السؤال :
شيخنا الحبيب ! والله إنى أحبك فى الله ! نريد بعض الردود على من تتهم
زيارتنا للكعبة المشرفة بأنه من الوثنية ، كنوال سعداوي ، وماذا تمثل
الكعبة بالنسبة للمسلمين ، وما يمثل الحج والعمرة كذلك للمسلمين ؟
الجواب :
الحمد لله
" الوثنية " دين أرضي ينتسب إلى الأوثان ، وهي الأصنام والأنصاب والصور ، وأخص
أوصاف هذه النسبة هو التعلق بالأوثان بالخوف والرجاء والتذلل والعبادة ، مع قدر من
المحبة والتعظيم ، وقد يصاحب ذلك نسبة القوة الذاتية إليها باعتقاد النفع والضر
فيها ، وقد لا يكون ذلك إلا عن اعتقادها وسائط إلى القوة الإلهية المطلقة .
أما المسلم الموحِّد فهو الذي لا يتوجه بمعاني العبودية القلبية أو العملية إلا لله
تعالى ، ولا يعتبر المكان والزمان إلا ظروفا للقيام بمظاهر العبودية ، فلا ينالها
شيء من المعاني التي تقوم في قلبه تعبدا وتذللا لله عز وجل .
ومن لم يفرق بين هذين المفهومين : " التوحيد " ، و " الوثنية " لم يفهم شيئا من
تاريخ الأديان وفواصل العقائد التي افترق عليها الناس ، ولم يوثق بشيء من فكره ،
ونادى على نفسه بقلة الفهم والاطلاع .
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في "مجلة المنار" (16/675) ، جوابا على سؤال طويل يستشكل
ما ذكره السائل عن بعضهم : أنَّ شعائر الحج من مظاهر الوثنية ، فقال :
" ما ذكره السائل في تقبيل الحجر الأسود قد سرى إليه من شبهات النصارى والملاحدة ،
الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثال هذا الكلام المبني على جهل قائليه من جهة ،
وسوء نيتهم في الغالب من جهة أخرى .
ومن عرف معنى العبادة يقطع بأن المسلمين لا يعبدون الحجر الأسود ، ولا الكعبة ،
ولكن يعبدون الله تعالى وحده باتباع ما شرعه فيهما ، بل كان من تكريم الله تعالى
لبيته أن صرف مشركي العرب وغيرهم من الوثنيين والكتابيين الذين كانوا يعظمونه قبل
الإسلام عن عبادته ،
وقد وضعوا فيه الأصنام وعبدوها فيه ، ولم يعبدوه .
ذلك أن عبادة الشيء عبارة عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن
يعبده ، أو دفع الضرر عنه ، والخوف من ضره لمن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه ،
سواء كانت هذه السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود ، فيستقل بالنفع والضرر ، أو كانت
غير ذاتية له بأن يُعْتَقَد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له السلطة
الذاتية .
ولا يوجد أحد من المسلمين يعتقد أن الحجر الأسود ينفع أو يضر بسلطة ذاتية له ، ولا
أن سلطته تقريب من يعبد ويلجأ إليه إلى الله تعالى ، ولا كانت العرب في الجاهلية
تعتقد ذلك وتقوله في الحجر كما تقول في أصنامها : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) الزمر/3 ، ( هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ
اللَّهِ ) يونس/18
وإنما عقيدة المسلمين في الحجر هي ما صرَّح به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند
تقبيله ، قال : ( إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) . رواه الجماعة كلهم أحمد والشيخان وأصحاب السنن .
وقد بيَّنَّا في المنار من قبل أن هذا القول روي أيضا عن أبي بكر رضي الله عنه ،
وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن أثر عمر كان العمدة في هذا الباب
للاتفاق على صحة سنده .
قال الطبري : إنما قال عمر ذلك ... لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام ،
فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر الأسود من باب تعظيم الأحجار ، كما كانت العرب
تفعل في الجاهلية ، فأراد أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، لا لأن الحجر يضر وينفع بذاته . اهـ .
بقي أن يقال : فما هي حكمة جعل ما ذكر من العبادة ؟ وهل يصح ما قيل من أن النبي صلى
الله عليه وسلم تركه في الكعبة مع أنه من آثار الشرك تأليفًا للمشركين ، واستمالة
لهم إلى
التوحيد ؟
والجواب : أن الحجر ليس من آثار الشرك ، ولا من وضع المشركين ، وإنما هو من وضع
إمام الموحدين إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم ، جعله في بيت الله ليكون مبدأ
للطواف بالكعبة يعرف بمجرد النظر إليها ، فيكون الطواف بنظام لا يضطرب فيه الطائفون
، وبهذا صار من شعائر الله ، يكرم ويقبل ويحترم لذلك كما تحترم الكعبة لجعلها بيتًا
لله تعالى ، وإن كانت مبنية بالحجارة ، فالعبرة بروح العبادة : النية والقصد ،
وبصورتها الامتثال لأمر الشارع ، واتباع ما ورد بلا زيادة ولا نقصان ، ولهذا لا
تُقَبَّلُ جميع أركان الكعبة عند جمهور السلف ، وإن قال به وبتقبيل المصحف وغيره من
الشعائر الشريفة بعض من يرى القياس في الأمور التعبدية .
وتعظيم الشعائر والآثار الدينية والدنيوية ، بغير قصد العبادة معروف في جميع الأمم
، لا يستنكره الموحدون ولا المشركون ولا المعطلون ، وأشد الناس عناية به الإفرنج ،
فقد بنوا لآثار عظماء الملوك والفاتحين والعلماء العاملين الهياكل العظيمة ، ونصبوا
لهم التماثيل الجميلة ، وهم لا يعبدون شيئا منها ، فلماذا نهتم بكل ما يلفظ به كل
قسيس أو سياسي يريد تنفير المسلمين من دينهم إذا موَّه علينا في شأن تعظيم الحجر
الأسود ، فزعم أنه من آثار الوثنية ، ونحن نعلم أنه أقدم أثر تاريخي ديني لأقدم
إمام موحد داع إلى الله من النبيين المرسلين الذي عُرِفَ شيء صحيح من تاريخهم ، وهو
إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي أجمع على تعظيمه مع المسلمين اليهود والنصارى ؟
ولعمري لو أن ملوك الإفرنج وعلماءهم أمكنهم أن يشتروا هذا الحجر العظيم لتغالوا في
ثمنه تغاليًا لا يتغالون مثله في شيء آخر في الأرض ، ولوضعوه في أشرف مكان من هياكل
التحف والآثار القديمة ، ولحج وفودهم إلى رؤيته ، وتمنى الملايين منهم لو تيسر لهم
لمسه واستلامه ، وناهيك بمن يعلم منهم تاريخه وكونه من وضع إبراهيم أبي الأنبياء
عليهم السلام ، وإنهم ليتغالون فيما لا شأن له من آثار الملوك أو الصناع .
وجملة القول : أن مناسك الحج من شريعة إبراهيم ، وقد أبطل الإسلام كل ما ابتدعته
الجاهلية فيها من وثنيتها وقبيح عملها ، كطوافهم بالبيت عراة ، وإن الكعبة من بناء
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما هو ثابت عند العرب بالإجماع المتواتر بينهم ،
وكانوا يعظمونها هم والأمم المجاورة لهم ، بل والبعيدة عنهم كالهنود ، ولما كانت
الكعبة قد جدد بناؤها قبل الإسلام وبعده لم يبق فيها حجر يعلم باليقين أنه من وضع
إبراهيم إلا الحجر الأسود ؛ لامتيازه بلونه وبكونه مبدأ المطاف ، كان هو الأثر
الخاص المذكر بنشأة الإسلام الأولى في ضمن الكعبة المذكرة بذلك بوضعها وموضعها
وسائر خصائصها ، زادها الله حفظًا وشرفًا .
وقد علم بهذا أن الحجر له مزية تاريخية دينية ، ولنا مع علمنا بهذا أن نقول :
إن لله تعالى أن يخصص ما شاء من الأجسام والأمكنة والأزمنة لروابط العبادة والشعائر
، فلا فرق بين تخصيص الحجر الأسود بما خصصه وبين تخصيص البيت الحرام والمشعر الحرام
وشهر رمضان والأشهر الحرم ، ومبنى العبادات على الاتباع لا على الرأي .
إذا وعيت ما تقدم كان نورًا بين يديك تبصر به حكم سائر مناسك الحج : أعني بها مما
تَعَبَّدَنا الله تعالى بها ، لتغذية إيماننا بالطاعة والامتثال ، سواء عرفنا سبب
كل عمل منها وحكمته ، أم لا ، وأنها إحياء لدين إبراهيم أبي الأنبياء وإمام
الموحدين المخلصين ، وتذكير بنشأة الإسلام ومعاهده الأولى ، وإن لاستحضار ذلك
لتأثيرا عظيما في تغذية الإيمان وتقوية الشعور به ، والثقة بأنه دين الله الخالص
الذي لا يقبل غيره .
فإن جهلنا سبب شرع بعض تلك الأعمال أو حكمتها لا يضرنا ذلك ، ولا يثنينا عن إقامتها
كما إذا ثبت لنا نفع دواء من الأدوية مركب من عدة أجزاء ، وجهلنا سبب كون بعضها
أكثر من بعض ، فإن ذلك لا يثنينا عن استعمال ذلك الدواء والانتفاع به ، ولا يدعونا
إلى التوقف وترك استعماله إلى أن نتعلم الطب ونعرف حكمة أوزان تلك الأجزاء
ومقاديرها .
أبسط ما يتبادر إلى الذهن من منشإ هذه العبادة – رمي الجمار - أن هذه المواضع التي
تسمى الجمرات كانت من معاهد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام ، فشرع لنا أن نقف عند
كل واحدة منها ، نكبر الله سبع تكبيرات ، ترمى عند كل تكبيرة حصاة صغيرة بين
أصابعنا نعد بها التكبير ،
روى الطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس : ( لما أتى خليل الله المناسك عرض له
الشيطان عند جمرة العقبة ، فرماه بسبعة حصيات حتى ساخ في الأرض ، ثم عرض له عند
الجمرة الثانية ، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ) ثم ذكر الجمرة الثالثة كذلك
. – [ ورواه ابن خزيمة في صحيحه (2/100) وصححه الحاكم في "المستدرك" ، والألباني في
"صحيح الترغيب" (1156) وقد روي مرفوعا وموقوفا ]
فإذا صح أن إبليس عرض لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في أثناء أداء مناسكه
بظهور ذاته أو مثاله ، أو بمجرد التصدي للوسوسة والشغل عن ذكر الله تعالى ، فلا
غرابة في قذفه ورجمه كما يطرد الكلب ، فمن المعروف في الأخلاق والطباع أن يأتي
الإنسان بعمل عضوي يظهر به كراهته لما يعرض له ، حتى من الخواطر القبيحة ، ودفعه
عنه وبراءته منه ، فأخذ الحصيات ورميها مع تكبير الله تعالى من هذا القبيل ، وإن
حركة اليد المشيرة إلى البعد لتفيد في دفع الخواطر الشاغلة للقلب ..
والرجم بالحجارة بقصد الدلالة على السخط والتبري أو الإهانة معهود من الناس ، وله
شواهد عند الأمم ، كرجم بني إسرائيل مع يشوع ( النبي يوشع عليه السلام ) لمجان بن
زراح وأهله وماله من ناطق وصامت ( كما في7 : 24 و25 ) من سفر يشوع ، وكرجم النصارى
لشجرة التين التي لعنها المسيح ، ورجم العرب في الجاهلية لقبر أبي رغال في المغمس
بين مكة والطائف ؛ لأنه كان يقود جيش أبرهة الحبشي إلى مكة لأجل هدم الكعبة حرسها
الله تعالى .
والعمدة في رمي الجمار ما تقدم من قصد التعبد لله تعالى وحده ، بما لا حظ للنفس فيه
، اتباعًا لإبراهيم أقدم رسل الله الذين بقيت آثارهم في الأرض ، ومحمد خاتم رسل
الله ومكمل دينه ومتممه الذي حفظ دينه كله في الأرض ، صلى الله عليهم أجمعين .
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في بيان أسرار الحج من "الإحياء" :
وأما رمي الجمار فليقصد به الانقياد للأمر إظهارًا للرق والعبودية ، وانتهاضًا
لمجرد الامتثال ، من غير حظ للعقل والنفس في ذلك ؛ ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم
عليه السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة ،
أو يفتنه بمعصية ، فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردًا له وقطعًا لأمله .
فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه ، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان ،
فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان ، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي ،
ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه ، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به ؟ فاطرده عن نفسك
بالجد والتشمير في الرمي ، فبذلك ترغم أنف الشيطان . واعلم أنك في الظاهر ترمي
الحصى إلى العقبة ، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره ، إذا لا يحصل
إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيمًا له بمجرد الأمر ، من غير
حظ للنفس والعقل فيه. اهـ " انتهى النقل من " مجلة المنار "
وانظر في "أضواء البيان" للأمين الشنقيطي (سورة الحج/27) مبحثين في حكمة الرمي
والرمل في الحج.
والله أعلم .
وقد سبق الجواب عن الشبهة الواردة في السؤال على لسان بعض الجهلة ، وذلك في جواب
السؤال رقم (82349) .
شيخنا الحبيب ! والله إنى أحبك فى الله ! نريد بعض الردود على من تتهم
زيارتنا للكعبة المشرفة بأنه من الوثنية ، كنوال سعداوي ، وماذا تمثل
الكعبة بالنسبة للمسلمين ، وما يمثل الحج والعمرة كذلك للمسلمين ؟
الجواب :
الحمد لله
" الوثنية " دين أرضي ينتسب إلى الأوثان ، وهي الأصنام والأنصاب والصور ، وأخص
أوصاف هذه النسبة هو التعلق بالأوثان بالخوف والرجاء والتذلل والعبادة ، مع قدر من
المحبة والتعظيم ، وقد يصاحب ذلك نسبة القوة الذاتية إليها باعتقاد النفع والضر
فيها ، وقد لا يكون ذلك إلا عن اعتقادها وسائط إلى القوة الإلهية المطلقة .
أما المسلم الموحِّد فهو الذي لا يتوجه بمعاني العبودية القلبية أو العملية إلا لله
تعالى ، ولا يعتبر المكان والزمان إلا ظروفا للقيام بمظاهر العبودية ، فلا ينالها
شيء من المعاني التي تقوم في قلبه تعبدا وتذللا لله عز وجل .
ومن لم يفرق بين هذين المفهومين : " التوحيد " ، و " الوثنية " لم يفهم شيئا من
تاريخ الأديان وفواصل العقائد التي افترق عليها الناس ، ولم يوثق بشيء من فكره ،
ونادى على نفسه بقلة الفهم والاطلاع .
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في "مجلة المنار" (16/675) ، جوابا على سؤال طويل يستشكل
ما ذكره السائل عن بعضهم : أنَّ شعائر الحج من مظاهر الوثنية ، فقال :
" ما ذكره السائل في تقبيل الحجر الأسود قد سرى إليه من شبهات النصارى والملاحدة ،
الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثال هذا الكلام المبني على جهل قائليه من جهة ،
وسوء نيتهم في الغالب من جهة أخرى .
ومن عرف معنى العبادة يقطع بأن المسلمين لا يعبدون الحجر الأسود ، ولا الكعبة ،
ولكن يعبدون الله تعالى وحده باتباع ما شرعه فيهما ، بل كان من تكريم الله تعالى
لبيته أن صرف مشركي العرب وغيرهم من الوثنيين والكتابيين الذين كانوا يعظمونه قبل
الإسلام عن عبادته ،
وقد وضعوا فيه الأصنام وعبدوها فيه ، ولم يعبدوه .
ذلك أن عبادة الشيء عبارة عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن
يعبده ، أو دفع الضرر عنه ، والخوف من ضره لمن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه ،
سواء كانت هذه السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود ، فيستقل بالنفع والضرر ، أو كانت
غير ذاتية له بأن يُعْتَقَد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له السلطة
الذاتية .
ولا يوجد أحد من المسلمين يعتقد أن الحجر الأسود ينفع أو يضر بسلطة ذاتية له ، ولا
أن سلطته تقريب من يعبد ويلجأ إليه إلى الله تعالى ، ولا كانت العرب في الجاهلية
تعتقد ذلك وتقوله في الحجر كما تقول في أصنامها : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) الزمر/3 ، ( هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ
اللَّهِ ) يونس/18
وإنما عقيدة المسلمين في الحجر هي ما صرَّح به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند
تقبيله ، قال : ( إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) . رواه الجماعة كلهم أحمد والشيخان وأصحاب السنن .
وقد بيَّنَّا في المنار من قبل أن هذا القول روي أيضا عن أبي بكر رضي الله عنه ،
وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن أثر عمر كان العمدة في هذا الباب
للاتفاق على صحة سنده .
قال الطبري : إنما قال عمر ذلك ... لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام ،
فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر الأسود من باب تعظيم الأحجار ، كما كانت العرب
تفعل في الجاهلية ، فأراد أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، لا لأن الحجر يضر وينفع بذاته . اهـ .
بقي أن يقال : فما هي حكمة جعل ما ذكر من العبادة ؟ وهل يصح ما قيل من أن النبي صلى
الله عليه وسلم تركه في الكعبة مع أنه من آثار الشرك تأليفًا للمشركين ، واستمالة
لهم إلى
التوحيد ؟
والجواب : أن الحجر ليس من آثار الشرك ، ولا من وضع المشركين ، وإنما هو من وضع
إمام الموحدين إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم ، جعله في بيت الله ليكون مبدأ
للطواف بالكعبة يعرف بمجرد النظر إليها ، فيكون الطواف بنظام لا يضطرب فيه الطائفون
، وبهذا صار من شعائر الله ، يكرم ويقبل ويحترم لذلك كما تحترم الكعبة لجعلها بيتًا
لله تعالى ، وإن كانت مبنية بالحجارة ، فالعبرة بروح العبادة : النية والقصد ،
وبصورتها الامتثال لأمر الشارع ، واتباع ما ورد بلا زيادة ولا نقصان ، ولهذا لا
تُقَبَّلُ جميع أركان الكعبة عند جمهور السلف ، وإن قال به وبتقبيل المصحف وغيره من
الشعائر الشريفة بعض من يرى القياس في الأمور التعبدية .
وتعظيم الشعائر والآثار الدينية والدنيوية ، بغير قصد العبادة معروف في جميع الأمم
، لا يستنكره الموحدون ولا المشركون ولا المعطلون ، وأشد الناس عناية به الإفرنج ،
فقد بنوا لآثار عظماء الملوك والفاتحين والعلماء العاملين الهياكل العظيمة ، ونصبوا
لهم التماثيل الجميلة ، وهم لا يعبدون شيئا منها ، فلماذا نهتم بكل ما يلفظ به كل
قسيس أو سياسي يريد تنفير المسلمين من دينهم إذا موَّه علينا في شأن تعظيم الحجر
الأسود ، فزعم أنه من آثار الوثنية ، ونحن نعلم أنه أقدم أثر تاريخي ديني لأقدم
إمام موحد داع إلى الله من النبيين المرسلين الذي عُرِفَ شيء صحيح من تاريخهم ، وهو
إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي أجمع على تعظيمه مع المسلمين اليهود والنصارى ؟
ولعمري لو أن ملوك الإفرنج وعلماءهم أمكنهم أن يشتروا هذا الحجر العظيم لتغالوا في
ثمنه تغاليًا لا يتغالون مثله في شيء آخر في الأرض ، ولوضعوه في أشرف مكان من هياكل
التحف والآثار القديمة ، ولحج وفودهم إلى رؤيته ، وتمنى الملايين منهم لو تيسر لهم
لمسه واستلامه ، وناهيك بمن يعلم منهم تاريخه وكونه من وضع إبراهيم أبي الأنبياء
عليهم السلام ، وإنهم ليتغالون فيما لا شأن له من آثار الملوك أو الصناع .
وجملة القول : أن مناسك الحج من شريعة إبراهيم ، وقد أبطل الإسلام كل ما ابتدعته
الجاهلية فيها من وثنيتها وقبيح عملها ، كطوافهم بالبيت عراة ، وإن الكعبة من بناء
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما هو ثابت عند العرب بالإجماع المتواتر بينهم ،
وكانوا يعظمونها هم والأمم المجاورة لهم ، بل والبعيدة عنهم كالهنود ، ولما كانت
الكعبة قد جدد بناؤها قبل الإسلام وبعده لم يبق فيها حجر يعلم باليقين أنه من وضع
إبراهيم إلا الحجر الأسود ؛ لامتيازه بلونه وبكونه مبدأ المطاف ، كان هو الأثر
الخاص المذكر بنشأة الإسلام الأولى في ضمن الكعبة المذكرة بذلك بوضعها وموضعها
وسائر خصائصها ، زادها الله حفظًا وشرفًا .
وقد علم بهذا أن الحجر له مزية تاريخية دينية ، ولنا مع علمنا بهذا أن نقول :
إن لله تعالى أن يخصص ما شاء من الأجسام والأمكنة والأزمنة لروابط العبادة والشعائر
، فلا فرق بين تخصيص الحجر الأسود بما خصصه وبين تخصيص البيت الحرام والمشعر الحرام
وشهر رمضان والأشهر الحرم ، ومبنى العبادات على الاتباع لا على الرأي .
إذا وعيت ما تقدم كان نورًا بين يديك تبصر به حكم سائر مناسك الحج : أعني بها مما
تَعَبَّدَنا الله تعالى بها ، لتغذية إيماننا بالطاعة والامتثال ، سواء عرفنا سبب
كل عمل منها وحكمته ، أم لا ، وأنها إحياء لدين إبراهيم أبي الأنبياء وإمام
الموحدين المخلصين ، وتذكير بنشأة الإسلام ومعاهده الأولى ، وإن لاستحضار ذلك
لتأثيرا عظيما في تغذية الإيمان وتقوية الشعور به ، والثقة بأنه دين الله الخالص
الذي لا يقبل غيره .
فإن جهلنا سبب شرع بعض تلك الأعمال أو حكمتها لا يضرنا ذلك ، ولا يثنينا عن إقامتها
كما إذا ثبت لنا نفع دواء من الأدوية مركب من عدة أجزاء ، وجهلنا سبب كون بعضها
أكثر من بعض ، فإن ذلك لا يثنينا عن استعمال ذلك الدواء والانتفاع به ، ولا يدعونا
إلى التوقف وترك استعماله إلى أن نتعلم الطب ونعرف حكمة أوزان تلك الأجزاء
ومقاديرها .
أبسط ما يتبادر إلى الذهن من منشإ هذه العبادة – رمي الجمار - أن هذه المواضع التي
تسمى الجمرات كانت من معاهد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام ، فشرع لنا أن نقف عند
كل واحدة منها ، نكبر الله سبع تكبيرات ، ترمى عند كل تكبيرة حصاة صغيرة بين
أصابعنا نعد بها التكبير ،
روى الطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس : ( لما أتى خليل الله المناسك عرض له
الشيطان عند جمرة العقبة ، فرماه بسبعة حصيات حتى ساخ في الأرض ، ثم عرض له عند
الجمرة الثانية ، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ) ثم ذكر الجمرة الثالثة كذلك
. – [ ورواه ابن خزيمة في صحيحه (2/100) وصححه الحاكم في "المستدرك" ، والألباني في
"صحيح الترغيب" (1156) وقد روي مرفوعا وموقوفا ]
فإذا صح أن إبليس عرض لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في أثناء أداء مناسكه
بظهور ذاته أو مثاله ، أو بمجرد التصدي للوسوسة والشغل عن ذكر الله تعالى ، فلا
غرابة في قذفه ورجمه كما يطرد الكلب ، فمن المعروف في الأخلاق والطباع أن يأتي
الإنسان بعمل عضوي يظهر به كراهته لما يعرض له ، حتى من الخواطر القبيحة ، ودفعه
عنه وبراءته منه ، فأخذ الحصيات ورميها مع تكبير الله تعالى من هذا القبيل ، وإن
حركة اليد المشيرة إلى البعد لتفيد في دفع الخواطر الشاغلة للقلب ..
والرجم بالحجارة بقصد الدلالة على السخط والتبري أو الإهانة معهود من الناس ، وله
شواهد عند الأمم ، كرجم بني إسرائيل مع يشوع ( النبي يوشع عليه السلام ) لمجان بن
زراح وأهله وماله من ناطق وصامت ( كما في7 : 24 و25 ) من سفر يشوع ، وكرجم النصارى
لشجرة التين التي لعنها المسيح ، ورجم العرب في الجاهلية لقبر أبي رغال في المغمس
بين مكة والطائف ؛ لأنه كان يقود جيش أبرهة الحبشي إلى مكة لأجل هدم الكعبة حرسها
الله تعالى .
والعمدة في رمي الجمار ما تقدم من قصد التعبد لله تعالى وحده ، بما لا حظ للنفس فيه
، اتباعًا لإبراهيم أقدم رسل الله الذين بقيت آثارهم في الأرض ، ومحمد خاتم رسل
الله ومكمل دينه ومتممه الذي حفظ دينه كله في الأرض ، صلى الله عليهم أجمعين .
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في بيان أسرار الحج من "الإحياء" :
وأما رمي الجمار فليقصد به الانقياد للأمر إظهارًا للرق والعبودية ، وانتهاضًا
لمجرد الامتثال ، من غير حظ للعقل والنفس في ذلك ؛ ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم
عليه السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة ،
أو يفتنه بمعصية ، فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردًا له وقطعًا لأمله .
فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه ، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان ،
فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان ، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي ،
ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه ، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به ؟ فاطرده عن نفسك
بالجد والتشمير في الرمي ، فبذلك ترغم أنف الشيطان . واعلم أنك في الظاهر ترمي
الحصى إلى العقبة ، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره ، إذا لا يحصل
إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيمًا له بمجرد الأمر ، من غير
حظ للنفس والعقل فيه. اهـ " انتهى النقل من " مجلة المنار "
وانظر في "أضواء البيان" للأمين الشنقيطي (سورة الحج/27) مبحثين في حكمة الرمي
والرمل في الحج.
والله أعلم .
وقد سبق الجواب عن الشبهة الواردة في السؤال على لسان بعض الجهلة ، وذلك في جواب
السؤال رقم (82349) .