الحديث السادس والثلاثون:
جَوَامع الخَيْرِ
مفردات الحدث
المعنى العام:(1-واجبات المسلم نحو أخيه المسلم 2-التيسير على المعسر 3-ستر المسلم 4-الشفاعة لمن وقعت منه معصية 5-التعاون بين المسلمين وعون الله تعالى لهم 6-طريق الجنة 7-حكم طلب العلم : أ- "فرض عين ، ب- فرض كفاية" 8-التحذير من ترك العمل بالعلم 9-نشر العلم 10-الإخلاص في طلب العلم وترك المباهاة به 11-ذكر الله تعالى 12-عمارة المسجد 13-إنسانية الإسلام وعدالته 14-ولاية الإيمان والعمل لا ولاية الدم والنسب )
ما يستفاد من الحديث
عن أبي هُرَيْرَة رضي اللهُ عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً من كُرَبِ يوْمِ القيامَةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنْيا والآخِرَةِ، واللهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ ما كانَ الْعَبْدُ في عَونِ أخيهِ. ومَنْ سلك طَريقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ له بِهِ طَرِيقاً إلى الجنَّةِ.
وَمَا اجتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ ويَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إلا نَزَلَتْ عليهمُ السَّكِينَةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّتهُمُ المَلائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فيمَنْ عِنْدَه . وَمَنْ بَطَّأ بِه عَمَلُهُ لمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ)). رَواه بهذا اللَّفظ مسلم.
مفردات الحديث:
" نفَّسَ ": خفف.
و" الكربة": الشدة العظيمة التي تُوقع من نزلت فيه بغم شديد.
"يسر على معسر": المعسر: من أثقلته الديون وعجز عن وفائها، والتيسير عليه مساعدته
على إبراء ذمته من تلك الديون.
"ستر مسلماً ": بأن رآه على فعل قبيح شرعاً فلم يظهر أمره للناس.
" ستره الله ": حفظه من الزلات في الدنيا.
"سلك": مشى، أو أخذ بالأسباب.
" طريقاً ": مادية كالمشي إلى مجالس العلم وقطع المسافات بينه وبينها. أو معنوية كالكتابة والحفظ والفهم والمطالعة والمذاكرة وما إلى ذلك، مما يتوصل به إلى تحصيل العلم.
" يلتمس": يطلب.
" فيه ": في غايته.
" علماً ": نافعاً.
" له ": لطالب العلم.
" به ": بسبب سلوكه الطريق المذكور.
" طريقاً إلى الجنة " : أي يكشف له طرق الهداية ويهيء له أسباب الطاعة في الدنيا، فيسهل عليه دخول الجنة في الآخرة.
" بيوت الله ": المساجد.
" يتدارسونه بينهم " يقرأ كل منهم جزءاً منه، بتدبر وخشوع،ويحاولون فهم معانيه وإدراك مراميه.
" السكينة ": ما يطمئن به القلب وتسكن له النفس.
" غشيتهم ": غطتهم وعمتهم .
" الرحمة ": الإحسان من الله تبارك وتعالى والفضل والرضوان.
" حفتهم ": أحاطت بهم من كل جهة.
" الملائكة ": الملتمسون للذكر، والذين ينزلون البركة والرحمة إلى الأرض.
" ذكرهم الله فيمن عنده ": باهى بهم ملائكة السماء وأثنى عليهم.
" بطأ به عمله ": كان عمله الصالح ناقصاً وقليلاً فقصر عن رتبة الكمال.
" لم يسرع به نسبه ": لا يعلي من شأنه شرف النسب.
المعنى العام:
1- المسلمون جسد واحد: إن أفراد مجتمع الإيمان والإسلام أعضاء من جسد واحد، يتحسس كل منهم مشاعر الآخرين وتنبعث فيه أحاسيسهم، فيشاركهم أفراحهم وأحزانهم.
2- فالحياة ملأى بالمتاعب والأكدار، وكثيراً ما يتعرض المسلم لما يوقعه في غم وهم وضيق وضنك، مما يتوجب على المسلمين أن يخلصوه منه، ومن ذلك:
أ- نصرته وتخليصه من الظلم: كما قال صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً، كيف أنصره ؟ قال: تحجزه، أو تمنعه، من الظلم فإن ذلك نصره " متفق عليه.
ولا سيما إذا كان الظلم الذي يوقع عليه بسبب دينه وتمسكه بإسلامه، من قبل قوم كافرين أو فاسقين مارقين . قال تعالى: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ} [الأنفال: 72].
ب- إقراضه المال إن احتاج إلى المال: قد يقع المسلم في ضائقة مالية، فيحتاج إلى النفقة في حوائجه الأصلية من طعام وشراب ومسكن وعلاج ونحو ذلك، فينبغي على المسلمين أن يسارعوا لمعونته، وعلى الأقل أن يقرضوه المال قرضاً حسناً، بدل أن يتخذوا عوزه وسيلة لتثمير أموالهم، وزيادتها، كما هو الحال في مجتمعات الربا والاستغلال. قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [ المزمل: 20].
وقال صلى الله عليه وسلم: " من أقرض مسلماً درهماً مرتين كان له مثل أجر أحدهما لو تصدّق به " رواه ابن حبان . بل قد يفوق أجرُ القرض أجرَ الصدقة، حسب حال المقترض والمتصدق عليه.
3-كُرَب يوم القيامة والخلاص منها:قال صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس منهم، فيبلغ الناس من الكرب والغم ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم ". خرجاه بمعناه في الصحيحين.
وفي خضم هذه الأهوال يتدارك المؤمن عدل الله عز وجل، فيكافئه على صنيعه في الدنيا، إذ كان يسعى في تفريج كربات المؤمن، فيفرج عنه أضعاف أضعاف ما أزال عنهم من غم وكرب:
" من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ".
4- التيسير على المعسر: الذي أثقلته الديون وعجز عن وفائها ويكون التيسير عليه بأمرين:
إما بمساعدته لوفاء دينه، أو بالحطِّ عنه من دينه.
5- ستر المسلم: إن تتبع عورات المسلمين علامة من علامات النفاق، ودليل على أن الإيمان لم يستقر في قلب ذلك الإنسان الذي همه أن يُنَقِّب عن مساوىء الناس ليعلنها بين الملأ. روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: " يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته. ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ". أي منزله الذي ينزل فيه.
6-الستر على من وقع في معصية: إذا اطلع المسلم على زلة المسلم، فهل يسترها عليه أم يعلنها؟ فإن هذا يختلف باختلاف أعمال الناس، والناس في هذا على حالتين:
1- من كان مستور الحال: أي لا يعرف بين الناس بشيء من المعاصي، فمثل هذا إذا وقعت منه هفوة أو زلة وجب الستر عليه، ولا يجوز كشف حاله ولا التحدث بما وقع منه، لأن ذلك غيبة محرمة، وإشاعة للفاحشة.
2- من كان مشتهراً بالمعصية، مستعلناً بها بين الناس: من لا يبالي بما يرتكب، ولا يكترث لما يقال عنه، فهذا فاجر مستعلن بفسقه، فلا غيبة له، بل يندب كشف حالة للناس، وربما يجب، حتى يتوقوه ويحذروا شره، وإن اشتد فسقه، ولم يرتدع من الناس، وجب رفع الحالة إلى ولي الأمر حتى يؤدبه بما يترتب على فسقه من عقوبة شرعية، لأن الستر عليه يجعله وأمثاله يطمعون في مزيد من المخالفة، فيعيثون في الأرض فساداً، ويجرون على الأمة الشر المستطير.
7- الشفاعة لمن وقعت منه معصية: إذا وقعت من المسلم زلة، وكان مستور الحال، معروفاً بين الناس بالاستقامة والصلاح، ندب للناس أن يستروه ولا يعزروه على ما صدر منه، وأن يشفعوا له ويتوسطوا له لدى من تتعلق زلته به إن كانت تتعلق بأحد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم " رواه أبو داود. أي تغاضوا عن زلات من عرفوا بالاستقامة والرشد.
8- التعاون بين المسلمين وعون الله عز وجل لهم: إن المجتمع لن يكون سوياً قويماً، ولن يكون قوياً متماسكاً إلا إذا قام على أساس من التعاون والتضامن والتكافل فيما بين أفراده، فسعى كل منهم في حاجة غيره، بنفسه وماله وجاهه، حتى يشعر الجميع أنهم كالجسد الواحد، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " متفق عليه.
ولا شك أن أعظم ثمرة يجنيها المسلم من إعانته لأخيه هي ذاك العون والمدد من الله تبارك وتعالى: " والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه " [رواه مسلم ].وكيف لا ولا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله عز وجل؟ وهو سبحانه المحرك الحقيقي لهذا الكون، وهو المعطي والمانع، ومنه الصحة والمرض، ومنه القوة والضعف، والغنى والفقر.
9- طريق الجنة: إن الإسلام شرط النجاة عند الله عز وجل، والإسلام لا يقوم ولا يكون إلا بالعلم، فلا طريق إلى معرفة الله تعالى والوصول إليه إلا بالعلم، فهو الذي يدل على الله سبحانه من أقرب طريق، فمن سلك طريقه ولم يعوج عنه بلغ الغاية المنشودة، فلا عجب إذن أن يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب العلم طريق الجنة، ويبين أن كل طريق يسلكه المسلم يطلب فيه العلم يشق به طريقاً سالكة توصله إلى الجنة: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة" وليس أدل على ما نقول من أن الله تعالى جعل فاتحة الوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أمراً بالعلم وبوسائل العلم، وتنبيهاً إلى نعمة العلم وشرفه وأهميته في التعرف على عظمة الخالق جل وعلا وإدراك أسرار الخلق، وإشارة إلى حقائق علمية ثابتة، فقال سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ اإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [ العلق:1-5 ].
10- حكم طلب العلم في الإسلام:
أ- فرض عين: يتوجب على كل مسلم طلبه، وهو ما لابد لكل مسلم من معرفته:
لتسلم عقيدته، وتصح عبادته وتستقيم معاملته على وفق شرع الله عز وجل. وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: " طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم " رواه ابن ماجه. أي: ذكراً كان أو أنثى .
ب- فرض كفاية: يتوجب على المسلمين بمجموعهم تحصيله، فإذا قام به بعضهم سقط الطلب عن الباقين، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع، وهو التوسع في علوم الشريعة درساً وحفظاً وبحثاً، والتخصص في كل علم تحتاج إليه الجماعة المسلمة من علوم كونية، لتحفظ كيانها، وتقيم دعائم دولة الحق والعدل على الأرض قوية متينة، مهيبة الجانب.
وإنما يرث العلم النبوي العلماء العاملون المخلصون: " إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم " رواه الترمذي وغيره. فهم علائم الحق ومنارات الهدى التي تهتدي بها الأمة في مسالك حياتها، وتقتدي بهم وتسير وراءهم في شدائدها وأزماتها.
فما دام العلم باقياً في الأمة فالناس في هدى وخير، وحضارة ورقي، واستقامة وعدل. وإنما يبقى العلم ببقاء حَمَلَته العلماء، فإذا ذهب العلماء وفُقِدوا من بين ظهرانَي الناس اختلت الأمور، وانحرفت الأمة عن الجادة القويمة، وسلكت مسالك الضلال، وانحدرت في مهاوي الرذيلة والفساد، وألقت بنفسها إلى الضياع والدمار. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذيقول: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " متفق عليه.
11- التحذير من ترك العمل بالعلم: علمنا أن العلماء هم منار الهدى في الأمة، فإذا فقدوا ضلت الأمة طريقها السوي، والأشد سوءاً من فقد العلماء أن ينحرف هؤلاء عن الطريق التي أمرهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بسلوكها، فلا يعلموا بعلمهم الذي ورثوه عن الجناب النبوي، فيخالف فعلهم قولهم، ويكونوا قدوة سيئة للأمة في معصية الله عز وجل وترك طاعته.
قال صلى الله عليه وسلم: " لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه " رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح .
12- نشر العلم: لقد حث الإسلام على تعلم العلم وتعليمه، قال تعالى:{ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122].
وقال صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلَّغ أوعى من سامع" رواه الترمذي وغيره.
وخير عمل يقوم به المسلم وينمو له أجره وثوابه عند ربه حتى بعد موته: أن يعلم الناس العلم الذي أكرمه الله تعالى به ومَنَّ عليه بتحصيله. قال عليه الصلاة والسلام: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم وغيره.
13- الإخلاص في طلب العلم وترك المباهاة والمباراة به: على طالب العلم والعالم أن يخلص في طلبه وعلمه لله تعالى، ولا يقصد من ذلك إلا حفظ دينه وتعليمه للناس ونفعهم به، فلا يكون غرضه من تعلم العلم وتعليمه نيل منصب أو مال أو سمعة أو جاه، أو ليقال عنه إنه عالم، أو ليتعالى بعلمه على خلق الله عز وجل، ويجادل به أقرانه ويباريهم، فكل ذلك مذموم يحبط عمله، ويوقعه في سخط الله تبارك وتعالى.
وروى الترمذي وغيره: " من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار" .
14- " لا أدري" نصف العلم: من علائم الإخلاص في طلب العلم وتعليمه أن لا يأنف طالب العلم من أن يقول: لا أدري، فيما لا علم له به، وكثيراً ما كان العلماء يسأل أحدهم عن عديد من المسائل، فيجيب عن بعضها بما يعلم، ويجيب عن أكثرها بلا أدري، حتى قيل: لا أدري نصف العلم، لأنها علامة على أن قائلها متثبت مما يقول.
15- ذكر الله عز وجل: إن ذكر الله عز وجل من أعظم العبادات، وذلك أن ذكر الله عز وجل يحمل الإنسان على التزام شرعه في كل شأن من شؤونه، ويشعره برقابة الله تعالى عليه فيكون له رقيب من نفسه، فيستقيم سلوكه ويصلح حاله مع الله تعالى ومع الخلق، ولذا أُمِر المسلم بذكر الله تبارك تعالى في كل أحيانه وأحواله، قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الأحزاب: 41-42]. أي صباحاً ومساءً، والمراد: في كل الأوقات.
16- خير ذكر كتاب الله تعالى: وخير ما يذكر به الله عز وجل كلامه المنزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم لما فيه-إلى جانب الذكر- من بيان لشرع الله تعالى، وما يجب على المسلم التزامه، وما ينبغي عليه اجتنابه.
17- عمارة المساجد: وخير الأماكن لذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن وتعلم العلم إنما هي المساجد بيوت الله سبحانه، يعمرها في أرضه المؤمنون، وعمارتها الحقيقية إنما تكون بالعلم والذكر إلى جانب العبادة من صلاة واعتكاف ونحوها، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[النور: 36-38].
18- عبادة منفردة وشافع مشفع: فتلاوة القرآن بذاتها عبادة مأمور بها، ويثاب عليها المسلم، وتكون وسيلة لنجاته يوم القيامة ونيل مرضاة ربه جل وعلا، حيث يشفع القرآن لتاليه عند ربه.
وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ".
ولا يقل فضل السماع للقرآن عن فضل تلاوته، بل إن الاستماع والإنصات لقراءته سبب لنيل مغفرة الله تعالى ورحمته.
وروى الأمام أحمد في مسنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة ".
19- نور على نور: ويزداد الأجر ويعظم الثواب ويكثر الفضل إذا ضم إلى التلاوة والاستماع والفهم والتدبير والخشوع، فيجتمع نور على نور، ومكرمة إلى مكرمة. قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ ص: 29] .
20- "نزلت عليهم السكينة":
وبهذه السكينة يطمئن القلب، وتهدأ النفس، وينشرح الصدر، ويستقر البال والفكر، وقال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [ الرعد: 28].
والخسارة كل الخسارة لأولئك الذين خوت قلوبهم فغفلوا عن الله تعالى وذكره، فعاشوا في مقت وكرب وضياع في دنياهم، وكان لهم الهلاك والخلود في جهنم في أخراهم، قال تعالى:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
وقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] .
21- "غشيتهم الرحمة":
فطوبى لهؤلاء الذين قربت منهم الرحمة فكانت تلاوتهم لكتاب الله عز وجل ومدارستهم له عنواناً على أنهم من المحسنين: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
22- "حفتهم الملائكة":
فلما كثر القارئون كثرت الملائكة حتى تُحيط بهم من كل جانب .
ولعل خير ثمرة لهذه المكرمة أن يكون هؤلاء الملائكة سفراء بين عباد الرحمن هؤلاء وبين خالقهم جل وعلا، يرفعون إليه سبحانه ما يقوم به هؤلاء المؤمنون من ذكر الله عز وجل ومدارسة لكتابه، وما انطوت عليه نفوسهم من رغبة في نعيم الله عز وجل ورضوانه، ورهبة من سخطه وإشفاق من عقابه، فيكون ذلك سبباً للمغفرة، وباباً للفوز والنجاة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإن وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم -وهو أعلم منهم-: ما يقول عبادي؟ قال: تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول: وكيف لو رأوني ؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وأكثر تسبيحاً. قال: يقول: فما يسألونني ؟ قال: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها ؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها ؟ قال: يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد حرصاً عليها وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً وأشد لها مخافة. قال فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال يقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة؟ قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم ".
د- "ذكَرَهم الله فيمن عنده": قال عز وجل: {فاذكُروني أذكرْكم واشكُروا لي ولا تَكْفرون} [ البقرة: 152]. فإذا ذكر العبد المؤمن ربه، بتلاوة كتابه وسماع آياته، قابله الله عز وجل على فعله من جنسه فذكره سبحانه في عليائه، وشتان ما بين الذاكرين، ففي ذكر الله تعالى لعبده الرفعة، والمغفرة والرحمة، والقبول والرضوان.
وخلاصة القول: لقد ربحت تجارة هؤلاء الذين أقبلوا على كتاب الله عز وجل تلاوة ودرساً وتعلماً وعملاً والتزاماً، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29-30].
إنسانية الإسلام وعدالته: التقوى والعمل الصالح طريق الوصول إلى الله عز وجل: لقد قرر الإسلام وحدة الإنسانية، ورسخ المساواة بين أفراد البشرية من حيث المولد، فالجميع مخلوقون من نفس واحدة، ولا فرق بين أبيض وأسود، ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا امتياز لشريف على وضيع في أصل الخلقة والمنشأ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. وكانت العدالة الإلهية في الإسلام حيث جعل التفاضل بين الناس بالعمل الصالح، وطريق القرب من الله تعالى تقواه، دون النظر إلى من انحدر من الآباء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. فلا يضير الإنسان عند الله عز وجل ضعة نسبه، فإن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب.
ولذا نجد القرآن الكريم يحذر الناس من أن يعتمدوا على الأنساب، فيأمر النبيَّ أن يبدأ بتبليغ أهله فيقول له :{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] ،ونجد المصطفى صلى الله عليه وسلم ينادي فيقول:" يا فاطمة بنت محمد- صلى الله عليه وسلم - سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً " متفق عليه.
ولاية الإيمان والعمل، لا ولاية الدم والنسب: لقد كان الناس يتناصرون ويتولى بعضهم بعضاً بالعصبية والقرابة النسبية فجاء الإسلام وجعل الصلة هي صلة الإيمان، والولاية هي ولاية الدين والعمل، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] .
ومما يستفاد من الحديث:
1- أن الجزاء عند الله من جنس ما قدم العبد من عمل، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، والعون بالعون، والستر بالستر، والتيسير بالتيسير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمناً على عري كساه الله من خضر الجنة " رواه الترمذي.
2- الإحسان إلى الخلق طريق محبة الله عز وجل.
3- ما ذكر من التنفيس وغيره عام في المسلم وغيره الذي لا يناصب المسلمين العداء، فالإحسان إليه مطلوب، بل ربما تعدى ذلك لكل مخلوق ذي روح، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء " رواه مسلم.
وقال:"في كل كبد رطبة أجر" متفق عليه.
4- الحذر من تطرق الرياء في طلب العلم، لأن تطرقه في ذلك أكثر من تطرقه في سائر الأعمال، فينبغي تصحيح النية فيه والإخلاص كي لا يحبط الأجر ويضيع الجهد .
5- طلب العون من الله تعالى والتيسير، لأن الهداية بيده، ولا تكون طاعة إلا بتسهيله ولطفه، ودون ذلك لا ينفع علم ولا غيره .
6- ملازمة تلاوة القرآن والاجتماع لذلك، والإقبال على تفهمه وتعلمه والعمل به، وأن لا يترك ليقرأ في بدء الاحتفالات والمناسبات، وفي المآتم وعلى الأموات.
7- المبادرة إلى التوبة والاستغفار والعمل الصالح، قال الله تعالى :{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133-134] .
جَوَامع الخَيْرِ
مفردات الحدث
المعنى العام:(1-واجبات المسلم نحو أخيه المسلم 2-التيسير على المعسر 3-ستر المسلم 4-الشفاعة لمن وقعت منه معصية 5-التعاون بين المسلمين وعون الله تعالى لهم 6-طريق الجنة 7-حكم طلب العلم : أ- "فرض عين ، ب- فرض كفاية" 8-التحذير من ترك العمل بالعلم 9-نشر العلم 10-الإخلاص في طلب العلم وترك المباهاة به 11-ذكر الله تعالى 12-عمارة المسجد 13-إنسانية الإسلام وعدالته 14-ولاية الإيمان والعمل لا ولاية الدم والنسب )
ما يستفاد من الحديث
عن أبي هُرَيْرَة رضي اللهُ عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً من كُرَبِ يوْمِ القيامَةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنْيا والآخِرَةِ، واللهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ ما كانَ الْعَبْدُ في عَونِ أخيهِ. ومَنْ سلك طَريقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ له بِهِ طَرِيقاً إلى الجنَّةِ.
وَمَا اجتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ ويَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إلا نَزَلَتْ عليهمُ السَّكِينَةُ، وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّتهُمُ المَلائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فيمَنْ عِنْدَه . وَمَنْ بَطَّأ بِه عَمَلُهُ لمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ)). رَواه بهذا اللَّفظ مسلم.
مفردات الحديث:
" نفَّسَ ": خفف.
و" الكربة": الشدة العظيمة التي تُوقع من نزلت فيه بغم شديد.
"يسر على معسر": المعسر: من أثقلته الديون وعجز عن وفائها، والتيسير عليه مساعدته
على إبراء ذمته من تلك الديون.
"ستر مسلماً ": بأن رآه على فعل قبيح شرعاً فلم يظهر أمره للناس.
" ستره الله ": حفظه من الزلات في الدنيا.
"سلك": مشى، أو أخذ بالأسباب.
" طريقاً ": مادية كالمشي إلى مجالس العلم وقطع المسافات بينه وبينها. أو معنوية كالكتابة والحفظ والفهم والمطالعة والمذاكرة وما إلى ذلك، مما يتوصل به إلى تحصيل العلم.
" يلتمس": يطلب.
" فيه ": في غايته.
" علماً ": نافعاً.
" له ": لطالب العلم.
" به ": بسبب سلوكه الطريق المذكور.
" طريقاً إلى الجنة " : أي يكشف له طرق الهداية ويهيء له أسباب الطاعة في الدنيا، فيسهل عليه دخول الجنة في الآخرة.
" بيوت الله ": المساجد.
" يتدارسونه بينهم " يقرأ كل منهم جزءاً منه، بتدبر وخشوع،ويحاولون فهم معانيه وإدراك مراميه.
" السكينة ": ما يطمئن به القلب وتسكن له النفس.
" غشيتهم ": غطتهم وعمتهم .
" الرحمة ": الإحسان من الله تبارك وتعالى والفضل والرضوان.
" حفتهم ": أحاطت بهم من كل جهة.
" الملائكة ": الملتمسون للذكر، والذين ينزلون البركة والرحمة إلى الأرض.
" ذكرهم الله فيمن عنده ": باهى بهم ملائكة السماء وأثنى عليهم.
" بطأ به عمله ": كان عمله الصالح ناقصاً وقليلاً فقصر عن رتبة الكمال.
" لم يسرع به نسبه ": لا يعلي من شأنه شرف النسب.
المعنى العام:
1- المسلمون جسد واحد: إن أفراد مجتمع الإيمان والإسلام أعضاء من جسد واحد، يتحسس كل منهم مشاعر الآخرين وتنبعث فيه أحاسيسهم، فيشاركهم أفراحهم وأحزانهم.
2- فالحياة ملأى بالمتاعب والأكدار، وكثيراً ما يتعرض المسلم لما يوقعه في غم وهم وضيق وضنك، مما يتوجب على المسلمين أن يخلصوه منه، ومن ذلك:
أ- نصرته وتخليصه من الظلم: كما قال صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً، كيف أنصره ؟ قال: تحجزه، أو تمنعه، من الظلم فإن ذلك نصره " متفق عليه.
ولا سيما إذا كان الظلم الذي يوقع عليه بسبب دينه وتمسكه بإسلامه، من قبل قوم كافرين أو فاسقين مارقين . قال تعالى: {وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ} [الأنفال: 72].
ب- إقراضه المال إن احتاج إلى المال: قد يقع المسلم في ضائقة مالية، فيحتاج إلى النفقة في حوائجه الأصلية من طعام وشراب ومسكن وعلاج ونحو ذلك، فينبغي على المسلمين أن يسارعوا لمعونته، وعلى الأقل أن يقرضوه المال قرضاً حسناً، بدل أن يتخذوا عوزه وسيلة لتثمير أموالهم، وزيادتها، كما هو الحال في مجتمعات الربا والاستغلال. قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [ المزمل: 20].
وقال صلى الله عليه وسلم: " من أقرض مسلماً درهماً مرتين كان له مثل أجر أحدهما لو تصدّق به " رواه ابن حبان . بل قد يفوق أجرُ القرض أجرَ الصدقة، حسب حال المقترض والمتصدق عليه.
3-كُرَب يوم القيامة والخلاص منها:قال صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس منهم، فيبلغ الناس من الكرب والغم ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم ". خرجاه بمعناه في الصحيحين.
وفي خضم هذه الأهوال يتدارك المؤمن عدل الله عز وجل، فيكافئه على صنيعه في الدنيا، إذ كان يسعى في تفريج كربات المؤمن، فيفرج عنه أضعاف أضعاف ما أزال عنهم من غم وكرب:
" من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ".
4- التيسير على المعسر: الذي أثقلته الديون وعجز عن وفائها ويكون التيسير عليه بأمرين:
إما بمساعدته لوفاء دينه، أو بالحطِّ عنه من دينه.
5- ستر المسلم: إن تتبع عورات المسلمين علامة من علامات النفاق، ودليل على أن الإيمان لم يستقر في قلب ذلك الإنسان الذي همه أن يُنَقِّب عن مساوىء الناس ليعلنها بين الملأ. روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: " يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته. ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ". أي منزله الذي ينزل فيه.
6-الستر على من وقع في معصية: إذا اطلع المسلم على زلة المسلم، فهل يسترها عليه أم يعلنها؟ فإن هذا يختلف باختلاف أعمال الناس، والناس في هذا على حالتين:
1- من كان مستور الحال: أي لا يعرف بين الناس بشيء من المعاصي، فمثل هذا إذا وقعت منه هفوة أو زلة وجب الستر عليه، ولا يجوز كشف حاله ولا التحدث بما وقع منه، لأن ذلك غيبة محرمة، وإشاعة للفاحشة.
2- من كان مشتهراً بالمعصية، مستعلناً بها بين الناس: من لا يبالي بما يرتكب، ولا يكترث لما يقال عنه، فهذا فاجر مستعلن بفسقه، فلا غيبة له، بل يندب كشف حالة للناس، وربما يجب، حتى يتوقوه ويحذروا شره، وإن اشتد فسقه، ولم يرتدع من الناس، وجب رفع الحالة إلى ولي الأمر حتى يؤدبه بما يترتب على فسقه من عقوبة شرعية، لأن الستر عليه يجعله وأمثاله يطمعون في مزيد من المخالفة، فيعيثون في الأرض فساداً، ويجرون على الأمة الشر المستطير.
7- الشفاعة لمن وقعت منه معصية: إذا وقعت من المسلم زلة، وكان مستور الحال، معروفاً بين الناس بالاستقامة والصلاح، ندب للناس أن يستروه ولا يعزروه على ما صدر منه، وأن يشفعوا له ويتوسطوا له لدى من تتعلق زلته به إن كانت تتعلق بأحد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم " رواه أبو داود. أي تغاضوا عن زلات من عرفوا بالاستقامة والرشد.
8- التعاون بين المسلمين وعون الله عز وجل لهم: إن المجتمع لن يكون سوياً قويماً، ولن يكون قوياً متماسكاً إلا إذا قام على أساس من التعاون والتضامن والتكافل فيما بين أفراده، فسعى كل منهم في حاجة غيره، بنفسه وماله وجاهه، حتى يشعر الجميع أنهم كالجسد الواحد، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " متفق عليه.
ولا شك أن أعظم ثمرة يجنيها المسلم من إعانته لأخيه هي ذاك العون والمدد من الله تبارك وتعالى: " والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه " [رواه مسلم ].وكيف لا ولا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله عز وجل؟ وهو سبحانه المحرك الحقيقي لهذا الكون، وهو المعطي والمانع، ومنه الصحة والمرض، ومنه القوة والضعف، والغنى والفقر.
9- طريق الجنة: إن الإسلام شرط النجاة عند الله عز وجل، والإسلام لا يقوم ولا يكون إلا بالعلم، فلا طريق إلى معرفة الله تعالى والوصول إليه إلا بالعلم، فهو الذي يدل على الله سبحانه من أقرب طريق، فمن سلك طريقه ولم يعوج عنه بلغ الغاية المنشودة، فلا عجب إذن أن يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب العلم طريق الجنة، ويبين أن كل طريق يسلكه المسلم يطلب فيه العلم يشق به طريقاً سالكة توصله إلى الجنة: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة" وليس أدل على ما نقول من أن الله تعالى جعل فاتحة الوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أمراً بالعلم وبوسائل العلم، وتنبيهاً إلى نعمة العلم وشرفه وأهميته في التعرف على عظمة الخالق جل وعلا وإدراك أسرار الخلق، وإشارة إلى حقائق علمية ثابتة، فقال سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ اإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [ العلق:1-5 ].
10- حكم طلب العلم في الإسلام:
أ- فرض عين: يتوجب على كل مسلم طلبه، وهو ما لابد لكل مسلم من معرفته:
لتسلم عقيدته، وتصح عبادته وتستقيم معاملته على وفق شرع الله عز وجل. وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: " طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم " رواه ابن ماجه. أي: ذكراً كان أو أنثى .
ب- فرض كفاية: يتوجب على المسلمين بمجموعهم تحصيله، فإذا قام به بعضهم سقط الطلب عن الباقين، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع، وهو التوسع في علوم الشريعة درساً وحفظاً وبحثاً، والتخصص في كل علم تحتاج إليه الجماعة المسلمة من علوم كونية، لتحفظ كيانها، وتقيم دعائم دولة الحق والعدل على الأرض قوية متينة، مهيبة الجانب.
وإنما يرث العلم النبوي العلماء العاملون المخلصون: " إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم " رواه الترمذي وغيره. فهم علائم الحق ومنارات الهدى التي تهتدي بها الأمة في مسالك حياتها، وتقتدي بهم وتسير وراءهم في شدائدها وأزماتها.
فما دام العلم باقياً في الأمة فالناس في هدى وخير، وحضارة ورقي، واستقامة وعدل. وإنما يبقى العلم ببقاء حَمَلَته العلماء، فإذا ذهب العلماء وفُقِدوا من بين ظهرانَي الناس اختلت الأمور، وانحرفت الأمة عن الجادة القويمة، وسلكت مسالك الضلال، وانحدرت في مهاوي الرذيلة والفساد، وألقت بنفسها إلى الضياع والدمار. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذيقول: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " متفق عليه.
11- التحذير من ترك العمل بالعلم: علمنا أن العلماء هم منار الهدى في الأمة، فإذا فقدوا ضلت الأمة طريقها السوي، والأشد سوءاً من فقد العلماء أن ينحرف هؤلاء عن الطريق التي أمرهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بسلوكها، فلا يعلموا بعلمهم الذي ورثوه عن الجناب النبوي، فيخالف فعلهم قولهم، ويكونوا قدوة سيئة للأمة في معصية الله عز وجل وترك طاعته.
قال صلى الله عليه وسلم: " لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه " رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح .
12- نشر العلم: لقد حث الإسلام على تعلم العلم وتعليمه، قال تعالى:{ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122].
وقال صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلَّغ أوعى من سامع" رواه الترمذي وغيره.
وخير عمل يقوم به المسلم وينمو له أجره وثوابه عند ربه حتى بعد موته: أن يعلم الناس العلم الذي أكرمه الله تعالى به ومَنَّ عليه بتحصيله. قال عليه الصلاة والسلام: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم وغيره.
13- الإخلاص في طلب العلم وترك المباهاة والمباراة به: على طالب العلم والعالم أن يخلص في طلبه وعلمه لله تعالى، ولا يقصد من ذلك إلا حفظ دينه وتعليمه للناس ونفعهم به، فلا يكون غرضه من تعلم العلم وتعليمه نيل منصب أو مال أو سمعة أو جاه، أو ليقال عنه إنه عالم، أو ليتعالى بعلمه على خلق الله عز وجل، ويجادل به أقرانه ويباريهم، فكل ذلك مذموم يحبط عمله، ويوقعه في سخط الله تبارك وتعالى.
وروى الترمذي وغيره: " من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار" .
14- " لا أدري" نصف العلم: من علائم الإخلاص في طلب العلم وتعليمه أن لا يأنف طالب العلم من أن يقول: لا أدري، فيما لا علم له به، وكثيراً ما كان العلماء يسأل أحدهم عن عديد من المسائل، فيجيب عن بعضها بما يعلم، ويجيب عن أكثرها بلا أدري، حتى قيل: لا أدري نصف العلم، لأنها علامة على أن قائلها متثبت مما يقول.
15- ذكر الله عز وجل: إن ذكر الله عز وجل من أعظم العبادات، وذلك أن ذكر الله عز وجل يحمل الإنسان على التزام شرعه في كل شأن من شؤونه، ويشعره برقابة الله تعالى عليه فيكون له رقيب من نفسه، فيستقيم سلوكه ويصلح حاله مع الله تعالى ومع الخلق، ولذا أُمِر المسلم بذكر الله تبارك تعالى في كل أحيانه وأحواله، قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الأحزاب: 41-42]. أي صباحاً ومساءً، والمراد: في كل الأوقات.
16- خير ذكر كتاب الله تعالى: وخير ما يذكر به الله عز وجل كلامه المنزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم لما فيه-إلى جانب الذكر- من بيان لشرع الله تعالى، وما يجب على المسلم التزامه، وما ينبغي عليه اجتنابه.
17- عمارة المساجد: وخير الأماكن لذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن وتعلم العلم إنما هي المساجد بيوت الله سبحانه، يعمرها في أرضه المؤمنون، وعمارتها الحقيقية إنما تكون بالعلم والذكر إلى جانب العبادة من صلاة واعتكاف ونحوها، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[النور: 36-38].
18- عبادة منفردة وشافع مشفع: فتلاوة القرآن بذاتها عبادة مأمور بها، ويثاب عليها المسلم، وتكون وسيلة لنجاته يوم القيامة ونيل مرضاة ربه جل وعلا، حيث يشفع القرآن لتاليه عند ربه.
وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ".
ولا يقل فضل السماع للقرآن عن فضل تلاوته، بل إن الاستماع والإنصات لقراءته سبب لنيل مغفرة الله تعالى ورحمته.
وروى الأمام أحمد في مسنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة ".
19- نور على نور: ويزداد الأجر ويعظم الثواب ويكثر الفضل إذا ضم إلى التلاوة والاستماع والفهم والتدبير والخشوع، فيجتمع نور على نور، ومكرمة إلى مكرمة. قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ ص: 29] .
20- "نزلت عليهم السكينة":
وبهذه السكينة يطمئن القلب، وتهدأ النفس، وينشرح الصدر، ويستقر البال والفكر، وقال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [ الرعد: 28].
والخسارة كل الخسارة لأولئك الذين خوت قلوبهم فغفلوا عن الله تعالى وذكره، فعاشوا في مقت وكرب وضياع في دنياهم، وكان لهم الهلاك والخلود في جهنم في أخراهم، قال تعالى:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
وقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] .
21- "غشيتهم الرحمة":
فطوبى لهؤلاء الذين قربت منهم الرحمة فكانت تلاوتهم لكتاب الله عز وجل ومدارستهم له عنواناً على أنهم من المحسنين: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
22- "حفتهم الملائكة":
فلما كثر القارئون كثرت الملائكة حتى تُحيط بهم من كل جانب .
ولعل خير ثمرة لهذه المكرمة أن يكون هؤلاء الملائكة سفراء بين عباد الرحمن هؤلاء وبين خالقهم جل وعلا، يرفعون إليه سبحانه ما يقوم به هؤلاء المؤمنون من ذكر الله عز وجل ومدارسة لكتابه، وما انطوت عليه نفوسهم من رغبة في نعيم الله عز وجل ورضوانه، ورهبة من سخطه وإشفاق من عقابه، فيكون ذلك سبباً للمغفرة، وباباً للفوز والنجاة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإن وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم -وهو أعلم منهم-: ما يقول عبادي؟ قال: تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول: وكيف لو رأوني ؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وأكثر تسبيحاً. قال: يقول: فما يسألونني ؟ قال: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها ؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها ؟ قال: يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد حرصاً عليها وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً وأشد لها مخافة. قال فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال يقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة؟ قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم ".
د- "ذكَرَهم الله فيمن عنده": قال عز وجل: {فاذكُروني أذكرْكم واشكُروا لي ولا تَكْفرون} [ البقرة: 152]. فإذا ذكر العبد المؤمن ربه، بتلاوة كتابه وسماع آياته، قابله الله عز وجل على فعله من جنسه فذكره سبحانه في عليائه، وشتان ما بين الذاكرين، ففي ذكر الله تعالى لعبده الرفعة، والمغفرة والرحمة، والقبول والرضوان.
وخلاصة القول: لقد ربحت تجارة هؤلاء الذين أقبلوا على كتاب الله عز وجل تلاوة ودرساً وتعلماً وعملاً والتزاماً، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29-30].
إنسانية الإسلام وعدالته: التقوى والعمل الصالح طريق الوصول إلى الله عز وجل: لقد قرر الإسلام وحدة الإنسانية، ورسخ المساواة بين أفراد البشرية من حيث المولد، فالجميع مخلوقون من نفس واحدة، ولا فرق بين أبيض وأسود، ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا امتياز لشريف على وضيع في أصل الخلقة والمنشأ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. وكانت العدالة الإلهية في الإسلام حيث جعل التفاضل بين الناس بالعمل الصالح، وطريق القرب من الله تعالى تقواه، دون النظر إلى من انحدر من الآباء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. فلا يضير الإنسان عند الله عز وجل ضعة نسبه، فإن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب.
ولذا نجد القرآن الكريم يحذر الناس من أن يعتمدوا على الأنساب، فيأمر النبيَّ أن يبدأ بتبليغ أهله فيقول له :{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] ،ونجد المصطفى صلى الله عليه وسلم ينادي فيقول:" يا فاطمة بنت محمد- صلى الله عليه وسلم - سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً " متفق عليه.
ولاية الإيمان والعمل، لا ولاية الدم والنسب: لقد كان الناس يتناصرون ويتولى بعضهم بعضاً بالعصبية والقرابة النسبية فجاء الإسلام وجعل الصلة هي صلة الإيمان، والولاية هي ولاية الدين والعمل، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] .
ومما يستفاد من الحديث:
1- أن الجزاء عند الله من جنس ما قدم العبد من عمل، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، والعون بالعون، والستر بالستر، والتيسير بالتيسير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمناً على عري كساه الله من خضر الجنة " رواه الترمذي.
2- الإحسان إلى الخلق طريق محبة الله عز وجل.
3- ما ذكر من التنفيس وغيره عام في المسلم وغيره الذي لا يناصب المسلمين العداء، فالإحسان إليه مطلوب، بل ربما تعدى ذلك لكل مخلوق ذي روح، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء " رواه مسلم.
وقال:"في كل كبد رطبة أجر" متفق عليه.
4- الحذر من تطرق الرياء في طلب العلم، لأن تطرقه في ذلك أكثر من تطرقه في سائر الأعمال، فينبغي تصحيح النية فيه والإخلاص كي لا يحبط الأجر ويضيع الجهد .
5- طلب العون من الله تعالى والتيسير، لأن الهداية بيده، ولا تكون طاعة إلا بتسهيله ولطفه، ودون ذلك لا ينفع علم ولا غيره .
6- ملازمة تلاوة القرآن والاجتماع لذلك، والإقبال على تفهمه وتعلمه والعمل به، وأن لا يترك ليقرأ في بدء الاحتفالات والمناسبات، وفي المآتم وعلى الأموات.
7- المبادرة إلى التوبة والاستغفار والعمل الصالح، قال الله تعالى :{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133-134] .