ديوان الشاعر : البحتري
أرَى بَينَ مُلْتَفّ الأرَاكِ مَنَازِلا، | مَوَاثِلَ، لَوْ كانَتْ مَهَاها مَوَاثِلا |
فَقِفْ مُسعِداً فيهِنّ، إن كنتَ عاذِراً، | وَسِرْ مُبعِداً عَنهُنّ، إنْ كنتَ عاذِلا |
لَقينَا المَغَاني باللّوَى، فكَأنّنَا | لَقِينَا الغَوَاني الآنِسَاتِ عَوَاطِلا |
وَقَتْلُ المُحِبّينَ العُيُونُ، وَلمْ أكنْ | أظُنُّ الرّسومَ الدّارِساتِ قَوَاتِلا |
هَوَاجِرُ شَوْقٍ، لَوْ تَشاءُ يَدُ النّوَى | لَجادَتْ بمَنْ نَهَوى، فعادَتْ أصَائلا |
وَمَذْهَبُ حُبٍّ لم أجِدْ عَنهُ مَذهَباً، | وَشاغِلُ بَثٍّ لم أجِدْ عَنهُ شَاغِلا |
وَأضْلَلْتُ حلمي، فالتَفَتُّ إلى الصّباَ | سَفاهاً وَقد جُزْتُ الشّبابَ مَرَاحِلا |
فَلِلّهِ أيّامُ الشّبابِ، وَحُسنُ مَا | فَعَلْنَ بِنَا، لوْ لمْ يكُنّ قَلائِلا |
ألَيْلَتَنَا الطّولى بطُمِّينَ، هَلْ لَنَا | سَبيلٌ إلى اللّيْلِ القَصِيرِ بِبَابِلا |
سَلامٌ على الفِتْيانِ بالشّرْقِ، إنّني | إلى الجانِبِ الغَرْبيّ يَمّمْتُ وَاغِلا |
مع اللّيثِ وابنِ اللّيثِ أَُضْحي مُغاوراً | حُماةَ الضّوَاحي، ثمّ أَُمْسِي مُقاتِلا |
نَزُورُ بِلا شَوْقٍ تَذُورَةَ وَابنَهَا، | وَقَدْ صَدّ عَنْهَا نَوْفَلُ بنُ مِخايلا |
كأصْحابِ ذي القَرْنَينِ حَيثُ تَبوّأوا، | وَرَاءَ مَغيبِ الشّمسِ، تلكَ المَنازِلا |
وَمَنْ يَتقََلْقَلْ في سَرَايا ابنِ يوسُفٍ | يَرَ الحَقّ، في قُرْبِ الأحبّةِ، باطِلا |
يَبيتُ وَرَاءَ النّاطَلُوقِ، وَرَأيُهُ | يَجُرُّ وَرَاءَ السّيْسَجانِ المفَاصِِلا |
إذا اسْوَدّ فيه الشّكُّ كانَ كَوَاكِباً، | وَإنْ سارَ فيهِ الخَطْبُ كانَ حَبَائِلا |
رَمَى الرّومَ بالغَزْوِ الذي ما تَتابَعَتْ | نَوافذُهُ،إِلاَّ أصَبْنَ المَقَاتِلا |
غَزَاهُمْ، فإفناهُمْ، وَلم يَقتصرْ لهمْ | على العامِ، حتى جَدّدَ الغَزْوَ قَابِلا |
لكَ الخَيرُ، أُنْظُرْهمْ لتَفتَجعَ الرُّبَى | مَنَوِّرَةً، أو تَحلِبَ الخِلفَ حافِلا |
فقَدْ غُرْتَ بالغارَاتِ في وَهَداتِهِمْ، | وَلِيّاً، وَوَسْمِيّاً، رَذاذاً وَوَابِلا |
وَسُقْتَ الذي فَوْقَ المَعاقِلِ منِهُمُ، | فلَمْ يَبْقَ إلاّ أنْ تَسُوقَ المَعاقِلا |
بجَمْعٍ، تَرَى فيه النّهَارَ قَبيلَةً، | إذا سَارَ فيهِ، وَالظّلامَ قَبَائِلا |
يُدَبّرُهُمْ مُسترْعِفَ السّيفِ، فارِساً | بحَيثُ الوَغى، مُستحصَد الرّأيِ رَاجلا |
طَليعَتُهُمْ، إنْ وُجّهَ الجَيشُ غَازِياً، | وَساقَتُهُمْ، إنْ وُجّهَ الجَيشُ قافِلا |
وَما حَمدَ الفيتانُ، مثلَ مُحَمّد، | سَنَاماً لعَلْيَاء الفَعَالِ، وَكاهلا |
بَعيدٌ من الحُسّادِ تَزْدَحِمُ العُلا | عَلَيهِ، إذا ما عُدّ سَعْداً وَنَايِلا |
مُلُوكٌ، يَعُدّونَ الرّماحَ مَخاصِراً، | إذا زَعزَعُوها، والدّرُوعَ غَلائِلا |
إذا قالَ وَعْداً، أوْ وَعيداً، تَسَرّعَتْ | مَكَارِمُ تَثْني آجِل الأَمْْرِعاجِلا |
مَوَاهِبُ، إنْ مَتّ العُفَاةُ بحَقّهَا | إلى رَبْعِهِ المَألوفِ، عادَتْ وَسَائِلا |
أدارَ رَحَاهُ، فاغتَدَى جَندَلُ الفَلا | تُرَاباً، وَقَد كانَ التّرَابُ جَنَادِلا |
وَزَرَّ فُرُوجَ المُرْهَفَاتِ عَلى بَني | زُراةَ، فاختارُوا علَيها السّلاسِلا |
فأصْلَحَ مِنْهُمْ كلّ ما كانَ فاسِداً؛ | وَقَوّمَ مِنْهُمْ كلّ ما كانَ مَائِلا |
وأصْعَدَ مُوسَى في السّمَاءِ فلَم يجد | بها مَهْرَباً مِنْهُ. فأقْبَل نَازِلا |
وَلمْ تَستَطِعْ بَدْليسُ تَمنَعُ رَبّهَا | مِنَ الأسَدِ المُزْجي إليَها القَنَابِلا |
لأذْكَرْتَهُ بالرّمْحِ مَا كانَ نَاسِياً، | وَعَلّمْتَهُ بالسّيْفِ ما كانَ جَاهِلا |
وَنَجّاهُ، مِنْ وَافي الحَمَائلِ، أنّهُ | تَلَقّاكَ غَضْبَاناً، فألقَى الحَمائِلا |
أحَطْتَ بهِ قَهْراً، فَلَمّا مَلَكْتَهُ | أحَطْتَ بِهِ مَنّاً عَلَيْهِ، وَنَائِلا |
وَلَوْ لمْ تُناهِضْهُ، وَأبصَرَ عِظْمَ ما | تُنيلُ مِنَ الجَدْوَى، لجَاءَكَ سائِلا |
عَطَفْت على الحَيّيْنِ بَكْرٍ وَتَغلِبٍ، | وَنَمرِهِما حتى حَسِبْنَاكَ وَائِلا |
وَفي يَوْمِ مَنْوِيلٍ، وَقد لمَسَ الهُدى | بأظْفَارِهِ، أوْ هَمّ أنْ يَتَنَاوَلا |
دَفَعْتَ عَنِ الإسْلامِ ما لَوْ يُصِيُبهُ | لمَا زَالَ شَخصاً، بَعدَها، مُتَضَائِلا |
لَئِنْ أخّرُوهُ عَنْ مَسَاعيكَ، إنّهُ | ليََقْدُمُ أيّامَ الرّجَالِ الأوائِلا |
تَلافَيْتَ ألْفاً في ثَمانِينَ مِنْهُمُ، | وَشجّعْتَهُمْ حتى رَدَدْتَ الجَحافِلا |
فِداؤكَ أقْوَامٌ، إذا الحَقُّ نَابَهُمْ | تَفَادَوْا مِنَ المَجدِ المُطلّ، تَوَاكُلا |
فَمَنْ كانَ منهُمْ ساكِناً كُنتَ ناطقاً، | وَمَنْ كان منهُمْ قائِلاً كُنتَ فاعلا |