دليل الإشهار العربي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

دخول

إذا كانت هذه أول زيارة لك في الإشهار العربي، نرجوا منك مراجعة قوانين المنتدى من خلال الضغط هنا وأيضاً يشرفنا انضمامك إلى أسرتنا الضخمة من خلال الضغط هنا.

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
[size=12]السلآم عليكم ورحمة الله وبركاته أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ 31

بدون مقدمآت أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Enjo ، هذآ تقرير عن أبو بكر الصديق . أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Kn7
[/size]

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz

نسبه
هو: «عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب
بن فهر بن مالك بن النضر وهو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد
بن عدنان التيمي القرشي»،[1][2] يلتقي مع النبي محمد في الجد السادس مرة بن كعب.[3]
أبوه: أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمي القرشي، أمه: آمنه بنت
عبد العزى بن حرثان بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب. أسلم يوم فتح مكة، وعاش بعد ابنه أبي بكر
وورثه، وهو أول من ورث خليفة في الإسلام، إلا أنه رد نصيبه من الميراث على ولد أبي بكر، وتوفي سنة
14هـ، وله سبعه وتسعون سنة.[4]
أمه: أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمية القرشية. أسلمت في مكة
قبل الهجرة مع ابنها أبي بكر، وتوفيت قبل أبي قحافة.[5]

مولده ونشأته

ولد أبو بكر في مكة سنة 573م بعد عام الفيل الذي وُلد فيه النبي محمد، فكان أصغر عُمراً منه، ولم يختلف
العلماء في أن أبا بكر وُلد بعد عام الفيل، وإنما اختلفوا في المدة التي كانت بعد عام الفيل، فبعضهم قال
بثلاث سنين، وبعضهم قال بسنتين وستة أشهر، وآخرون قالوا بسنتين وأشهر ولم يحددوا عدد الأشهر.[6][7]
وقد نشأ أبو بكر وترعرع في مكة، وكان من رؤساء قريش وأشرافها في الجاهلية، محبباً فيهم، مألفاً لهم،
وكان إليه الأشناق في الجاهلية، والأشناق هي الديات، وكان إذا حمل شيئاً صدَّقته قريش وأمضوا حمالته
وحمالة من قام معه، وإن احتملها غيرُه خذلوه ولم يصدقوه.[8] ويُقال أن الشرف في قريش في الجاهلية
كان قد انتهى إلى عشرة رهط من عشرة أبطن، منهم العباس بن عبد المطلب من بني هاشم، وأبو سفيان
بن حرب من بني أمية، وعثمان بن طلحة بن زمعة بن الأسود من بني أسد، وأبو بكر من بني تيم، وخالد
بن الوليد من بني مخزوم، وعمر بن الخطاب من بني عدي، وصفوان بن أمية من بني جمح، وغيرهم.[9]
وقد اشتهر أبو بكر في الجاهلية بصفات عدة، منها العلم بالأنساب، فقد كان عالماً من علماء الأنساب
وأخبار العرب، وله في ذلك باعٌ طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين كعقيل بن أبي طالب وغيره،
وكانت له صفة حببته إلى قلوب العرب، وهي أنه لم يكن يعيب الأنساب، ولا يذكر المثالب بخلاف
غيره،[10] وقد كان أبو بكر أنسبَ قريش لقريش وأعلمَ قريش بها وبما فيها من خير وشر،[11][12]
وقد رُوي أن النبي محمداً قال: «إن أبا بكر أعلمُ قريش بأنسابها»».[13][14]


منظر عام لمكة، حيث ولد أبو بكر وترعرع.

وقد كان أبو بكر تاجراً، قال ابن كثير: «وكان رجلاً تاجراً ذا خُلُق ومعروف، وكان
رجالُ قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته وحسن مجالسته».[15]
وقد ارتحل أبو بكر للتجارة بين البلدان حتى وصل بصرى من أرض الشام، وكان رأس
ماله أربعين ألف درهم، وكان ينفق من ماله بسخاء وكرم عُرف به في الجاهلية.[16][17]
ويروى أن أبا بكر قد رأى رؤيا عندما كان في الشام، فقصها على بحيرى الراهب،
فقال له: «من أين أنت؟» قال: «من مكة»، قال: «من أيها؟» قال: «من قريش»،
قال: «فأي شيء أنت؟» قال: «تاجر»، قال: «إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث
بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته»، فأَسرَّ أبو بكر ذلك في نفسه.[18]



دير الراهب بحيرى في بصرى في الشام.

ويقال أن أبا بكر لم يكن يشرب الخمر في الجاهلية، فقد حرمها على نفسه قبل الإسلام،
وكان من أعف الناس في الجاهلية،[19] قالت السيدة عائشة: «حرم أبو بكر الخمر
على نفسه، فلم يشربها في جاهلية ولا في إسلام، وذلك أنه مر برجل سكران يضع يده
في العذرة، ويدنيها من فيه، فإذا وجد ريحها صرفها عنه، فقال أبو بكر: إن هذا لا يدري
ما يصنع، وهو يجد ريحها فحماها».[20] وقد سأل أحدُ الناس أبا بكر: «هل شربت
الخمر في الجاهلية؟»، فقال: «أعوذ بالله»، فقيل: «ولمَ؟» قال: «كنت أصون عرضي،
وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعاً لعرضه ومروءته».[21]
كما رُوي أن أبا بكر لم يسجد لصنم قط، فقد قال أبو بكر في مجمع من
الصحابة: «ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة
بيدي، فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: «هذه آلهتُك الشمُّ العوالي»،
وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: «إني جائع فأطعمني» فلم يجبني
، فقلت: «إني عار فاكسني» فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه».[22][23]

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
حياته بعد الإسلام في مكة

كان إسلام أبي بكر وليد رحلة طويلة في البحث عن الدين الذي يراه الحق، والذي ينسجم برأيه مع الفطرة
السليمة ويلبي رغباتها، فقد كان بحكم عمله التجاري كثير الأسفار، قطع الفيافي والصحاري، والمدن
والقرى في الجزيرة العربية، وتنقل من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، واتصل اتصالاً وثيقاً
بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية،[24] وقد حدث أبو بكر عن ذلك فقال: كنت
جالساً بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نفيل قاعداً، فمر أمية بن أبي الصلت، فقال: «كيف
أصبحت يا باغي الخير؟»، قال: «بخير»، قال: «وهل وجدت؟»، قال: «لا»، فقال:[25]
كل دين يوم القيامة إلا ما مضى في الحنيفية بورُ
أما إن هذا النبي الذي يُنتظر منا أو منكم، يقول أبو بكر: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر
ويُبعث، فخرجت أريد ورقة بن نوفل، وكان كثير النظر إلى السماء كثير همهمة الصدر،
فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: «نعم يا ابن أخي، إنا أهلُ الكتب والعلوم، ألا
إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً -ولي علم بالنسب- وقومك أوسط العرب
نسباً»، قلت: «يا عم، وما يقول النبي؟»، قال: «يقول ما قيل له؟ إلا أنه لا يظلم ولا يظلم
ولا يظالم»، فلما بُعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم آمنت به وصدقته.[26]
وقد كان أبو بكر يَعرف النبي محمداً معرفة عميقة في الجاهلية، وكانت الصلة بينهما قوية،
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنه كان صاحب النبي محمد قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه
وأمانته وحسن سجيته وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الناس.[27] قال ابن إسحاق:
ثم إن أبا بكر الصدِّيق لقي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «أحق ما تقول قريش يا
محمد؟ مِن تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آبائنا؟»، فقال رسول الله صلَّى الله عليه
وسلَّم: «بلى، إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق،
أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته»، وقرأ عليه
القرآن، فلم يقر ولم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر
وهو مؤمن مصدق.[28] وقد روي عن النبي محمد أنه قال: «ما دعوت أحداً إلى الإسلام
إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد فيه».[29][30]
كما روي عن النبي أنه قال: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني
بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟» مرتين.[31]
فكان أبو بكر أول من أسلم من الرجال الأحرار، وبذلك قال إبراهيم النخعي وحسان بن ثابت
وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر ومحمد بن سيرين، وهو المشهور عن جمهور أهل السنة.[32][33]
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن ابن مسعود أنه قال: «أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله
صلَّى الله عليه وسلَّم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله
صلَّى الله عليه وسلَّم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم
المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس».[34] وقد جمع الإمام أبو حنيفة بين
الأقوال المختلفة في ذِكر أول من أسلم بأن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن
النساء خديجة بنت خويلد، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن الغلمان علي بن أبي طالب.[35]
ويُقال أن أبا بكر أول من صلى مع النبي محمد، فعن زيد بن أرقم أنه قال: «أول من
صلى مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أبو بكر الصديق».[36]
وعندما أسلم أبو بكر سُرَّ النبيُّ محمدٌ سروراً كبيراً، فعن السيدة عائشة أنها قالت: خرج
أبو بكر يريد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان له صديقاً في الجاهلية، فلقيه فقال:
«يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها»، فقال
رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إني رسول الله أدعوك إلى الله»، فلما فرغ كلامه
أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما بين الأخشبين أحد أكثر
سروراً منه بإسلام أبي بكر.[37]
الدعوة إلى الإسلام
بعد إسلام أبي بكر، بدأ يدعو إلى الإسلام مَن وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس
إليه، فأسلم على يديه: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله،
وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، فانطلقوا إلى النبي محمد ومعهم
أبو بكر، فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الإسلام فآمنوا،[38]
ثم جاء بعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي سلمة بن عبد الأسد،
والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا،[39] كما دعا أبو بكر أسرته وعائلته، فأسلمت
بناته أسماء وعائشة، وابنه عبد الله، وزوجته أم رومان، وخادمه عامر بن فهيرة.[40]

ولما اجتمع أصحاب النبي محمد، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً، ألحَّ أبو بكر
على النبي في الظهور، فقال: «يا أبا بكر إنا قليل»، فلم يزل أبو بكر يلح
حتى ظهر الرسول، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته،
وقام أبو بكر في الناس خطيباً والرسول جالس، فكان أولَ خطيب دعا إلى
الإسلام، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في
نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووُطئ أبو بكر وضُرب ضرباً شديداً،
ودنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما
لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر، حتى ما يُعرف وجهُه من أنفه، وجاءت
بنو تيم يتعادون، فأجْلَت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو
تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشُكُّون في موته، ثم
رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن
عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة (والد أبي بكر)
وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: «ما فعل رسول
الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟»، فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير:
«انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه»، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل
يقول: «ما فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟»، فقالت: «والله ما لي علم
بصاحبك»، فقال: «اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه»، فخرجت
حتى جاءت أم جميل (وكانت تخفي إٍسلامها)، فقالت: «إن أبا بكر يسألك
عن محمد بن عبد الله»، فقالت: «ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله،
وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟»، قالت: «نعم»، فمضت معها
حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح وقالت:
«والله إن قوماً نالوا منك لأهلُ فسق وكفر، إنني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم»،
قال: «فما فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟» قالت: «هذه أمك تسمع»،
قال: «فلا شيء عليك منها»، قالت: «سالمٌ صالحٌ»، قال: «أين هو؟»،
قالت: «في دار الأرقم»، قال: «فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب
شراباً أو آتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم»، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل
وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على الرسول محمد، فأكب
عليه الرسولُ فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له الرسولُ محمدٌ رقةً شديدةً،
فقال أبو بكر: «بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق
من وجهي، وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها
عسى الله أن يستنقذها بك من النار»، فدعا لها النبي محمد ودعاها إلى الله فأسلمت.[41][42]

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
مساعدة المسلمين المستضعفين
تضاعف أذى المشركين للرسول محمد وأصحابه مع انتشار الدعوة الإسلامية في مكة، وخاصة
في معاملة المستضعفين من المسلمين، وقد تعرض بلال بن رباح لعذاب عظيم، ولم يكن له ظهرٌ يسنده، ولا عشيرةٌ تحميه،
ولا سيوفٌ تذود عنه،[43] فعندما علم سيده أمية بن خلف بأنه أسلم، راح يهدده تارة ويغريه أطواراً، فأبى بلال أن يترك الإسلام،
فحنق عليه أمية وقرر أن يعذبه عذاباً شديداً، فأخرجه إلى شمس الظهيرة في الصحراء بعد أن منع عنه الطعام والشراب يوماً وليلة،
ثم ألقاه على ظهره فوق الرمال المحرقة الملتهبة، ثم أمر غلمانه فحملوا صخرة عظيمة وضعوها فوق صدر بلال وهو مقيد اليدين،
ثم قال له: «لا تزال هكذا حتى تموتَ أو تكفرَ بمحمد وتعبدَ اللات والعزى»، وأجاب بلال: «أحدٌ أحدٌ»، وبقي أمية بن خلف مدة
وهو يعذب بلالاً بتلك الطريقة البشعة،[44] فقصد أبو بكر موقع التعذيب، وفاوض أمية بن خلف وقال له: «ألا تتقي الله في
هذا المسكين؟ حتى متى؟» قال: «أنت أفسدته فأنقذه مما ترى»، فقال أبو بكر: «أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى
على دينك، أعطيكه به»، قال: «قد قبلت»، فقال: «هو لك»، فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذه فأعتقه.[45] وفي رواية أخرى:
اشتراه بسبع أواق أو بأربعين أوقية ذهباً.[46]
واستمر أبو بكر في شراء العبيد والإماء والمملوكين من المسلمين والمسلمات وعتقهم،[47] ومنهم: عامر بن فهيرة، وأم عبيس
(أو أم عميس)، وزنيرة، وقد أصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش: «ما أذهب بصرَها إلا اللات والعزى»، فقالت: «كذبوا،
وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان»، فرد الله بصرها، كما أعتق النهدية وبنتها، وابتاع جارية بني مؤمل وكانت
مسلمة فأعتقها.[48]
هجرته وحياته في المدينة
لما اشتد البلاء على المسلمين بعد بيعة العقبة الثانية، أذن الرسولُ محمد لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة، فجعلوا يخرجون
ويُخفون ذلك، فنزلوا على الأنصار في دورهم فآووهم ونصروهم، ولم يبقَ بمكة منهم إلا النبي محمد وأبو بكر وعلي بن
أبي طالب أو مفتون محبوس أو ضعيف عن الخروج.[49]
وجاء النبي محمد إلى أبي بكر، وكان أبو بكر قد جهز راحلتين للسفر، فأعطاها الرسولُ محمد لعبد الله بن أريقط على أن
يوافيهما في غار ثور بعد ثلاث ليالٍ ويكونَ دليلاً لهما، فخرجا ليلة 27 صفر سنة 14 من النبوة،[50] وحمل أبو بكر ماله
كلّه ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف،[51] فمضيا إلى غار ثور فدخلاه، وضربت العنكبوت على بابه بعش، وجعلت
قريش فيه حين فقدوه مئة ناقة لمن يردّه عليهم،[52] وخرجت قريش في طلبه حتى وصلوا باب الغار، فقال بعضهم: «إن
عليه العنكبوت قبل ميلاد محمد»، فانصرفوا، وعن أبي بكر أنه قال: قلت للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا في الغار: «لو أن
أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا»، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟».[53][54] وقد ذُكر ذلك في القرآن
الكريم في الآية: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ
اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .[55]
ومكث النبي محمد وأبو بكر في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، حتى خرجا من الغار في 1 ربيع
الأول،[56] أو 4 ربيع الأول.[57]
وحدَّثت السيدة عائشة عن هجرة الرسول محمد وأبيها فقالت: كان لا يخطئ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأتي بيت
أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليومُ الذي أُذن فيه لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الهجرة
والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها، فلما
رآه أبو بكر قال: «ما جاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الساعة إلا لأمر حدث»، فلما دخل تأخر له أبو بكر عن
سريره فجلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلَّى
الله عليه وسلَّم: «أخرج عني مَن عندك»، فقال: «يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي؟»، فقال: «أنه قد
أذن لي في الخروج والهجرة»، فقال أبو بكر: «الصحبة يا رسول الله؟»، قال: «الصحبة»، قالت: فوالله ما شعرت قط قبل
ذلك اليومِ أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: «يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما
لهذا»، فاستأجرا عبدَ الله بن أريقط، رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركاً
يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.[58]
ووصل النبي محمد وأبو بكر قباء يوم الاثنين 8 ربيع الأول،[59] أو 12 ربيع الأول،[60] وكان يومُ وصولهما يومَ فرح
وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، لأنه اليومُ الذي انتقل فيه الإسلام
من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار في المدينة المنورة، ومنها إلى سائر بقاع الأرض.[61] ثم
سار الرسولُ محمدٌ حتى نزل في دار أبي أيوب الأنصاري،[62] ونزل أبو بكر على خارجة بن زيد الخزرجي
الأنصاري.[63] وشرع الرسولُ محمدٌ بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية، وكان أبو بكر وزير
صدق للرسول محمد، ولازمه في كل أحواله، ولم يغب عن مشهد من المشاهد، ولم يبخل بمشورة أو مال أو رأي.[64]
جهاده
شهد أبو بكر مع النبي محمد غزوة بدر والمشاهد كلها، ولم يَفُتْه منها مشهد،[65][66] فقد شارك أبو بكر في
غزوة بدر سنة 2هـ، وكانت له فيها مواقف مشهورة، فلما بلغ النبيَّ محمداً نجاةُ القافلة وإصرارُ زعماء مكة على قتال
النبي، استشار أصحابه في الأمر،[67] فقام أبو بكر أولاً فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن.[68]
وقد ظهرت من أبي بكر شجاعة وبسالة، وقد شارك ابنه عبد الرحمن في هذه المعركة مع المشركين، فلما أسلم قال
لأبيه: «لقد أهدفت لي (أي ظهرت أمامي) يوم بدر، فملت عنك ولم أقتلك»، فقال له أبو بكر: «لو أهدفت لي لم
أمل عنك».[69]
وشهد أبو بكر غزوة أحد سنة 3هـ، ولما تفرق المسلمون من حول النبي محمد، وتبعثر الصحابة في أرجاء الميدان،
وشاع أن الرسولَ محمداً قد قُتل، شقَّ أبو بكر الصفوف، وكان أولَ من وصل إلى الرسول محمد، وقد اجتمع إلى
الرسول محمد آنذاك كلُّ من: أبو بكر، وأبو عبيدة بن الجراح، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير
بن العوام، وعمر بن الخطاب، والحارث بن الصمة، وأبو دجانة، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم.[70]
وشهد أبو بكر غزوة بني النضير سنة 4هـ، وغزوة بني المصطلق سنة 5هـ، وكانت معه فيها راية المهاجرين، وشهد
غزوة الخندق سنة 5هـ، وغزوة بني قريظة سنة 5هـ، وكان فيهما مرافقاً للنبي محمد، كما شهد صلح الحديبية سنة
6هـ،[71] وشهد غزوة خيبر سنة 7هـ، وكان أولَ قائد يرسله النبي محمد، كما شهد سرية نجد، وكان الأمير على
المسلمين فيها، وكان الأمير على المسلمين في غزوة بني فزارة أيضاً،[72] وكان أبو بكر من المسلمين الذين ذهبوا
مع الرسول محمد ليعتمروا عمرة القضاء سنة 7هـ،[73] كما شهد سرية ذات السلاسل سنة 8هـ.[74]
ولما نقضت قريش صلح الحديبية، وتجهز النبي محمدٌ مع صحابته للخروج إلى مكة، خرج أبو سفيان بن حرب
من مكة إلى الرسول محمد فقال: «يا محمد، اشدد العقد، وزدنا في المدة»، فقال النبي محمد: «ولذلك قدمت؟ هل
كان من حدث قبلكم؟»، فقال: «معاذ الله، نحن على عهدنا وصلحنا يوم الدية لا نغيّر ولا نبدّل»، فخرج من عند
النبي محمد يقصد مقابلة الصحابة،[75][76] فطلب من أبي بكر أن يجدد العقد ويزيدهم في المدة، فقال أبو بكر:
«جواري في جوار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم».[77] ولما دخل النبيُّ
محمدٌ مكة في عام الفتح سنة 8هـ، كان أبو بكر بجانبه، وقد تمت النعمة على أبي بكر في ذلك الوقت بإسلام أبيه أبي
قحافة.[78] وشهد أبو بكر غزوة حنين سنة 8هـ، وكانت قد صبرت مع النبي فئةٌ من الصحابة يتقدمهم أبو بكر، ثم
انتصروا بعد ذلك.[79]
كما شهد أبو بكر غزوة تبوك، ولما اختار الرسولُ الأمراء والقادة وعقد الألوية والرايات لهم، أعطى لواءه الأعظم لأبي بكر،
وحث الرسولُ محمدٌ الصحابة في غزوة تبوك على الإنفاق، فأنفق كل حسب مقدرته، وكان عثمان بن عفان أكثر من
أنفق في هذه الغزوة.[80] وقد قال عمر بن الخطاب في ذلك: أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً أن نتصدق،
فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: «اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً»، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلَّى الله
عليه وسلَّم: «ما أبقيت لأهلك؟»، قلت: «مثله»، وأتى أبو بكر رضيَ الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلَّى
الله عليه وسلَّم: «ما أبقيت لأهلك؟»، قال: «أبقيت لهم الله ورسوله»، قلت: «لا أسابقك إلى شيء أبداً».[81] وفي
سنة 9هـ، أرسل النبي محمد أبا بكر أميراً على الحج، فخرج أبو بكر أميراً بركب الحجيج، كما شهد أبو بكر حجة
الوداع سنة 10هـ.[82]

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
وفاة النبي محمد
لما رجع النبي محمد من حجة الوداع في ذي الحجة، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفراً من سنة 10هـ، فبدأ بتجهيز
جيش أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يتوجه نحو البلقاء وفلسطين،[83] وبينما الناس يستعدون للجهاد في جيش أسامة،
ابتدى الرسول شكواه الذي توفي فيه. قال أبو سعيد الخدري: خطب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الناس وقال: «إن الله
خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله»، فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه، أن يخبر رسول الله
صلَّى الله عليه وسلَّم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو المُخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول
الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا
بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر»،[84] وقالت السيدة عائشة: قال لي
رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مرضه: «ادعي لي أبا بكر، أباك، وأخاك، حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى
متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».[85]
ولما اشتد المرض بالنبي محمد وحضرته الصلاة فأذَّن بلال بن رباح، قال النبي: «مروا أبا بكر فليصل»،
فقيل: «إن أبا بكر رجل أسيف (أي رقيق القلب)، إذا قام مقامك لم يصل بالناس»، وأعاد فأعادوا له الثالثة،
فقال: «إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل»، فخرج أبو بكر، فوجد النبيُّ في نفسه خفة، فخرج يهادي بين
رَجُلين، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه.[86] وتوفي الرسولُ
يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ بعد الزوال،[87] وله ثلاث وستون سنة.[88]
ولما توفي الرسول محمد اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام،
ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية،[89] فأما علي بن أبي طالب فاستخفى
في بيت فاطمة، وأما عثمان بن عفان فسكت، وأما عمر بن الخطاب فأهجر وقال: «ما مات رسول الله، وإنما
واعده ربه كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم»،[90] ولما سمع أبو بكر الخبر
أقبل على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على ابنته عائشة، فتيمم
الرسولَ وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: «بأبي أنت وأمي، والله لا
يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كُتبت عليك فقد متها»،[91] وخرج أبو بكر وعمر يتكلم، فقال: «اجلس
يا عمر»، وهو ماض في كلامه وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في الناس خطيباً بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أما بعد، فإن من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه
الآية: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ
فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [92]
فنشج الناس يبكون.[93] قالت السيدة عائشة: «فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية
حتى تلاها أبو بكر رضيَ الله عنه، فتلقاها منه الناس، فما يُسمع بشر إلا يتلوها».[94]
لما علم الصحابة بوفاة الرسول محمد، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه، وهو يوم
الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده،[95] والتف
الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة، ولما بلغ خبرُ اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين،
وهم مجتمعون مع أبي بكر لترشيح من يتولى الخلافة، قال المهاجرون لبعضهم: انطلقوا بنا إلى إخواننا من
الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيباً.[96]
قال عمر بن الخطاب: فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلين صالحين، فذكر ما تمالأ عليه القوم،
فقالا: «أين تريدون يا معشر المهاجرين؟» قلنا: «نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار»، فقالا: «لا عليكم أن لا
تقربوهم، اقضوا أمركم»، فقلت: «والله لنأتينهم»، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل
بين ظهرانيهم، فقلت: «من هذا؟»، فقالوا: «هذا سعد بن عبادة»، فقلت: «ما له؟»، قالوا: «يوعك»، فلما جلسنا
قليلاً تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم
معشرَ المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم (أي عدد قليل)، فإذاً هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن
يحضنونا من الأمر (أي يخرجونا من أمر الخلافة)»، فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني
أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: «على رسلك»،
فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إ
لا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال: «ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف
هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم هذين الرجلين فبايعوا أيهما
شئتم»، فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، والله أن أقدَّم فتُضرب
عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند
الموت شيئاً لا أجده الآن، فقال قائل من الأنصار: «أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم
أمير يا معشر قريش»، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف فقلت (لأبي بكر): «ابسط يدك»،
فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار.[97][98] وفي رواية أخرى قال عمر: «يا معشر الأنصار،
ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر رضيَ الله عنه؟»
فقالت الأنصار: «نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر».[99]
وفي رواية أخرى: فتكلم أبو بكر رضيَ الله عنه، فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول
الله صلَّى الله عليه وسلَّم من شأنهم إلا وذكره، وقال: «ولقد علمتم أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
«لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار»، ولقد علمت يا سعد (يعني سعد بن
عبادة الخزرجي) أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس
تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم»»، فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء.[100][101]
وخطب أبو بكر معتذراً من قبول الخلافة فقال: «والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلةً قط، ولا كنت
فيها راغباً، ولا سألتها الله عز وجل في سر وعلانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة،
ولكن قلدت أمراً عظيماً ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله عز وجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني».[102]
وقد ثبت أنه قال: «وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين: أبي عبيدة أو عمر،
فكان أميرَ المؤمنين وكنت وزيراً»،[103][104] كما قال: «أيها الناس، هذا أمركم إليكم تولوا من أحببتم على ذلك،
وأكون كأحدكم»، فأجابه الناس: رضينا بك قسماً وحظاً، وأنت ثاني اثنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.[105]
وقد قام باستبراء نفوس المسلمين من أي معارضة لخلافته، واستحلفهم على ذلك فقال: «أيها الناس، أذكركم الله أيما
رجل ندم على بيعتي لما قام على رجليه»، فقام علي بن أبي طالب ومعه السيف، فدنا منه حتى وضع رجلاً على
عتبة المنبر والأخرى على الحصى وقال: «والله لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله فمن ذا يؤخرك؟».[106]

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
البيعة العامة وخلافته
بعد أن تمت بيعة أبي بكر البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة، اجتمع المسلمون في اليوم التالي للبيعة العامة، قال
أنس بن مالك: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد
الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله،
ولا كانت عهداً عهده إلي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سيدبر
أمرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان
هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم: صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا
فبايعوه»، فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة السقيفة.[107]
ثم تكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال:
أما بعد أيها الناس، فإني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق
أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ
الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله
بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.[108]
وقال عمر لأبي بكر يومئذ: «اصعد المنبر»، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة.[109] وقد سأل
عمرو بن حريث سعيد بن زيد فقال له: «أشهدت وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟»، قال: «نعم»، قال له:
«متى بويع أبو بكر؟»، قال سعيد: «يوم مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم،
وليسوا في جماعة»، قال: «هل خالف أحد أبا بكر؟» قال سعيد: «لا، لم يخالفه إلا مرتد أو كاد أن يرتد، وقد أنقذ
الله الأنصار، فجمعهم عليه وبايعوه»، قال: «هل قعد أحد من المهاجرين عن بيعته؟»، قال سعيد: «لا، لقد تتابع
المهاجرون على بيعته».[110]
وقد وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي بن أبي طالب عن مبايعة أبي بكر، وكذا تأخر الزبير بن العوام، قال ابن
عباس: إن علياً والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم،[111] فقد انشغلت
جماعة من المهاجرين وعلى رأسهم علي بن أبي طالب بأمر جهاز الرسول من تغسيل وتكفين، وقد روى الصحابي
سالم بن عبيد أن أبا بكر قال لأهل بيت النبي وعلى رأسهم علي: «عندكم صاحبكم»، فأمرهم يغسلونه.[112]
وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول محمد، وهو يوم الثلاثاء، قال
أبو سعيد الخدري: لما صعد أبو بكر المنبر، نظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير بن العوام فدعا بالزبير فجاء، فقال
له أبو بكر: «يا ابن عمة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وحواريه، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟»، فقال الزبير:
«لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم»، فقام الزبير فبايع أبا بكر، ثم نظر أبو بكر في وجوه
القوم، فلم ير علياً بن أبي طالب، فدعا بعلي فجاء، فقال له أبو بكر: «يا ابن عم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
وختنه على ابنته، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟»، فقال علي: «لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله صلَّى الله عليه
وسلَّم»، فقام علي فبايع أبا بكر.[113] وفي رواية حبيب بن أبي ثابت قال: كان علي بن أبي طالب في بيته، فأتاه
رجل، فقال له: «قد جلس أبو بكر للبيعة»، فخرج علي إلى المسجد في قميص له، ما عليه إزار ولا رداء وهو متعجل،
كراهة أن يبطئ عن البيعة، فبايع أبا بكر ثم جلس، وبعث في ردائه، فجاؤوه به فلبسه فوق قميصه.[114]
إدارة شؤون الدولة
بدأ أبو بكر إدارة شؤون الدولة بعد مبايعته بالخلافة، واتخذ من الصحابة أعواناً يساعدونه على ذلك، فأسند إلى أبي
عبيدة بن الجراح شؤونَ بيت المال، وتولى عمر بن الخطاب القضاء، وباشر أبو بكر القضاءَ بنفسه أيضاً، وتولى
زيد بن ثابت الكتابة (البريد)،[115] وأحياناً يكتب له من يكون حاضراً من الصحابة كعلي بن أبي طالب أو عثمان
بن عفان.[116]
الولاية والولايات
استعمل أبو بكر الولاة في البلدان المختلفة، وكان ينظر إلى حسن اختيار النبي محمد للأمراء والولاة على البلدان
فيقتدي به في هذا العمل، ولهذا فقد أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول وهم على ولايتهم، ولم يعزل أحداً
منهم إلا ليعينه في مكان آخر أكثر أهمية من موقعه الأول ويرضاه، كما حدث لعمرو بن العاص.[117] وكانت
مسؤوليات الولاة في عهد أبي بكر بالدرجة الأولى امتداداً لصلاحياتهم في عهد النبي محمد، أما أهم مسؤولياتهم في
عهد أبي بكر فهي: إقامة الصلاة وإمامة الناس، والجهاد، وإدارة شئون البلاد المفتوحة، وتعيين القضاة والعمال عليها،
وأخذ البيعة للخليفة، وبعض الأمور المالية كالزكاة والجزية، وإقامة الحدود، وتأمين البلاد، وكان لهم دور في تعليم
الناس أمور دينهم، وفي نشر الإسلام في البلاد التي يتولَّون عليها، وكان الكثير من هؤلاء الولاة يجلسون في المساجد
يعلمون الناس القرآن والأحكام.[118]
وقد قُسمت الدولة الإسلامية في عهد أبي بكر إلى عدة ولايات، وهذه أسماء الولايات والولاة:[119][120]
المدينة المنورة: عاصمة الدولة الإسلامية، وبها الخليفة أبو بكر.
مكة المكرمة: وأميرها عتاب بن أسيد، ولاه الرسول محمد، واستمر مدة حكم أبي بكر.
الطائف: وأميرها عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولاه الرسول محمد، وأقره أبو بكر عليها.
صنعاء: وأميرها المهاجر بن أبي أمية، وهو الذي فتحها ووليها بعد انتهاء أمر الردة.
حضرموت: وأميرها زياد بن لبيد.
زبيد ورقع: وأميرها أبو موسى الأشعري.
خولان: وأميرها يعلى بن أبي أمية.
الجند: وأميرها معاذ بن جبل.
نجران: وأميرها جرير بن عبد الله البجلي.
جرش: وأميرها عبد الله بن ثور.
البحرين: وأميرها العلاء بن الحضرمي.
العراق والشام: كان أمراء الجند هم ولاة الأمر فيها.
عُمان: وأميرها حذيفة بن محصن.
اليمامة: وأميرها سليط بن قيس.
القضاء
يعد عهدُ أبي بكر بدايةَ العهد الراشدي القريب من العهد النبوي، فكان العهدُ الراشدي عامة والجانبُ القضائي
خاصة امتداداً للقضاء في العهد النبوي، مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد النبوي،
وتطبيقه بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه.[121] وقد كان أبو بكر يقضي بنفسه إذا عرض له قضاء، ولم
تُفصَل ولاية القضاء عن الولاية العامة في عهده، ولم يكن للقضاء ولايةٌ خاصة مستقلة، كما كان الأمر
في عهد الرسول محمد، ففي المدينة عهِدَ أبو بكر إلى عمر بن الخطاب بالقضاء ليستعين به في بعض
الأقضية، ولكن هذا لم يُعطِ لعمر صفة الاستقلال بالقضاء.[122] وأقر أبو بكر معظم القضاة والولاة الذين
عينهم الرسول محمد، واستمروا على ممارسة القضاء والولاية أو أحدهما في عهده.[123]
وأصبحت الأحكام القضائية في عهد أبي بكر موئلاً للباحثين، ومحطاً لأنظار الفقهاء، وصارت الأحكام القضائية
لتلك الفترة مصدراً للأحكام الشرعية والاجتهادات القضائية والآراء الفقهية في مختلف العصور.[124] وقد ساهمت
فترة خلافة أبي بكر في ظهور مصادر جديدةٍ للقضاء في العهد الراشدي، فقد صارت مصادرُ الأحكام القضائية
هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والسوابق القضائية أو التقليد، والرأي الاجتهادي مع الشورى.[125]
حروب الردة وجيش أسامة بن زيد
ندب النبي محمد المسلمين لغزو الروم بالبلقاء وفلسطين سنة 11هـ، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد،[126] ولكن
النبي مرض بعد البدء بتجهيز هذا الجيش بيومين، فلم يخرج الجيش وظل معسكراً بالجُرْف (موضع على بعد
ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام)، ورجع إلى المدينة بعد وفاة النبي.[127][128] ولما تولى أبو بكر
الخلافة، أمر أن يُبعث أسامة، وألا يبقى بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف،[129]
ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، فإنما أخلصتم لحين فقركم
وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس وأين هم اليوم،
أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر وصاروا
رميماً، قد توالت عليهم العالات، الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، وأين الملوك الذين أثاروا
الأرض وعمروها؟ قد بعدوا ونُسي ذكرهم وصاروا كلا شيء، إلا أن الله عز وجل قد أبقى عليهم التبعات
وقطع عنهم الشهوات، ومضَوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وبعثنا خلقاً بعدهم، فإن نحن اعتبرنا
بهم نجونا، وإن انحدرنا كنا مثلهم. أين الوضاءة الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ صاروا تراباً،
وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم. أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب؟
قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور، (هل تحس منهم من أحد أو تسمع
لهم ركزاً). أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه،
وأقاموا للشقاوة أو السعادة بعد الموت، ألا إن الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به
خيراً، ولا يصرف به عنه سوءاً إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مدينون، وأن ما عنده لا يُدرك
إلا بطاعته، أما آن لأحدكم أن تُحسرَ عنه النارُ ولا تُبعدُ عنه الجنةُ؟[130][131]
واقترح بعض الصحابة على أبي بكر بأن يبقي الجيش فقالوا: «إن هؤلاء جلُّ المسلمين، والعربُ على ما
ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين»،[132] فدعا أبو بكر الصحابة
إلى اجتماع في المسجد، فوقف خطيباً وقال: «والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني
لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته».[133]
ثم خرج أبو بكر حتى أتى الجيش فقال:
يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا
طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة
ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له،
وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منه شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله
عليها، وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقاً،
اندفعوا باسم الله.[134]
وأوصى أبو بكر أسامة فقال: «اصنع ما أمرك به نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ابدأ ببلاد قضاعة ثم
إيت آبل (منطقة جنوب الأردن)، ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا تعجلن
لما خلفت عن عهده».[135] ومضى أسامة بجيشه، فبثّ الخيول في قبائلِ قضاعة وأغار على آبل، فسلِم
وغنِم، وكان مسيره ذاهباً وقافلاً أربعين يوماً.[136][137] وقال المرتدون: لو لم يكن لهم قوةٌ لما أرسلوا
هذا الجيش،[138] فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه،[139] وأصاب القبائلَ العربيةَ في الشمال
الرعبُ والفزعُ من سطوة الدولة الإسلامية.[140]

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
حروب الردة
بعد وفاة النبي محمد ارتدت بعض القبائل العربية عن الإسلام، وكان المرتدون على ثلاثة أقسام: صنف
عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا الذين ادعوا النبوة كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي، وصنف ثالث
استمروا على الإسلام ولكنهم جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي محمد.[141] فلما تولى أبو بكر
الخلافة قام في الناس خطيباً فقال: «والله لا أدعُ أن أقاتلَ على أمر الله حتى ينجزَ الله وعده ويوفيَ لنا عهده،
ويُقتل من قُتل منا شهيداً من أهل الجنة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله
الذي لا خلف له، «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض»[142][143]».
وقال عمر بن الخطاب: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله»؟ فقال أبو بكر:
«والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً (الأنثى من ولد المعز)
كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لقاتلتهم على منعها»، وفي رواية: «والله لو منعوني عقالاً
(الحبل الذي يعقل به البعير) كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه»، قال عمر: «فوالله ما هو إلا
أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق».[144][145]
محاولة المرتدين غزو المدينة
حاول المرتدون شن هجوم كاسح على المدينة، يُسقط الحكم الإسلامي فيها ويُقضى على الإسلام،[146]
فوضع أبو بكر خطة لحماية المدينة: فألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد حتى يكونوا على أكمل استعداد
للدفاع، ونظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون حولها حتى يدفعوا أي غارة قادمة، وعين
على الحرس أمراءهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص،
وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود،[147] كما بعث إلى من حوله من القبائل التي ثبتت على
الإسلام من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة، فاستجابوا له حتى امتلأت
المدينة بهم، وكانت معهم الخيل والجمال فوضعوها تحت تصرف أبي بكر.[148]
طرقت بعض قبائل أسد وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدينة ليلاً، وخلَّفوا بعضَهم بمنطقة تسمى "ذا حسى"
ليكونوا لهم ردءاً، فخرج أبو بكر في أهل المسجد إليهم، فانهزم المرتدون، فأتبعهم المسلمون على إبلهم حتى
بلغوا ذا حسى، فتمكن المرتدون من صد إبل المسلمين حتى عادت إلى المدينة، ولم يُصرع مسلم ولم يُصب،[149]
فبعث المرتدون إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم، فتهيأ أبو بكر وجهز الناس، ثم خرج وعلى ميمنته
النعمان بن مقرن، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب، فما طلع الفجر
إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همساً ولا حساً حتى وضعوا فيهم السيوف فاقتتلوا أعجاز
ليلتهم، فما ذرَّ قرنُ الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلب المسلمون المرتدين، وأتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي
القصة، ووضع بها النعمان بن مقرن في عدد، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون.[150] وخلال ذلك
عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافراً، فاستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: «أريحوا وأريحوا ظهركم»،[151]
ثم خرج أبو بكر بنفسه حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق، فهزم قبيلتي عبس وبكر، وأقام على الأبرق أياماً.[152]
إرسال الجيوش الإسلامية إلى المرتدين
خرج أبو بكر بالصحابة لقتال المرتدين، فخرجوا إلى ذي القصة على مرحلة من المدينة، فعرض عليه الصحابة
أن يبعث غيره على القيادة وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور الأمة، وجاء علي بن أبي طالب فأخذ بزمام
راحلته، فقال: «إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم أحد (يقصد
قول الرسول لأبي بكر): شم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً»،
فرجع.[153] وقد قسم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواءً، وجعل على كل لواء أميراً، وأمر كل أمير
باستنفار من مر به من المسلمين، وهذه الجيوش هي:
جيش خالد بن الوليد (وهو القائد العام للجيوش) إلى بني أسد، ثم إلى تميم، ثم إلى اليمامة.
جيش عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة الكذاب في بني حنيفة، ثم إلى عُمان والمهرة، فحضرموت فاليمن.
جيش شرحبيل بن حسنة إلى اليمامة في إثر عكرمة، ثم حضرموت.
جيش طريفة بن حاجر إلى بني سليم من هوازن.
جيش عمرو بن العاص إلى قضاعة.
جيش خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام.
جيش العلاء بن الحضرمي إلى البحرين.
جيش حذيفة بن محصن الغلفائي إلى عُمان.
جيش عرفجة بن هرثمة إلى مهرة.
جيش المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن، صنعاء ثم حضرموت.
جيش سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن.[154][155]
وكتب أبو بكر كتاباً عاماً لنشره في أوساط من ثبتوا على الإسلام ومن ارتدوا عنه جميعاً قبل تسيير
جيوشه لمحاربة الردة، وبعث رجالاً إلى القبائل وأمرهم بقراءة كتابه في كل مجتمع، وناشد من يصله
مضمون الكتاب بتبليغه لمن لم يصل إليه، وجاء في الكتاب:
وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغتراراً بالله وجهالة بأمره وإجابة
للشيطان، قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ، وقال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ
عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ . وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من
المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن
استجاب له وأقر وكف وعمل صالحاً قَبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقى
على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري ولا يقبل من أحد
إلا الإسلام، فمن تبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله.[156]
محاربة الردة في اليمن
في عهد النبي محمد، ظهر رجل في اليمن اسمه الأسود العنسي ادعى النبوة، وتبعه أبناء قبيلته وهم عنس،
وتبعته قبيلة مذحج وبنو الحارث بن كعب وغيرهم، فاحتل نجران ثم صنعاء،[157] وقتل واليها شهر
بن باذان الفارسي،[158] فتجمعت قوى الإسلام في اليمن للقضاء على الأسود العنسي، فتمكنوا من
قتله وألقوا برأسه بين أصحابه فانتابهم الرهبة وعمهم الخوف، ففروا هاربين، ووصل الخبر إلى النبي
محمد.[159] فلما تولى أبو بكر الخلافة، عين فيروز الديلمي والياً على صنعاء، وقيس بن مكشوح
المرادي مساعداً لفيروز، فقتل قيسُ بن مكشوح بعضَ زعماء المسلمين، فتنبه لذلك فيروز فهرب، فكاتب
قيس بن مكشوح فلول الأسود العنسي، وطلب منهم الالتقاء ليتوحدوا، ثم أحاطوا بأهل صنعاء.[160]
وكتب فيروز الديلمي إلى أبي بكر يخبره بما حصل، فكتب أبو بكر إلى الزعماء الذين كتب إليهم الرسول
محمد من قبل قائلاً: «أعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم، واسمعوا من فيروز وجدوا معه فإني قد
وليته».[161] فخرج كل من جهته، ثم تكتلوا وتوجهوا نحو صنعاء جميعاً، فاصطدموا بقيس بن مكشوح
حتى اضطر إلى ترك صنعاء، وعاد إلى التذبذب بين نجران وصنعاء ولحج، إلا أنه انضم إلى عمرو
بن معد يكرب الزبيدي، وبهذا عادت صنعاء للمرة الثانية إلى الهدوء والاستقرار.[162]
وأما جيش عكرمة بن أبي جهل، فقد شارك في القضاء على ردة أهل عُمان، ثم توجه نحو مهرة، وكان معه
سبعمئة فارس،[163] فوق ما جمع حوله من قبائل عمان، وحينما دخل منطقة مهرة وجدها مقسمة
بين زعيمين متناحرين: "شخريت" ويتمركز في السهل الساحلي وهو أقل الجمعين، و"المصبح" ونفوذه
على المناطق المرتفعة وهو أكبر الجمعين، فدعاهما عكرمة إلى الإسلام فاستجاب شخريت وأبى المصبح،
فصادمه عكرمة ومعه شخريت، فلحقته الهزيمة وقُتل ومعه الكثير من أصحابه، ثم أقام عكرمة فيهم
يجمعهم حتى بايعوا على الإسلام وآمنوا واستقروا،[164] وكان قد تلقى كتاباً من أبي بكر يأمره بالاجتماع
مع المهاجر بن أبي أمية القادم من صنعاء ليتوجها معاً إلى كندة، فخرج من مهرة حتى نزل أبين
وبقي هناك ينتظر المهاجر بن أبي أمية، وعمل وهو هناك على جمع قبائل النخع وحمير وتثبيتهم على الإسلام.[165]
وأما جيش المهاجر بن أبي أمية فقد كان آخرَ من خرج من المدينة من الجيوش الأحد عشر، وكان معه سرية من
المهاجرين والأنصار، ثم انضم إليه المزيدُ من المسلمين،[166] ولما وصل نجران قسم جيشه إلى فرقتين:
فرقة تولت القضاء على فلول الأسود العنسي المتناثرة بين نجران وصنعاء، وكان المهاجر نفسه على هذه
الفرقة، وفرقة عليها أخوه عبد الله، وكانت مهمتها تطهير منطقة تهامة اليمن من بقية المرتدين.[167]
واستقر المهاجر في صنعاء، ثم تلقى الأمر بالتوجه لملاقاة عكرمة، وأن يسيرا معاً إلى حضرموت لمعاونة
زياد بن لبيد الأنصاري (والي كندة بحضرموت) وإقراره على ما هو عليه،[168] وكان الأشعث بن قيس
قد هاجم زياد بن لبيد والي كندة، فأرسل زيادٌ إلى المهاجر وعكرمة يستعجلهما النجدة، وكانا قد التقيا بمأرب،
فما كان من المهاجر إلا أن ترك عكرمة إلى الجيش وأخذ أسرعَ الناس ليكونا بجانب زياد، وقد استطاع أن
يفك الحصار عنه، فهربت كندة إلى حصن من حصونها يسمى النجير، فنزل زياد والمهاجر عليه، ثم قدم
عكرمة فنزل عليه أيضاً فحاصروهم من جميع الجهات، ثم بعث المهاجر الطلائع إلى قبائل كندة والمتفرقين
يدعوهم إلى الإسلام ومن أبى قاتلوه، ولم يبق منهم إلا مَن في الحصن المحاصر،[169][170] وعمل
جيشا زياد والمهاجر على التضييق على من في الحصن، فاتفق زعماؤهم على أن يقوم الأشعث بن قيس
بطلب الأمان والنزول على حكم المسلمين،[171] ففعل الأشعث ذلك، ولكنه لم يطلب الأمان لجميع
من في الحصن، فلم يطلبه إلا لعدد تراوح بين السبعة والعشرة، وكان الشرط هو فتح أبواب الحصن،
وكان من جراء ذلك أن قُتل من كندة في الحصن سبعمائة قتيل.[172][173]
محاربة طليحة الأسدي
ادعى طليحة بن خويلد الأسدي النبوة في آخر عهد النبي محمد، وعسكر في منطقة تسمى سميراء،
واتبعه العوام وقويت شوكته، فبعث النبي محمد ضرار بن الأزور الأسدي لمقاتلته،[174] وتوفي النبي
محمد ولم يُحسم أمر طليحة،[175] فلما تولى أبو بكر الخلافة، عقد الألوية للجيوش والأمراء للقضاء
على المرتدين، وكان من ضمنهم طليحة، ووجه إليه أبو بكر جيشاً بقيادة خالد بن الوليد، وأمره أن
يذهب أولاً إلى طليحة الأسدي، ثم يذهب بعده إلى بني تميم، وكان طليحة الأسدي في قومه بني
أسد وفي غطفان، وانضم إليهم بنو عبس وذبيان، وبعث إلى بني جديلة والغوث من طيء يستدعيهم إليه،
فبعثوا أقواماً منهم ليلحقوهم على أثرهم سريعاً،[176] وجاء خالد في الجنود، وعلى مقدمة الأنصار
الذين معه ثابت بن قيس بن شماس، والتقى خالد مع طليحة الأسدي بمكان يقال له بزاخة، فسميت
المعركة معركة بزاخة، وجاء طليحة فيمن معه، وقد حضر معه عيينة بن حصن في سبعمائة من
قومه بني فزارة، واصطف الناس، وجعل عيينة يقاتل حتى انهزم وانهزم الناس عن طليحة، فلما جاءه
المسلمون ركب على فرس كان قد أعدها له وأركب امرأته النوار على بعير له، ثم انهزم بها إلى الشام
وتفرق جمعه.[177] وبعد ذلك أسلم عيينة بن حصن وطليحة الأسدي وحسن إسلامهما، وندم طليحة
على ما فعل.[178]
محاربة سجاح التغلبية
ادعت امرأة تسمى سجاح بنت الحارث التغلبية النبوة، وهي من نصارى العرب، وكان معها جنودٌ من قومها
ومن التف بهم، وقد عزموا على غزو الخليفة أبي بكر، فلما مرت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها
فاستجاب لها عامتهم، وكان ممن استجاب لها مالك بن نويرة التميمي، وتخلف آخرون منهم عنها،
ثم أقنعها بنو تميم بقصد اليمامة لتأخذها من مسيلمة الكذاب، فعملوا لحرب مسيلمة، فلما سمع بمسيرها
إليه خافها على بلاده، فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذي كان لقريش
لو عدلت، فقبلت ذلك، ثم قال لها: «هل لك أن أتزوجَك وآكلَ بقومي وقومِك العربَ؟»، قالت: «نعم»،
وأقامت عنده ثلاثة أيام ثم رجعت إلى قومها، ثم انثنت راجعة إلى بلادها، فرجعت إلى الجزيرة بعدما
قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه، فأقامت في قومها بني تغلب إلى زمان معاوية بن أبي سفيان،
فأجلاهم منها عام الجماعة.[179]
محاربة الردة في عمان والبحرين
كان أهل عُمان قد استجابوا لدعوة الإسلام، ولكن بعد وفاة النبي محمد ادعى منهم رجل يقال له "ذو
التاج" لقيط بن مالك الأزدي النبوة، وتابعه بعض أهل عمان فتغلَّب عليها، وكان عليها جيفر وعباد
ابنا الجلندي،[180] فألجأهما إلى أطرافها من نواحي الجبال والبحر، فبعث جيفرُ إلى أبي بكر فأخبره
الخبر واستجاشه، فبعث أبو بكر إليه أميرين هما: حذيفة بن محصن الغلفاني وعرفجة، وأرسل عكرمة
بن أبي جهل مدداً لهم، وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش، فخرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له دبار،
وهي مصر تلك البلاد وسوقها العظمى، واجتمع جيفر وعباد ابنا الجلندي بمكان يقال له صحار، فعسكروا
فيه وبعثا إلى أمراء أبي بكر فقدموا، فتقابل الجيشان هناك وتقاتلوا قتالاً شديداً، وابتلي المسلمون وكادوا أن
يُولوا، فبُعث إليهم مددٌ من بني ناجية وعبد القيس في جماعة من الأمراء، فلما وصلوا إليهم كان النصر للمسلمين،
فولى المشركون مدبرين ولحقهم المسلمون، فقتلوا منهم عشرة آلاف مقاتل وسبوا الذراري وأخذوا الأموال
والسوق بحذافيرها.[181]
وأما أهل البحرين، فقد أسلموا بعدما أرسل النبيُّ محمدٌ العلاء بن الحضرمي إلى ملكها وحاكمها المنذر بن
ساوي العبدي، وقد أسلم هو وقومه وأقام فيهم الإسلام والعدل،[182] فلما توفي النبي محمد وتوفي المنذر
بعده بمدة قصيرة، ارتد أهل البحرين وملَّكوا عليهم المنذر بن النعمان الغرور،[183] وبقيت بلدة جواثا
على الإسلام، وكانت أول قرية أقامت الجمعة من أهل الردة، فحاصرهم المرتدون وضيقوا عليهم ومنعوا
عنهم الأقوات وجاعوا جوعاً شديداً حتى فُرِّج عنهم، وبعث أبو بكر بجيش إلى البحرين بقيادة العلاء بن
الحضرمي، فلما دنا من البحرين انضم إليه كثير من المسلمين، فاجتمع إليه جيش كبير قاتل به المرتدين، وتم النصر للمسلمين.[184]


descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
معركة أليس وفتح أمغيشيا والحيرة
انضم بعض نصارى العرب إلى الفرس وصاروا عوناً لهم على المسلمين، وكان عليهم عبد الأسود العجلي وعلى الفرس
"جابان"، وكان قد أمره "بهمن جاذويه" ألا ينازل المسلمين إلا أن يعجلوه، وبعد أن بلغ خالد تجمع نصارى العرب وعرب
الضاحية من أهل الحيرة سار إليهم، وكان همه متجهاً لمواقعتهم ولا علم له بانضمام الفرس لجموع العرب، فلما أقبلت
جنود المسلمين طلب جابان من جنده مهاجمتهم، فأظهروا عدم الاكتراث بخالد والتهاون بأمره وتداعوا إلى الطعام، إلا
أن خالداً لم يدعهم يهنأون بطعامهم، واقتتلوا أشد القتال، وقد زاد في شدة الأعداء ما يتوقعون من لحاق "بهمن جاذويه"
بهم في مدد كبير، وصبر المسلمون على هذا القتال العنيف، وقال خالد: «اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي
منهم أحداً قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم»، ثم انكشف الفرس للمسلمين، فأمر خالد مناديه فنادى في الناس:
«الأسر الأسر، لا تقتلوا إلا من امتنع»، فأقبلت الخيول بهم أفواجاً يريدون أَسرهم، وقد وكل بهم رجالاً يضربون أعناقهم
في النهر.[218]
وبعد أن فرغ خالد من أليس نهض حتى أتى منطقة تسمى أمغيشيا، وقد جلا عنها أهلُها وأعجلوا عما فيها وتفرقوا في
السواد، فأمر بهدمها وهدم كل شيء كان في حيزها، وأصابوا بها ما لم يصيبوا مثله، فقد بلغ سهم الفارس ألفاً وخمسمائة
درهم سوى أنفال أهل البلاء، ولما وصلت الأخماس وأخبار النصر إلى أبي بكر وما صنعه خالد والمسلمون قال:
«يا معشر قريش، عدا أسدُكم على الأسد فغلبه على خراذيله، أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد؟».[219]
علم مرزبان الحيرة بما صنع خالد بأمغيشيا فأيقن أنه آتيه، فاستعد لذلك وأرسل جيشاً بقيادة ابنه ثم خرج في
إثره، وأمر ابنه بسد الفرات ليعطل سفن المسلمين، وفوجئ المسلمون بذلك واغتموا له، فأرسلوا الفلاحين فأخبروهم
بضرورة سد الأنهار حتى يسيل الماء، ونهض خالد في خيل يقصد ابن المرزبان، فلقي خيلاً من خيله ففاجأهم
فأنامهم بالمقر، ثم نهض قبل أن تصل أخباره إلى المرزبان حتى لقي جنداً لابنه على فم الفرات فقاتلهم وهزمهم، وسد
الأنهار وسلك الماءُ سبيله، ثم طلب خالد عسكره واتجه إلى الحيرة، وعلم المرزبان بموت ابنه وخبر موت أزدشير،
فهاله الأمر فعبر الفرات هارباً من غير قتال، فعسكر خالد مكانه وأهل الحيرة متحصنون، وأدخل خالد الخيل
من عسكره، وخطط لمحاصرة قصور الحيرة، فأرسل ضرار بن الأزور لمحاصرة القصر الأبيض، وفيه إياس بن
قبيصة الطائي، وأرسل ضرار بن الخطاب لمحاصرة قصر العدسيين، وفيه عدي بن عدي العبادي، وأرسل
المثنى بن حارثة لمحاصرة قصر ابن بقيلة، وفيه عمرو بن عبد المسيح، وعهد خالد إلى أمرائه أن يدعوا القوم
إلى الإسلام، فإن أجابوا قبلوا منهم وإن أبوا أجلوهم يوماً، وأمرهم أن لا يمكنوا عدواً منهم بل عليهم أن يناجزوهم،
ولا يمنعوا المسلمين من قتال عدوهم ففعلوا، واختار القوم المنابذة، وعمدوا لرمي المسلمين بالحذف، أي بالرمي
بالحصى عن جانب والضرب عن جانب، فرشقهم المسلمون بالنبل، وشنوا غاراتهم، وفتحوا الدور والديارات،
فنادى القسيسون: «يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم»، فنادى أهل القصور: «يا معشر العرب قبلنا واحدة من
ثلاث فكفوا عنا»، وخرج رؤساء القصور فقابلهم خالد، كل أهل قصر على حدة، ولامهم على فعلهم، وتصالحوا
مع خالد على الجزية، وصالحوه على مائة وتسعين ألفاً، وبعث خالد بالفتح والهدايا إلى أبي بكر، فقبل الهدايا وعدها
لأهل الحيرة من الجزية تعففاً عما لم يأذن به الشرع.[220]
فتح الأنبار وعين التمر
استقام الأمر لخالد في تلك الجهات، فاستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو التميمي، واتجه بتعبئة لإغاثة
عياض بن غنم الذي أرسله أبو بكر لفتح العراق من الشمال ويلتقي بخالد. وصل خالد إلى الأنبار، فوجد
القوم قد تحصنوا وخندقوا على أنفسهم وأشرفوا على أعلى الحصون،[221] فضرب المسلمون عليهم الحصار،
وأمر خالد جنوده أن يصوبوا إلى عيون أهل الأنبار، فلما نشب القتال أصابوا في أول رمية ألف عين من
عيونهم، ولذلك سميت هذه الوقعة "ذات العيون".[222] واخترق خالد الخندق الذي حول الأنبار بفطنة وذكاء،
حيث عمد إلى الضعاف من الإبل بجيشه فنحرها، وملأ الخندق في أضيق نقطة فيها بجثث الإبل، واقتحم
المسلمون الخندق وجسرُهم جثث الإبل، وصاروا مع عدوهم داخل الخندق، فالتجأ العدو إلى الحصن،[223]
واضطر "شيراز" قائد جند الفرس إلى قبول الصلح بشروط خالد، على أن يخرج من الأنبار في عدد من الفرسان
يحرسونه، فقبل خالد منه ذلك بشرط ألا يأخذ معه من المتاع أو من الأموال شيئاً.[224]
واستخلف خالد الزبرقان بن بدر على الأنبار وسار إلى عين التمر، فوجد عقة بن أبي عقة في جمع عظيم
من قبائل النمر وتغلب وإياد ومن حالفهم، ومعهم من الفرس "مهران" بقواته،[225] وطلب عقة من مهران
أن يتركه لقتال خالد وقال له: «إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالداً»، فقال له: «دونكم وإياهم، وإن
احتجتم إلينا أعناكم». وسار خالد وتلقاه عقة، فلما تواجهوا قال خالد لمجنبته: «احفظوا مكانكم فإني حامل»،
وأمر حماته أن يكونوا من ورائه، وحمل على عقة وهو يسوّي الصفوف فاحتضنه وأسره، وانهزم جيش عقة من غير
قتال، فأكثروا فيهم الأسر. وقصد خالد حصن عين التمر، فلما بلغ "مهران" هزيمةُ عقة وجيشه نزل من الحصن
وهرب وتركه، ورجعت فلول نصارى الأعراب إلى الحصن فوجدوه مفتوحاً فدخلوه واحتموا به، فجاء خالد
وأحاط بهم وحاصرهم أشد الحصار، واضطر أهل الحصن أن ينزلوا على حكم خالد، فأمر بضرب عنق عقة
ومن كان أُسر معه والذين نزلوا على حكمه أجمعين. ثم أرسل أبو بكر الوليد بن عقبة إلى عياض مدداً له وهو
يحاصر دومة الجندل، فلما قدم عليه وجده في ناحية من العراق يحاصر قوماً، وهم قد أخذوا عليه الطرق فهو
محصور أيضاً، فقال عياض للوليد: «إن بعض الرأي خير من جيش كثيف، ماذا ترى فيما نحن فيه؟»، فقال
له الوليد: «اكتب إلى خالد يمدك بجيش من عنده»، فكتب إليه يستمده، فقدم كتابه على خالد عقب وقعة عين
التمر وهو يستغيث به، فكتب إليه: «من خالد إلى عياض، إياك أريد، البث قليلاً تأتك الحلائب، يحملن آساداً
عليها القشائب، كتائب تتبعها كتائب».[226]
فتح دومة الجندل
رحل خالد بجنده من عين التمر بعد أن خلف عليها عويم بن الكاهل الأسلمي، ووصلت أنباؤه إلى أهل دومة الجندل،
فاستنجدوا بحلفائهم من قبائل بهراء وكلب وغسان وتنوخ،[227] وكان أمر أهل دومة الجندل إلى زعيمين
هما: أكيدر بن عبد الملك والجودي بن ربيعة، فاختلفا، فقال أكيدر: «أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن
طائراً منه، ولا أحد في حرب، ولا يَرى وجهَ خالد قومٌ أبداً قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم»،
فأبوا عليه فقال: «لئن أمالئكم على حرب خالد فشأنكم»،[228][229] وخرج أكيدر مفارقاً قومه، وبلغ
خالداً خبرُه وهو في طريقه إلى دومة، فأرسل إليه عاصم بن عمرو معارضاً له فأخذه، فأمر خالد بقتله.[230]
ونزل خالد على دومة الجندل، وجعل أهلَها وحلفاءَهم بين فكي كماشة ذراعُها الأولى عسكرُه والثانيةُ عسكرُ
عياض بن غنم،[231] وتقدم الجودي بن ربيعة بجنوده نحو خالد، وتقدم ابن الحدرجان وابن الأيهم
بجنودهما ناحية عياض، ودارت المعركة، وأنزل خالد الهزيمة بالجودي وأتباعه، وانتزع عياض النصر
من ابن الحدرجان ومن معه بصعوبة، وحاولت فلول المنهزمين الاحتماء بالحصن، ولكنه كان قد عج بمن
فيه فأغلقوه عليهم وتركوا أصحابهم حوله في العراء، ولم يلبث خالد أن هاجم من بداخل الحصن بعد أن
اقتلع بابه فقتل منهم جموعاً كثيرة.[232][233]
ثم أمر خالد الأقرع بن حابس بالرجوع إلى الأنبار، وأقام بدومة الجندل، فظن الفرس وعرب المنطقة ذلك
فرصة لهم، فخرج "زرمهر" من بغداد ومعه "روزبة" يريدان الأنبار، وتواعدا في الحصيد والخنافس، فوصل
خبرهم الزبرقان بن بدر وهو على الأنبار، فاستمد القعقاع بن عمرو خليفة خالد على الحيرة، فأمده بأعبد
بن فدكي السعدي وأمره بالحصيد، وبعروة بن الجعد البارقي وأمره بالخنافس. وعندما علم خالد بتحرك
بعض القبائل ورغبتهم بالانضمام إلى "روزبة" في الحصيد، جعل القعقاعَ أميراً على المسلمين في الحصيد
بعد أن ترك مكانَه عياض بن غنم على الحيرة، فلما علم "روزبة" بتوجه القعقاع إليه استمد "زرمهر" فانضم إليه،
والتقى المسلمون بجموع الفرس، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة من بينهم "زرمهر" و"روزبة"، وغنموا غنائم
كثيرة.[234] وبعد أن وصلت أخبار المسلمين في الحصيد إلى خالد، واعد قادة جيوشه في ليلة وساعة
يجتمعون فيها عند المصيخ قرب حوران، فلما توافوا في موعدهم بيتوا بعض القبائل ومن آوى إليهم
من ثلاثة أوجه، فأوقع بهم خسائر كبيرة،[235] ثم علم خالد بتحشد بعض القبائل في "الثني" قرب
ديار بكر استعداداً لقتال المسلمين، فباغتهم في "الثني" من عدة اتجاهات فشتت جموعهم، وكذلك
هاجم المتحشدين في "الزميل" فأوقع بهم خسائر هائلة.[236]
وبعد أن بسط خالد راية الإسلام على العراق، واستسلمت له قبائل العرب، قصد منطقة الفراض،
وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة، حتى يحفظ ظهره ويأمن من أن تكون وراءه عورة عند اجتيازه
أرض السواد إلى فارس، فلما اجتمع المسلمون بالفراض غضب الروم وهاجوا واستعانوا بمن يليهم
من مسالح الفرس، فلبسوا سراعاً لأنهم كانوا حانقين على المسلمين، كما استمدوا العرب من تغلب
وإياد والنمر فأمدوهم، فاجتمعت جيوش الفرس والروم والعرب على المسلمين في تلك الموقعة،
فلما بلغوا الفرات قالوا للمسلمين: «إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم»، فقال خالد: «بل
اعبروا إلينا»، قالوا: «فتنحوا حتى نعبر»، فقال خالد: «لا نفعل ولكن اعبروا أسفل منا»، وذلك
للنصف من ذي القعدة سنة 12هـ، فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: «احتسبوا ملككم، هذا
رجل يقاتل على دين وله عقل وعلم، والله لينصرن ولنخذلن»، ثم لم ينتفعوا بذلك، فعبروا أسف
ل من خالد، فلما تتاموا اقتتلوا قتالاً شديداً طويلاً، ثم انتصر المسلمون، وقال خالد للمسلمين: «ألحو
ا عليهم ولا ترفهوا عنهم»، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم
قتلوه، وقتل من الأعداء عشرات الألوف، وأقام خالد في الفراض عشرة أيام، ثم أمر بالرجوع للحيرة.[237]
وتعد هذه المعركة خاتمة المعارك التي خاضها خالد بن الوليد في العراق،[238] وانكسرت شوكة
الفرس بعد هذه المعركة، ولم تقم لهم قوة حربية يخشاها الإسلام بعد هذه الموقعة.[239]

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz

فتوحات الشام
كان اهتمام المسلمين بالشام منذ زمن النبي محمد، فقد كتب إلى هرقل عظيم الروم وغيره من أمراء
الشام كتباً يدعوهم فيها إلى الإسلام، كما أرسل جيشاً إلى مؤتة في الشام فكانت معركة مؤتة، ثم قاد
غزوة تبوك بنفسه. ولما تولى أبو بكر الخلافة، استمر على المنهج الذي وضعه النبي محمد، ولذلك
أصر بعد وفاة النبي على إنفاذ جيش أسامة بن زيد، ثم أرسل خالد بن سعيد بن العاص بجيش لفتح الشام.[240]
جيش سعيد بن العاص
عقد أبو بكر لواءً لخالد بن سعيد بن العاص ووجهه إلى مشارف الشام، ثم أمره أن يكون ردءاً للمسلمين بتيماء،
وهي بلدة في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى، وأمره ألا يفارقها إلا بأمره، ولا يقاتل إلا من قاتله، فبلغ خبره
هرقل ملك الروم، فجهز جيشاً من العرب التابعين للروم من قبائل بهراء وسليح وكلب ولخم وجذام وغسان، فسار
إليهم خالد بن سعيد فلقيهم على منازلهم فافترقوا، فأمره أبو بكر بالإقدام والزحف على الروم قبل تنظيم صفوفهم،
ونصحه أن يحافظ على خط رجعته وألا يتوغل كثيراً في بلاد العدو،[241] فتقدم خالد حتى بلغ القسطل في
طريق البحر الميت، فهزم جيشاً من الروم على الشاطئ الشرقي للبحر، ثم تابع مسيرته، عند ذلك جمع الروم قوات
تزيد على ما جمعوا في تيماء، ورأى خالد تجمعهم فكتب إلى الخليفة يستمده ليتابع تقدمه، فبعث إليه عكرمة بن
أبي جهل بجيش البدال، كما بعث إليه الوليد بن عقبة بجموع أخرى، فلما وصلت هذه القوات إلى خالد بن سعيد
أمر بالهجوم على الروم، وأخذ طريقه إلى مرج الصفر (شرقي بحيرة طبرية)، وانحدر القائد الرومي ماهان بجيشه
يستدرج جيوش المسلمين التي وصلت إلى مرج الصفر، فأوقعوا بالمسلمين الهزيمة، وصادف ماهان سعيد بن خالد
بن سعيد في كتيبة من العسكر فقتلهم وقتل سعيداً في مقدمتهم، وبلغ خالد مقتل ابنه ورأى نفسه قد أحيط بالروم،
فخرج هارباً في كتيبة من أصحابه على ظهور الخيل، وقد نجح عكرمة في سحب بقية الجيش إلى حدود الشام.[242]
عند ذلك، أمر أبو بكر المسلمين بالنفير إلى الجهاد، وأمر بلالاً بن رباح فنادى في الناس: «أن انفروا إلى جهاد
عدوكم الروم بالشام»،[243] وكتب إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الجهاد، فانساح أهل اليمن من جميع أرجائها بأعداد
هائلة، كلهم خرجوا طواعية غير مكرهين.[244]
إرسال الجيوش الإسلامية إلى الشام
بعد أن دعا أبو بكر الناس إلى الجهاد، عقد الألوية لأربعة جيوش أرسلها لفتح الشام، وأمر كل أمير أن يسلك
طريقاً غير طريق الآخر، وهذه الجيوش هي:
جيش يزيد بن أبي سفيان: وهو أول الجيوش التي تقدمت إلى بلاد الشام، وكانت مهمته الوصول إلى دمشق
وفتحها ومساعدة الجيوش الأربعة عند الضرورة، وكان جيش يزيد أول الأمر ثلاثة آلاف، ثم عززه الخليفة
بالإمدادات حتى صار معه بحدود سبعة آلاف رجل.[245]
جيش شرحبيل بن حسنة: حدد أبو بكر لمسير شرحبيل بن حسنة ثلاثة أيام بعد مسير يزيد بن أبي سفيان،
وكان جيش شرحبيل ما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف، وأمره أن يسير إلى تبوك والبلقاء ثم بصرى، وهي
آخر مرحلة، فتقدم شرحبيل نحو البلقاء حيث لم يلق مقاومة تُذكر، وكان يسير على الجناح الأيسر لجيش
أبي عبيدة، والجناح الأيمن لجيش عمرو بن العاص في فلسطين، فأوغل في البلقاء حتى بلغ بصرى، فأخذ
يحاصرها، فلم يوفق في فتحها لأنها كانت من المراكز الحصينة.[246]
جيش أبي عبيدة بن الجراح: وكان يتراوح ما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف مجاهد، وهدف ذلك الجيش
حمص. سار أبو عبيدة من المدينة ماراً بوادي القرى، ثم اطلع إلى الحجر (مدائن صالح)، ثم إلى ذات منار،
ثم إلى زيزا، ومنها إلى مأمؤاب، فالتقى بقوة للعدو فقاتلهم، ثم صالحوه فكان أول صلح عُقد في الشام، ثم
واصل تقدمه نحو الجابية،[247] وكان هذا الجيش الجناح الأيسر لجيش يزيد، والجناح الأيمن لجيش شرحبيل،
وكان في صحبة أبي عبيدة فارس من فرسان العرب المشهورين، وهو قيس بن هبيرة بن مسعود المرادي،
فأوصى به أبو بكر أبا عبيدة قبل سفره.[248]
جيش عمرو بن العاص: وجهه أبو بكر إلى فلسطين، فأمره أن يخرج من المدينة وأن يعسكر حتى يندب
معه الناس، وقد خرج معه عدد من أشراف قريش منهم: الحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة
بن أبي جهل، وخرج عمرو بقواته وكان تعداده يتراوح من ستة آلاف إلى سبعة آلاف مجاهد وهدفها
فلسطين، فسلكت طريقاً لساحل البحر الأحمر حتى وادي عربة في البحر الميت، ونظم عمرو بن العاص
قوة استطلاع مؤلفةً من ألف مجاهد يقودها عبد الله بن عمر بن الخطاب، ودفعها باتجاه محور تقدم
الروم، فاصطدمت هذه القوة بقوة للروم، ولكنها انتصرت عليهم، وعادت ببعض الأسرى فاستنطقهم
عمرو بن العاص، وعلم منهم أن جيش العدو بقيادة "رويس" يحاول مباغتة المسلمين بالقيام بالهجوم،
فنظم عمرو قواته، وشن الروم هجومهم، واستطاع المسلمون صده ونجحوا في رد قوات الروم، وبعد ذلك
شنوا هجومهم المضادَّ ودمروا قوة العدو وأرغموهم على الفرار وترك ميدان المعركة، وتابع الفرسان المطاردة،
وانتهت بسقوط ألوف القتلى من الروم.[249]
لاقت الجيوش الإسلامية صعوبة في تنفيذ مهماتها، فقد كانت تواجه جيوش الإمبراطورية الرومانية التي تمتاز
بقوتها وكثرة عددها، وقد بنت الحصون والقلاع للدفاع عن مراكز المدن، وقد كان للروم في الشام جيشان
كبيران: أحدهما في فلسطين والآخر في أنطاكية، وعندما شهد قائد الروم هرقل توغل الجيوش الإسلامية،
أصدر أوامره إلى قواته بالتوجه لتدمير هذه الجيوش، وأن تتحركَ جيوشه وتهاجمَ أمراءَ الإسلام الأربعة كل
على حدة، فراسل قادة المسلمين الخليفة أبا بكر بالمدينة يخبرونه بأمر الروم، فشرع بإمدادهم بالرجال
والسلاح والخيول وما يحتاجونه، واستعان بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ودعا الناس إلى الجهاد، فمال
الناس على هاشم حتى كثروا عليه، فلما أتموا ألفاً أمره أبو بكر أن يسير، فخرج ولزم طريق أبي عبيدة حتى
قدم عليه، فتباشر بمقدمه المسلمون وسروا به.[250] ثم خرج سعيد بن عامر بن حذيم إلى الشام ومعه
سبعمائة رجل، فسار حتى لحق بيزيد بن أبي سفيان، فشهد معه وقعة العربة والداثنة.[251]
وتفادياً لمهاجمة الجيوش الإسلامية كل على حدة، قرر قادة الجيوش الإسلامية الانسحاب من جميع
الأراضي التي فتحوها، وتجمعوا في مكان واحد ليتمكنوا من إحباط خطة الرومان وإجبارهم على خوض
معركة فاصلة تخوضها كل الجيوش الإسلامية، فأشار عمرو بن العاص أن يكون التجمع باليرموك، وجاء
رأي أبي بكر مطابقاً لرأي عمرو بن العاص،[252] واتفقوا أن يتم الانسحاب مع تجنب الاشتباك مع العدو،
فانسحب أبو عبيدة من حمص، وانسحب شرحبيل بن حسنة من الأردن، وانسحب يزيد بن أبي سفيان
من دمشق، وأخذ عمرو بن العاص في الانسحاب تدريجيا من فلسطين.[253] وقرر أبو بكر أن ينقل خالد
بن الوليد بجيشه إلى الشام وأن يتولى قيادة الجيوش بها، فالأمر بالشام يحتاج إلى قائد صاحب قدرة عسكرية
فائقة، وصاحب تجربة طويلة في المعارك،[254] فحشد خالد جنوده وانطلق ليعبر إلى الشام عبر صحاري
رهيبة، وبعد خمسة أيام من الترحال وصل جيش خالد إلى الشام، فقد وصل إلى مكان يسمى أدك، وهي
أول حدود الشام، ففتحها صلحاً، ثم نزل "تدمر" فصالح أهلها، ثم أتى "القريتين" فقاتله أهلها فظفر بهم،
ثم قصد "حوارين"، وصار إلى موضع يعرف بالثنية، فنشر رايته وهي راية العقاب، فسمي ذلك الموضع
بثنية العقاب،[255] ثم سار حتى وصل إلى قناة بصرى، فوجد الصحابة تحاربها فصالحه صاحبها
وسلمها إليه، فكانت أول مدينة فتحت من الشام، ثم سار خالد وأبو عبيدة ومرثد وشرحبيل إلى عمرو
بن العاص وقد قصده الروم، فكانت معركة أجنادين.[256]
معركة أجنادين
كان عمرو بن العاص ينسحب محاذاة ضفة نهر الأردن لكي يلتقي بجيوش المسلمين الأخرى، فقرر
خالد بن الوليد أن يسرع وينضم إلى جيش عمرو بن العاص، ويخوض وإياه معركة فاصلة فيقضي
على قوة الروم الكبيرة، فيتعزز الموقف العسكري للجيش الإسلامي، ويصون خط رجعته، ويحمي جناحه
الأيسر، ويثبت أقدام المسلمين في فلسطين، فانحدر من اليرموك إلى سهل فلسطين بعدما أصدر
أمره إلى عمرو بن العاص بأن ينسحب متدرجاً جيش الروم حتى يصل جيش خالد فيطبقان عليه،
فارتد عمرو بن العاص إلى أجنادين، وعندما وصلت قوات خالد أصبح جيش المسلمين بحدود
ثلاثين ألف مقاتل، وكان وصول خالد في الوقت المناسب، فما أن اصطدمت قوات عمرو بن العاص
بالروم حتى انقض خالد بقواته الرئيسة، وجرت معركة عنيفة، وكان لمهارة القائدين خالد وعمرو
العسكرية دور كبير في تحقيق النصر الحاسم، حيث تم توجيه قوة اقتحامية اخترقت صفوف
العدو حتى وصلت إلى قائد الروم فقتلوه، وبمقتل القائد انهارت مقاومة الروم وهربوا في اتجاهات
مختلفة.[257] وقد كانت أجنادين أولى المعارك الكبيرة في بلاد الشام بين المسلمين والروم،
فلما انتهى خبر الهزيمة إلى قيصر الروم هرقل وهو في حمص شعر بمدى الكارثة.[258]
معركة اليرموك
بعد انتصار جيوش المسلمين في أجنادين، اجتمعت في اليرموك تنفيذاً لأمر الخليفة أبي بكر،
وتحركت جيوش الروم بقيادة "تيدور" ونزلت في منزل واسع الطعن واسع المطرد ضيق المهرب، وكان
عدد المسلمين أربعين ألف مقاتل أو خمسة وأربعين ألفاً يقودهم خالد بن الوليد، وأما عدد الروم فيُقدَّر
بمائتين وأربعين ألفاً بقيادة "تيدور"، وقسم خالد جيشه، فكانت فرقة القلب مؤلفة من ثمانية عشر
كردوساً يقودها أبو عبيدة بن الجراح ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو، وفرقة الميمنة
مؤلفة من عشرة كراديس يقودها عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة، وفرقة الميسرة مؤلفة من
عشرة كراديس يقودها يزيد بن أبي سفيان، وفرقة الطليعة أو المقدمة من الخيالة والمخافر الأمامية،
ومهمتها المراقبة والاستطلاع والاحتفاظ على التماس مع العدو، وفرقة المؤخرة مؤلفة من خمسة آلاف
مقاتل بقيادة سعيد بن يزيد، وتهتم بالأمور الإدارية.[259]
ونزلت الروم الواقوصة قريباً من اليرموك، وصار الوادي خندقاً عليهم، ولما تكامل الاستعداد ولم تنجح
المفاوضات بدأ القتال وحميت الحرب، وتقدمت صفوف الروم للقيام بهجوم عام على الجيش الإسلامي،
وحملت ميسرتهم على ميمنة المسلمين فانكشف قلب الجيش الإسلامي من ناحية الميمنة، واستطاع الروم
إحداث ثغرة في صفوف المسلمين والتسلل إلى مؤخرتهم، فثبتت قبائل الأزد ومذحج وحضرموت وخولان حتى
صدوا الروم، ثم ركبهم الروم فزال المسلمون من الميمنة إلى القلب، وانكشف طائفة من الناس إلى العسكر،
وثبت سور من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم، ثم تنادوا فتراجعوا حتى نهنهوا مَن أمامهم من الروم
وأشغلوهم عن اتباع من انكشف من الناس.[260] ثم حملت ميمنة الروم على ميسرة المسلمين حملة شديدة،
وكانت في ميسرة المسلمين قبائل كنانة وقيس وخثعم وجذام وقضاعة وعاملة وغسان، فأزيلت عن مواضعها،
فانكشف قلب المسلمين من ناحية الميسرة وركب الروم أكتاف من انهزم من المسلمين، وتبعوهم حتى دخلوا
معسكر المسلمين، فاستقبلتهم نساء المسلمين بالحجارة وأعمدة الخيام يضربنهم على وجوههم ويقلن لهم: أين
عز الإسلام والأمهات والأزواج، أين تفرون وتدعوننا للعلوج؟ فإذا زجرنهم خجل أحدهم من نفسه ورجع إلى القتال،
وقتلوا من الروم خلقاً كثيراً، وقتل في هذه المرحلة سعيد بن زيد. وحاولت ميسرة الروم مرة أخرى شن الهجوم على
ميمنة المسلمين، فشدوا على عمرو بن العاص وجنده في محاولة اختراق الصفوف لكي يطوِّقوهم، وقاتل عمرو
وجنده عن مواضعهم، إلا أن الروم تمكنوا من دخول معسكرهم، ونزلت المسلمات من التل وأخذن يضربن وجوه
الرجال المراجعين، وبذلك ارتدت إلى المسلمين عزائمهم، ودخلوا للقتال مرة أخرى، وحمل المسلمون على الروم من
جديد حتى أزاحوهم عن المواضع التي كسبوها.[261]
وحمل خالد بمن معه من الخيالة على الميسرة التي حملت على ميمنة المسلمين، فأزالوهم إلى القلب، فقُتل من الروم
في حملته هذه ستة آلاف، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف، فما وصل إليهم حتى
انقض جميعهم، وحمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد فانكشفوا، وتبعهم المسلمون لا يمتنعون منهم.[262]
وقامت ميمنة المسلمين بإغلاق المنافذ والثغرات في وجوه الروم، وحصروا بين وادي اليرموك ونهر الزرقاء،
ودارت رحى المعركة وأبلى المسلمون بها بلاء حسناً، واستطاع المسلمون أن يفصلوا فرسان الروم عن مشاتهم،
فحملوا على الروم وركبوا أكتافهم حتى أرهقوهم، وبذلك أراد فرسان الروم مخرجا لهم للفرار منه، فأمر خالد عمرو
بن العاص بفسح المجال لهم في طريق الهرب ففعل ذلك وهرب فرسان الروم، وبذلك تحرك مشاة الروم دون غطاء
من خيالتهم، فجاء المشاة إلى الخنادق وهم مقيدون بالسلاسل حتى صاروا كأنهم حائط وقد هدم، وجاءهم المسلمون
إلى خندقهم في ظلال الليل وأخذ معظمهم ينهار بالوادي، فإذا منهم شخص قتل سقط معه الجميع الذين كانوا مقيدين
معه، وقتل منهم المسلمون في هذه المرحلة خلقاً كثيراً قُدِّر عددهم بمائة ألف وعشرين ألفاً، والناجون منهم قد
انسحب قسم منهم إلى فحل، والقسم الآخر إلى دمشق داخل بلاد الشام.[263] وباتت الخيول تجول حول
خيمة خالد يقتلون من مر بهم من الروم حتى أصبحوا، وقتل قائد الروم "تذارق" وكان له ثلاثون سرادقاً وثلاثون
رواقاً من ديباج بما فيها من الفرش والحرير، فلما كان الصباح حازوا ما كان هنالك من الغنائم،[264] وكان
عدد قتلى المسلمين ثلاثة آلاف منهم: عكرمة بن أبي جهل وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد،
وأبان بن سعيد.[265] وكان عدد قتلى الروم مائة وعشرين ألفاً، منهم ثمانون ألفاً مقيدون بالسلاسل وأربعون ألفاً
مطلقون سقطوا جميعهم في الوادي.[266]

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
وفاته

في شهر جمادى الآخرة سنة 13هـ، مرض الخليفة أبو بكر واشتد به المرض،[267][268] فلما ثقل واستبان له
من نفسه، جمع الناس إليه فقال: «إنه قد نزل بي ما قد ترون، ولا أظنني إلا ميتاً لما بي، وقد أطلق الله
أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمَّرتم في حياة
مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي»،[269] فتشاور الصحابة، ثم رجعوا إلى أبي بكر فقالوا: «رأيُنا يا خليفة
رسول الله رأيُك»، قال: «فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده»، ثم وقع اختيار أبي بكر بعد أن استشار
بعض الصحابة على عمر بن الخطاب، ثم كتب عهداً مكتوباً يُقرأ على الناس، وكان نص العهد:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول
عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر
بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عَدَلَ فذلك ظني به
وعلمي فيه، وإن بَدّلَ فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب: «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون»[270].[271]
وقد روت السيدة عائشة خبر وفاة أبيها أبي بكر فقالت: «أول ما بُدئ مرض أبي بكر أنه اغتسل وكان
يوماً بارداً، فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر بالصلاة وكانوا يعودونه، وكان
عثمان ألزمهم له في مرضه»،[272] وقالت السيدة عائشة: قال أبو بكر: «انظروا ماذا زاد في مالي منذ
دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي»، فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح
(البعير الذي يُستقى عليه) كان يسقي بستاناً له، فبعثنا بهما إلى عمر، فبكى عمر، وقال: «رحمة الله
على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعباً شديداً».[273]
واستمر مرض أبي بكر مدة خمسة عشر يوماً، حتى مات يوم الاثنين ليلة الثلاثاء 22 جمادى الآخرة
سنة 13هـ، قالت السيدة عائشة: إن أبا بكر قال لها: «في أي يوم مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟»،
قالت: «في يوم الاثنين»، قال: «إني لأرجو فيما بيني وبين الليل، ففيم كفنتموه؟»، قالت: «في ثلاثة أثواب
بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة»، فقال أبو بكر: «انظري ثوبي هذا فيه ردع زعفران
أو مشق فاغسليه واجعلي معه ثوبين آخرين»،[274] فقيل له: «قد رَزَقَ الله وأحسن، نكفنك في جديد»، قال:
«إن الحي هو أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه عن الميت، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى».[275]
وقد أوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس، وأن يدفن بجانب النبي محمد، وكان آخرَ ما تكلم به أبو بكر
قولَ الله تعالى: «توفني مسلماً وألحقني بالصالحين»[276].[277] وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين
سنة، استوفى سن النبي محمد، وغسلته زوجه أسماء بنت عميس،[278] ودفن جانب النبي محمد، وقد
جعل رأسه عند كتفي النبي،[279] وصلى عليه خليفته عمر بن الخطاب، ونزل قبره عمر وعثمان وطلحة
وابنه عبد الرحمن، وألصق اللحد بقبر النبي محمد.[280]
وارتجت المدينة لوفاة أبي بكر، ولم تر المدينة منذ وفاة الرسول يوماً أكثر باكياً وباكية من ذلك المساء،
وأقبل علي بن أبي طالب مسرعاً باكياً مسترجعاً، ووقف على البيت الذي فيه أبو بكر، فقال: «رحمك الله يا
أبا بكر، كنت إلفَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنيسه، ومستراحه وثقته، وموضع سره ومشاورته»، إلى
أن قال: «والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبداً، كنت للدين عزاً وحرزاً وكهفاً، فألحقك الله عز
وجل بنبيك محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك»، فسكت الناس حتى قضى كلامه،
ثم بكوا حتى علت أصواتهم، وقالوا: «صدقت».[281][282]
ألقابه
لُقب أبو بكر بألقاب عديدة منها:
العتيق
لقَّبه به النبي محمد، فقد قال له: «أنت عتيق الله من النار»، فسمي عتيقاً.[283] وفي رواية السيدة عائشة
قالت: دخل أبو بكر الصديق على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
«أبشر، فأنت عتيق الله من النار».[284] وقد ذكر المؤرخون أسباباً كثيرةً لهذا اللقب، فقد قيل: إنما سمي
عتيقًا لجمال وجهه.[285] وقيل: لأنه كان قديمًا في الخير.[286] وقيل: سمي عتيقًا لعتاقة وجهه.[287]
وقيل: إن أمَّ أبي بكر كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة وقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت فهبه لي.[288]
الصّدّيق
لقَّبه به النبي محمد، ففي حديث أنس أنه قال: إن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صعد أُحُداً وأبو بكر وعمر
وعثمان، فرجف بهم فقال: «اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان».[289] وقد لقب بالصديق
لكثرة تصديقه للنبي محمد، وفي هذا تروي السيدة عائشة فتقول: لما أسري بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى
المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعى رجال إلى أبي بكر،
فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أن أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن
قال ذلك فقد صدق، قالوا: أوتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني
لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق.[290]
الصاحب
لُقب به في القرآن الكريم، وذلك في الآية: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا
فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ،[291] وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود
هنا هو أبو بكر،[292] فعن أنس أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في الغار: لو
أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين
الله ثالثهما؟».[293] وقال الحافظ ابن حجر في تفسير الآية السابقة: فإن المراد بصاحبه هنا أبو بكر بلا منازع.[294]
الأتقى
لُقب به في القرآن الكريم، وذلك في الآية: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى .[295] وسبب ذلك أن أبا بكر عندما كان
يشتري العبيدَ المسلمين ويعتقهم، قال له أبوه ذات يوم: يا بني، إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك إذا
فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر: يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل،
فنزلت فيه آيات منها: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ
وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى .[296][297]
الأوّاه
لُقب أبو بكر بالأواه، وهو لقب يدل على الخوف والوجل والخشية من الله تعالى،[298] فعن إبراهيم النخعي
أنه قال: كان أبو بكر يسمى بالأواه لرأفته ورحمته.[299]
زوجاته وذريته
تزوج أبو بكر من أربع نسوة، أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث، وهن على التوالي:[300]
قتيلة بنت عبد العزى بن أسعد بن جابر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وهي أم عبد الله وأسماء.
أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن
غنم بن مالك بن كنانة الكنانية، وهي أم عائشة وعبد الرحمن، توفيت في ذي الحجة سنة 4هـ أو 5هـ أو 6هـ.[301]
أسماء بنت عميس بن معد بن الحارث بن تيم الخثعمية، وهي أم محمد، كانت زوج جعفر بن أبي طالب،
فلما قتل جعفر تزوجها أبو بكر، ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب.[302]
حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجية الأنصارية، وقيل: مليكة بنت خارجة، وهي أم أم كلثوم.[303]
ذريته :
لأبي بكر ستة أولاد، ثلاثة ذكور وثلاث إناث وهم:[304]
عبد الرحمن بن أبي بكر، أمه أم رومان، وهو شقيق عائشة، توفي سنة 53هـ أو 55هـ أو 56هـ.[305]
عبد الله بن أبي بكر، أمه قتيلة بنت عبد العزى، وهو شقيق أسماء، وهو الذي كان يأتي النبيَّ وأباه أبا بكر
بالطعام وبأخبار قريش إذ هما في الغار كل ليلة، توفي أول خلافة أبي بكر في شوال سنة 11هـ.[306]
محمد بن أبي بكر، أمه أسماء بنت عميس، وهو أخو عبد الله بن جعفر لأمه، وأخو يحيى بن علي لأمه.[307]
أسماء بنت أبي بكر، أمها قتيلة بنت عبد العزى، وهي زوج الزبير بن العوام وأم عبد الله بن الزبير، لقبت بذات النطاقين.[308]
عائشة بنت أبي بكر، أمها أم رومان، وهي زوج النبي محمد وأشهر نسائه، لقبت بالصديقة بنت الصديق
وأم المؤمنين، وهي أحب الناس إلى النبي محمد، توفيت سنة 57هـ أو 58هـ ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة
خلت من رمضان، ودفنت بالبقيع.[309]
أم كلثوم بنت أبي بكر، أمها حبيبة بنت خارجة، وقد ولدت بعد وفاة النبي محمد.[310]
الآراء والمواقف حوله

نظرة أهل السنة والجماعة
عن ابن عمر أنه قال: «كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر،
ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم».[311] عن ابن عباس، عن النبي أنه
قال: «لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي».[312] عن محمد
بن جبير بن مطعم عن أبيه، قال: أتت امرأة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فأمرها أن ترجع إليه، قالت:
أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول: الموت، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر».[313]
عن عمرو بن العاص أن النبي محمداً بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتاه فقال: أي الناس أحب
إليك؟ قال: «عائشة»، فقلت: من الرجال؟ فقال: «أبوها»، قلت: ثم من؟ قال: «ثم عمر بن الخطاب»
فعد رجالاً.[314] عن أنس بن مالك أن النبي محمداً صعد أحداً، وأبو بكر، وعمر، وعثمان فرجف بهم،
فقال: «اثبت أحد فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان»[315]

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
وبكذآ خلصت موضوعي عن أبو بكر

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
بارك الله فيك +يسلمووووا

descriptionأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥ Emptyرد: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ♥

more_horiz
شكر ا
نورت اهلا بيك



privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

جميع الحقوق محفوظة لدليل الاشهار العربي