السؤال:
أرجو من فضيلتكم بيان المراد بـ "الباقيات الصالحات" حيث أنه من المعلوم
عند الحساب يوم القيامة وعند القصاص بين العباد فإنه يؤخذ من حسنات الظالم
وتُعطى للمظلوم ، فإن فنيت يؤخذ من سيئات المظلوم وتطرح على الظالم .
السؤال هنا : هل الباقيات الصالحات من جملة الحسنات اللاتي ممكن أن تؤخذ من
الظالم لتعطى للمظلوم ؟ أم أنها باقية لذلك فهي سمِّيت بالباقيات الصالحات
؟ .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بـ " الباقيات الصالحات " في قوله تعالى (
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) الكهف/ 46 ، وفي
قوله تعالى ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا
وَخَيْرٌ مَّرَدًّا ) مريم/ 76 ، فقال بعضهم : إنها قول " سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر " ، وقال آخرون : إنها جميع أعمال الخير ، وهو ما رجحه
من المتقدمين : الإمام الطبري ، و من المتأخرين : الشيخ الشنقيطي رحمهما الله .
قال الإمام الطبري – رحمه الله - :
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : هنّ جميع أعمال الخير ، كالذي رُوي عن
عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس ؛ لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في
الآخرة ، وعليها يجازى ويُثاب ، وإن الله عزّ ذكره لم يخصص من قوله (
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ) بعضاً دون بعض في
كتاب ، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" تفسير الطبري " ( 18 / 35 ، 36 ) .
وانظر كلام الشيخ الشنقيطي في جواب السؤال رقم (
22241 ) .
ويشهد لذلك ما رواه الترمذي - ( 2470 ) وصححه – عن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا
شاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتصدقوا بها إلا كتفها ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا بَقِيَ مِنْهَا ؟ ) قَالَتْ : عائشة :
مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلا كَتِفُهَا ، قَالَ: (بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا).
قال المباركفوري – رحمه الله - :
أي : ما تصدقتَ به : فهو باق ، وما بقي عندك : فهو غير باق ، إشارة إلى قوله تعالى
( مَا عِنْدَكم يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ ) النحل/ 96 .
" تحفة الأحوذي " ( 7 / 142 ) .
ثانياً:
أيّاً كان المراد من اللفظة فإنه لا يرد الإشكال الذي ذكره الأخ السائل من كون أجور
هذه الأقوال أو الأعمال تنتقل بالمقاصة يوم القيامة ؛ لأنه ليس المراد بقوله تعالى
" الباقيات " التي لا تزول من صحيفة العبد ، مهما جاء به من الأعمال ؛ بدليل
الاتفاق على زوالها بالردة ، وإنما المراد أنها هي الباقية إذا قورنت بما سبق
ذِكره في سياق الآيات ، من أمور الدنيا الفانيات ، كالمال والبنين .
قال الطاهر بن عاشور – رحمه الله - :
فقدم ( الباقيات ) للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفضولاً لأنه ليس بباققٍ ،
وهو المال والبنون ، كقوله تعالى : ( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع )
الرعد/ 26 ، فكان هذا التقديم قاضياً لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف ، تقديره :
أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه ، فكان قوله ( فأصبح
هشيماً تذروه الرياح ) الكهف/ 45 مفيداً للزوال بطريقة التمثيل ، وهو من دلالة
التضمن ، وكان قوله : ( والباقيات ) مفيداً زوال غيرها بطريقة الالتزام ، فحصل
دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة ، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد
الأولى ؛ فجاء كلاماً مؤكداً موجزاً .
ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير
مرداً ) مريم/ 76 فإنه وقع إثر قوله ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين
كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً . وكم أهلكنا قبلهم من قرن
هم أحسن أثاثاً ورئياً ) مريم/ 73 ، 74 الآية .
" التحرير والتنوير " ( 15 / 333 ) .
ففي الآيتين الحث على القيام بالأعمال والأقوال التي
لا تفنى بموت المسلم بل تبقى له وتكتب له في صحائفه ، وتوضع له في ميزانه ، ويرى
أثرها في قبره وحشره وجنته ، ولكن هذا لا يعني أنها لا تؤخذ منه أجورها إذا جاء يوم
القيامة بمظلمة لأحد من المسلمين ولم يتب منها في دنياه ولم يعف عنه ربه تعالى ، بل
كل ما جاء به من أعمال جليلة في الإسلام كالصلاة والصيام والصدقة قابل للأخذ من
أجوره لتُعطى لصاحب المظلمة ، وهذا هو المفلس على الحقيقة ، وقد جاء في السنَّة
النبوية الصحيحة ما يحذِّر المسلم صراحة من هذا الإفلاس يوم القيامة .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أَتَدْرُونَ مَا المُفْلِسُ ؟
) قَالُوا : المُفلِسُ فِينَا مَن لاَ درْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، فَقَالَ ( إِنَّ
المُفْلِسَ منْ أُمَّتِى يَأتِى يَوْمَ القِيَامَة بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاة
وَيَأتى قَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَف هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دمَ هًذَا
وضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذا مِنْ حَسَنَاتهِ وَهَذا مِنْ حَسَنَاتهِ فَإِنْ
فَنيَت حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ
فَطُرِحًتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّاَرِ ) . رواه مسلم ( 2581 ) .
فالحديث نصٌّ في المسألة ، ومهما قيل في معنى الباقيات الصالحات فإنها قابلة لأخذ
أجورها منه إن جاء بمظلمة لأحد ، ولذلك جاء التحذير من النبي صلى الله عليه وسلم
لكل ظالم أن يتحلل من مظلمته في الدنيا قبل أن يأتي يوم القيامة ، حيث لا مجال لرد
الحقوق ، أو التحلل منها ؛ بل هي الحسنات تؤخذ منه وتُعطى لصاحب المظلمة ، وهي
السيئات تؤخذ من ذاك وتلقى على الظالم .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ ( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا
فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لأَخِيهِ
مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ
أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ) .
رواه البخاري ( 6169 ) .
وانظر جواب السؤال رقم ( 2470 ) .
والله أعلم
أرجو من فضيلتكم بيان المراد بـ "الباقيات الصالحات" حيث أنه من المعلوم
عند الحساب يوم القيامة وعند القصاص بين العباد فإنه يؤخذ من حسنات الظالم
وتُعطى للمظلوم ، فإن فنيت يؤخذ من سيئات المظلوم وتطرح على الظالم .
السؤال هنا : هل الباقيات الصالحات من جملة الحسنات اللاتي ممكن أن تؤخذ من
الظالم لتعطى للمظلوم ؟ أم أنها باقية لذلك فهي سمِّيت بالباقيات الصالحات
؟ .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بـ " الباقيات الصالحات " في قوله تعالى (
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) الكهف/ 46 ، وفي
قوله تعالى ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا
وَخَيْرٌ مَّرَدًّا ) مريم/ 76 ، فقال بعضهم : إنها قول " سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر " ، وقال آخرون : إنها جميع أعمال الخير ، وهو ما رجحه
من المتقدمين : الإمام الطبري ، و من المتأخرين : الشيخ الشنقيطي رحمهما الله .
قال الإمام الطبري – رحمه الله - :
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : هنّ جميع أعمال الخير ، كالذي رُوي عن
عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس ؛ لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في
الآخرة ، وعليها يجازى ويُثاب ، وإن الله عزّ ذكره لم يخصص من قوله (
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ) بعضاً دون بعض في
كتاب ، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" تفسير الطبري " ( 18 / 35 ، 36 ) .
وانظر كلام الشيخ الشنقيطي في جواب السؤال رقم (
22241 ) .
ويشهد لذلك ما رواه الترمذي - ( 2470 ) وصححه – عن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا
شاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتصدقوا بها إلا كتفها ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا بَقِيَ مِنْهَا ؟ ) قَالَتْ : عائشة :
مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلا كَتِفُهَا ، قَالَ: (بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا).
قال المباركفوري – رحمه الله - :
أي : ما تصدقتَ به : فهو باق ، وما بقي عندك : فهو غير باق ، إشارة إلى قوله تعالى
( مَا عِنْدَكم يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ ) النحل/ 96 .
" تحفة الأحوذي " ( 7 / 142 ) .
ثانياً:
أيّاً كان المراد من اللفظة فإنه لا يرد الإشكال الذي ذكره الأخ السائل من كون أجور
هذه الأقوال أو الأعمال تنتقل بالمقاصة يوم القيامة ؛ لأنه ليس المراد بقوله تعالى
" الباقيات " التي لا تزول من صحيفة العبد ، مهما جاء به من الأعمال ؛ بدليل
الاتفاق على زوالها بالردة ، وإنما المراد أنها هي الباقية إذا قورنت بما سبق
ذِكره في سياق الآيات ، من أمور الدنيا الفانيات ، كالمال والبنين .
قال الطاهر بن عاشور – رحمه الله - :
فقدم ( الباقيات ) للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفضولاً لأنه ليس بباققٍ ،
وهو المال والبنون ، كقوله تعالى : ( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع )
الرعد/ 26 ، فكان هذا التقديم قاضياً لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف ، تقديره :
أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه ، فكان قوله ( فأصبح
هشيماً تذروه الرياح ) الكهف/ 45 مفيداً للزوال بطريقة التمثيل ، وهو من دلالة
التضمن ، وكان قوله : ( والباقيات ) مفيداً زوال غيرها بطريقة الالتزام ، فحصل
دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة ، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد
الأولى ؛ فجاء كلاماً مؤكداً موجزاً .
ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير
مرداً ) مريم/ 76 فإنه وقع إثر قوله ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين
كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً . وكم أهلكنا قبلهم من قرن
هم أحسن أثاثاً ورئياً ) مريم/ 73 ، 74 الآية .
" التحرير والتنوير " ( 15 / 333 ) .
ففي الآيتين الحث على القيام بالأعمال والأقوال التي
لا تفنى بموت المسلم بل تبقى له وتكتب له في صحائفه ، وتوضع له في ميزانه ، ويرى
أثرها في قبره وحشره وجنته ، ولكن هذا لا يعني أنها لا تؤخذ منه أجورها إذا جاء يوم
القيامة بمظلمة لأحد من المسلمين ولم يتب منها في دنياه ولم يعف عنه ربه تعالى ، بل
كل ما جاء به من أعمال جليلة في الإسلام كالصلاة والصيام والصدقة قابل للأخذ من
أجوره لتُعطى لصاحب المظلمة ، وهذا هو المفلس على الحقيقة ، وقد جاء في السنَّة
النبوية الصحيحة ما يحذِّر المسلم صراحة من هذا الإفلاس يوم القيامة .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أَتَدْرُونَ مَا المُفْلِسُ ؟
) قَالُوا : المُفلِسُ فِينَا مَن لاَ درْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، فَقَالَ ( إِنَّ
المُفْلِسَ منْ أُمَّتِى يَأتِى يَوْمَ القِيَامَة بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاة
وَيَأتى قَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَف هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دمَ هًذَا
وضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذا مِنْ حَسَنَاتهِ وَهَذا مِنْ حَسَنَاتهِ فَإِنْ
فَنيَت حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ
فَطُرِحًتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّاَرِ ) . رواه مسلم ( 2581 ) .
فالحديث نصٌّ في المسألة ، ومهما قيل في معنى الباقيات الصالحات فإنها قابلة لأخذ
أجورها منه إن جاء بمظلمة لأحد ، ولذلك جاء التحذير من النبي صلى الله عليه وسلم
لكل ظالم أن يتحلل من مظلمته في الدنيا قبل أن يأتي يوم القيامة ، حيث لا مجال لرد
الحقوق ، أو التحلل منها ؛ بل هي الحسنات تؤخذ منه وتُعطى لصاحب المظلمة ، وهي
السيئات تؤخذ من ذاك وتلقى على الظالم .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ ( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا
فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لأَخِيهِ
مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ
أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ) .
رواه البخاري ( 6169 ) .
وانظر جواب السؤال رقم ( 2470 ) .
والله أعلم