وجل أداة حفظ العلم:
قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق: 4-5].
فالطريق
في تحصيل العلم وفهمه وحفظه يكون عبر القَلَم، قال ابن القَيم عن القلم في
(مفتاح دار السعادة) كما نقله عنه القاسمي: "إذ به تخلد العلوم، وتثبت
الحقوق، وتعلم الوصايا، وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين
الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين، ولولا الكتابة لانقطعت
أخبار بعض الأزمنة عن بعض، ودرست السنن وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف
مذاهب السلف، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم إنما
يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم، فجعل لهم الكتاب وعاءًا
حافظا للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان،
فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجلِّ النعم".
العلم الخشية:
{....
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ
عَزِيزٌ غَفُورٌ} [سورة فاطر: 28]... فالعلم خشية الله عز وجل، فهو الهدف
المرجو من العلم. فيتعلم المرء ليفيد نفسه أولاً ويعمل بما علمه لكي
يُحَصِل تلك الخشية، فالذي يتعلم الوضوء أو الصلاة لكي يتقنهما كما شرعهما
الله عز وجل وعلمها نبيه صلى الله عليه وسلم فذلك الذي يخشى الله حق
الخشية، لأنه يخشى أن لا يقيمهما على الوجه المشروع من ربه العلام فيفرط في
أركانهما، فخشيته تلك هي التي أوصلته إلى ذلك العلم.
ومن ذلك أن
الخشية تؤدي إلى العلم الصحيح، قال الإمام الزاهد الحسن البصري رحمه الله:
"العلم علمان: علم باللسان، وعلم بالقلب؛ فعلم القلب: هو العلم النافع،
وعلم اللسان: هو حجة الله على ابن آدم" (الذل الانكسار ضمن وسائل ابن رجب
1/296).
فالعلم النافع إذاً: هو ما باشر القلوبَ فأوجب لها
السكينةَ والخشيةَ، الإخباتَ لله، التواضعَ والانكسارَ له، وإذا لم يباشر
القلوبَ ذلك العلمُ، إنما كان على اللسان: فهو حجة الله على ابن آدم، تقوم
على صاحبه وغيره، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إنَّ أقواماً يقرؤون
القرآنَ لا يجاوز تراقيَهم"، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع صاحبه"
(الذل الانكسار ضمن وسائل ابن رجب 1/296).
أدلة العلم:
{أَفَمَن
يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ
أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة الرعد: 19]،
فَضَّلَ الله الذي يعلم الحق، وهو هنا الإسلام، على الأعمى الذي يبصر ويسمع
ولكن لا يفقه مما يرى من شعائر الإسلام؛ ذلك من أراد الله به الخير، قيل
أنها نزلت في حمزة وأبو جهل.
رفعة أهل العلم:
رفع الله
تعالى من قدر العلماء فقرنهم باسمه، ورفع شأنهم مبيناً أهمية العلم
والعلماء، فقال جل ثناؤه: {شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا
هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ...} [سورة آل عمران: 18]، وقال
أيضا: {يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...} [سورة المجادلة: 11].
اقتضت حكمت الله ذلك
لأن الذي لا يعلم ليس كالذي يعلم، فالذي يعلم أدرى بالله ممن جهل به
سبحانه وتعالى فَيُقَرِب الله من عرفه أكثر، كسالكي طريق أحدهما يعرف
معالمه والآخر يخطؤه لجهله به، فالأولى بالوصول والمرتبة والمكانة والإيمان
العالم بها وليس من جهلها.
العلماء ورثة الأنبياء:
عن
كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي
مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّي
جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ، قَالَ: «فَإِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ
طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ
أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ
لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى
الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ
الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ
الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا
الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"» [رواه أبو داود وصححه
الألباني].
ولذلك كان الأنبياء والرسل هم أعلم الناس؛ لتمام علمهم
بالله ومعرفتهم به وشرف العلم، وأهميته بأهمية موضوعه ومدى احتياج الناس
له، وليس هناك ما البشرية أحوج له من معرفتها بالله وبشرعه، ولهذا كان هذا
العلم هو ميراث الأنبياء؛ فالأنبياء لم يورثوا مالا وإنما ورثوا علما،
ولهذا كان فرضا على المسلم أن يطلب من هذا العلم ويتعلم منه القدر الذي لا
بد لكل إنسان منه ولا تستقيم حياته به.
وذكر الرسول صلى الله عليه
وسلم أجر من سلك طريق العلم وما فيه من المثوبة وتذليل الطريق لذلك. وأن
الكائنات كلها تستغفر له حتى الحوت في جوف الماء؛ لأنه بهذا العلم الذي
تعلمه سينشره بين الناس ويعلمهم الحق من الباطل فينعم الناس والدواب
بالأمان والعدل الذي يستتبع نشر العلم.
العالم الرباني:
{...وَلَـٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [سورة آل عمران: 79].
فالرباني
هو من يبني نفسه ويبني غيره، يعمل بما علم ويُعلم ما تَعلم وهو من يعلم
الناس بصغار الأمور قبل كبارها؛ فالرباني صاحب حكمة وصاحب فقه يتدرج
بالمدعويين وييسر عليهم على علم وبصيرة وحسن عمل، قال الأصمعي والإسماعيلي:
"الرباني نسبة الى الرب؛ أي الذي يقصد ما أمره الرب بقصده من العلم
والعمل" (هذه أخلاقنا حين نكون مؤمنين حقا، لمحمد الخازندار).
عَنْ
حُذَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ
الْعُلَمَاءَ أَوْ لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِتَصْرِفُوا
وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ»
[رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني].
فالقصد من العلم وجه الله وليس للمِراء والرياء، فتلك علامة بارزة في العالم الرباني تميزه عن من ادعى العلم.
ومن
صفات العالم الرباني أنه يثبت على ما تعلمه من علم حتى ولو حاد الناس عما
بلغهم إياه، ولا يتبعهم في ضلالهم، وليس بالضرورة أن يكون الحق مع الكثرة؛
فإن الله عز وجل ذم الكثرة في مواضع مختلفة من القرآن:
{أَمْ يَقُولُونَ
بِهِ جِنَّةٌ ۚ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ
كَارِهُونَ} [سورة المؤمنون: 70]، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي
الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام: 116].