من حقق التّوحيد دخل الجنة بغير حساب
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا هو الباب الثالث من أبواب هذا الكتاب المبارك (كتاب التّوحيد) وهو: "باب من حقق التّوحيد دخل الجنة بغير حساب".
ولما ذكر الشيخ رحمه الله في الباب الأول معنى التّوحيد، وحقيقته من الكتاب
والسنّة، وليس من كلام البشر الذين يؤلفون في العقائد، وكلٌّ يفسر
التَّوحيد على حسب مذهبه، من المعتزلة، والأشاعرة، وعلماء الكلام، أما
الشيخ رحمه الله فإنه فسَّر التّوحيد من الكتاب والسنة، بالآيات والأحاديث
الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر الباب الثاني وهو فضل هذا التّوحيد، الذي جاء به الكتاب والسنّة،
وما يكفِّر من الذنوب، ثم جاء هذا الباب الثالث من حقّق هذا التّوحيد دخل
الجنة بغير حساب ولا عذاب. وتحقيق التّوحيد: تصفيته من الشرك والبدع والذنوب.
فإن قيل: (باب فضل التّوحيد)، و (باب من حقّق التّوحيد) ما الفرق بينهما؟":
الفرق: فضل التّوحيد في حق الموحّد الذي ليس عنده شرك، ولكن قد يكون عنده بعض المعاصي التي تكفر بالتّوحيد.
أما هذا الباب فهو أعلى من الباب الذي قبله: "من حقق التوحيد" يعني: أنه لم
يشرك بالله شيئاً، ولم يكن عنده شيء من المعاصي، هذا تحقيق التّوحيد، ومن
بلغ هذه المرتبة دخل الجنة بلا حساب، أما من كان في المرتبة التي قبلها،
وهو الموحّد الذي عنده ذنوب فهذا قد يُغفر له، وقد يعذب بالنار، ثم يُخرج
منها، لأن الموحّدين على ثلاث طبقات:
كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) جَنَّاتُ عَدْنٍ} الآية.
الطبقة الأولى: الذين سلموا من الشرك، وقد لا يسلمون من الذنوب التي هي دون الشرك وهم الظالمون لأنفسهم وهم معرضون للوعيد.
الطبقة الثانية: المقتصدون الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات وقد يفعلون بعض المكروهات ويتركون بعض المستحبات وهم الأبرار.
الطبقة الثالثة: التي سَلِمَت من الشرك الأكبر
والأصغر ومن البدع وتركت المحرمات والمكروهات وبعض المباحات واجتهدت في
الطاعات من واجبات ومستحبات وهؤلاء هم السابقون بالخيرات ومن كان بهذه المرتبة دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب.
قال: "وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
إبراهيم عليه السلام هو إمام المحققين للتوحيد، بعثه الله عزّ وجلّ لما
غطّى الشرك على وجه الأرض في وقته، وهو وقت النَّمرود الكافر الملحد الذي
ادعى الربوبية، وكان قومه يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل ويُسَمَّوْن
بالصابئة، وهم في أرض بابل من العراق، ثم حصل بينه وبينهم مصادمة ذكرها
الله تعالى في القرآن، انتهى بهجرة إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- من أرض
العراق إلى أرض الشام وإلى الحجاز، حيث جعل قسماً من ذريته في الشام وهم
إسحاق وذرّيته، أولاد زوجه ي سارة، وذهب بإسماعيل بن سُرِّيته هاجر وأمه
إلى مكة، أرض الحرم، بأمر الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}
أي: مهاجر من أرض الكفر والشرك إلى أرض التّوحيد بالشام والحجاز، تلك
المواطن المباركة، التي صار فيها بيت المقدس، وفيها البيت العتيق أول بيت
وُضع للناس، وهو الكعبة المشرفة بمكة، فأورثه الله هذه البلاد وهذه البيوت
إكراماً له ولذريّته- عليه الصلاة والسلام-، عوّضه الله أرضاً خيراً من
أرضه، وقد وصفه الله تعالى في هذه الآية بأربع صفات، كلها من تحقيق
التّوحيد:
الصفة الأولى: {كَانَ أُمَّةً}، والأمة معناها: القدوة في الخير، فهو إمامٌ للناس، كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}
يعني: قدوة لأهل الخير إلى أن تقوم الساعة، فقوله أُمّة يعني: إماماً
وقدوة، لأن الأمة لها ثلاث إطلاقات في القرآن، هذا أحدها؛ أُمَّة بمعنى
قدوة، كما في هذه الآية. الإطلاق الثاني: الأمة بمعنى: مقدار من الزمان {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد زمن وبعد مدة. وتطلق الأمة ويراد بها الجماعة من الناس {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني: جماعة، لأن دين الإسلام دين جماعة، لا دين تفرّق واختلاف، فليس فيه تفرّق وأحزاب، وجماعات وجمعيات متفرقة {وَلا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105)}،
فالمطلوب من المسلمين أن يكونوا أمة واحدة، على منهج واحد، وعلى دين
واحد، وعلى ملة واحدة، كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً، وكالجسد إذا
اشتكى منه عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولا يكون ذلك إلاَّ
بعقيدة التّوحيد، أما التفرّق والاختلاف والتناحر والتهاجر والتباغض
والتنابُذ بين الجماعات وبين الفرق فهذا ليس من دين الإسلام وهذا يكون مع
فساد العقيدة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(159)} نعم
قد يوجد الاختلاف في الاجتهاد، ولكن هذا الاختلاف يحسم بالرجوع إلى كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمخطئ يرجع، والمصيب يثبت قال
تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
الصفة الثانية لإبراهيم أنه:{قَانِتاً لِلَّهِ}
والقنوت في اللغة معناه: الثبوت والدّوام، أي: مداوماً وثابتاً على طاعة
الله، لا يتزحزح عنها، ويُطلق القنوت على طول القيام في الصلاة، قال
تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ(238)}، وقال الله تعالى: {أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ
وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ(9)}،
فمعنى وصف إبراهيم بأنه كان قانتاً أي: أنه كان مداوماً على طاعة الله،
ثابتاً عليها، بخلاف الذي يجتهد في يوم أو شهر أو سنة ثم بعد ذلك يتراجع
انتكاساً بعدما بدأ بالخير لكنه لم يُكمل، فالمطلوب من الإنسان أن يثبت
على الخير، بمعنى أنه يلازم عمل الخير، ولا يتخلى عنه، ولو كان قليلاً فـ"أحب العمل إلى الله أدومه وإن قَلَّ".
وكذلك {قَانِتاً لِلَّهِ} يعني: أنه يعمل هذا
مخلصاً لله، لا يقصد به رياءً ولا سُمعة، ويؤخذ من هذا وجوب الإخلاص، لأن
بعض الناس قد يصلي ويحسن صلاته، ويطول قيامه وركوعه من أجل رياء الناس،
فإذا أحَسَّ أن عنده أحد يطوّل الركوع والسجود؛ من أجل أن يوصف بأنه صاحب
طاعة، وإذا صلى وحده نقر الصلاة، وخفّفها، والإخلاص: أن الإنسان يقصد
بعمله وجه الله، ولا يقصد بذلك طمعاً من مطامع الدنيا، أو مدحاً، وثناءً
من الخلق، ولا يستمع إلى لومهم إذا لاموه في طاعة الله. قالوا: فلان
متشدّد، فلان كذا، ما دام أنه على الطريق الصحيح، وعلى السنة، فلا يضره ما
يقوله الناس، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
الصفة الثالثة: {حَنِيفاً}
والحنيف من الحَنَف وهو في اللغة: الميل، والمراد به هنا: الإقبال على
الله، وأنه مُعرض عن الناس مُقبل على الله سبحانه وتعالى، يطلب الخير من
الله وحده.
الصفة الرابعة: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
وهذا محل الشاهد من الباب، ومعناه: أنه تبرّأ من المشركين، براءة تامة،
أي: قطع ما بينه وبين المشركين من المودّة من أجل الله سبحانه وتعالى،
لأنهم أعداء الله، والمؤمن لا يحب أعداء الله.
فإبراهيم عليه السلام لم يكن من المشركين لا بقليل ولا بكثير، قطع صلة
المحبة بينه وبينهم، أما صلة التعامل الدنيوي في المصالح المباحة فهذا شيء
آخر، إنما المراد قطع صلة المحبة والموالاة والمناصرة، هذا هو المطلوب،
أما التعاون الدنيوي فيما فيه نفع للمسلمين، فهذا لا بأس به، يوضِّح هذا
قوله في الآية الأخرى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}
يعني: لا تقارب بيننا وبينكم في المودة والمناصرة والمؤاخاة أبداً، إلاَّ
إذا آمنتم بالله وحده، وكفرتم بما يعبد من دون الله عزّ وجلّ، وتركتم
عبادة الأصنام، فحينئذٍ نكون إخواناً {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ثم قال في الآية التي بعدها: {لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ(6)} ثم قال بعدها: {لا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(}.
فهذه أربع صفات وصف الله بها إبراهيم: وهي:
الصفة الأولى: أنه كان أمة، يعني: قدوة في الخير.
الصفة الثانية: أنه كان قانتاً لله ثابتاً على الطاعة مخلصاً عمله لله.
الصفة الثالثة: أنه كان حنيفاً، مقبلاً على الله معرضاً عما سواه.
الصفة الرابعة: أنه لم يك من المشركين. أي بريء منهم ومن دينهم.
وهذا هو تحقيق التّوحيد يكون بهذه الأمور، وأعظمها البراءة من المشركين،
فمن تبرأ من المشركين فهو ممن حقق التّوحيد، ولو كانوا أقرب الناس إليه،
فإبراهيم تبرأ من أبيه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ
يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي
عَنْكَ شَيْئاً(42)} إلى أن انتهت المحاورة بقوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ
أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً(49)} "من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه" لما تبرأ من المشركين عوضه الله ذرية أنبياء.
واليوم جماعات يدَّعون أنهم دعاة إلى الله لا يتبرءون من المشركين ما داموا على منهجهم الحزبي!! ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
والواجب على المسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى،
وإذا كان يريد أن يدعو إلى الله فليعرف ما هي الدعوة، وما هي أصول الدعوة،
وما المطلوب من الداعية، وأن يكون على طريقة إبراهيم عليه السلام وغيره
من النبيّين الذين تبرّأوا من المشركين وقاطعوهم بعدما تبرءوا من الشرك
وأخلصوا العبادة لله وحده.
المصدر :
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان