مصدر الطمأنينة في زمن القلق
السعادة غاية كل إنسان في هذه الحياة, والطمأنينة هي العامل الأهم في تحصيل تلك السعادة, والركن الأبرز من أركان الحياة الهانئة الرغيدة, وبينما تفضل الله تعالى على عباده المؤمنين بإخباهم بمصدر تلك الطمأنينة ومعينها الأوحد, ما زال الإنسان – غير المؤمن منذ فجر التاريخ وحتى الآن - يبحث عن تلك الطمأنينة التي تنقذه من آفات وويلات القلق الذي يفتك به, ويحاول أن يتلمس أسبابها ويعرف مصدرها ومنبعها, بعيدا عن الوحي الإلهي والهدي النبوي, دون أن يصل إلى نتيجة تشفي غليله, أو يتحصل على دواء يعالج به أمراضه النفسية. لقد أخبر الله تعالى المؤمنين عن مصدر الطمأنينة الذي لا يمكن لشيء في هذه الدنيا أن يسد مسده مهما علت في نظر الناس قيمته ومكانته, فقال تعالى في كتابه العزيز: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد/28.
قال ابن كثير والطبري: أي: تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن قلوبهم عند ذكره وتستأنس، و ترضى به مولى ونصيرًا. تفسير ابن كثير 4/455 وتفسير الطبري 16/432. وقال القرطبي: أي تسكن وتستأنس بتوحيد الله فتطمئن, سواء بالقرآن الكريم كما قال مجاهد وقتادة, أو بأمره ووعده كما ذكر سفيان ومقاتل, أو بالحلف باسمه كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-. الجامع لأحكام القرآن 9/315.
نعم قد يشرق المسلم أو يغرب في هذه الحياة بحثاً عن راحة البال، وسكون النفس، وطمأنينة القلب, وقد يغفل أحياناً عن مصدر الطمأنينة المتمثل بدوام ذكر الله بكافة أنواع الذكر والطاعات, إلا أنه سرعان ما يدرك أن قلبه قد أصبح مضطرباً وغير مطمئن, وأن القلق يجتاح كيانه وروحه قبل قلبه وعقله, فيرجع سريعاً إلى منبع الطمأنينة ومصدر راحة البال.
إن لحظات من خلوة المسلم بنفسه في زحمة الحياة - التي قد تبعده عن مصدر الطمأنينة ومفتاح السعادة - كفيلة بأن ترده من جديد إلى رحاب الطمأنينة والركون إلى جنب الله, وكفيلة بتبديد ظلمات القلق والهلع الذي قد ينتابه جراء البعد عن ذكر الله تعالى, والركون إلى الدنيا وزخرفها.
قد ينخدع المسلم أحيانا بزخرف الحياة المادية التي يحياها الناس في الدول الغربية, فيظن أن الطمأنينة تكمن في المال الوفير الذي يؤمن له متطلبات الحياة ومستلزماتها, ولكنه حين يغوص في أعماق حقيقة قلوب ونفوس هذه المجتمعات غير المؤمنة بالله تعالى, يدرك حجم الشقاء النفسي الذي يحيونه, ومقدار القلق الذي ينتاب قلوبهم ويجتاح نفوسهم.
إن نظرة سريعة لآفات القلق التي تفتك بالمجتمعات غير المؤمنة, كفيلة بالدلالة على عظمة هذا الدين, وبالإشارة إلى النعمة الكبرى والجائزة العظمى التي امتن الله تعالى بها على المسلمين, حيث أذن لهم بذكره, ودلهم على مصدر الطمأنينة والراحة والسعادة في الدنيا والفوز والنعيم في الآخرة.
يقول ديل كارنيجي في كتابه الشهير "دع القلق وابدأ الحياة": إن كل شخص من عشرة أشخاص في أمريكا مهدد بالانهيار العصبي, ومرجع ذلك على العموم هو القلق...، لقد دلت الإحصائيات في الولايات المتحدة الأمريكية أن القلق إنما هو القاتل الفعال للأمريكيين الذين يلاقون حتفهم, فقد قتل القتل في أثناء الحرب العالمية الثانية ثلث مليون مقاتل تقريبا...، إن الأمريكيين الذين يموتون من جراء الانتحار يفوق عددهم عدد الذين يموتون بالأمراض المختلفة مجتمعة! لماذا؟ من المؤكد أن الجواب هو القلق الذي يفقدهم وعيهم ويقلب حياتهم إلى جحيم لا يطاق. 22- 28.
ولا تقتصر نتائج القلق الفتاكة على الأمريكيين فحسب, بل هي تطال معظم الدول الغربية والشيوعية عموماً, حيث أشارت المعلومات التي أعلنتها "منظمة الصحة العالمية" مؤخراً أن الدول الشيوعية هي الأكثر انتحارا في العالم. كما أشارت آخر الإحصاءات عن المنظمة إلى أن أكثر من (مليون شخص) يقدمون على قتل أنفسهم كل عام، وهي نسبة تفوق معدلات الوفاة الناجمة عن جرائم القتل العمد والحروب، فالانتحار هو السبب الرئيس للموت في أوساط المراهقين والبالغين دون سن ال35. وأوضح التقرير أن عملية انتحار تتم كل 40 ثانية، وهو ما يمثل حوالي مليون وفاة تحدث سنوياً في العالم، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد إلي 1.5 مليون بحلول عام 2020م, وأن شخصاً يحاول الانتحار كل ثلاث ثوان.
وأشار الخبراء إلى أن الانتحار يشكل ما يقرب من نصف الوفيات العنيفة في العالم، إذ ظهرت حوالي 6003 حادثة انتحار ووفيات غامضة في بريطانيا وايرلندا عام 2003م, وهو ما يفوق عدد حوادث الطرق بأكثر من ثلاث مرات.
وبعيدا عن الأسباب التي يذكرها علماء الشرق والغرب لظاهرة الانتحار الناجمة عن القلق وغيره من الاضطرابات النفسية, من فقر وإدمان على المخدرات, ومشكلات العمل وغير ذلك, فإن السبب الرئيس يتمثل بالفراغ الروحي والإيماني, والبعد عن مصدر الطمأنينة الحقيقي المتمثل بذكر الله تعالى, ومفتاح السعادة الأبدي المرتبط بالعقيدة والإيمان به سبحانه.
ما دامت الطمأنينة هي هدف يسعى كل إنسان في هذه الحياة للوصول إليها, وما دام الله تعالى قد أرشدنا –كمسلمين- إلى مصدر هذه الطمأنينة ومنبعها الذي لا ينضب, فهل يعقل بعد كل ذلك أن يتغافل المسلم عن ذلك المصدر ويحيا حياة مليئة بالقلق وبعيدة عن الطمأنينة؟!
أختم بكلمة للشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- في كتابه الفريد "فن الذكر والدعاء عند خاتم النبيين" يقول فيها: "إن النفس التي يقول الله لها: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر/29 – 30 هي النفس المطمئنة, نفس من طراز خاص, نفس استراحت إلى الله وتعاليمه, وآثرته -سبحانه– على غيره من مغريات المال والجاه, ولم يكن ذلك خاطرا مساورا, بل كان صيغة حياة وتحديد وجهة, وهذا معنى النداء الخالد: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) الفجر/27-28. ص 6.