هل يرتد من سئل " أيهما أفضل عندك نبيك صلى الله عليه وسلم أم لغتك ؟ " فأجاب : " لغتي " ! ؟ وهل يرتد إن قال ذلك مازحا أو جاهلا ؟ .
الحمد لله
أولاً:
لسنا ندري حقيقة المقارنة والمفاضلة بين " حسي " و " معنوي " ، فكيف يقول المجيب إن
" اللغة " – وهي شيء معنوي ، ليس بذات – أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم – وهو
شيء حسي ، له ذات - ؟ .
وعندما تأملنا وجدنا أن الأمر قد يحتمل صورتين ، واحدة تتعلق بالسائل ، وأخرى تتعلق
بالمجيب .
أما التي تتعلق بالمجيب : فهو أنه يحتمل أن " اللغة " تعني : القومية العربية -
والظاهر أنهم عرب ، وأن الكلام عن اللغة العربية - ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم
يعني " الإسلام " ، وهذا الاحتمال يجعل المقارنة والمفاضلة بين شيئين يمكن السؤال
والإجابة عنهما .
وأما التي تتعلق بالسائل : فهو أن يكون أراد أن يستفز السائل بالإنكار عليه في
تعظيم " لغته " بذِكر شيء معظَّم عند المسلمين ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ،
فسأله إن كانت لغته أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانياً:
إن كان الاحتمال الأول هو الصواب : فإن المجيب وقع في الكفر ، فالقومية العربية
دعوى جاهلية تحمل الكفر ، وتطعن في التشريعات الإسلامية ، وتفرِّق بين المسلمين ،
وتجمع بينهم وبين غير المسلمين على أساس اللغة العربية ، فالعربي الكافر عندهم أقرب
لهم وأحب من المسلم الأعجمي ! وهذا كفر صريح بالإسلام وتشريعاته .
قال شاعر القومية : فخري البارودي :
بلادُ العرب أوطاني من الشام
لبغـدانِ
ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مصرَ
فتَطوان
فلا حدٌّ يُباعدنــا ولا دينٌ
يُفرِّقنــا
لسانُ الضاد يجمعنا بغسّانٍ
وعدنــانِ
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
ما رأيكم في الدعوة إلى القومية التي تعتقد أن الانتساب إلى العنصر ، أو اللغة
مقدَّم على الانتساب إلى الدين , وهذه الجماعات تدعي أنها لا تعادي الدين ولكنها
تقدم القومية عليه ، ما رأيكم في هذه الدعوى ؟ .
فأجاب :
هذه دعوة جاهلية ، لا يجوز الانتساب إليها ، ولا تشجيع القائمين بها , بل يجب
القضاء عليها ؛ لأن الشريعة الإسلامية جاءت بمحاربتها والتنفير منها , وتفنيد شبههم
ومزاعمهم والرد عليها بما يوضح الحقيقة لطالبها ؛ لأن الإسلام وحده هو الذي يخلد
العروبة لغة ، وأدباً ، وخلقاً , وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقي على
العروبة في لغتها ، وأدبها ، وخلقها , ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا في إبراز
الدعوة إلى الإسلام بقدر ما يستميت الاستعمار في إخفائه .
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من
القوميات دعوة باطلة ، وخطأ عظيم ، ومنكر ظاهر ، وجاهلية نكراء ، وكيد للإسلام
وأهله , وذلك لوجوه قد أوضحناها في كتاب مستقل سميته : " نقد القومية العربية على
ضوء الإسلام والواقع " .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 4 / 173 ) .
والكتاب موجود بكامله في " فتاوى الشيخ ابن باز " ( 1 / 280 – 318 ) .
وقال الشيخ – رحمه الله – أيضاً :
إن من أعظم الظلم ، وأسفه السفه , أن يقارن بين الإسلام وبين القومية العربية , وهل
للقومية المجردة من الإسلام من المزايا ما تستحق به أن تجعل في صف الإسلام , وأن
يقارن بينها وبينه ؟ لا شك أن هذا من أعظم الهضم للإسلام ، والتنكر لمبادئه ،
وتعاليمه الرشيدة , وكيف يليق في عقل عاقل أن يقارن بين قومية لو كان أبو جهل ,
وعتبة بن ربيعة , وشيبة بن ربيعة وأضرابهم من أعداء الإسلام أحياء لكانوا هم
صناديدها وأعظم دعاتها , وبين دين كريم صالح لكل زمان ومكان , دعاته وأنصاره هم :
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر الصديق , وعمر ابن الخطاب , وعثمان
بن عفان , وعلي بن أبي طالب , وغيرهم من الصحابة ، صناديد الإسلام ، وحماته الأبطال
, ومن سلك سبيلهم من الأخيار؟ لا يستسيغ المقارنة بين قومية هذا شأنها , وهؤلاء
رجالها ، وبين دين هذا شأنه ، وهؤلاء أنصاره ودعاته , إلا مصاب في عقله , أو مقلد
أعمى , أو عدو لدود للإسلام ، ومن جاء به ، وما مثل هؤلاء في هذه المقارنة إلا مثل
من قارن بين البعر والدر , أو بين الرسل والشياطين , ومن تأمل هذا المقام من ذوي
البصائر , وسبر الحقائق والنتائج : ظهر له أن المقارنة بين القومية والإسلام : أخطر
على الإسلام من المقارنة بين ما ذكر آنفا ، ثم كيف تصح المقارنة بين قومية غاية من
مات عليها النار , وبين دين غاية من مات عليه الفوز بجوار الرب الكريم , في دار
الكرامة والمقام الأمين ؟ .
اللهم اهدنا وقومنا سواء السبيل , إنك على كل شيء قدير .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 1 / 320 ، 321 )
.
وهذان جوابان نافعان من الشيخ رحمه
الله حول المقارنة بين القومية العربية والإسلام ، وفي الجواب الثاني حكم من قارن
بينهما ، وفيه ذكر أنه " مصابٌ في عقله " ، أو " مقلِّد أعمى " ، أو " عدو لدود
للإسلام " .
فمن كان يجهل حال القومية : فقد يكون معذوراً ، ومن جهل حال الإسلام واعتقد أن غيره
من الأديان والنظم والمبادئ خير منه : فلا شك في كفره .
ثالثاً:
وإن كان الاحتمال الثاني هو الواقع : فإن السائل يكون أساء في ذِكر النبي صلى الله
عليه وسلم في المفاضلة ، والمجيب قد أساء أكثر بإجابته السخيفة ، والتي هي كفر في
ذاتها ؛ لأن فيها انتقاصاً من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإساءة له .
والواجب على المسلم أن يعظِّم نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن ينصره ، ويؤيده ، وأن
يمنعه من كل ما يؤذيه ، كما يجب عليه توقيره وتكريمه ، والله تعالى ذكر ذلك أنه من
صفات المؤمنين ، وذكره ثانياً آمراً به المسلمين .
قال تعالى : ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا
النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
الأعراف/من الآية 157 .
وقال تعالى : ( إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً . لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وأَصِيلاً ) الفتح/ 8 ، 9
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
و من ذلك : أن الله أمر بتعزيره فقال : ( وتعزِّروه وتوقروه )الفتح/
9 ، والتعزير : اسم جامع لنصره ،
وتأييده ، ومنعه من كل ما يؤذيه .
والتوقير : اسم جامع لكل ما فيه سكينة ، وطمأنينة ، من الإجلال والإكرام ، وأن
يعامَل من التشريف ، والتكريم ، والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حدِّ الوقار
.
" الصارم المسلول " ( 1 / 425 ) .
وليس تعظيمه وتوقيره مختصاً بحياته
صلى الله عليه وسلم ، بل وبعد مماته .
قال القاضي عياض – رحمه الله - :
واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، وتوقيره ، وتعظيمه : لازم ، كما
كان حال حياته ، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم ، وذكر حديثه ، وسنته ، وسماع
اسمه ، وسيرته ، ومعاملة آله ، وعترته ، وتعظيم أهل بيته ، وصحابته .
" الشفا في أحوال المصطفى " ( 2 / 40 ) .
وقد نهى الله تبارك وتعالى
المسلمين أن ينادوا النبي صلى الله عليه وسلم باسمه المجرد كما يفعلونه مع بعضهم ،
وهذا من أوجه تعظيمه صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ
بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )النور/63
.
قال الضحاك عن ابن عباس : كانوا يقولون : يا محمد ، يا أبا القاسم ، فنهاهم الله عز
وجل عن ذلك ؛ إعظامًا لنبيه صلوات الله وسلامه عليه ، قال : فقالوا : يا رسول الله
، يا نبي الله . وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير .
وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يُبَجَّل ، وأن
يعظَّم ، وأن يسوَّد .
وقال مقاتل بن حَيَّان : لا تُسَمّوه إذا دَعَوتموه : يا محمد ، ولا تقولوا : يا
ابن عبد الله ، ولكن شَرّفوه فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله .
وقال مالك عن زيد بن أسلم : أمرهم الله أن يشرِّفوه .
هذا قول ، وهو الظاهر من السياق ، كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا )
البقرة/104
، وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) إلى قوله : ( إِنَّ
الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ )
الحجرات/2-5 .
فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، والكلام معه ، وعنده ،
كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته .
" تفسير ابن كثير " ( 6 / 88 ، 89 ) .
وقد توعَّد الله تعالى مَن رفع
صوته على نبيه بذهاب عمله وبطلانه .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ )
الحجرات/2
.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - :
وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه ، أي : لا يرفع المخاطِب له
صوته معه فوق صوته ، ولا يجهر له بالقول ، بل يغض الصوت ، ويخاطبه بأدب ولين ،
وتعظيم وتكريم ، وإجلال وإعظام ، ولا يكون الرسول كأحدهم ، بل يميزوه في خطابهم ،
كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة ، ووجوب الإيمان به ، والحب الذي لا يتم
الإيمان إلا به ، فإن في عدم القيام بذلك محذوراً ، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا
يشعر ، كما أن الأدب معه من أسباب حصول الثواب ، وقبول الأعمال .
" تفسير السعدي " ( ص 799 ) .
وقد أجمع أهل العلم على وجوب قتل
من سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو عابه ، أو انتقص من قدره صلى الله عليه
وسلم ، سواء بالتصريح أو الإشارة .
قال القاضي عِياض – رحمه الله - :
اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع مَن سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عابه ، أو
ألحق به نقصاً في نفسه ، أو نسَبِه ، أو دينه ، أو خَصْلة من خصاله ، أو عَرَّض به
، أو شَبَّهه بشيء على طريق السبِّ له ، أو الازدراء عليه ، أو التصغير لشأنه ، أو
الغض منه ، أو العيب له : فهو سابٌّ له ، والحكم فيه حكم السابِّ ، يقتل ، وكذلك
يُعاقَب بالقتل مَن لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو دعا عليه ، أو تَمنَّى
مَضَرَّة له ، أو نسَب إليه ما لا يَليق بمَنْصِبِه على طريق الذم ، أو عبث في جهته
العزيزة بسَخَف من الكلام ، وهَجْر ، ومُنْكَر من القول وزور ، أو عَيَّره بشيء جرى
له من البلاء والمِحْنة ، أو نَقَصَ من قَدْره ببعض العوارض البشرية الجائزة
والمعهودة لديه .
وقد انعقد على هذا إجماع العلماء ، وأئمة الفتوى ، من لَدُنْ صحابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وإلى يومنا ، وإلى أن يَرِثَ الله الأرضَ ومن عليها .
" الشفا بتعريف حقوق المصطفى " ( 2 / 214 )
.
رابعاً:
الأقوال والأفعال التي تخرج صاحبها من الإسلام يستوي فيها حكم الجاد والمازح
والمستهزئ. قال الله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا
نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ
تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ
نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا
مُجْرِمِينَ) التوبة:65-66
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" و هذا نص في أن الاستهزاء بالله و بآياته و برسوله كفر فالسب المقصود بطريق
الأولى و قد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه و سلم جادا
أو هازلا فقد كفر "
" الصارم المسلول" (1/37)
فانصح – أيها السائل الكريم – هذا
الرجل ، وخوفه من الله عز وجل ، وبين له شناعة ما قال ، وان دين الله تعالى ليس
محلاً للجدال والخصام ، أو السخرية والاستهزاء ، وأعلمه ما يجب عليه من التوبة
الصادقة إلى الله عز وجل ، والندم على ما بدر منه والاستكثار من الخيرات ، عسى الله
أن يهديه ويعفو عنه .
والله أعلم
الحمد لله
أولاً:
لسنا ندري حقيقة المقارنة والمفاضلة بين " حسي " و " معنوي " ، فكيف يقول المجيب إن
" اللغة " – وهي شيء معنوي ، ليس بذات – أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم – وهو
شيء حسي ، له ذات - ؟ .
وعندما تأملنا وجدنا أن الأمر قد يحتمل صورتين ، واحدة تتعلق بالسائل ، وأخرى تتعلق
بالمجيب .
أما التي تتعلق بالمجيب : فهو أنه يحتمل أن " اللغة " تعني : القومية العربية -
والظاهر أنهم عرب ، وأن الكلام عن اللغة العربية - ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم
يعني " الإسلام " ، وهذا الاحتمال يجعل المقارنة والمفاضلة بين شيئين يمكن السؤال
والإجابة عنهما .
وأما التي تتعلق بالسائل : فهو أن يكون أراد أن يستفز السائل بالإنكار عليه في
تعظيم " لغته " بذِكر شيء معظَّم عند المسلمين ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ،
فسأله إن كانت لغته أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانياً:
إن كان الاحتمال الأول هو الصواب : فإن المجيب وقع في الكفر ، فالقومية العربية
دعوى جاهلية تحمل الكفر ، وتطعن في التشريعات الإسلامية ، وتفرِّق بين المسلمين ،
وتجمع بينهم وبين غير المسلمين على أساس اللغة العربية ، فالعربي الكافر عندهم أقرب
لهم وأحب من المسلم الأعجمي ! وهذا كفر صريح بالإسلام وتشريعاته .
قال شاعر القومية : فخري البارودي :
بلادُ العرب أوطاني من الشام
لبغـدانِ
ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مصرَ
فتَطوان
فلا حدٌّ يُباعدنــا ولا دينٌ
يُفرِّقنــا
لسانُ الضاد يجمعنا بغسّانٍ
وعدنــانِ
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
ما رأيكم في الدعوة إلى القومية التي تعتقد أن الانتساب إلى العنصر ، أو اللغة
مقدَّم على الانتساب إلى الدين , وهذه الجماعات تدعي أنها لا تعادي الدين ولكنها
تقدم القومية عليه ، ما رأيكم في هذه الدعوى ؟ .
فأجاب :
هذه دعوة جاهلية ، لا يجوز الانتساب إليها ، ولا تشجيع القائمين بها , بل يجب
القضاء عليها ؛ لأن الشريعة الإسلامية جاءت بمحاربتها والتنفير منها , وتفنيد شبههم
ومزاعمهم والرد عليها بما يوضح الحقيقة لطالبها ؛ لأن الإسلام وحده هو الذي يخلد
العروبة لغة ، وأدباً ، وخلقاً , وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقي على
العروبة في لغتها ، وأدبها ، وخلقها , ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا في إبراز
الدعوة إلى الإسلام بقدر ما يستميت الاستعمار في إخفائه .
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من
القوميات دعوة باطلة ، وخطأ عظيم ، ومنكر ظاهر ، وجاهلية نكراء ، وكيد للإسلام
وأهله , وذلك لوجوه قد أوضحناها في كتاب مستقل سميته : " نقد القومية العربية على
ضوء الإسلام والواقع " .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 4 / 173 ) .
والكتاب موجود بكامله في " فتاوى الشيخ ابن باز " ( 1 / 280 – 318 ) .
وقال الشيخ – رحمه الله – أيضاً :
إن من أعظم الظلم ، وأسفه السفه , أن يقارن بين الإسلام وبين القومية العربية , وهل
للقومية المجردة من الإسلام من المزايا ما تستحق به أن تجعل في صف الإسلام , وأن
يقارن بينها وبينه ؟ لا شك أن هذا من أعظم الهضم للإسلام ، والتنكر لمبادئه ،
وتعاليمه الرشيدة , وكيف يليق في عقل عاقل أن يقارن بين قومية لو كان أبو جهل ,
وعتبة بن ربيعة , وشيبة بن ربيعة وأضرابهم من أعداء الإسلام أحياء لكانوا هم
صناديدها وأعظم دعاتها , وبين دين كريم صالح لكل زمان ومكان , دعاته وأنصاره هم :
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر الصديق , وعمر ابن الخطاب , وعثمان
بن عفان , وعلي بن أبي طالب , وغيرهم من الصحابة ، صناديد الإسلام ، وحماته الأبطال
, ومن سلك سبيلهم من الأخيار؟ لا يستسيغ المقارنة بين قومية هذا شأنها , وهؤلاء
رجالها ، وبين دين هذا شأنه ، وهؤلاء أنصاره ودعاته , إلا مصاب في عقله , أو مقلد
أعمى , أو عدو لدود للإسلام ، ومن جاء به ، وما مثل هؤلاء في هذه المقارنة إلا مثل
من قارن بين البعر والدر , أو بين الرسل والشياطين , ومن تأمل هذا المقام من ذوي
البصائر , وسبر الحقائق والنتائج : ظهر له أن المقارنة بين القومية والإسلام : أخطر
على الإسلام من المقارنة بين ما ذكر آنفا ، ثم كيف تصح المقارنة بين قومية غاية من
مات عليها النار , وبين دين غاية من مات عليه الفوز بجوار الرب الكريم , في دار
الكرامة والمقام الأمين ؟ .
اللهم اهدنا وقومنا سواء السبيل , إنك على كل شيء قدير .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 1 / 320 ، 321 )
.
وهذان جوابان نافعان من الشيخ رحمه
الله حول المقارنة بين القومية العربية والإسلام ، وفي الجواب الثاني حكم من قارن
بينهما ، وفيه ذكر أنه " مصابٌ في عقله " ، أو " مقلِّد أعمى " ، أو " عدو لدود
للإسلام " .
فمن كان يجهل حال القومية : فقد يكون معذوراً ، ومن جهل حال الإسلام واعتقد أن غيره
من الأديان والنظم والمبادئ خير منه : فلا شك في كفره .
ثالثاً:
وإن كان الاحتمال الثاني هو الواقع : فإن السائل يكون أساء في ذِكر النبي صلى الله
عليه وسلم في المفاضلة ، والمجيب قد أساء أكثر بإجابته السخيفة ، والتي هي كفر في
ذاتها ؛ لأن فيها انتقاصاً من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإساءة له .
والواجب على المسلم أن يعظِّم نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن ينصره ، ويؤيده ، وأن
يمنعه من كل ما يؤذيه ، كما يجب عليه توقيره وتكريمه ، والله تعالى ذكر ذلك أنه من
صفات المؤمنين ، وذكره ثانياً آمراً به المسلمين .
قال تعالى : ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا
النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
الأعراف/من الآية 157 .
وقال تعالى : ( إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً . لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وأَصِيلاً ) الفتح/ 8 ، 9
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
و من ذلك : أن الله أمر بتعزيره فقال : ( وتعزِّروه وتوقروه )الفتح/
9 ، والتعزير : اسم جامع لنصره ،
وتأييده ، ومنعه من كل ما يؤذيه .
والتوقير : اسم جامع لكل ما فيه سكينة ، وطمأنينة ، من الإجلال والإكرام ، وأن
يعامَل من التشريف ، والتكريم ، والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حدِّ الوقار
.
" الصارم المسلول " ( 1 / 425 ) .
وليس تعظيمه وتوقيره مختصاً بحياته
صلى الله عليه وسلم ، بل وبعد مماته .
قال القاضي عياض – رحمه الله - :
واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، وتوقيره ، وتعظيمه : لازم ، كما
كان حال حياته ، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم ، وذكر حديثه ، وسنته ، وسماع
اسمه ، وسيرته ، ومعاملة آله ، وعترته ، وتعظيم أهل بيته ، وصحابته .
" الشفا في أحوال المصطفى " ( 2 / 40 ) .
وقد نهى الله تبارك وتعالى
المسلمين أن ينادوا النبي صلى الله عليه وسلم باسمه المجرد كما يفعلونه مع بعضهم ،
وهذا من أوجه تعظيمه صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ
بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )النور/63
.
قال الضحاك عن ابن عباس : كانوا يقولون : يا محمد ، يا أبا القاسم ، فنهاهم الله عز
وجل عن ذلك ؛ إعظامًا لنبيه صلوات الله وسلامه عليه ، قال : فقالوا : يا رسول الله
، يا نبي الله . وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير .
وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يُبَجَّل ، وأن
يعظَّم ، وأن يسوَّد .
وقال مقاتل بن حَيَّان : لا تُسَمّوه إذا دَعَوتموه : يا محمد ، ولا تقولوا : يا
ابن عبد الله ، ولكن شَرّفوه فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله .
وقال مالك عن زيد بن أسلم : أمرهم الله أن يشرِّفوه .
هذا قول ، وهو الظاهر من السياق ، كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا )
البقرة/104
، وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) إلى قوله : ( إِنَّ
الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ )
الحجرات/2-5 .
فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، والكلام معه ، وعنده ،
كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته .
" تفسير ابن كثير " ( 6 / 88 ، 89 ) .
وقد توعَّد الله تعالى مَن رفع
صوته على نبيه بذهاب عمله وبطلانه .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ )
الحجرات/2
.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - :
وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه ، أي : لا يرفع المخاطِب له
صوته معه فوق صوته ، ولا يجهر له بالقول ، بل يغض الصوت ، ويخاطبه بأدب ولين ،
وتعظيم وتكريم ، وإجلال وإعظام ، ولا يكون الرسول كأحدهم ، بل يميزوه في خطابهم ،
كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة ، ووجوب الإيمان به ، والحب الذي لا يتم
الإيمان إلا به ، فإن في عدم القيام بذلك محذوراً ، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا
يشعر ، كما أن الأدب معه من أسباب حصول الثواب ، وقبول الأعمال .
" تفسير السعدي " ( ص 799 ) .
وقد أجمع أهل العلم على وجوب قتل
من سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو عابه ، أو انتقص من قدره صلى الله عليه
وسلم ، سواء بالتصريح أو الإشارة .
قال القاضي عِياض – رحمه الله - :
اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع مَن سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عابه ، أو
ألحق به نقصاً في نفسه ، أو نسَبِه ، أو دينه ، أو خَصْلة من خصاله ، أو عَرَّض به
، أو شَبَّهه بشيء على طريق السبِّ له ، أو الازدراء عليه ، أو التصغير لشأنه ، أو
الغض منه ، أو العيب له : فهو سابٌّ له ، والحكم فيه حكم السابِّ ، يقتل ، وكذلك
يُعاقَب بالقتل مَن لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو دعا عليه ، أو تَمنَّى
مَضَرَّة له ، أو نسَب إليه ما لا يَليق بمَنْصِبِه على طريق الذم ، أو عبث في جهته
العزيزة بسَخَف من الكلام ، وهَجْر ، ومُنْكَر من القول وزور ، أو عَيَّره بشيء جرى
له من البلاء والمِحْنة ، أو نَقَصَ من قَدْره ببعض العوارض البشرية الجائزة
والمعهودة لديه .
وقد انعقد على هذا إجماع العلماء ، وأئمة الفتوى ، من لَدُنْ صحابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وإلى يومنا ، وإلى أن يَرِثَ الله الأرضَ ومن عليها .
" الشفا بتعريف حقوق المصطفى " ( 2 / 214 )
.
رابعاً:
الأقوال والأفعال التي تخرج صاحبها من الإسلام يستوي فيها حكم الجاد والمازح
والمستهزئ. قال الله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا
نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ
تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ
نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا
مُجْرِمِينَ) التوبة:65-66
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" و هذا نص في أن الاستهزاء بالله و بآياته و برسوله كفر فالسب المقصود بطريق
الأولى و قد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه و سلم جادا
أو هازلا فقد كفر "
" الصارم المسلول" (1/37)
فانصح – أيها السائل الكريم – هذا
الرجل ، وخوفه من الله عز وجل ، وبين له شناعة ما قال ، وان دين الله تعالى ليس
محلاً للجدال والخصام ، أو السخرية والاستهزاء ، وأعلمه ما يجب عليه من التوبة
الصادقة إلى الله عز وجل ، والندم على ما بدر منه والاستكثار من الخيرات ، عسى الله
أن يهديه ويعفو عنه .
والله أعلم