ديوان الشاعر : البحتري
عَهْدٌ لعَلْوَةَ باللّوَى قَدْ أشكَلا، | مَا كَانَ أحْسَنَ مُبْتَدَاهُ وأجْمَلاَ |
أنْسَى لَيَالِينَا هُنَاكَ، وَقَدْ خَلا | مِنْ لَهْوِنَا، في ظِلّها، ما قَدْ خَلاَ |
عَيْشٌ غَرِيرٌ لَوْ مَلَكْتُ لِمَا مَضَى | رَدّاً، إذاً لَرَدَدْتُهُ مُسْتَقبِلا |
لامُوا على لَيلي الطّوِيلِ، وَكُلّما | عادُوا بِلَوْمٍ كَانَ لَيْلي أطْوَلا |
إتْبَعْ هَوَاكَ إلى الحَبِيبِ، فإنّهُ | رُشْدٌ، وَخَلِّ لِعَاذِلٍ أن يَعْذُلا |
والله لا أسْلُو، وَلَوْ جَهِدَ الذي | يَلْحي، وَمَا عُذْرُ المُحبّ إذا سَلاَ |
أحْيَا الرّجَاءَ، وَرَدَّ عَادِيَةَ الجَوَى، | قَوْلُ الذي أهوَى: نَعَمْ مِن بعدِ لا |
وَمِزَاجُهُ كأسِي بِرِيقَتِهِ، التي | ثَلَجَتْ فؤَادَ مُحِبّهِ، فتَبَلّلاَ |
لا تَعجَبي لِمُعَشَّقٍ أنْ يَرْعَوِي | عَنْ هَجْرِهِ، وَلعَاشِقٍ أنْ يُوصَلاَ |
بِتْنَا، وَلي قَمَرَانِ: وَجْهُ مُساعدي، | والبَدْرُ، إذْ وافَى التّمامَ، وأكمَلاَ |
لاحَتْ تَبَاشِيرُ الخَرِيفِ، وأعْرَضَتْ | قِطَعُ الغُيومِ، وَشَارَفَتْ أنْ تَهطُلا |
فَتَرَوَّ مِنْ شَعْبَانَ إنّ وَرَاءَهُ | شَهْراً يُمَانِعُنَا الرّحِيقَ السّلْسَلا |
أحْسِنْ بدِجْلَةَ مَنظَراً وَمُخَيَّماً، | والغَرْدِ في أكْنَافِ دِجْلَةَ مَنزِلا |
خَضِلُ الفِنَاءِ، متى وَطِئتَ تُرَابَهُ | قُلتَ: الغَمامُ انهَلّ فيهِ، فأسْبَلاَ |
حَشَدَتْ لَهُ الأمواجُ فَضْلَ دَوَافِعٍ | أعْجَلْنَ دُولاَبَيْهِ أنْ يَتَمَهّلا |
تَبْيَضُّ نُقْبَتُهُ، وَيَسطَعُ نُورُهُ | حَتّى تَكِلُّ العَينُ فيهِ، وَتَنْكُلا |
كالكَوْكَبِ الدُّرِّيّ أخْلَصَ ضَوْءُهُ | حَلَكَ الدّجَى، حتّى تألّقَ وانجَلى |
رَفَدَتْ جَوَانِبُهُ القِبَابَ مَيَامِناً | وَمَيَاسِراً، وَسَفُلْنَ عَنْهُ واعتَلَى |
فَتَخَالُهُ، وَتَخَالُهُنّ إزَاءَهُ، | مَلِكاً تَدِينُ لَهُ المُلُوكُ، مُمَثَّلا |
وَعَلى أعَاليهِ رَقِيبٌ مَا يَني | كَلِفاً بتَصريفِ الرّياحِ، مُوَكَّلا |
مِن حَيثُ دارَتْ دارَ يَطلُبُ وَجهَهَا، | فِعْلَ المُقَاتِلِ جَالَ ثُم استَقْبَلا |
بِدَعٌ لِبِدْعٍ في السّمَاحَةِ مَا تَرَى | مِنْ أمْرِهِ، إلاّ عَجِيباً، مُجْذِلا |
فَضَلَ الأنَامَ أُرُومَةً مَذْكُورَةً، | وَتُقًى، وأنْعَمَ في الأنَامِ وأفضَلا |
تَثْني بَوَادِرَهُ الأنَاةُ، وَرُبّما | سَارَتْ عَزِيمَتُهُ، فكانَتْ جَحفَلا |
وَرِثَ النّبيّ سَجِيّةً مَرْضِيّةً، | وَطَرِيقَةً قَصْداً، وَقَوْلاً فَيْصَلا |
فإذا قَضَى في المُشكِلاَتِ تَرَاَدفَتْ | حِكَمٌ تُرِيكَ الوَحيَ كيفَ تَنَزّلا |
يابنَ الهُداةِ الرّاشِدِينَ، وَمَنْ بهمْ | أرْسَتْ قَوَاعدُ ديننَا، فتأثّلا |
خِرْقٌ سَمَتْ أخْلاَقُهُ، فتَرَفّعَتْ، | وأضَاءَ رَوْنَقُ وَجْهِهِ فَتَهَلّلا |
فإذا تَرَفّعَ في المَنَاسِبِ، واعتَزَى | لأُبُوّةٍ يَتْلُو الأخيرُ الأوّلا |
عَدَّ النّجُومَ الطّالِعَاتِ مُؤهَّلاً | للأمْرِ، أوْ مُسْتَخْلَفاً أو مُرْسَلا |
أصْحَبْتُهُ أمَلي، وَمِثْلُ خِلاَلِهِ | كَرُمَتْ فأعطَتْ رَاغِباً ما أمّلا |
إنْ شِئْتُ جاءَتْ نَعْمَةٌ، فتُلُقّيَتْ | مِنْهُ، وَسُهّلَ مَطْلَبٌ، فَتَسَهّلا |
لمْ يَبْقَ إلاّ أنْ تَهُمّ، فيَنْقَضِي | ما قَدْ تَطَاوَلَ، أوْتَجُزََّ فتَفْضُلا |
قَد قُلتَ، فافعَلْ ما وَأيتَ، وإنّ مِنْ | عاداتِ جُودِكَ أن تَقُولَ فتَفْعَلا |
وَلَئِنْ عَجِلْتَ بِمَا تُنِيلُ، فإنّهُ | حَسْبٌ لنَيْلِكَ أنْ يَكُونَ مُعَجَّلا |