الباب الثالث
ماهية زكاة النفس
تزكية النفس تعني باختصار تطهيرها من الشرك وما يتفرع عنه، وتحقيقها بالتوحيد وما يتفرع عنه، وتخلقها بأسماء الله الحسنى مع العبودية الكاملة لله بالتحرر من دعوى الربوبية، وكل ذلك من الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فسندخل في هذا الباب ثلاثة فصول رئيسة:
الفصل الأول: في تطهير النفس
الفصل الثاني: في التحقق بأمهات المقامات القلبية.
الفصل الثالث: في التخلق والإقتداء.
قال الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [ النور: 21 ] جاءت هذه الآية بعد قصة الإِفك وبعد الآيات التي نهت عن إِشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وبعد النهي عن اتباع خطوات الشيطان، وجاءت قبل قوله تعالى:
{وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [ النور: 22 ].
وذلك يؤكّد ما يلي:
1- أن موانع التزكية من القوة بحيث تستحيل معها التزكية لولا فضل الله، وهذا يقتضي شيئين: بذل جهد في التزكية، وسؤال الله إياها والاعتماد عليه فيها، وفي الحديث: {اللهم آتِ نفسي تقواها وزكَّها أنتَ خيرُ من زكَّاها أنت وليُّها ومولاها". [ أخرجه مسلم والنسائي].
2- أن من تزكية النفس العفو والصفح عمن أساء إلينا لأن الأمر جاء بمناسبة الحديث عن مسطح بن أثاثة الذي كان ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه والذي خاض في الإِفك فمنع عنه أبو بكر رفده فجاءت الآية واعظة، وفَاءَ أبو بكرٍ إلى سيرته، وما أرقاه من مقام! وما أعلى ما يراه بكلمة التزكية.
3- أن من تزكية النفس عدم اتباع خطوات الشيطان لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر، وإذن فالتزكية تعني تجنب الفحشاء والمنكر وتجنب خطوات الشيطان وأولى خطواته الحسد والكبر، فقد حسدَ آدم وتكبر عن السجود له.
4- عدم محبة إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وعدم السير في طريق ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
5- إمساك اللسان عن الأعراض وترك المشاركة في كل ما يؤذيها إلا إذا توافرت شروط شهادة وتعيَّنتْ.
الفصل الأول
في تطهير النفس
تمهيد
أمراض النفوس نوعان: نوع ينافي مقامات القلوب التي سنراها، فالرياء والشرك ينافيان التوحيد والعبودية، وحب الرئاسة والجاه وحب الدنيا ينافيان الزهد، ونوع ينافي التخلق بأسماء الله والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فالغضب في غير محله ينافي الحلم، وقد بدأنا بذكر أمراض القلوب والنفوس لأن جوانب من التخلية عند السائرين إلى الله تتقدم جوانب من التحلية، وإنما قلنا: (جوانب) لأن تحلية القلب والجوارح بالتوحيد هي المقدمة لكل تخلية وتحلية.
الفقرة الأولى: الكفر والنفاق والفسوق والعصيان والبدعة
الفقرة الثانية: في الشرك والرياء
الفقرة الثالثة: في حبّ الجاه والرئاسة
الفقرة الرابعة: في الحسد
الفقرة الخامسة: في العجب
الفقرة السادسة: في الكبر
الفقرة السابعة: في الشحّ
الفقرة الثامنة: في الغرور
الفقرة التاسعة: في الغضب الظالم
الفقرة العاشرة: في حبّ الدنيا
الفقرة الحادية عشرة: في اتباع الهوى
الفقرة الأولى: الكفر والنفاق والفسوق والعصيان والبدعة
أول ما يجب أن ينصب عليه جهد الإنسان في تطهير نفسه أن يطهر نفسه من الكفر بالله ورسوله وما يعتبر عَلَماً على الكفر بالله ورسوله من إنكار للمعلومات من الدين بالضرورة أو من إتيان ناقضٍ من نواقض الشهادتين، لأن الكفر ظلمات ولأنه لا ينفع معه عمل.
ثم يطهر نفسه من النفاق سواء كان نفاقاً نظرياً أو عملياً. والنفاق النظري أن يكون اعتقاده في حقيقة الإِسلام يخالف ما أعلنه من إيمان بالإِسلام، والنفاق العملي أن تكون له أخلاق المنافقين في موالاة الكافرين أو في مودتهم أو في ربط المصير معهم أو إخلاف الوعد أو في اعتياد الكذب أو في الخيانة والغدر.
وأخطر الأشياء على الإِطلاق الكفر، ولذلك يجب أن يفتّش الإنسان دائماً عمّا إذا كان عنده شيء منه، كأنْ يعتقد اعتقاداً مكفراً، أو يأتي ناقضاً من نواقض الشهادتين ذاكراً أو غافلاً، فكثيراً ما يحدث في عصرنا أن يكون عند الإِنسان مكفّر ولا يَشْعر، وكثيراً ما يخرج على لسانه ناقضٌ من نواقض الشهادتين ولا يشعر، أحياناً في لهوه ومزاحه، وأحيانا في جدّه وتشقيقات لسانه.
وعليه أن يتفطّن للمعاصي الظاهرة والباطنة كبيرها وصغيرها، فكثيراً ما تجر الطاعة إلى طاعة والمعصية إلى معصية، ومن أهم ما ينبغي أن ينتبه إليه المعاصي غير المحسّة، كمعاصي القلب واللسان، فكثيراً ما يكون الإِنسان حاسداً أو معجباً بنفسه أو متكبّراً وهو لا يشعر، كما أنّه كثيراً ما يقع في الغيبة والنميمة وهو غافل.
وهنا فارق بين المعصية والبدعة، فالعاصي يعرف أنّه في معصية أمّا المبتدع فيعتقد أنّه في بدعته على الحق، وأنّه أقربُ إلى الله ممن ليس على بدعته.
وأخطر أنواع البدع بدع الاعتقاد، وبدع الأعمال المجمع على بدعيتها عند أئمة الاجتهاد، أمّا ما اختلف فيه أئمة الاجتهاد فالأمر فيه واسع وعلى العبد أن يحتاط لدينه فيدور مع الدليل حيث دار إنْ كانَ أهلاً لمعرفة الدليل.
فعليك أيها السالك إلى الله أن تتخلص من كل أنواع الابتداع فذلك مع تجنبّك الكفر والنفاق والعصيان هو الذي يفتح أمامك باب الهداية والزيادة. قال تعالى:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: 17] فإذا ما طهر الإِنسان نفسه من أدران الكفر والنفاق والعصيان والابتداع، فعليه أن يتابع تطهير نفسه من بقايا الشرك الظاهر والخفي وذلك مضمون الفقرة الثانية:
الفقرة الثانية: في الشرك والرياء
أفظع أنواع الأمراض التي تُبْتلى بها الحياة البشرية الشركُ، لأنه إعطاء الربوبية لغير مستحقها، وتقديم أنواعٍ من العبودية لمن لا يستأهلها، ثم هو تمزيقٌ وتشتيت للقلب البشري، فلا يتوجّه بعد ذلك إلى جهة واحدة في العبودية والتلقّي ولا ينطلق في الحياة عن مشكاةٍ واحدة ولا بصيرة شاملة، فتراه يتعبَّد لحجر أو شجر أو كونٍ أو إنسان أو مجتمع ثم تتتابع حلقات الانحراف.
والمسلم الذي اعتنق التوحيد تخلّص من هذا كلّه، لكنّه يصيبه مرض الشرك الخفي الذي هو الرياء، فتراه يتصرّف عمليّاً وكأنه يتعبّد لفرد أو لمجتمع، ومن ههنا يقع في مرض الرياء الخطير الذي آثاره على صاحبه وعلى الأمّة خطيرٌ لأنّه خداع للنفس وللأمّة وإهلاك للنفس في الدنيا والآخرة.
بيان درجات الرياء
اعلم أن بعض أبوب الرياء أشد وأغلظ من بعض، واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه. وأركانه ثلاثة: المراءى به، والمراءى لأجله، ونفس قَصْدِ الرياء.
الركن الأول: نفس قصد الرياء وذلك لا يخلو إما أن يكون مجرداً دون إرادة عبادة الله تعالى والثواب، وإما أن يكون مع إرادة الثواب، فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات الأربع:
(الأولى) وهي أغلظها أن لا يكون الثواب أصلاً، كالذي يصلي بين أظهر الناس، ولو انفرد لكان لا يصلي بل رُبَّما يصلي من غير طهارة مع الناس، فهذا جرَّد قصده إلى الرياء فهو الممقوت عند الله تعالى. وكذلك من يخرج الصدقة خوفاً من مذمةِ الناس وهو لا يقصد الثواب ولو خلا بنفسه لما أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء.
(الثانية) أن يكون له قصد الثواب أيضاً ولكن قصداً ضعيفاً، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله، ولا يحمله ذلك القصد على العمل، ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله على العمل، فهذا قريب مما قبله وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإِثم.
(الثالثة) أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين، بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، أو كان كل واحد منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل، فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأساً برأس لا له ولا عليه، أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم.
(الرابعة) أن يكون اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه، ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة ولو كان قصد الرياء وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يُحبط أصل الثواب، ولكنه يُنقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويُثابُ على مقدار قصد الثواب، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك". [أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه]. فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح.
الركن الثاني: المراءى به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها.
القسم الأول وهو الأغلظ: الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات:
(الأولى) الرياء بأصل الإِيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، وهو الذي يُظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإِسلام.
(الثانية) الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، وهذا أيضاً عظيم عند الله ولكنه دون الأولى بكثير. ومثاله: أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفاً من ذمه، والله يعلم منه أنه لو كان في يده لما أخرجها.
(الثالثة) أن لا يرائي بالإِيمان ولا بالفرائض، ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا يعصي، ولكنه يكسل عنها بالخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإِيثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعلها، وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة المريض وإتباع الجنازة وغسل الميت، وكالتهجد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم الاثنين والخميس.
القسم الثاني: الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها، وهو أيضاً على ثلاث درجات.
(الأولى) أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة، كالذي غرضه أن يخفف الركوعَ والسجود ولا يطوِّلَ القراءة، فإذا رآهُ الناسُ أحسنَ الركوع والسجود وترك الالتفات وتمّم القعود بين السجدتين، وقد قال ابن مسعود: من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز وجل، أي أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة، فإذا اطلع عليه آدميٌ أحسنَ الصلاة.
(الدرجة الثانية) أن يرائي بفعل ما لا نقصان في تركه ولكنَّ فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته، كالتطويل في الركوع والسجود ومدِّ القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال والزيادة في القراءة على السور المعتادة، وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت، وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة. وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدم عليه.
(الثالثة) أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضاً كحضوره الجماعة قبل القوم وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإِمام وما يجري مجراه. وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يُحْرِمُ بالصلاة؟ فهذه درجات الرياء بالإِضافة إلى ما يرائي به وبعضه أشدّ من بعض. والكل مذموم.
الركن الثالث: المرائى لأجله، فإن للمرائي مقصوداً لا محالة، وإنما يرائي لإِدراك مالٍ أو جاهٍ أو غرضٍ من الأغراض لا محالة، وله أيضاً درجات:
(الأولى) وهو أشدّها وأعظمها أن يكون مقصوده التمكن من معصية، كالذي يرائي بعبادته ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يُعْرَفَ بالأمانة فيولّى القضاء أو الأوقاف أو الوصايات أو ماَل الأيتام فيأخذها، أو يسلم إليه تفرقةُ الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها، أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها، أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها، أو يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصده الفاسدة في المعاصي.
(الثانية) أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مالٍ أو نكاح امرأةٍ جميلة أو شريفة، كالذي يُظْهِرُ الحزنَ والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتُبذَل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء، فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة.
(الثالثة) أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح، ولكن يُظهر عبادته خوفاً من أن يُنْظَرَ إليه بعين النقص ولا يعدَّ من الخاصة والزهاد ويُعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي مستعجلاً فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار.
فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات وإن من شدّته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر، يزل فيه فحول العلماء فضلاً عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم.
بيان دواء الرياء وطريق معالجة القلب فيه
قد عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله تعالى وأنه من كبائر المهلكات، وما هذا وصْفُهُ فجديرٌ بالتشمير عن ساق الجدّ في إزالته ولو بالمجاهدة وتحمل المشاق، فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرّة البشعة، وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد كلهم، إذ الصبي يُخْلَقُ ضعيفَ العقل والتمييز ممتدّ العين إلى الخلق، كثير الطمع فيهم، فيرى الناسَ يتصنعُ بعضهم لبعض فيغلبُ عليه حب التصنع بالضرورة ويرسخ ذلك في نفسه، وإنما يشعر بكونه مُهلكاً بعد كمال عقله وقد انغرس الرياء في قلبه، وترسّخ فيه فلا يقدر على قمعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابرة لقوة الشهوات.
الفقرة الثالثة: في حبّ الجاه والرئاسة
عندما يندفع الإنسان في العمل انطلاقاً من حبّ الجاه والرئاسة، فإن عمله سينغمس كنتيجة لذلك في الأخطاء، فمقتضيات الجاه والرئاسة تستدعي تصرّفات غير مشروعة أحياناً.
ثم إن اندفاع الإِنسان في مثل هذا يجعله يقصّر في الخير إذا لم يحقّق له ما يريد. وقد يؤدي التنافس على الجاه والرئاسة إلى أنواع من الشرور والخصومات عدا عن كونه يؤثر في أصل النيّة فيحبط العمل.
لذلك كان المرض خطيراً وعلاجه ضرورياً. وقد كتب الغزالي في ذلك وهذه مختارات من كلامه:
قال رحمه الله:
بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم
مهما عرفت أنّ معنى الجاه ملكُ القلوبِ والقدرةُ عليها فحكمهُ حكم ملك الأموال فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا، وينقطع بالموت كالمال، والدنيا مزرعة الآخرة، فكل ما خُلق في الدنيا فيمكن أن يتزوّد منه للآخرة، وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس، فلا بدّ من أدنى جاهٍ لضرورة المعيشة مع الخلق، والإِنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام، فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه، ورفيق يعينه، وأستاذ يرشده، وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار، فحبه لأنْ يكونَ له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحث ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم، فإن الجاه وسيلة إلى الأغراض كالمال، فلا فرق بينهما إلا أنّ التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما محبوبين له.
بيان علاج حب الجاه
اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفاً بالتودد إليهم والمراءاة لأجلهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق وأصلُ الفساد، ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب، ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين، وحب الجاه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل إذ النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو بالفعل، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها، وذلك هو عين النفاق.
فحب الجاه إذن من المهلكات، فيجب علاجه وإزالته عن القلب فإنه طَبْعٌ جُبِلَ عليه القلب كما جبل على حب المال.
قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16-17] وقال عز وجل: {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة: 20-21] فمن هذا حَدُّه فينبغي أن يعالج قلبه من حب الجاه بالعلم بالآفات العاجلة، وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا، فإن كل ذي جاه محسود، ومقصود بالإِيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب، والقلوب أشدّ تغيراً من القِدْر في غليانها وهي مترددة بين الإِقبال والإِعراض، فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه لا ثبات له.
الفقرة الرابعة: في الحسد
الحسد هو تمنّي زوال النعمة عن المحسود، وهذه في بعض حالاتها كبيرة من الكبائر.
دعونا نتصوّر أنّ مرض الحسد قد عمّ، وبدأ كلّ حاسد يكيد لكل ذي نعمة عندئذ يعمّ الكيد ولا يسلم من شروره أحد، لأنّ كل إنسان كائد ومكيد، تصوّروا الحياة البشرية كيف تكون عندئذ.
القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه ومعالجته وغاية الواجب
في إزالته.
بيان ذم الحسد
اعلم أن الحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب فهو فرعُ فرعهِ والغضبُ أصله ثم إن للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى. وقد ورد في ذم الحسد خاصة أخبار كثيرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". [أخرجه أبو داود]. وقال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته: "لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً". [متفق عليه].
بيان حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه
اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان:
إحداهما: أن تكره دوام تلك النعمة عليه وتحب زوالها عنه، وهذه الحالة تسمى حسداً. فالحسد حدُّه كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه.
الحالة الثانية: أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكن تشتهي لنفسك مثلها. وهذه تسمى غبطة، وقد تختص باسم المنافسة.
بيان أسباب الحسد والمنافسة
السبب الأول: العدواة والبغضاء، وهذا أشدّ أسباب الحسد، فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب وخالفه في غرض بوجه من الوجوه أبغضه قلبه وغضب عليه ورسخ في نفسه الحقد.
السبب الثاني: التعزز، وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره. فإذا أصاب بعض أمثاله ولايةً أو علماً أو مالاً خافَ أن يتكبر عليه وهو لا يطيق تكبره، ولا تسمح نفسه باحتمال صلفه وتفاخره عليه، وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره، فإنه قد رضي بمساواته مثلاً، ولكن لا يرضى بالترفع عليه.
السبب الثالث: الكبر، وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه ويستصغره ويستخدمه ويتوقع منه الانقياد له والمتابعة في أغراضه، فإذا نال نعمة خاف أن لا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته، بل لربّما يتشوّف إلى مساواته أو إلى أن يترفع عليه فيعود متكبِّراً بعد أن كان متكبَّراً عليه.
السبب الرابع: التعجب، كما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة إذ قالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15]، {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47]، {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم، وأحبوا زوال النبّوة عنهم جزعاً أن يفضل عليهم مَنْ هو مثلهم في الخلقة، لا عن قصد تكبر وطلب رياسة وتقدّم عداوة أو سبب آخر من سائر الأسباب، وقالوا متعجبين: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا} [الإسراء: 94] وقالوا: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان: 21] وقال تعالى: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} [الأعراف: 69].
السبب الخامس: الخوف من فوت المقاصد، وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كلّ واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الإِخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال.
السبب السادس: حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود. وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون إذا غلب عليه حب الثناء واستفزه الفرح بما يُمدح به من أنه واحد الدهر وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك وأحب موته أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة من شجاعة أو علم أو عبادة أو صناعة أو جمال أو ثروة أو غير ذلك مما يتفرد هو به ويفرح بسبب تفرّده، وليس السبب في هذا عداوة ولا تعزز ولا تكبر على المحسود ولا خوف من فوات مقصود سوى محض الرياسة بدعوى الانفراد.
السبب السابع: خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى، فإن هناك من لا يشتغل برئاسة وتكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به، فهو أبداً يحب الإِدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته.
بيان الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب
اعلم أنّ الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين بل ينتفع به فيهما. ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدّو نفسك وصديق عدوّك فارقت الحسد لا محالة.
الفقرة الخامسة: في العجب
قال عليه الصلاة والسلام:
"إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متّبعاً ودنيا مؤثرة وإعجابَ كل ذي رأيٍ برأيه فعليك نفسك" [أخرجه الترمذي وحسنه]. هذه أمراض متى وجدت تعذرّت الحياة الجماعية والعمل المشترك، ولذلك أفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يجد ذلك بالعزلة، مع أنه عليه الصلاة والسلام حضّ كثيراً على الجماعة والألفة والتعاون في الخير، ومن ههنا ندرك خطورة العجب والشُّحِّ وحب الدنيا واتباع الهوى على الحياة البشرية عموماً وعلى الحياة الإِسلامية خصوصاً.
إنه مع العجب يوجد الرضا عن النفس، والرضا عن النفس يتفرّع عنه الكثير من التقصير، والكثير من الأمراض، كالغرور وازدراء الآخرين ودعوى المقامات وغير ذلك حتّى إن ابن عطاء الله السكندري اعتبر الرضا عن النفس أصل كل بلاء. قال: (أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفّة عدم الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأي علم لعالمٍ يرضى عن نفسه، وأي جهلٍ لجاهل لا يرضى عن نفسه). ومن ههنا نعلم خطورة أمراض النفس على الحياة البشرية عموماً وعلى الحياة الإِسلامية خصوصاً، وعلى أي عمل جماعي.
بيان ذم العجب
اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] ذكر ذلك في معرض الإِنكار وقال عز وجل: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2] فرد على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم وقال تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، وهذا أيضاً يرجع إلى العجب بالعمل. وقد يعجب الإِنسان بالعمل هو مخطئ فيه كما يعجب بعمل هو مصيب فيه. قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه"، وقال لأبي ثعلبة - حين ذكر آخر هذه الأمة فقال: "إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك" [أخرجه ابو داود، والترمذي].
بيان علاج العجب على الجملة
اعلم أن علاج كل علة هو مقابلة سببها بضدّه، وعلة العجب الجهل المحض، فعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل فقط، فلنفرض العجب بفعل داخل تحت اختيار العبد كالعبادة والصدقة والغزو وسياسة الخلق وإصلاحهم، فإن العجب بهذا أغلب من العجب بالجمال والقوّة والنسب وما لا يدخل تحت اختياره ولا يراه من نفسه.
الفقرة السادسة: في الكبر
الكبر هو ابن العجب، ولذلك جعلناه بعده، لأن الكبر - كما عرفّه رسول الله صلى الله عليه وسلم - هو "غمط الناس وبطر الحق" وذلك جذره العميق هو العجب.
دعونا نتصوّر خطورة الكبر على الحياة البشرية من خلال تصوّرنا أنّ هذا المرض قد عمّ كل الناس فكيف يكون الحال:
تصوّروا أنّ كل إنسان قد ازدرى كلّ الناس فماذا يكون: لا يبقى في هذه الحالة احترام لأحد ولا هيبة لأحد ولا حرمة لأحد ولا أدب مع أحد، وتصوّروا حياة بشرية ليس فيها احترام ولا هيبة ولا حرمة ولا أدب، وهذا كلّه فرع الشق الأول من الكبر.
ثم تصوّروا أنّ كل إنسان في هذا العالم إذا عرض عليه الحق رفضه، فكيف يكون أمر هذا العالم؟ عندئذ لا يستطيع اثنان أن يتفاهما على شيء إلاّ بالقهر على الباطل، فما لم يجتمع الناس على حق، لا يجتمعون على باطل، وعندئذ فالقويّ هو الذي ينفذ أمره، ويتوضّع حول هذا: الظلم، والغصب، والإِرهاب، والإِرهاق، والعدوان، وإهدار الكرامات والحقوق.
بيان حقيقة الكبر وآفته
اعلم أنّ الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر على الجوارح. واسم الكبر بالخلق الباطن أحق، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق. وخلق الكبر موجب للأعمال ولذلك إذا ظهر على الجوارح يقال تكبر، وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر. فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس على المتكبر عليه فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به، وبه ينفصل الكبر عن العجب. فإنّ العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإِنسان إلا وحده تصوّر أن يكون معجباً، ولا يتصوّر أن يكون متكبراً إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبراً، فيحصل في قلبه اعتداد وهزة وفرح وركون إلى ما اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك، فتلك العزة والهزة والركون إلى العقيدة في النفس هو خلق الكبر.
القسم الثالث: التكبر على العباد، وذلك أن يستعظم نفسه ويستحقر غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم.
بيان الطرق في معالجة الكبر واكتساب التواضع
اعلم أن الكبر من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته فرض عين ولا يزول بمجرد التمني بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له. وفي معالجته مقامان (أحدهما) استئصال أصله من سنخه وقلع شجرته من مغرسها في القلب. (الثاني) دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإِنسان على غيره.
(المقام الأول) في استئصال أصله، وعلاجه علمي وعملي، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما:
أما العلمي: فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى ويكفيه ذلك في إزالة الكبر، فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة، وإذا عرف ربه علم أن لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله.
وأما العلاج العملي فهو التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين، من أحوال الصالحين.
(المقام الثاني)
الفقرة السابعة: في الشحّ
مرّ معنا من قبل أنّ الشحّ من الأمراض التي تستحيل معها الألفة والحياة الجماعية والتعاون فتستساغ بسببها العزلة، أرأيت لو أنّ كل إنسان ضنّ بوقته وماله وما يمتلك فإلى أيّ حد تبقى معاني التعاون والإيثار والبذل والتضحية والأريحيّات والمروءات والعطف والمودّة والمحبّة والحنان، وإلى أي حدّ يغاث مستغيث، أو يفرّج كرب عن مكروب، أو يتجاوب مع ملهوف، وأي حيوية للعلاقات تبقى بين أخ وأخ وبين جار وجار وبين قريب وقريب.
ثم إذا جفّ الخير من القلوب وعمّ الشح فمن يجرؤ على الإقدام على مشروع خيري أو مشروع من مشاريع الخدمة.
ثم إذا عمّ الشح فكيف يقوم جهاد أو تكون مواساة أو تقوم دولة. وكم من الناس وقتذاك سيموتون جوعاً وعطشاً وكمداً، فالعاجز من يقوم بأوده؟ والصغير من يعوله؟ والكبير من يعطف عليه؟ إنه عندما يعمّ البخل تتردّد المرأة في القيام بواجبات الأمومة ويتردّد الرجل في القيام بواجبات الزوجية.
وتصوّر كيف تكون الحياة البشرية بعد ذلك. إنه كلما استطاع إنسان أن يتغلب على شحّه توجد في الحياة البشرية دائرة من الخير، وكلمّا عمّت هذه الظاهرة كثر الخير وعمّ، ولذلك كثر في الكتاب والسنّة الحض على الإِنفاق الخالص، حتى إنّ القرآن في أكثر من مقام ربط بين الإِنفاق وزكاة النفس: قال تعالى: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 18] وقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] كانت هذه الآية مقدمة لقوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].
بيان ذم البخل
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] وقال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37] وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم" [أخرجه الحاكم] وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنةبخيل ولا خب ولا خائن ولا سيء الملكة" [أخرجه الترمذي].
بيان الإِيثار وفضله
اعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات. فأرفع درجات السخاء الإِيثار، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة. وإنما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه أو لغير محتاج، والبذل مع الحاجة أشدّ. وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإِنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن، ولو وجدها مجاناً لأكلها.
الفقرة الثامنة: في الغرور
أول آثار الغرور السير وراء الأوهام، وقضاء العمر فيها، ولأن أكثر الناس مبتلون بذلك فإنهم كثيراً ما يسيرون وراء السّراب ولا يشعرون، قال ابن عطاء: (ما قادك شيء مثل الوهم) وما ذلك إلا أثر عن الغرور، فقد يكون طريق أقرب من طريق إلى هدف، وقد يكون طريق أهدى من طريق، ولكن الغرور يجعل صاحبه بمنأى عن ذلك كلّه.
ومن آثار الغرور أن يرفض المغرور النصيحة وان يبقى حيث هو في سلّم الغلط او في سلّم الحياة لا ارتقاء ولا نهوض مع التلبّس بالغلط.
ولنتصوّر حياة بشرية عمّ فيها داء الغرور كيف تكون؟
بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته
اعلم أن قوله تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] وقوله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ} [الحديد: 14] كاف في ذم الغرور وكل ما ورد في فضل العلم وذمّ الجهل فهو دليل على ذم الغرور، لأن الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل، إذ الجهل هو أن يعتقد الشيء ويراه على خلاف ما هو به، والغرور هو جهل إلا أن كل جهل ليس بغرور، بل يستدعي الغرور مغروراً فيه مخصوصاً ومغروراً به وهو الذي يغره.
أنواع المغترين وبعض فرقهم
(ففرقة) أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً لا يعذب الله مثلهم، بل يقبل في الخلق شفاعتهم، وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم لكرامتهم على الله وهم مغرورون، فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أنّ العلم علمان: علم معاملة، وعلم بالله وبصفاته، المسمى بالعادة: علم المعرفة. فأما العلم بالمعاملة: كمعرفة الحلال والحرام، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة وكيفية علاجها والفرار منها، فهي علوم لا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة إلى العمل لم يكن لهذه العلوم قيمة، وكل علم يراد للعمل فلا قيمة له دون العمل.
وأما الذي يدّعي علم المعرفة: كالعلم بالله وبصفاته وأسمائه وهو مع ذلك يهمل العمل ويضيع أمر الله وحدوده فَغُروره أشدّ، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
(وفرقة أخرى) أحكموا العلم والعمل فواظبوا على الطاعات الظاهرة وتركوا المعاصي، إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء وطلب الرياسة والعلاء وإرادة السوء للأقران والنظراء وطلب الشهرة في البلاد والعباد، وربما لم يعرف بعضهم أن ذلك مذموم فهو مكب عليها غير متحرز عنها.
)وفرقة أخرى) علموا أنّ هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع، إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلي به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم، فأما هم فأعظم عند الله من أن يبتليهم، ثم إذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة وطلب العلو والشرف قالوا: ما هذا كبر وإنما هو طلب عز الدين وإظهار شرف العلم ونصرة دين الله وإرغام أنف المخالفين من المبتدعين أو إني لو لبست الدون من الثياب وجلست في الدون من المجالس لشمت بي أعداء الدين وفرحوا بذلك، وكان ذلي ذلا على الإِسلام ونسي المغرور أن عدوّه الذي حذره منه مولاه هو الشيطان، وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به، وينسى أنّ النبي بماذا نصر الدين وبماذا أرغم الكافرين؟ ونسي ما روي عن الصحابة من التواضع والتبذل والقناعة بالفقر والمسكنة، حتى عوتب عمر رضي الله عنه في بذاذة زيه عند قدومه إلى الشام فقال: إنا قوم أعزنا الله بالإِسلام فلا نطلب العز في غيره.
)وفرقة أخرى) اشتغلوا بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإِخلاص والصدق ونظائره، وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين، وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإِعجاب.
(وفرقة أخرى) قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا فهم يحفظون الكلمات على وجهها ويؤدونها من غير إحاطة بمعانيها فبعضهم يفعل ذلك على المنابر، وبعضهم في المحاريب، وبعضهم في الأسواق مع الجلساء وكل منهم يظن أنه تميز بهذا القدر عن السوقة والجندية، إذ حفظ كلام الزهاد وأهل الدين دونهم ويظنّ أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه. وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم.
)وفرقة أخرى) اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر أو صاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وخواطرهم عن الرياء وبطونهم عن الحرام عند الإِفطار وألسنتهم عن الهذيان بأنواع الفضول طول النهار، وهو مع ذلك يظن بنفسه الخير فيهمل الفرائض ويطلب النفل ثم لا يقوم بحقه وذلك غاية الغرور.
الفقرة التاسعة: في الغضب الظالم
لا يخلو إنسان عن غضب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فأصل الغضب لا يعتبر عيباً، ولا يعتبر وجوده مرضاً، ولكن: هناك غضب في الباطل لا يصح، وهناك غضب ظالم فهذا الذي لا يصح، وهناك تسرّع في الغضب وبطء في الفيء فذلك لا يصح، وهناك تصرّفات أثناء الغضب لا يقرّها شرع أو عقل فهذا لا يصح ومن ههنا كان الكلام في الغضب يحتاج إلى تفصيل، فمن المعلوم أنّه لا يستحق السيادة إلاّ حليم، وأنّ الغضب في غير محلّه لا تستقيم معه حياة اجتماعية، ولا علاقات صحيحة، ولا يحتاج الإِنسان إلى تفكير كثير حتّى يدرك مثل هذه الأمور، مغضبة واحدة قد تفسد علاقة بين جار وجار وزوج وزوجة وبين شريك وشريك، وأخ وأخ.
غضبة واحدة قد تفسد جماعة بأسرها فتصدّع صفّها، أو تعرقل أعمالها أو تشلّ نموّها.
ونموذج الكمال في الرضا والغضب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أخلاقه أنّه لا يغضب لنفسه وكان من وصفه أنّه لا تزيده شدّة الجهل عليه إلا حلماً، وهذا مقام لا يطمع فيه فكل الخلق يحلمون ضمن حدود.
وكان صلى الله عليه وسلم يغضب إذا انتهكت حرمات الله فلا يقوم لغضبه شيء وهذا الذي يطالب به كل الخلق للقضاء على المنكر.
روى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بعمل وأقلل، قال: "لا تغضب" ثم أعاد عليه فقال: "لا تغضب" [أخرجه البخاري] قال ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون الصرعة فيكم؟" قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: "ليس ذلك، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب" [أخرجه مسلم] وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". [متفق عليه].
بيان حقيقة الغضب
اعلم أن الله تعالى لما خلق الحيوان معّرضاً للفساد والموت، بأسباب في داخل بدنه وأسباب خارجة عنه، أنعم عليه بما يحميه من الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه.
أما السبب الداخلي: فهو أنه ركبه فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء، ووكل قوى في داخله لجبر ما انكسر وسدِّ ما انثلم ليكون ذلك حافظاً له من الهلاك بهذا السبب.
وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإِنسان: فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها، فافتقر إلى قوة وحمية تثور منه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب، وغرزها في الإِنسان وعجنها بطينته. فمهما صدّ عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثورانا يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعمال البدن، كما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها.
وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها. والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به. ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث من التفريط والإِفراط والاعتدال.
أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار. فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً.
وأما الإِفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر.
بيان الأسباب المهيجة للغضب
قد عرفت أن علاج كل علة حسم مادتها وإزالة أسبابها فلا بدّ من معرفة أسباب الغضب.
والأسباب المهيجة للغضب هي: الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضادّة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعاً ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع. وتميت العجب بمعرفتك بنفسك وتزيل الفخر بالتذكر للأصل الأول إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد، وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً فبنو آدم جنس واحد وإنما الفخر بالفضائل، والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل وهي أصلها ورأسها، فإذا لم تخل عنها فلا فضل لك على غيرك.
فضيلة كظم الغيظ
قال الله تعالى: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134] وقد ذكر ذلك في معرض المدح.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أشدّكم من غلب نفسه عن الغضب وأحلمكم من عفا عند القدرة" [رواه البيهقي في الشعب بالشطر الأول مرسلاً بإسناد جيد] وقال صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا" وفي رواية "ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً" [أخرجه أبو داود وابن حبان] وقال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جرع جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى". [أخرجه ابن ماجه].
الآثار: قال عمر رضي الله عنه: من اتقى الله لم يشف غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون.
القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق
اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً، ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقال المحقو عليه والبغضة له والنفار عنه وأن يدوم ذلك ويبقى، فالحقد ثمرة الغضب.
والحقد يثمر ثمانية أمور:
)- الأول) الحسد: وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغتّم بنعمة إن أصابها وتسر بمصيبة إن نزلت به، وهذا من فعل المنافقين.
)-الثاني) أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن، فتشمت بما أصابه من البلاء.
- (الثالث) أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه وإن طلبك وأقبل عليك.
- (الرابع) وهو دونه أن تعرض عنه استصغاراً له.
- (الخامس) أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر وهتك ستر وغيره.
- (السادس) أن تحاكيه استهزاء به وسخرية منه.
(السابع) إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه.
- (الثامن) أن تمنعه حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو ردّ مظلمة. وكل ذلك حرام.
الفقرة العاشرة: في حبّ الدنيا
قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7] فحب الدنيا والاطمئنان لها ونسيان الآخرة يترتّب عليه كسب يستحق به صاحبه دخول النار، وبأدنى تأمّل يستطيع الإِنسان أن يعرف كسب أهل الدنيا الذي يستحقّون به النار، إنّ طالب الدنيا لا يهمّه إلاّ قضاء شهواته ولذّاته والوصول إلى أطماعه دون قيود ولا ضوابط فهو وراء المرأة والخمرة والكسب الحرام واللعب واللهو والزينة والفخر والجاه وكل ما يعتبره لذيذاً أو مبهجاً أو نافعاً أو رافعاً.
بيان ذم الدنيا
الآيات الواردة في ذم الدنيا والتزهيد كثيرة. وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة. بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يبعثوا إلا لذلك، لا حاجة إلى الاستشهاد بآيات القرآن لظهورها، وإنما نورد بعض الأخبار الواردة فيها. فقد روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّ على شاة ميتة فقال: "أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟" قالوا: من هوانها ألقوها قال: "والذي نفسي بيده الدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء". [أخرجه ابن ماجه والحاكم وصحح إسناده وآخره عند الترمذي وقال حسن