لا والله ما عالج الناس داء قط أودى من الغيظ ولا رأيت شيء هو أنفذ من شماتة الأعداء ولا أعلم بابً أجمع لخصال المكروه من الذل ، ولكن المظلوم ما دام يجد من يرجوه ، والمبتلى ما دام يجد من يرثى له فهو على سبب درك وإن تطاولت به الأيام ، فكم من كربة فادحة وضيقة مصمتة قد فتحت أقفالها وفككت أغلالها ، ومهما قصرت فيه فلم أقصر بالمعرفة بفضلك ، وفي حسن النية بيني وبينك ، ولا مشيت في الهوى ، ولا مقسم الأمل ، على تقصير احتملته ، وتفريط قد اغتفرته ، ولعل ذلك أن يكون من ديون الإذلال وجرائم الإغفال ، ومهما كان من ذلك فلن أجمع بين الإساءة والإنكار ، وإن كنت كما تصف من التقصير وما تعرف من التفريط ، فإني من شاكري أهل هذا الزمان ، وحسن الحال ، متوسط المذهب ، وأنا أحمد الله على أن كانت مرتبتك من المنعمين فوق مرتبتي في الشاكرين ، وقد كانت علي بك نعمة أذاقتني طعم العز ، وعودتني روح الكفاية ، ولوت هذا الدهر وجهده ، ولما مسخ الله الإنسان قرداً وخنزيراً ترك فيهما مشابهة من الإنسان ، ولما مسخ زماننا لم يترك فيه مشابهة من الأزمان .
---------
( الجاحظ في رسالة وجهها ل محمد بن عبدالملك الزيات )
---------
( الجاحظ في رسالة وجهها ل محمد بن عبدالملك الزيات )