من سيوف الاسلام :قتيبة بن مسلم الباهلي
إنه قتيبة بن مسلم الباهلي أحد ثلاثة كبار اقترنت أسماؤهم بالحركة التوسعية في مداها
الأعظم في العهد الأموي(المرواني)، إلى
جانب محمد بن القاسم الثقفي وموسى بن نصير، والتي شكّلت الفصل الثاني بعد
منجزات العهد الراشدي الأول. كانت الخلافة الأموية، حينذاك، قد خرجت بصعوبة
من محنتها، بعد سقوط الفرع السفياني المؤسس لها، واستعادت وحدتها السياسية
في ظل شخصية المرحلة الجديدة عبدالملك بن مروان، مكتسبة معه سمة
«الدولة»على مستوى الإدارة والاقتصاد، والعلاقات الخارجية بعد تنشيط
الجبهات العسكرية، التي خمدت لسنوات، كانت الخلافة منصرفة خلالها إلى
مواجهة أزماتها الداخلية. وما كاد يعمّ السلام على أرضها، حتى كانت الحملات
تعود، وبصورة أكثر فاعلية، إلى وتيرتها السالفة، خصوصًا على الجبهة
البيزنطية، معتمدة النظام المعروف بالشواتي والصوائف. وقد عكس ذلك - من دون
شك - النزعة التوسعية للأمويين، منذ أن آلت إدارة الشام إليهم في العهد
الراشدي، ودأب عاملها حينئذ (معاوية) على تحصين دفاعها برًا وبحرًا ضد
الخطر البيزنطي.
الفتوحات الأموية
وهكذا ترسّخت
التقاليد الحربية، وباتت الفتوح عنصرًا أساسيًا في برامج الخلفاء الأمويين
الأوائل، تحدوهم إلى ذلك دوافع سياسية واقتصادية بما يوائم النمط
الإمبراطوري لدولتهم، ولكن من دون أن يغيب عنها حافز الجهاد لدى قادة عظام
كرّسوا حياتهم له. وإذا كانت جبهة الشمال قد واجهت صعوبات بعد فشل الحملة
الأولى على القسطنطينية (49 هـ)، مصطدمة بالدفاعات البيزنطية المتبعة، إذ
كانت جبهة الغرب قد تعثّرت في أعقاب معركة تهوده (63هـ)، حيث استشهد القائد الشجاع عقبة بن نافع الفهري،
فإن الجبهة الشرقية لم تستكن منذ أن حقق العرب المسلمون انتصارهم الباهر
في معركة نهاوند (21هـ) الحاسمة، فاتحة «الطريق إلى الانتشار في أرجاء
الإمبراطورية الفارسية المتهادية.لعل قتيبة كان من
اكتشاف الحجاج، رجل السياسة والحرب والقبضة الحديدية في العراق والمشرق
الإسلامي، شأن القائد الملهم الآخر محمد بن القاسم فاتح السند، إذ كلاهما
غير معروف حينذاك، ولم تسبقه تجربة أو شهرة من قبل. فقد يكون انتماء
القائدين للقبائل المضرية (القيسية)، التي تنتسب إليها«ثقيف» قبيلة
«الحجاج» ما شجّع الأخير على اختيارهما بعد أن ضاق ذرعًا بالولاة اليمنيين
في خراسان، لاسيما يزيد المعروف بصلفه وكبريائه، حتى أن عمر بن عبدالعزيز
لم يخف تبرّمه - بعد أن أصبح خليفة - من أبناء الأسرة المهلبية الذين وصفهم
بالجبابرة. ولم تكن «باهلة»، قبيلة قتيبة، معدودة بين القبائل الكبرى، وقد
وصفها القلقشندي بأنها «حي من أعصر من قيس بن عيلان العدنانية».أما قتيبة فقد
انفرد ابن خياط بخبر عن مولده الذي وقع سنة ست وأربعين للهجرة، أي أنه كان
قد بلغ السابعة والثلاثين من عمره حين عيّنه الحجاج واليًا على خراسان قبيل
وفاة الخليفة عبدالملك (86هـ). وكان لايزال عبر هذه السنين مغمورًا لا
يريد له ذكر في المرويات التاريخية، مما يعني أنه لم يكن في دائرة السلطة،
على الرغم من موالاة أسرته للخلافة الأموية. ولكن اختيار قتيبة لمنصب تنافس
عليه رجال كبار، لم يأت مصادفة أو لمجرّد انتمائه للقيسية، بقدر ما كان
لشخصيته القيادية من دور في ذلك، خصوصًا، إذا عرفنا أن مهمته تعدّت مجال
الإداة إلى ساحات الحرب، التي كانت بانتظاره وراء حدود الولاية الصعبة،
الأكثر اضطرابًا بالأزمات والتناقضات، فضلاً عن هواجس القلق إزاءها فيما
بعد.
الحنكة والدهاء
وقد وصف ابن عبد
ربه قتيبة بأنه شخصية تتسم بالحنكة والدهاء والبراعة في الحرب، كما وصفه
بالحذر والبصيرة، فلا يقدم على قرار إلا بعد تمعّن بالأمر ودقة في اختيار
الرجل المناسب للمهمة المنتدب لها، ما يتجلى في الرد على الذين أشاروا عليه
بانتداب أحد مساعديه (وكيع بن أبي سود) للقضاء على تمرّد في خراسان،
قائلاً: «إن وكيعًا رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا، قلّت مبالاته
بأعدائه، فلم يحترس منهم، فيجد عدوّه غرّة فيه». وعلى الرغم من
وجوده(قتيبة) في بيئة أكثريتها يمانية، فإنه استطاع بفضل مرونته وقدرته
الاحتوائية، الإمساك بزمام الأمور، وتوظيف طاقات الجميع لخدمة الهدف
المشترك، بعيدًا عن الأحقاد والعصبيات.
فتح بخارى
بدأ قتيبة أولى
غزواته عام قدومه (86هـ)، فسار إلى الطالقان، حيث رحّب به دهاقو بلخ، فلما
بلغ النهر، تلقّاه ملك الصغاينان بهدايا ومفتاح من ذهب، كذلك كان الموقف من
ملك كفتان، وانتهى إلى عقد صلح مع آخرين، وشومان قبل عودته إلى مرو.وهكذا حين أزف
موعد الغزوة الثانية (87هـ)، لم يكن ما يقلق قتيبة في طريقه إلى بيكند،
الأقرب إلى بخارى، مما يلي النهر (جيحون)، وقد كانت لها شهرة اقتصادية
لوقوعها في دائرة المواصلات مع الصين، لذلك عُرفت بـ«مدينة التجار». وأبدت
بيكند بتكوينها السكاني المتنوع من الترك والسغد والبرقس، وبموقف ملكها
المعروف بــ«الخاقان» مقاومة شديدة، لكن العرب المسلمين خاضوا القتال بروح
معنوية عالية، حتى أن وكيعًا، الرجل الثاني بعد قتيبة، استنفر قومه من بني
تميم، مخاطبًا إياهم - حسب رواية ابن أعثم - بقوله: «من كان يريد الموت
فليتبعني، ومن كان كارهًا فليثبت في مكانه». وكان لهذه الصرخة دوي تعدى
قبيلته إلى قبائل أخرى ومواليها، أخذت تتدافع إلى ساحة الحرب، «يقتتلون كل
يوم»، ويُروى أن قتيبة اصطنع رجلاً من «العجم» يعرف باسم تنذر، ليطلعه على
حركة أعدائه، ولكن أهل بخارى استدرجوه بالمال، فأخذ يشيع خبرًا بأن الحجّاج
قد عزل، للتأثير نفسيًا على قتيبة المرتبط مباشرة بالأخير، إلا أن ذلك لم
ينطل على القائد الأموي الذي أمر بقتله(تنذر) على الفور. وفي هذا الوقت،
كان العرب المسلمون يخوضون حربًا طاحنة، تتوّجت بنصر مظفر ودخول مدينة
بيكند في أعقابه، فيما انفرجت أسارير الحجّاج الذي أقلقه انقطاع أخبار
الحملة لنحو شهرين، حتى أنه طلب إلى الناس الدعاء للمجاهدين في المساجد.كان من نتائج هذه
الحملة، أنها على الصعيد العسكري اخترقت المجال الدفاعي لمدينة بخارى، كما
أن الغنائم الوفيرة، التي أصابها قتيبة سيكون لها تأثير إيجابي، لاسيما في
تمويل العمليات التوسعية في المنطقة، والتي اتخذت وتيرتها الدورية بما
يشبه النظام الحربي للخليفة عبدالملك على الجبهة الشمالية. وفي ضوء ذلك،
جاءت الحملة الثالثة (88هـ)، التي أسفرت عن صلح مع نومشكت ورامثنة، إلا
أنها اصطدمت بتكتل الترك والسغد إلى جانب أهل فرغانة، ما دفع قتيبة إلى
العودة على الرغم من انتصاره بصعوبة عليهم. وبعد أن أخذ وجنوده قسطًا من
الراحة، قام بحملته الرابعة (89هـ)، مستلهمًا تجاربه السابقة لتذليل ما قد
يعترض مهمته من عقبات وأخطار، لاسيما أنه يتجه نحو هدف صعب، يتمثل بغزو
بخارى التي وصفها ياقوت بأنها «من أعظم مدن ما وراء النهر وأجلّها».ومن المؤكد أن
فتح بخارى، كان إيذانًا بانتشار العرب المسلمين في هذه المنطقة التي عُرفت
بصعوبة مسالكها وتكوينها السكاني المعقّد، إلى تعدّد مراكز النفوذ فيها،
وقد أجمعت بمعظمها على محاربة قتيبة، حتى أن نيزك حليفه انقلب عليه بعدما
«ذعره - حسب الطبري - ما قد رأى من الفتوح»، وما لبث أن اتصل بعدّد من
«ملوك» المنطقة كانوا متعاهدين مع القائد الأموي، محرّضًا على التمرّد
عليه. ولكن قتيبة لم يدع نيزكًا يفسد عليه منجزاته، فبعث إليه
أخاه(عبدالرحمن) الذي سار في أثره راصدًا تحركاته حتى ظفر به بعد مطاردة
طويلة، انتهت بقتله بعد أربعين يومًا من أسره. وقد سارع حينئذ ملك الجوزجان
إلى طلب الأمان من قتيبة وعقد صلح معه، كان ذلك على الأرجح إبّان الحملة
السادسة (91هـ).
بلاد ما وراء النهر
ويبدو أن قتيبة
قضى العام الثاني والتسعين في مرو، إذ خلت المرويات حينئذ من أي إشارة إلى
غزو له في بلاد ما وراء النهر، أو أن أخبار فتح الأندلس الذي جرى في ذلك
العام، قد استأثرت بالاهتمام، ربما إلى حد تغييب أحداث أخرى متزامنة معها،
على نحو ما هو ملحوظ في مرويات كادت تقتصر على الخبر المحوري في العام الذي
تؤرخ له. وبينما أخذ يعدّ للحملة السابعة (93هـ)، مخطّطًا لغزو سمرقند،
أهم المدن وراء نهر جيحون، كان الخلاف قد بلغ أشدّه بين ملك خوارزم الضعيف
وبين أخيه (خرّزاد) الغالب عليه، مما حدا بالأول إلى الاتصال بالقائد
الأموي مبديًا رغبته في الولاء له، مقابل تحريره من سطوة أخيه. ولكن قتيبة
الحذر بطبيعته لم يستجب مباشرة لهذه الدعوة، وإنما سار باتجاه إقليم السغد،
حيث تقع أيضًا سمرقند، إلا أن ملك خوارزم وجدها سانحة للتقرّب من قتيبة،
وأرسل إليه وفدًا عقد معه صلحًا، كان فيه مصلحة للطرفين، إذ حقّق الملك
بغيته في التخلّص من أخيه، بينما أضحت خوارزم عمليًا تحت سيطرة القائد
الأموي، ما أتاح له التقدم من دون صعوبة نحو سمرقند، وكان قد وجّه إليها
فرقة بقيادة أخيه (عبدالرحمن)، وأمره بالتخلي عن أحماله الثقيلة، مكتفيًا
بسلاح الفرسان والمشاة حتى لا يثير جلبة في طريقه، ثم سار هو بالحملة
الرئيسة في أعقابه. وبفتح سمرقند، يكون قتيبة قد أحكم نفوذه على ما وراء
نهر جيحون، إلا أنه، وقد بات الغزو من طبيعة حياته، لم يشأ التوقّف عند
ذلك، فأخذ يخطط لعبور النهر الكبير الآخر (سيحون). فكانت الحملة الثامنة
(94هـ)، وقد نازعته حينئذ رغبة في الانتقام من أهل الشاش، حيث وجّه إليهم
جيشًا من بخارى وكشّ ونسف وخوارزم، فيما سار هو إلى فرغانه، وانتهى إلى
مدينتها كاشان، التي خضعت له بعد قتال عنيف. ولم يستكن هذا القائد الدءوب
فعد العدة إلى مرو، فما لبث أن قام بحملته التاسعة (95هـ)، التي أمدّها
الحجّاج بفرق من العراق، ما يعني أن حربًا طويلة حاسمة، بتوجيه من الأخير،
كان يعدّ لها نفسه في أقاصي الشرق. ولكنه ما إن بلغ الشاش حتى أتاه نبأ
وفاة الحجّاج، فقفل عائدًا إلى مقرّه في خراسان، بعد توزيع جنوده على
البلاد التي خضعت له.
على حدود الصين
إذا كانت وفاة
الحجّاج قد أنذرت قتيبة شرًا منها، فإن وفاة الخليفة، التي وقعت غداة
اقترابه من حدود الصين (96هـ) ستحمل إليه الشرّ كلّه،
مدركًا في قرارة نفسه أن دوره انقضى مع غياب رمزي العهد الذي تألّق فيه،
وحقّق على مداه أعظم الانتصارات. فقد جاء سليمان الذي صارت إليه الخلافة
بعد أخيه، في ظل مناخ انقلابي، منحازًا إلى القبائل اليمنية التي استُبعدت
عن السلطة خصوصًا في العراق والمشرق، من دون أن يخفي نزعة ثأرية ضد رجالات
سلفه، لاسيما قتيبة الذي كان ضالعًا في محاولة إبعاد سليمان عن ولاية العهد
والبيعة لعبدالعزيز بن الوليد، مما أحقد الخليفة الجديد عليه مخطّطًا منذ
البداية لعزله، وإعادة خصمه اللدود يزيد بن المهلّب عاملاً على خراسان.ولم يكن الأمر
مجرّد تغيير يحدث غالبًا مع تعاقب الخلفاء، وإنما كان استهدافًا، إن لم يكن
انتقامًا من شخصية مناوئه لسليمان في الأساس، ولا ترى أن المسألة تنتهي
عند حدود العزل، وفي ضوء ذلك يبادر قتيبة إلى استرضاء الخليفة، فوجّه إليه
كتاب تهنئة يشير فيه إلى بلائه في خدمة عبدالملك الوليد، وإلى أنه في طاعته
مخلص له إذا ما أبقاه في منصبه. بيد أن قتيبة ما إن تناهى إليه أن يزيدًا
لا يفارق مجلس سليمان، وأن هذا عازم على تقليده مكانه، أدرك عدم جدوى
الحوار مع الخليفة، فأخذ يخطط للانتقال إلى فرغانة ليعبر منها إلى الصين،
إلا أنه عاد عن ذلك بعدما استحثّه أصحابه على خلع سليمان، اعتمادًا على
القبائل المضرية في خراسان، والتي يساورها القلق من عودة نفوذ بني المهلب،
وتسلّط اليمنيين عليها.وهكذا، بعدما
تأكّد قرار عزله، ضاقت الخيارات أمام قتيبة، واستجاب في النهاية لرأي أخيه
(عبدالله) بإعلان العصيان على الخليفة، مدركًا أن النهاية واحدة سواء خضع
للأخير أو تمرّد عليه، مما يعبّر عن ذلك ردّة فعله إزاء تعيين يزيد على
خراسان، قائلاً - حسب رواية ابن أعثم - «اللهم إني أسألك ميتة كريمة»،
وفي خطبة منسوبة له، قدّم قتيبة حينذاك ما يشبه بيانًا بإنجازاته، مُظهرًا
فيه الفارق بين سياسته وسياسات الذين سبقوه من الولاة، محذّرًا مما سيكون
من أمر ابن المهلب في الناس من بعده. ولكن القبائل اليمنية المغتبطة بعودة
السلطة إليها لم تعبأ بكلامه، كذلك المضرية المنقسمة لم تظهر حماسة لركوب
المغامرة معه. ولعل قتيبة، على مدى نحو عشر سنوات من ولايته، لم ينجح في
ترسيخ الوحدة الاجتماعية في خراسان، منشغلاً عن ذلك بغزواته العديدة، التي
أرهقت القبائل، وهي في تركيبها يمانية أكثر منها مضرية. وكانت الأزد، التي
ينتمي إليها بنو المهلب، ذات حضور بارز في هذه الولاية، دون أن يقتصر
تأثيرها على اليمنيين فحسب، بل كانت تميل إليها قبائل من مضر، نعمت
بامتيازات في عهدها ما لم تحظ به في عهد قتيبة رجل الحرب الذي لم يستطع
مجاراة سلفه في سخائه ومعطياته المجزية. فقد بدأ حينئذ أن يزيدًا كان
لايزال في ذاكرة خراسان شخصية قيادية جذّابة، في الحرب كما في السلم، ما
يفسّر انفضاض غالبية القبائل من الاتجاهين عن قتيبة حين تأكدت عودة المهلبي
إلى منصبه.
نهاية قائد
لقد قضى قتيبة،
الذي روّع الملوك في ما وراء نهري جيحون وسيحون، ضحية العصبيات القبلية،
التي أسهمت أحقاد الخليفة في تأجيجها، من دون أن يتنبّه الأخير إلى خطورة
ما قام به على المدى غير البعيد، لاسيما أن خراسان التي شهدت مأساة قتيبة،
ظلّت دائمًا البؤرة المتفجّرة، مطوّحة بعد حين بخلافة بني أمية. ومن
المفارقات حينذاك أن تتزامن عودة السيادة إلى القبائل اليمنية في خراسان،
مع تشكّل الدعوة العباسية السرية في إحدى قرى الشام، مخترقة بحدود ما، هذه
القبائل في الأخيرة، إلا أن الاختراق الكبير لها كان على جبهة الولاية
البعيدة، منخرطة بكليّتها في الدعوة، بعد أن كانت بكليّتها من قبل إحدى أهم
ركائز الحكم الأموي.إنها العصبيات
التي تورّط فيها عدد من الخلفاء، كانت أداة تفجير دائمة في نظام حقّق أعظم
الفتوح ولكنه فشل في إرساء صيغ ملائمة لمجتمع متماسك، تنصهر فيه الجماعات
كافة، عربية وغير عربية. العصبيات إذاً ظلت مصدر التفكك الأساسي في هذا
المجتمع الذي كان من هذا حظ قادته وصانعي تاريخه، أن يُكافأوا بالقتل
والسجن والاضطهاد، وما أكثر الذين كانت السلطة وبالاً عليهم. وكان قتيبة في
طليعة هؤلاء، وقد تجرّع مأساته بشجاعة وصبر، ولم يفته استخلاص العبرة في
الموقف الصعب، وذلك بما عبّر عنه في مقولته البليغة: «الإمارة حلوة الرّضاع مُرّة الفطام
إنه قتيبة بن مسلم الباهلي أحد ثلاثة كبار اقترنت أسماؤهم بالحركة التوسعية في مداها
الأعظم في العهد الأموي(المرواني)، إلى
جانب محمد بن القاسم الثقفي وموسى بن نصير، والتي شكّلت الفصل الثاني بعد
منجزات العهد الراشدي الأول. كانت الخلافة الأموية، حينذاك، قد خرجت بصعوبة
من محنتها، بعد سقوط الفرع السفياني المؤسس لها، واستعادت وحدتها السياسية
في ظل شخصية المرحلة الجديدة عبدالملك بن مروان، مكتسبة معه سمة
«الدولة»على مستوى الإدارة والاقتصاد، والعلاقات الخارجية بعد تنشيط
الجبهات العسكرية، التي خمدت لسنوات، كانت الخلافة منصرفة خلالها إلى
مواجهة أزماتها الداخلية. وما كاد يعمّ السلام على أرضها، حتى كانت الحملات
تعود، وبصورة أكثر فاعلية، إلى وتيرتها السالفة، خصوصًا على الجبهة
البيزنطية، معتمدة النظام المعروف بالشواتي والصوائف. وقد عكس ذلك - من دون
شك - النزعة التوسعية للأمويين، منذ أن آلت إدارة الشام إليهم في العهد
الراشدي، ودأب عاملها حينئذ (معاوية) على تحصين دفاعها برًا وبحرًا ضد
الخطر البيزنطي.
الفتوحات الأموية
وهكذا ترسّخت
التقاليد الحربية، وباتت الفتوح عنصرًا أساسيًا في برامج الخلفاء الأمويين
الأوائل، تحدوهم إلى ذلك دوافع سياسية واقتصادية بما يوائم النمط
الإمبراطوري لدولتهم، ولكن من دون أن يغيب عنها حافز الجهاد لدى قادة عظام
كرّسوا حياتهم له. وإذا كانت جبهة الشمال قد واجهت صعوبات بعد فشل الحملة
الأولى على القسطنطينية (49 هـ)، مصطدمة بالدفاعات البيزنطية المتبعة، إذ
كانت جبهة الغرب قد تعثّرت في أعقاب معركة تهوده (63هـ)، حيث استشهد القائد الشجاع عقبة بن نافع الفهري،
فإن الجبهة الشرقية لم تستكن منذ أن حقق العرب المسلمون انتصارهم الباهر
في معركة نهاوند (21هـ) الحاسمة، فاتحة «الطريق إلى الانتشار في أرجاء
الإمبراطورية الفارسية المتهادية.لعل قتيبة كان من
اكتشاف الحجاج، رجل السياسة والحرب والقبضة الحديدية في العراق والمشرق
الإسلامي، شأن القائد الملهم الآخر محمد بن القاسم فاتح السند، إذ كلاهما
غير معروف حينذاك، ولم تسبقه تجربة أو شهرة من قبل. فقد يكون انتماء
القائدين للقبائل المضرية (القيسية)، التي تنتسب إليها«ثقيف» قبيلة
«الحجاج» ما شجّع الأخير على اختيارهما بعد أن ضاق ذرعًا بالولاة اليمنيين
في خراسان، لاسيما يزيد المعروف بصلفه وكبريائه، حتى أن عمر بن عبدالعزيز
لم يخف تبرّمه - بعد أن أصبح خليفة - من أبناء الأسرة المهلبية الذين وصفهم
بالجبابرة. ولم تكن «باهلة»، قبيلة قتيبة، معدودة بين القبائل الكبرى، وقد
وصفها القلقشندي بأنها «حي من أعصر من قيس بن عيلان العدنانية».أما قتيبة فقد
انفرد ابن خياط بخبر عن مولده الذي وقع سنة ست وأربعين للهجرة، أي أنه كان
قد بلغ السابعة والثلاثين من عمره حين عيّنه الحجاج واليًا على خراسان قبيل
وفاة الخليفة عبدالملك (86هـ). وكان لايزال عبر هذه السنين مغمورًا لا
يريد له ذكر في المرويات التاريخية، مما يعني أنه لم يكن في دائرة السلطة،
على الرغم من موالاة أسرته للخلافة الأموية. ولكن اختيار قتيبة لمنصب تنافس
عليه رجال كبار، لم يأت مصادفة أو لمجرّد انتمائه للقيسية، بقدر ما كان
لشخصيته القيادية من دور في ذلك، خصوصًا، إذا عرفنا أن مهمته تعدّت مجال
الإداة إلى ساحات الحرب، التي كانت بانتظاره وراء حدود الولاية الصعبة،
الأكثر اضطرابًا بالأزمات والتناقضات، فضلاً عن هواجس القلق إزاءها فيما
بعد.
الحنكة والدهاء
وقد وصف ابن عبد
ربه قتيبة بأنه شخصية تتسم بالحنكة والدهاء والبراعة في الحرب، كما وصفه
بالحذر والبصيرة، فلا يقدم على قرار إلا بعد تمعّن بالأمر ودقة في اختيار
الرجل المناسب للمهمة المنتدب لها، ما يتجلى في الرد على الذين أشاروا عليه
بانتداب أحد مساعديه (وكيع بن أبي سود) للقضاء على تمرّد في خراسان،
قائلاً: «إن وكيعًا رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا، قلّت مبالاته
بأعدائه، فلم يحترس منهم، فيجد عدوّه غرّة فيه». وعلى الرغم من
وجوده(قتيبة) في بيئة أكثريتها يمانية، فإنه استطاع بفضل مرونته وقدرته
الاحتوائية، الإمساك بزمام الأمور، وتوظيف طاقات الجميع لخدمة الهدف
المشترك، بعيدًا عن الأحقاد والعصبيات.
فتح بخارى
بدأ قتيبة أولى
غزواته عام قدومه (86هـ)، فسار إلى الطالقان، حيث رحّب به دهاقو بلخ، فلما
بلغ النهر، تلقّاه ملك الصغاينان بهدايا ومفتاح من ذهب، كذلك كان الموقف من
ملك كفتان، وانتهى إلى عقد صلح مع آخرين، وشومان قبل عودته إلى مرو.وهكذا حين أزف
موعد الغزوة الثانية (87هـ)، لم يكن ما يقلق قتيبة في طريقه إلى بيكند،
الأقرب إلى بخارى، مما يلي النهر (جيحون)، وقد كانت لها شهرة اقتصادية
لوقوعها في دائرة المواصلات مع الصين، لذلك عُرفت بـ«مدينة التجار». وأبدت
بيكند بتكوينها السكاني المتنوع من الترك والسغد والبرقس، وبموقف ملكها
المعروف بــ«الخاقان» مقاومة شديدة، لكن العرب المسلمين خاضوا القتال بروح
معنوية عالية، حتى أن وكيعًا، الرجل الثاني بعد قتيبة، استنفر قومه من بني
تميم، مخاطبًا إياهم - حسب رواية ابن أعثم - بقوله: «من كان يريد الموت
فليتبعني، ومن كان كارهًا فليثبت في مكانه». وكان لهذه الصرخة دوي تعدى
قبيلته إلى قبائل أخرى ومواليها، أخذت تتدافع إلى ساحة الحرب، «يقتتلون كل
يوم»، ويُروى أن قتيبة اصطنع رجلاً من «العجم» يعرف باسم تنذر، ليطلعه على
حركة أعدائه، ولكن أهل بخارى استدرجوه بالمال، فأخذ يشيع خبرًا بأن الحجّاج
قد عزل، للتأثير نفسيًا على قتيبة المرتبط مباشرة بالأخير، إلا أن ذلك لم
ينطل على القائد الأموي الذي أمر بقتله(تنذر) على الفور. وفي هذا الوقت،
كان العرب المسلمون يخوضون حربًا طاحنة، تتوّجت بنصر مظفر ودخول مدينة
بيكند في أعقابه، فيما انفرجت أسارير الحجّاج الذي أقلقه انقطاع أخبار
الحملة لنحو شهرين، حتى أنه طلب إلى الناس الدعاء للمجاهدين في المساجد.كان من نتائج هذه
الحملة، أنها على الصعيد العسكري اخترقت المجال الدفاعي لمدينة بخارى، كما
أن الغنائم الوفيرة، التي أصابها قتيبة سيكون لها تأثير إيجابي، لاسيما في
تمويل العمليات التوسعية في المنطقة، والتي اتخذت وتيرتها الدورية بما
يشبه النظام الحربي للخليفة عبدالملك على الجبهة الشمالية. وفي ضوء ذلك،
جاءت الحملة الثالثة (88هـ)، التي أسفرت عن صلح مع نومشكت ورامثنة، إلا
أنها اصطدمت بتكتل الترك والسغد إلى جانب أهل فرغانة، ما دفع قتيبة إلى
العودة على الرغم من انتصاره بصعوبة عليهم. وبعد أن أخذ وجنوده قسطًا من
الراحة، قام بحملته الرابعة (89هـ)، مستلهمًا تجاربه السابقة لتذليل ما قد
يعترض مهمته من عقبات وأخطار، لاسيما أنه يتجه نحو هدف صعب، يتمثل بغزو
بخارى التي وصفها ياقوت بأنها «من أعظم مدن ما وراء النهر وأجلّها».ومن المؤكد أن
فتح بخارى، كان إيذانًا بانتشار العرب المسلمين في هذه المنطقة التي عُرفت
بصعوبة مسالكها وتكوينها السكاني المعقّد، إلى تعدّد مراكز النفوذ فيها،
وقد أجمعت بمعظمها على محاربة قتيبة، حتى أن نيزك حليفه انقلب عليه بعدما
«ذعره - حسب الطبري - ما قد رأى من الفتوح»، وما لبث أن اتصل بعدّد من
«ملوك» المنطقة كانوا متعاهدين مع القائد الأموي، محرّضًا على التمرّد
عليه. ولكن قتيبة لم يدع نيزكًا يفسد عليه منجزاته، فبعث إليه
أخاه(عبدالرحمن) الذي سار في أثره راصدًا تحركاته حتى ظفر به بعد مطاردة
طويلة، انتهت بقتله بعد أربعين يومًا من أسره. وقد سارع حينئذ ملك الجوزجان
إلى طلب الأمان من قتيبة وعقد صلح معه، كان ذلك على الأرجح إبّان الحملة
السادسة (91هـ).
بلاد ما وراء النهر
ويبدو أن قتيبة
قضى العام الثاني والتسعين في مرو، إذ خلت المرويات حينئذ من أي إشارة إلى
غزو له في بلاد ما وراء النهر، أو أن أخبار فتح الأندلس الذي جرى في ذلك
العام، قد استأثرت بالاهتمام، ربما إلى حد تغييب أحداث أخرى متزامنة معها،
على نحو ما هو ملحوظ في مرويات كادت تقتصر على الخبر المحوري في العام الذي
تؤرخ له. وبينما أخذ يعدّ للحملة السابعة (93هـ)، مخطّطًا لغزو سمرقند،
أهم المدن وراء نهر جيحون، كان الخلاف قد بلغ أشدّه بين ملك خوارزم الضعيف
وبين أخيه (خرّزاد) الغالب عليه، مما حدا بالأول إلى الاتصال بالقائد
الأموي مبديًا رغبته في الولاء له، مقابل تحريره من سطوة أخيه. ولكن قتيبة
الحذر بطبيعته لم يستجب مباشرة لهذه الدعوة، وإنما سار باتجاه إقليم السغد،
حيث تقع أيضًا سمرقند، إلا أن ملك خوارزم وجدها سانحة للتقرّب من قتيبة،
وأرسل إليه وفدًا عقد معه صلحًا، كان فيه مصلحة للطرفين، إذ حقّق الملك
بغيته في التخلّص من أخيه، بينما أضحت خوارزم عمليًا تحت سيطرة القائد
الأموي، ما أتاح له التقدم من دون صعوبة نحو سمرقند، وكان قد وجّه إليها
فرقة بقيادة أخيه (عبدالرحمن)، وأمره بالتخلي عن أحماله الثقيلة، مكتفيًا
بسلاح الفرسان والمشاة حتى لا يثير جلبة في طريقه، ثم سار هو بالحملة
الرئيسة في أعقابه. وبفتح سمرقند، يكون قتيبة قد أحكم نفوذه على ما وراء
نهر جيحون، إلا أنه، وقد بات الغزو من طبيعة حياته، لم يشأ التوقّف عند
ذلك، فأخذ يخطط لعبور النهر الكبير الآخر (سيحون). فكانت الحملة الثامنة
(94هـ)، وقد نازعته حينئذ رغبة في الانتقام من أهل الشاش، حيث وجّه إليهم
جيشًا من بخارى وكشّ ونسف وخوارزم، فيما سار هو إلى فرغانه، وانتهى إلى
مدينتها كاشان، التي خضعت له بعد قتال عنيف. ولم يستكن هذا القائد الدءوب
فعد العدة إلى مرو، فما لبث أن قام بحملته التاسعة (95هـ)، التي أمدّها
الحجّاج بفرق من العراق، ما يعني أن حربًا طويلة حاسمة، بتوجيه من الأخير،
كان يعدّ لها نفسه في أقاصي الشرق. ولكنه ما إن بلغ الشاش حتى أتاه نبأ
وفاة الحجّاج، فقفل عائدًا إلى مقرّه في خراسان، بعد توزيع جنوده على
البلاد التي خضعت له.
على حدود الصين
إذا كانت وفاة
الحجّاج قد أنذرت قتيبة شرًا منها، فإن وفاة الخليفة، التي وقعت غداة
اقترابه من حدود الصين (96هـ) ستحمل إليه الشرّ كلّه،
مدركًا في قرارة نفسه أن دوره انقضى مع غياب رمزي العهد الذي تألّق فيه،
وحقّق على مداه أعظم الانتصارات. فقد جاء سليمان الذي صارت إليه الخلافة
بعد أخيه، في ظل مناخ انقلابي، منحازًا إلى القبائل اليمنية التي استُبعدت
عن السلطة خصوصًا في العراق والمشرق، من دون أن يخفي نزعة ثأرية ضد رجالات
سلفه، لاسيما قتيبة الذي كان ضالعًا في محاولة إبعاد سليمان عن ولاية العهد
والبيعة لعبدالعزيز بن الوليد، مما أحقد الخليفة الجديد عليه مخطّطًا منذ
البداية لعزله، وإعادة خصمه اللدود يزيد بن المهلّب عاملاً على خراسان.ولم يكن الأمر
مجرّد تغيير يحدث غالبًا مع تعاقب الخلفاء، وإنما كان استهدافًا، إن لم يكن
انتقامًا من شخصية مناوئه لسليمان في الأساس، ولا ترى أن المسألة تنتهي
عند حدود العزل، وفي ضوء ذلك يبادر قتيبة إلى استرضاء الخليفة، فوجّه إليه
كتاب تهنئة يشير فيه إلى بلائه في خدمة عبدالملك الوليد، وإلى أنه في طاعته
مخلص له إذا ما أبقاه في منصبه. بيد أن قتيبة ما إن تناهى إليه أن يزيدًا
لا يفارق مجلس سليمان، وأن هذا عازم على تقليده مكانه، أدرك عدم جدوى
الحوار مع الخليفة، فأخذ يخطط للانتقال إلى فرغانة ليعبر منها إلى الصين،
إلا أنه عاد عن ذلك بعدما استحثّه أصحابه على خلع سليمان، اعتمادًا على
القبائل المضرية في خراسان، والتي يساورها القلق من عودة نفوذ بني المهلب،
وتسلّط اليمنيين عليها.وهكذا، بعدما
تأكّد قرار عزله، ضاقت الخيارات أمام قتيبة، واستجاب في النهاية لرأي أخيه
(عبدالله) بإعلان العصيان على الخليفة، مدركًا أن النهاية واحدة سواء خضع
للأخير أو تمرّد عليه، مما يعبّر عن ذلك ردّة فعله إزاء تعيين يزيد على
خراسان، قائلاً - حسب رواية ابن أعثم - «اللهم إني أسألك ميتة كريمة»،
وفي خطبة منسوبة له، قدّم قتيبة حينذاك ما يشبه بيانًا بإنجازاته، مُظهرًا
فيه الفارق بين سياسته وسياسات الذين سبقوه من الولاة، محذّرًا مما سيكون
من أمر ابن المهلب في الناس من بعده. ولكن القبائل اليمنية المغتبطة بعودة
السلطة إليها لم تعبأ بكلامه، كذلك المضرية المنقسمة لم تظهر حماسة لركوب
المغامرة معه. ولعل قتيبة، على مدى نحو عشر سنوات من ولايته، لم ينجح في
ترسيخ الوحدة الاجتماعية في خراسان، منشغلاً عن ذلك بغزواته العديدة، التي
أرهقت القبائل، وهي في تركيبها يمانية أكثر منها مضرية. وكانت الأزد، التي
ينتمي إليها بنو المهلب، ذات حضور بارز في هذه الولاية، دون أن يقتصر
تأثيرها على اليمنيين فحسب، بل كانت تميل إليها قبائل من مضر، نعمت
بامتيازات في عهدها ما لم تحظ به في عهد قتيبة رجل الحرب الذي لم يستطع
مجاراة سلفه في سخائه ومعطياته المجزية. فقد بدأ حينئذ أن يزيدًا كان
لايزال في ذاكرة خراسان شخصية قيادية جذّابة، في الحرب كما في السلم، ما
يفسّر انفضاض غالبية القبائل من الاتجاهين عن قتيبة حين تأكدت عودة المهلبي
إلى منصبه.
نهاية قائد
لقد قضى قتيبة،
الذي روّع الملوك في ما وراء نهري جيحون وسيحون، ضحية العصبيات القبلية،
التي أسهمت أحقاد الخليفة في تأجيجها، من دون أن يتنبّه الأخير إلى خطورة
ما قام به على المدى غير البعيد، لاسيما أن خراسان التي شهدت مأساة قتيبة،
ظلّت دائمًا البؤرة المتفجّرة، مطوّحة بعد حين بخلافة بني أمية. ومن
المفارقات حينذاك أن تتزامن عودة السيادة إلى القبائل اليمنية في خراسان،
مع تشكّل الدعوة العباسية السرية في إحدى قرى الشام، مخترقة بحدود ما، هذه
القبائل في الأخيرة، إلا أن الاختراق الكبير لها كان على جبهة الولاية
البعيدة، منخرطة بكليّتها في الدعوة، بعد أن كانت بكليّتها من قبل إحدى أهم
ركائز الحكم الأموي.إنها العصبيات
التي تورّط فيها عدد من الخلفاء، كانت أداة تفجير دائمة في نظام حقّق أعظم
الفتوح ولكنه فشل في إرساء صيغ ملائمة لمجتمع متماسك، تنصهر فيه الجماعات
كافة، عربية وغير عربية. العصبيات إذاً ظلت مصدر التفكك الأساسي في هذا
المجتمع الذي كان من هذا حظ قادته وصانعي تاريخه، أن يُكافأوا بالقتل
والسجن والاضطهاد، وما أكثر الذين كانت السلطة وبالاً عليهم. وكان قتيبة في
طليعة هؤلاء، وقد تجرّع مأساته بشجاعة وصبر، ولم يفته استخلاص العبرة في
الموقف الصعب، وذلك بما عبّر عنه في مقولته البليغة: «الإمارة حلوة الرّضاع مُرّة الفطام