الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد
أصابتني دهشة شديدة وأنا أتابع الفضائح المالية لـ"الرئيس لسابق"
وحاشيته.. فلم أسمع في الأخبار كلمة مليون، بل جل الأخبار بـ"المليار"!
ولكن بدأت هذه الدهشة تزول بعد ما تذكرت حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: (مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ، وَطَالِبُ دُنْيَا) (رواه البزار، وصححه الألباني).
فالقوم
عندهم نهم عجيب.. يستولون على أرض المسلمين العامة بأسعار زهيدة، ورغم أن
معهم أموالاً كثيرة يشترونها بالتقسيط، والأعجب أنهم لا يسددون الأقساط
التي عليهم!
ومنهم ـ مع غناه ـ يقترض مِن البنوك، ولا يرد ما اقترض!
فعلاً.. إنهم يتعاملون مع أموال الدولة التي هي أموال المسلمين كأنه ملك خاص لهم؛ فلماذا يدفعون مالاً ولو كان زهيدًا في شراء ما يعتقدونه ملكهم؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لنترك
هؤلاء وملياراتهم، ولنرجع سويًا إلى الزمن الجميل.. إلى عهد الدولة
الإسلامية التي تطبق شريعة الرحمن؛ لنرى كيف كان حال مسئوليها؟ وكيف كانوا
يتعاملون مع أموال الدولة؟
لو
أخذنا نضرب الأمثلة؛ فإن الأمر يحتاج إلى مقالات، بل إلى مجلدات؛ فلذلك
سنكتفي بذكر حال رجلين مشهورين حكما الدولة الإسلامية، وهما: "عمر بن
الخطاب" - رضي الله عنه-، و"عمر بن عبد العزيز" -رحمه الله-.
أما
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- فإن أحواله وأحوال ولاته كثيرة جدًا،
فسنجتزئ منها عامًا واحدًا، وهو عام الرمادة؛ لنرى كيف كان حال عمر - رضي
الله عنه- فيه.
- لما رأى
عمر - رضي الله عنه- القحط الذي أصاب البلاد؛ أقسم على نفسه ألا يأكل
لحمًا، ولا سمنًا حتى يحيا الناس، وكان طوال هذا العام بارًا بقسمه لا يأكل
إلا الخبز والزيت، حتى اسود لونه.
-
وفي يوم من أيام هذا العام نحر الناس جزورًا، فأتوه بأطيب جزءٍ فيه ـ وهو
السنام والكبد ـ، فقال: "بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس
كراديسها – أي: عظامها-". وأمر بها توزع على المسلمين، وأتى بالخبز والزيت
فأكله!
- وكان أنس بن مالك -
رضي الله عنه- يسمع قرقرة بطن عمر - وهو صوت حركة الأمعاء من شدة الجوع-
في عام الرمادة، وكان يأكل الخبز والزيت، فنقر عمر بطنه بإصبعيه، وقال:
"تقرقري إنه ليس لك عندنا غيره"، وكان يأكل الخبز والزيت حتى يحيا الناس.
- ولما رأى بطيخة في يد ولد من أولاده، فقال له على الفور: "بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين.. تأكل الفاكهة وأمة محمد هزلى!".
- يقول أسلم: "كنا نقول: لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة؛ لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين".
- وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: "كيف يعنيني شأن الرعية؛ إذا لم يمسني ما مسهم؟!".
لذلك لم تخرج عليه الرعية ثائرة غاضبة من الفقر؛ لأنهم يرون أنه أفقرهم،
أما إذا أصاب الرعية الفقر والراعي يتنعم في ملاذ الدنيا.. إذا رأوا أنهم
يدخلون القبور، والراعي يسكن القصور.. حينئذٍ يحدث التسخط، وتثور الرعية.
وأخيرًا: كان
عمر - رضي الله عنه- يلفت انتباه الناس إلى طريق الخلاص مِن هذه الشدة
والمحنة، فيقول: "أيها الناس إني أخشى أن تكون سخطة عمتنا جميعًا، فاعتبوا
ربكم، وانزعوا، وتوبوا إلى ربكم، وأحدثوا خيرًا".
وأما عمر بن عبد العزيز - رحمه الله-: فحياته زاخرة بمواقف الورع، ولكن ننظر إلى بعض هذه المواقف التي بدرت منه في أثناء فترة خلافته الوجيزة التي لم تتعد العامين ونصف.
-
طلب مِن أهله يومًا عسلاً فأتوه بالعسل، فأكل منه فأعجبه، فقال لأهله: "من
أين لكم هذا؟". قالت: بعثت مولاي بدينارين على بغل البريد، فاشتراه لي.
فقام
فباع شيئًا عنده بأكثر من دينارين، ورد عليها ديناريها، وألقى الباقي في
بيت مال المسلمين، وقال: "أنصبتِ دواب المسلمين في شهوة عمر؟!".
هذه أعظم رسالة فعلية لكل موظف حكومي أو مسئول؛ ليتقي الله فيما تحت يديه من أمول المسلمين.
-
واشتهى يومًا التفاح فأهدى إليه أحد أقاربه تفاحًا، فقال لغلامه: أقرئ
فلانًا مني السلام، وقل له: إن هديتك وقعت منا بموقع بحيث تحب.
فقال مزاحم -مولاه-: قد بلغك أن النبي - - كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة.
قال عمر: ويحك.. إن الهدية كانت للنبي - - هدية، وهي لنا رشوة.
لأنه شعر أنه ما أُهدِي هذه الهدية إلا لأنه أمير المؤمنين، إلا لمصلحة مِن وراء منصبه، فلفظها، ولم يستحلها.
-
وكان من عجيب حاله مع أموال الدولة أنه إذا جلس ليقضي مصالح المسلمين؛
أشعل سراجًا من بيت المال، وإذا جلس لأعماله الخاصة؛ أطفأ هذا السراج،
وأضاء آخر من ماله الخاص!
- وكانت نفقته على أهله وعياله في اليوم درهمين فقط، ولا يلبس إلا الخشن من الثياب!
أعجب
بعد ذكر هذه النماذج الرائعة ممن يأتي ويطالب أن تكون الدولة مدنية
علمانية لا دينية، وكأنه لا يريد إلا مزيدًا من الفساد والسرقات؛ فولاة
المسلمين ما ردعهم عن النهب والسرقة للأموال العامة إلا دينهم؛ إلا هذه
الشريعة الرادعة التي كانت تطبق فيهم، هذه الشريعة التي تراعي القلوب
فتخوفها مِن الله، وتراعي الأبدان فتردعها بالحدود.
تخيلوا لو أن هذه المليارات كان يؤخذ منها الزكاة، فماذا كان حال الناس وحال الدولة؟!
فيا
ليت قومي يعلمون ويسعون في تطبيق الإسلام الذي هو مصدر العزة، بدلاً مِن
أن يلهثوا وراء المدنية، والديمقراطية، والليبرالية، وغيرها مِن المناهج
الأرضية التي جربناها كثيرًا فما عادت علينا إلا بالخسار.
أسأل الله أن يرزقنا القناعة، وغنى النفس، والعفاف، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
راجع
في هذه المواقف المذكورة: "البداية والنهاية" لابن كثير، و"سير أعلام
النبلاء" للذهبي، و"فصل الخطاب" للصلابي، و"الدولة الأموية" للصلابي.
من موقع صوت السلف
فقد
أصابتني دهشة شديدة وأنا أتابع الفضائح المالية لـ"الرئيس لسابق"
وحاشيته.. فلم أسمع في الأخبار كلمة مليون، بل جل الأخبار بـ"المليار"!
ولكن بدأت هذه الدهشة تزول بعد ما تذكرت حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: (مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ، وَطَالِبُ دُنْيَا) (رواه البزار، وصححه الألباني).
فالقوم
عندهم نهم عجيب.. يستولون على أرض المسلمين العامة بأسعار زهيدة، ورغم أن
معهم أموالاً كثيرة يشترونها بالتقسيط، والأعجب أنهم لا يسددون الأقساط
التي عليهم!
ومنهم ـ مع غناه ـ يقترض مِن البنوك، ولا يرد ما اقترض!
فعلاً.. إنهم يتعاملون مع أموال الدولة التي هي أموال المسلمين كأنه ملك خاص لهم؛ فلماذا يدفعون مالاً ولو كان زهيدًا في شراء ما يعتقدونه ملكهم؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لنترك
هؤلاء وملياراتهم، ولنرجع سويًا إلى الزمن الجميل.. إلى عهد الدولة
الإسلامية التي تطبق شريعة الرحمن؛ لنرى كيف كان حال مسئوليها؟ وكيف كانوا
يتعاملون مع أموال الدولة؟
لو
أخذنا نضرب الأمثلة؛ فإن الأمر يحتاج إلى مقالات، بل إلى مجلدات؛ فلذلك
سنكتفي بذكر حال رجلين مشهورين حكما الدولة الإسلامية، وهما: "عمر بن
الخطاب" - رضي الله عنه-، و"عمر بن عبد العزيز" -رحمه الله-.
أما
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- فإن أحواله وأحوال ولاته كثيرة جدًا،
فسنجتزئ منها عامًا واحدًا، وهو عام الرمادة؛ لنرى كيف كان حال عمر - رضي
الله عنه- فيه.
- لما رأى
عمر - رضي الله عنه- القحط الذي أصاب البلاد؛ أقسم على نفسه ألا يأكل
لحمًا، ولا سمنًا حتى يحيا الناس، وكان طوال هذا العام بارًا بقسمه لا يأكل
إلا الخبز والزيت، حتى اسود لونه.
-
وفي يوم من أيام هذا العام نحر الناس جزورًا، فأتوه بأطيب جزءٍ فيه ـ وهو
السنام والكبد ـ، فقال: "بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس
كراديسها – أي: عظامها-". وأمر بها توزع على المسلمين، وأتى بالخبز والزيت
فأكله!
- وكان أنس بن مالك -
رضي الله عنه- يسمع قرقرة بطن عمر - وهو صوت حركة الأمعاء من شدة الجوع-
في عام الرمادة، وكان يأكل الخبز والزيت، فنقر عمر بطنه بإصبعيه، وقال:
"تقرقري إنه ليس لك عندنا غيره"، وكان يأكل الخبز والزيت حتى يحيا الناس.
- ولما رأى بطيخة في يد ولد من أولاده، فقال له على الفور: "بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين.. تأكل الفاكهة وأمة محمد هزلى!".
- يقول أسلم: "كنا نقول: لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة؛ لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين".
- وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: "كيف يعنيني شأن الرعية؛ إذا لم يمسني ما مسهم؟!".
لذلك لم تخرج عليه الرعية ثائرة غاضبة من الفقر؛ لأنهم يرون أنه أفقرهم،
أما إذا أصاب الرعية الفقر والراعي يتنعم في ملاذ الدنيا.. إذا رأوا أنهم
يدخلون القبور، والراعي يسكن القصور.. حينئذٍ يحدث التسخط، وتثور الرعية.
وأخيرًا: كان
عمر - رضي الله عنه- يلفت انتباه الناس إلى طريق الخلاص مِن هذه الشدة
والمحنة، فيقول: "أيها الناس إني أخشى أن تكون سخطة عمتنا جميعًا، فاعتبوا
ربكم، وانزعوا، وتوبوا إلى ربكم، وأحدثوا خيرًا".
وأما عمر بن عبد العزيز - رحمه الله-: فحياته زاخرة بمواقف الورع، ولكن ننظر إلى بعض هذه المواقف التي بدرت منه في أثناء فترة خلافته الوجيزة التي لم تتعد العامين ونصف.
-
طلب مِن أهله يومًا عسلاً فأتوه بالعسل، فأكل منه فأعجبه، فقال لأهله: "من
أين لكم هذا؟". قالت: بعثت مولاي بدينارين على بغل البريد، فاشتراه لي.
فقام
فباع شيئًا عنده بأكثر من دينارين، ورد عليها ديناريها، وألقى الباقي في
بيت مال المسلمين، وقال: "أنصبتِ دواب المسلمين في شهوة عمر؟!".
هذه أعظم رسالة فعلية لكل موظف حكومي أو مسئول؛ ليتقي الله فيما تحت يديه من أمول المسلمين.
-
واشتهى يومًا التفاح فأهدى إليه أحد أقاربه تفاحًا، فقال لغلامه: أقرئ
فلانًا مني السلام، وقل له: إن هديتك وقعت منا بموقع بحيث تحب.
فقال مزاحم -مولاه-: قد بلغك أن النبي - - كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة.
قال عمر: ويحك.. إن الهدية كانت للنبي - - هدية، وهي لنا رشوة.
لأنه شعر أنه ما أُهدِي هذه الهدية إلا لأنه أمير المؤمنين، إلا لمصلحة مِن وراء منصبه، فلفظها، ولم يستحلها.
-
وكان من عجيب حاله مع أموال الدولة أنه إذا جلس ليقضي مصالح المسلمين؛
أشعل سراجًا من بيت المال، وإذا جلس لأعماله الخاصة؛ أطفأ هذا السراج،
وأضاء آخر من ماله الخاص!
- وكانت نفقته على أهله وعياله في اليوم درهمين فقط، ولا يلبس إلا الخشن من الثياب!
أعجب
بعد ذكر هذه النماذج الرائعة ممن يأتي ويطالب أن تكون الدولة مدنية
علمانية لا دينية، وكأنه لا يريد إلا مزيدًا من الفساد والسرقات؛ فولاة
المسلمين ما ردعهم عن النهب والسرقة للأموال العامة إلا دينهم؛ إلا هذه
الشريعة الرادعة التي كانت تطبق فيهم، هذه الشريعة التي تراعي القلوب
فتخوفها مِن الله، وتراعي الأبدان فتردعها بالحدود.
تخيلوا لو أن هذه المليارات كان يؤخذ منها الزكاة، فماذا كان حال الناس وحال الدولة؟!
فيا
ليت قومي يعلمون ويسعون في تطبيق الإسلام الذي هو مصدر العزة، بدلاً مِن
أن يلهثوا وراء المدنية، والديمقراطية، والليبرالية، وغيرها مِن المناهج
الأرضية التي جربناها كثيرًا فما عادت علينا إلا بالخسار.
أسأل الله أن يرزقنا القناعة، وغنى النفس، والعفاف، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
راجع
في هذه المواقف المذكورة: "البداية والنهاية" لابن كثير، و"سير أعلام
النبلاء" للذهبي، و"فصل الخطاب" للصلابي، و"الدولة الأموية" للصلابي.
من موقع صوت السلف