+
----
-
قبلَ أكثرَ من 2500 سنة عاشَ في أرضِ حُوران رجلٌ من ذرّية سيّدنا يوسف عليه السّلام، إنّه سيّدُنا أيّوب عليه السّلام: كانَ رجلاً طيّباً تَزوّج من فتاةٍ اسمُها « رَحْمَة » هي أيضاً من ذرّية يوسف عليه السّلام.
عاشَ الزوجانِ سعيدَين بحياتِهما، وكانا مؤمنينِ بالله ورُسُلهِ.
اللهُ سبحانه أنعَمَ على أيوبَ ورَزَقَهُ أولاداً وبَناتٍ، وكانت عنده أرضٌ واسعةٌ مليئةٌ بالحُقولِ والمَراعي، وتَرعى فيها قِطْعانُ المَاشيةِ مِن بَقَرٍ وأغنامٍ وماعز.
كانَ أيوبُ يَعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشرِكُ به أحَداً، فهو على دِينِ آبائه إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوب.
وذاتَ يومٍ هَبَطت الملائكةُ وبَشَّرته بالنبوّةِ، وسَجَدَ أيّوبُ للهِ شُكراً.
كلُّ الناسِ كانوا يُحبّونَ أيّوب.. الرجلَ الطيِّبَ الذي أكرمَهُ اللهُ بالنبوّة.
كانَ منزلُ أيوبَ كبيراً، فَلَديهِ أولادٌ كثيرونَ وبَنات، وفيه الحُبوبُ والطَّعام.
سيّدُنا أيوبُ كانَ يُحبُّ الفقراءَ.. يُطعِمُهم، ويَكسُوهُم. وكانَ لا يأكُلُ طَعاماً إلاّ وعلى مائدتهِ يَتيمٌ أو بائسٌ أو فقير.
الناسُ الفقراءُ كانوا يَقصدونَ منزلَ أيوبَ مِن مناطقَ بعيدة، وكانوا يَعودونَ إلى ديارهِم وهم يَحمِلونَ مَعهم الطعامَ والكِساءَ والفَرَحَ لأطفالِهم وأهلِهم.
الناسُ أحَبّوا نبيَّ اللهِ أيّوبَ، الذي لا يَرُدُّ أحداً ولا يَمُنُّ على أحد.
منزل أيوب
ذاتَ يومٍ جاءَ شيخٌ طاعِنٌ في السِّنّ.. جاءَ إلى منزلِ أيّوب. الشيخُ حَيّى أيوبَ قائلاً:
ـ السلامُ على أيوّبَ نَبيِّ الله.
ـ وعليكَ السلامُ ورحمةُ الله... تَفضَّل أنتَ في بيتِكَ وأهلِك.
ـ زادَ اللهُ في كرامةِ أيّوب.. أنا كما تَرى شيخٌ عاجز وعندي أبناءٌ جِياعٌ، ونبيُّ اللهِ يُطعِمُ الجِياعَ ويَكْسُو العُراة.
تألّمَ سيدُنا أيوبُ وقال:
ـ أُظنُّكَ غريباً أيّها الشيخ ؟
ـ لا يا نبيَّ الله، أنا مِن بلادِ حُوران.
تألّمَ سيدُنا أيوب أكثَر وقال:
ـ ما أقساني.. بَيتي مليءٌ بالطعامِ وأنتَ جائع؟!
الشيخ قال:
ـ إنّه ذَنبي أنا.. لم أعرِضْ حاجَتي عليك مِن قَبل.
قال أيوب:
ـ الحقُّ علَيّ أنا لأنّني لم أبحَثْ عنكَ بنفسي.
التَفتَ أيوبُ إلى أبنائه وقال:
ـ ألا تَخافونَ من غَضَبِ الله ؟! كيف تَرضَونَ لأنفسِكُم أن تَبيتوا شِباعاً وفي حُورانَ أطفالٌ وشُيوخٌ جِياع ؟!
الأبناءُ اعتَذروا وقالوا:
ـ لقد بَحَثنا كثيراً ولكنّنا لم نَجد أحداً في حُورانَ مُحتاجاً..
قال الأب بألم:
ـ وهذا الشيخ ؟ ؟
ـ عَفْواً يا أبانا.
ـ هَيّا احمِلوا من الطعامِ والكِساءِ وأوصِلُوه إلى منزلهِ.
ـ سَمْعاً وطاعةً للنبيّ.
هكذا كانَ يعيشُ سيدُنا أيوبُ.. في ذلك البيتِ المَبْنيّ من الصُّخور. هو يَتفقَّدُ العَمَلَ في الحُقولِ والمَزارع، وزَوجتُه تَطحَنُ ومعها بناتُها وجَواريها يُساعدونها.
وأبناءُ أيوبَ يَحمِلونَ الطعامَ والكِساءَ ويَبحثونَ عن الفقراءِ والمُحتاجينَ في حُوران، والخَدَمُ يَعملونَ في المَزارعِ ويَحمِلونَ الثِّمارَ والحُبوبَ إلى المَخازن.
والرعاةُ يَسُوقونَ المَواشي إلى المَراعي، وكان أيوبُ يَشكرُ الله الذي بارَكَ له في أموالهِ وأولادهِ.
الناسُ كانوا يُحِبّونَ أيوبَ النبيّ.. لأنّه مؤمنٌ باللهِ يَشكرُ اللهَ على نِعَمِه.. ويُساعدُ الناسَ جميعاً.. لم تُبطِرْهُ الأموال، من مَزارعَ وحُقولٍ وماشيةٍ وأولادٍ كثيرين.. كان يعمل.
كانَ يُمكنهُ أن يعيشَ في راحة، ولكنّه كانَ يَعملُ بيدهِ؛ وزَوجتُه رحمةٌ هي الأخرى كانت تَعمل.. كانا يعتقدانِ أنّ كلَّ ما عندَهما هو من الله سبحانه؛ لهذا كانا يَذكُرانهِ دائماً ويَشكُرانهِ كثيراً.
الناسُ أحبُّوه واعتَقدوا أنّه رجلٌ مُبارَك، وأنه نبيٌّ من أنبياءِ الله. لهذا آمَنوا باللهِ سبحانه الذي يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاء ويَقْدِر.
الشيطان
الشيطانُ حسَدَ سيدنَا أيوّب، أيوبُ يريدُ الهدايةَ والخيرَ للناس، والشيطانُ يريدُ لهم الشُّرورَ والضَّلال، لهذا راحَ يُوَسوِسُ للناسِ، يقولُ لهم: إنّ أيوبَ يَعبدُ اللهَ لأنّهُ يخافُ على أموالهِ وحُقولهِ أن يأخُذَها منه... لو كانَ أيوبُ فقيراً ما عَبدَ الله ولا سَجَدَ له...
الناسُ أصغَوا إلى وَساوِسِ الشيطانِ وصَدَّقوا.. تَغَيرّت نَظرتُهم إلى أيوبَ: إنّه يَعبدُ اللهَ لأنّ الله أنعَمَ عليهِ ورَزَقهُ وهو يَخافُ مِن أن يَسلبَهُ نِعمتَه... إنّ أيوبَ لو حَلَّت به مصيبةٌ لَتَركَ العبادة... لو أحرَقَت الصَّواعِقُ حُقولَه لَجَزِع!! لَو سَلَبهُ الله نِعمتَهُ لَما سَجَد!
هكذا راحَ الشيطانُ يُوَسوِسُ في نفوسِ أهلِ حُوران...
الامتحان
الله سبحانه أرادَ أن يُظهِرَ للناسِ كذبَ الشيطان.. أرادَ أن يُظهرَ للناسِ صدقَ أيّوبَ وصبرَهُ وإيمانَه.. لهذا بَدَأت المِحنة.. سوف تَحلُّ بأيوّبَ المَصائبُ الواحدةُ بعد الأخرى... لِنرَى مدى إيمانِ سيدِنا أيوّبَ وصبرِه.
كلُّ شيءٍ كانَ يَمضي هادئاً.. أيّوبُ كانَ ساجِداً لله يَشكرُهُ على نعمهِ وآلائه.. وأبناؤه كانوا يَحمِلونَ أجْرِبَةَ الطَّعام ويَبحَثونَ عن فقيرٍ أو مِسكينٍ أو رجُلٍ مُسافرٍ انقَطَعت به السُّبل..
الخَدَمُ والعَبيدُ كانوا يَعملونَ في الأرض، ويَحملونَ حُبوبَ القمحِ إلى المَخازن.
« رحمةٌ » زوجةُ سيدِنا أيوبَ كانت تَطحَنُ في الرَّحى..
والبعضُ كانوا يَحملونَ حُزَمَ الحَطَب وآخرون يَجلِبونَ الماءَ من النَّبع.
والرُّعاةُ كانوا يَسُوقونَ قِطعانَ الماشِيةِ إلى المُروج.. كلُّ شيءٍ كانَ يَمضي هادئاً وجميلاً...
وفي تلك اللحظاتِ.. برَزَ الشيطان يُعَربِدُ ويُدَمِّر. يُريدُ أن يُدمّرَ إيمانَ أيّوب.
فجأةً جاءَ أحدُ الرُّعاة مَبهورَ الأنفاس... هَتَف:
ـ اينَ نبيُّ الله أيّوب ؟!!
ـ ماذا حَصَل ؟! تَكَلّمْ.
ـ لقد قَتَلوهُم.. قَتَلوا جميعَ رِفاقي.. الرُّعاةَ والفَلاّحين... جَميعهم قُتلوا.. جَرَت دِماؤهُم فوقَ الأرض...
ـ ماذا ؟!
ـ هاجَمَنا الأشرار.. واخَتَطفوا قِطْعانَ الماشيةِ، أخَذوا أبقارَنا وخِرافَنا وذَهَبوا!
الجبلُ لا يَهتزُّ أمامَ العاصفةِ.. سيدُنا أيوبُ تألّم ولكنّه تَحمّل، قالَ بثبات:
ـ إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون...
إنّ اللهَ سبحانَهُ شاءَ أن يَمتَحِن أيوبَ.. يَمتحنَ إيمانَهُ بِرَبِّ العالَمين.. أيَصبِرُ أم يَكفُر ؟
في اليومِ التالي حَدَثَ أمرٌ عجيب.. تَجَمّعت سُحُبٌ سَوداء في السماء.. وانفَجَرت الصَّواعِقُ ودَوَّت الرُّعود... وجاء أحدُ الفلاّحين.. كانت ثيابهُ مُحترقةً وجهُه أسوَد من الحرُوقِ والدُّخان.. هتَفَ سيدُنا أيوب:
ـ ماذا حَصَل ؟!
ـ النار! يا نبيَّ اللهِ النار!!
ـ أهِي مُصيبةٌ أخرى ؟!
ـ نعم يا نبيَّ الله، لقد احترَقَ كلُّ شيء.. لقد نَزَل البلاء.. الصَّواعقُ أحرَقَت الحُقولَ والمَزارع.. أصبَحَت أرضُنا رَماداً يا نبيَّ الله.. كل رفِاقي ماتُوا احتَرَقوا.
قالت رحمة:
ـ إن مصائبَ العالَم كلَّها ستَنزِلُ علينا!
ـ اصبِري يا رحمة.. هذه مشيئةُ الله.
ـ مشيئةُ الله!!
أجل.. لقد حانَ وقتُ الامتحان.. ما مِن نبيٍ إلاّ وامتَحَنَ اللهُ قلبَه.
نظرَ أيوبَ إلى السماء وقال بِضَراعة:
ـ إلهي، امنَحْني الصَّبر.
في ذلك اليوم أمَرَ سيدُنا أيّوبُ الخَدَمَ والعبيدَ بمغادرةِ مَنزلهِ.. قالَ لهم بإشفاق:
ـ عُودوا إلى أهليكم أو ابحَثوا عن مكانٍ آخر، إنّ الله سبحانه يَمتَحِنُني.
قالَ أحد الخَدَم:
ـ سنَعملُ على إصلاحِ الحقولِ والمَزارع... إنّني لا أُحبّ أن أُفارِقَكَ، نحن نؤمنُ بكَ ونُحبّكَ يا نبيَّ الله.
ـ يا أبنائي أعرِفُ ذلك.. ولكنّ البلاءَ سيَتَضاعَفُ، وأنا لا أُريدُ أن أرى أن تَحتَرقوا أمامي.. اذهَبوا يا أبنائي.. دَعُوني أواجِهُ الامتحانَ لوحدي.
يا صبرَ أيوب!
لم تَنْتَهِ مِحنةُ أيوبَ عند هذا الحدِّ، لم تَحترَقْ حُقولُه وتَتحوَّلْ إلى رمادٍ، لم تَفْنَ ماشيتُه جميعاً فقط. إنّه يُواجهُ محنةً أخرى.. لقد ماتَ جميعُ أولادِه وبناته، لم يَبقَ معه سوى رحمة زوجتهِ الطيّبة.. بعد ذلك أيضاً ابتُليَ أيّوب في جسده.. أصابه المرض، وتقرّح جِلُده، فزاد ابتعاد الناس عنه خوفاً من العَدوى.
أصبَحَ منزلهُ خالياً، ليس فيه وَلَدٌ واحدٌ من أولاده.. وهو شيخٌ مُسِنٌّ وزوجتُهُ المسكينةُ تبكي..
هذه مشيئةُ الله وعلَينا أن نُسَلِّمَ لأمره..
الشيطانُ لم يَترُكْه لحالهِ، جاء إليه ليوسوسَ له:
ـ يا لها مِن مصيبةٍ كُبرى.. سَبَعةُ بنينَ وثلاثُ بناتٍ في لحظةٍ واحدةٍ ماتوا.. كانوا أملاً.. بماذا يُسلِّي الإنسانُ نفسَه ؟.!
نَظَر أيوبُ إلى السماءِ الزاخرةِ بالنجوم:
ـ يا الله... أعرِفُ أنكَ مصدرٌ للخيرِ، كلِّ الخير..
إلهي وربّي، امنَحْني الصَّبر.
الشيطانُ فَرَّ بعيداً.. لا شيءَ يُرهِبُ الشيطانَ أكثرَ مِن ذِكرِ الله.. لا شيءَ يُخيفُ الشيطانَ أكثرَ مِن اسمِ الله.
فإذا قال الإنسان: أعوذُ باللهِ من الشيطان.. فإنّ الله يَحفَظُه ويَحميهِ ويَجعَلُ قَلبَهُ طاهراً.. اللهُ سبحانه يُحِبُّ عِبادَهُ ويُريدُ لهم الخير..
من أجلِ هذا كان سيّدنُا أيوبُ لا يزدادُ على البلاءِ إلاّ صبراً. يَعرفُ أن الله هو مصدرُ الخيرِ ويُريد له الخير.. أمّا الشرُّ فمِن الشيطانِ الذي يُريدُ للإنسانِ أن يَكفُر.
أهل حُوران
الشيطانُ لم يَكُفَّ عن وَسوَسَتهِ، إنّه يريدُ أن يَقهَرَ أيّوبَ.
ذهبَ الشيطانُ إلى أهل القريةِ وقال لهم: إنّ الله قد غَضِبَ على أيوب.. فصَبَّ عليه البلاء.. لقد أذنَبَ أيّوبُ ذنباً كبيراً فحَلَّت بهِ اللعنة.. إنّ في بقائه خَطَراً عليكم.. ربّما تَشمَلُكُم اللعنة.. مِن الأفضلِ أن تُخرِجوه مِن قريَتِكم.
أهالي حُورانَ أصْغَوا لوسوسةِ الشيطانِ، وجاءوا إلى منزلِ أيّوب.. لم يكن في منزلهِ أحدٌ سوى زوجتهِ رحمة..
قالَ رجلٌ منهم:
ـ نحنُ نَظُنُّ أن اللعنةَ قد حَلَّت بك، ونخافُ أن تَعُمَّ القريةَ كلَّها.. فاخرُجْ من قَريتِنا واذهْبْ بعيداً عنّا، نحن لا نُريدكَ أن تَبقى بيننا.
غَضِبَت رحمةٌ من هذا الكلام، قالت:
ـ نحنُ نعيشُ في مَنزلنا ولا يَحِقُّ لكم أن تُؤذوا نبيَّ الله..
أهالي القرية قالوا بِوَقاحَة:
ـ إذا لم تَخْرُجا فسنُخرِجُكما بالقوّة.. لقد حَلّت بكما اللعنةُ وستعمُّ القريةَ كلَّها بسببكما..
قال لهم أيوبُ بإشفاق!
ـ يا أبنائي، ما هذا الذي تَقولونه ؟! إنّ ما حَدَث لي هو امتحانٌ إلهي... الله سبحانه قد امتَحَنَ الأنبياء قبلي.. خافُوا الله يا أهلَ حُوران، ولا تُؤذوا نبيّكم.
قال رجلٌ أحمَق:
ـ ولكنّك عَصَيتَ الله، وهو الذي غَضِبَ عليك.
قالت رحمة:
ـ أنتم تَظلِمونَ نبيَّكم.. هل نَسِيتُم إحسانَهُ إليكُم ؟! هل نَسِيتُم يا أهلَ حُورانَ الكِساءَ والطعامَ الذي كانَ يأتيكم من منزلِ أيوب ؟!
نظر أيوبُ إلى السماء وقالَ بحزن:
ـ يا إلهي، إذا كانت هذه مَشيئتُك فسَأخرُجُ من القرية، وأسكُنُ في الصحراء.. يا الله سامِحْ هؤلاءِ على جَهلِهم.. لو كانوا يَعرفونَ الحقَّ ما فَعَلوا ذلك بنبيّهم.
في العَراء
هكذا وَصَلت مِحنةُ سيّدِنا أيوبَ؛ أن جاء أهلُ حُورانَ وأخرَجوه من منزلهِ.
كانوا يَظنّون أنّ اللعنَة قد حَلّت به، فخافوا أن تَشمَلَهُم أيضاً..
نَسُوا كل إحسانِ أيوبَ وطيبتهِ ورحمتهِ بالفقراءِ والمساكين!
لقد سَوَّلَ الشيطانُ لهم ذلك فاتَّبعوه وتَركوا أيّوبَ يُعاني آلامَ الوحدةِ والضعفِ.. لم يَبقَ معه سوى « رحمة » زوجتهِ الوفيّة.. وحدَها كانت تُؤمن بأن أيوبَ في محنةٍ تُشبهِ محنةَ الأنبياءِ، وعليها أن تَقِفَ إلى جانبهِ ولا تَترُكَه وحيداً.
كان على رحمة أن تَعملَ في بيوتِ حُوران، تَخدِمُ وتَكْدَحُ في المَنازِل لقاءَ لُقمةِ خُبزٍ لها ولزوجها..
وفي كلِّ مرّةٍ كانت تعودُ إلى أيوّبَ وهي قَلِقَةٌ عليه، فالصحراءُ لا تَخلو من الذئابِ والضِّباع، وأيّوب لا يَقْوى على النهوضِ والدفاعِ عن نفسهِ.
كان أيوبُ صابراً يَتحمّلُ الألمَ بإيمانه العميقِ بالله، وكانت رحمةٌ تَستمدُّ صبرَها من صبرِ زوجها وتَحَمُّلِه.. وفي تلك المدّةِ صَنَعَت رحمة لزوجِها عَريشاً يُظِلُّه من الشمسِ ويَحميهِ من المطرِ. وهكذا تمرّ الأيام وفي كلِّ يومٍ كانت مِحنةُ أيوبَ تزداد.
وكانت رحمة تَشْقى في منازلِ حُوران.
الجوع
ذات يومٍ بَحَثت رحمة عمّن يَستَخدِمُها في العمل، ولكنْ لا أحَد! كلُّ أهلِ حُورانَ أغلَقوا الأبوابَ في وجهِها.. ومع ذلك فرحمةٌ لم تَمُدَّ يدها إلى أحدٍ ولم تَسْتَجدِ أحداً.
كان أيّوبُ يَنتظرُ عودةَ زوجتهِ؛ لقد تأخَّرت هذه المرّة.
زوجتُه بَحثَت عن عملٍ في منازلِ حُورانَ، فوَجَدت الأبوابَ دونها مُوصَدَة... لهذا اضطُرّت أن تَقصَّ ضَفيرتَيها لِتبيعَهُما مُقابِلَ رَغيفَينِ من الخُبز.
عادَت رحمةٌ إلى زوجِها وقَدَّمت له رغيفَ الخبز. عندما رأى أيوبُ ما فعَلَت زوجتُه بنفسِها شَعَرَ بالغضب.
حَلَف أيوبُ أن يَضرِبَها إذا قَوِيَ على ذلك، لم يَأكُل رغيفَه، كانَ غاضباً مِن تَصَرُّفِ رحمة، ما كانَ يَنبغي لها أن تَفعلَ ذلك.
بَكَت رحمةٌ كثيراً، لم تَعُد تَتَحمّلُ هذا العذابَ والألم.. لم تَعُد تَتَحمّلُ الحياةَ القاسيةَ وشَماتَةَ الناس.. ومع ذلك فكلّما كانَ الشيطانُ يُوسوسُ في قلبِها أن تَترُكَ زوجَها، كانت تَستعَيذُ باللهِ، لهذا ظَلَّت وفيّةً لزوجِها تَرعاهُ وتَسهَرْ على راحتِه.
إنّ سيدَنا أيوبَ يُحبُّ زوجَته كثيراً؛ لأنها امرأةٌ مؤمنةٌ صابرةٌ راضيةٌ بقضاء الله.
من أجلِ ذلك قالت له زوجته:
ـ أنتَ نبيُّ اللهِ.. أُدْعُ اللهَ لِيُنقِذَكَ من هذه المِحنة!
قال أيوب:
ـ لقد عِشتُ سنواتٍ طويلةً في رَفاهٍ من العَيش، بَنونَ وأموالٌ ومَزارعُ وحُقول.. أفَلا أصِبرُ على حياةِ الفقرِ بقدرِ ذلك.
قالت رحمةٌ وهي تبكي:
ـ أكثَرُ ما يُحزِنُني شَماتَةُ الأعداء..
ـ اللهُ سبحانه يُراقِبُ حالَنا وهو أرحمُ الراحمين.
ـ ليسَ لدينا ما نأكُلُ هذا اليوم.. سأذهَبُ إلى أهلِ حُورانَ فلعلّ أحدَهُم يتذكّرُ إحسانَنا إليه.. مَن يدري فلعلّ قلبَ أحدِهم يَخفِقُ لِحُبِّ الخير.
ربيع الحياة
ذَهَبت رحمة إلى القريةِ لتحصَلَ على كِسرةِ خبزٍ لزوجها.. وظَلّ أيوبُ وحيداً تحتَ أشعّةِ الشمس..
كانَ يَعبدُ اللهَ ويَشكُرهُ. لم يَجْزَعْ أبداً ولم يَفقِدْ إيمانَه بالله.. إنّ الله مصدرُ الخيرِ والرحمةِ والبركة، وهو وحده القادرُ على كل شيء.
في الأثناءِ مَرّ رجُلانِ من أهل حُورانَ. تَوقَّفا عند أيّوبَ ونظرا إليه. قال أحدهما:
ـ ماذا أذنَبتَ لكي يَفَعلَ اللهُ بك هذا ؟!
وقال الآخر:
ـ إنكَ فَعَلت شيئاً كبيراً تَستُرهُ عنّا، فعاقَبَك اللهُ عليه.
تألمّ سيدُنا أيّوبُ. إنّ البعض يَتّهمُه بما هو بريء منه. قال أيوبُ بحزن:
ـ وعِزّةِ ربّي إنّه لَيَعلَمُ أنّي ما أكَلتُ طعاماً إلاّ ويتيمٌ أو ضعيفٌ يأكُلُ معي.
ونظر إلى السماء وقال:
إلهي أنا راضٍ بقضائك... بِيدِكَ الخيرُ إنّك على كلِّ شيء قدير، إلهي بيدِك شفائي.. بيدكَ مَرَضي.. أنتَ وحدَك تَستطيعُ أن تُعيدَ إليّ سلامتي.. ويا الهي! إنّي مَسَّنيَ الشيطانُ بِنُصْبٍ وعَذاب.
تَعجَّبَ الرجلانِ من صبرِ أيّوب، وانصَرَفا عنه في طريقهِما وهما يفكّرانِ في كلماتِ أيّوب!
فجأةً أضاءَ المكانُ بنورٍ شفّافٍ جميل، وامتلأ الفضاءُ برائحةٍ طيبّة، ورأى أيّوبُ مَلاكاً يَهبِطُ من السماءِ ويقول له:
السلامُ على أيّوبَ أعزّ عبادِ الله.. نِعْمَ العبدَ أنتَ يا أيّوب، إنّ الله يُقرئك السلامَ ويقول: لقد أُجِيبَت دَعوتُك، وأنّ الله يُعطيكَ أجرَ الصابرين. إضرِبْ برِجْلكَ الأرضَ يا أيّوب! واغسِلْ في النَّبعِ المقدّس.
غابَ المَلاك، وشَعَرَ أيوبُ بالنور يُضيء في قلبهِ، فضَرَب بقدمهِ الأرض، فجأة انبثَقَ نبعٌ باردٌ عَذبُ المَذاق.. ارتَوى أيّوبُ من الماءِ الطاهر، وتَدفَّقت دماءُ العافية في وجهه، وغادَره الضعفُ تماماً.
عاودته العافية و القوّة، فاذا هو إنسان جديد أقوى ممّا كان عليه قبل أيامَ المحنةِ والمرض.
خَلَعَ أيوبُ ثَوَب المرضِ والضَّعف وارتَدى ثياباً بيضاءَ ناصعةً مُضَمَّخةً برائحةِ الفِردوس.
وشيئاً فشيئاً ازدَهَرتِ الأرضُ مِن حولِ أيوبَ وأعْشَبَت.
عادَت رحمة تَبحَثُ عن زوجِها، فلم تَجِدْه، ووَجَدَت رجلاً يَفيضُ وجهُه نعمةً وصِحّةً وعافية. فقالت له باستعطاف:
ـ ألم تَرَ أيوب.. أيوبَ نبيَّ الله ؟!
ـ أنا أيوبُ يا رحمة!
ـ أنت ؟! إن زوجي رجلٌ عجوزٌ وضعيف.. ومريض أيضاً!
ـ المَرَضُ من الله، والصِّحَّةُ والسلامةُ منه أيضاً.. وهو سبحانه بيده كلُّ شيء.
ـ أنتَ أيوبُ حقاً ؟!
ـ نعم يا رحمة، لقد شاءَ اللهُ أن يَمُنَّ علَيَّ بالصحةِ والعافية، وأن تَنتهي مِحنتُنا. هيّا يا رحمة! اغتَسِلي في النَّبع، إنّ الله يُكافئك على صبرِك ووفائكِ وسيُعيدُ إليكِ شَبابَكِ.
اغتَسَلت رحمةُ في مياه النَّبعِ، وخَلَعَت ثوبَ الفقرِ والحاجةِ، وألبَسَها اللهُ ثوبَ الشبابِ والعافية.
كانت مياهُ النَّبع تتدفّق وتَسقي الحقولَ المُحترقةَ المليئة بالرمادِ، فتعيد إليها الخُضرةَ والبَهجةَ. وراحت المياهُ الطاهرةُ المقدّسةُ تَجري في الأرض فترَوي قبورَ أولادِ أيوبَ الذين ماتوا قبلَ سنينَ طويلة.
وانبَعَث أبناءُ أيّوبَ ليعودوا إلى أبوَيهم.. عادَ كلُّ شيءٍ كما كان عليه قبل سَبعِ سنوات يومَ كانَ أيّوبُ صَحيحاً مُعافى.
لقد أرادَ الله امتحانَ أيوبَ لِيَعبدَهُ عبادةَ الصبرِ، كما عَبَدهُ عبادةَ الشُّكر من قبل..
اللهُ سبحانه أرادَ للناسِ أن يَعرفوا أنْ المَرَضَ والصحةَ مِن اللهِ، وأن الفقرَ والثَّراءَ من الله..
الله أرادَ للناس أن لا يَطرُدوا الفقيرَ لفقرِه، ولا الضعيفَ لمرِضه أو شيخوختِه.
وهكذا أصبَحَت قصّةُ سيدِنا أيوبَ آيةً للناس وعِبرة، ودليلاً على أن الله هو القادرُ على كلّ شيء، هو الذي سَلَبَ أيوبَ نِعمَتَهُ وكلَّ ما يَملكهُ حتّى سلامَته، وهو الذي أعادَ إليه جميعَ أُسرتهِ بل وباركَ فيها، فنَمَت حُقولُه وتَكاثرت ماشيتُه وعادَ إليه شبابُه وصحتُه ورزقَه الله بَنيَن وحَفَدَة، وآمنَ الناسُ باللهِ الواحدِ الأحد وآمَنوا بنبوّةِ سيدِنا أيوبَ ورسالِته.
بسم الله الرحمن الرحيم
وأيّوبَ إذْ نادى ربَّه أنّي مَسّنيَ الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الرّاحمين * فآستَجَبْنا له فكَشَفْنا ما بهِ مِن ضُرٍّ وآتيناه أهلَه ومِثْلَهم مَعَهم رحمةً مِن عندنا وذكرى للعابِدين (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
وآذكُرْ عبدَنا أيّوبَ إذْ نادى ربَّه أنّي مَسّنيَ الشيطانُ بنُصْبٍ وعذاب * اركُضْ برِجْلِكَ هذا مُغتَسَلٌ باردٌ وشراب * ووَهَبْنا له أهلَه ومِثْلَهم مَعَهم رحمةً مِنّا وذكرى لأُولي الألباب * وخُذْ بيدِك ضِغْثاً فآضرِبْ به ولا تَحْنثْ إنّا وَجَدْناه صابراً نِعْمَ العبدُ إنّه أوّاب (2).
منقول للا فادة
----
-
قبلَ أكثرَ من 2500 سنة عاشَ في أرضِ حُوران رجلٌ من ذرّية سيّدنا يوسف عليه السّلام، إنّه سيّدُنا أيّوب عليه السّلام: كانَ رجلاً طيّباً تَزوّج من فتاةٍ اسمُها « رَحْمَة » هي أيضاً من ذرّية يوسف عليه السّلام.
عاشَ الزوجانِ سعيدَين بحياتِهما، وكانا مؤمنينِ بالله ورُسُلهِ.
اللهُ سبحانه أنعَمَ على أيوبَ ورَزَقَهُ أولاداً وبَناتٍ، وكانت عنده أرضٌ واسعةٌ مليئةٌ بالحُقولِ والمَراعي، وتَرعى فيها قِطْعانُ المَاشيةِ مِن بَقَرٍ وأغنامٍ وماعز.
كانَ أيوبُ يَعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشرِكُ به أحَداً، فهو على دِينِ آبائه إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوب.
وذاتَ يومٍ هَبَطت الملائكةُ وبَشَّرته بالنبوّةِ، وسَجَدَ أيّوبُ للهِ شُكراً.
كلُّ الناسِ كانوا يُحبّونَ أيّوب.. الرجلَ الطيِّبَ الذي أكرمَهُ اللهُ بالنبوّة.
كانَ منزلُ أيوبَ كبيراً، فَلَديهِ أولادٌ كثيرونَ وبَنات، وفيه الحُبوبُ والطَّعام.
سيّدُنا أيوبُ كانَ يُحبُّ الفقراءَ.. يُطعِمُهم، ويَكسُوهُم. وكانَ لا يأكُلُ طَعاماً إلاّ وعلى مائدتهِ يَتيمٌ أو بائسٌ أو فقير.
الناسُ الفقراءُ كانوا يَقصدونَ منزلَ أيوبَ مِن مناطقَ بعيدة، وكانوا يَعودونَ إلى ديارهِم وهم يَحمِلونَ مَعهم الطعامَ والكِساءَ والفَرَحَ لأطفالِهم وأهلِهم.
الناسُ أحَبّوا نبيَّ اللهِ أيّوبَ، الذي لا يَرُدُّ أحداً ولا يَمُنُّ على أحد.
منزل أيوب
ذاتَ يومٍ جاءَ شيخٌ طاعِنٌ في السِّنّ.. جاءَ إلى منزلِ أيّوب. الشيخُ حَيّى أيوبَ قائلاً:
ـ السلامُ على أيوّبَ نَبيِّ الله.
ـ وعليكَ السلامُ ورحمةُ الله... تَفضَّل أنتَ في بيتِكَ وأهلِك.
ـ زادَ اللهُ في كرامةِ أيّوب.. أنا كما تَرى شيخٌ عاجز وعندي أبناءٌ جِياعٌ، ونبيُّ اللهِ يُطعِمُ الجِياعَ ويَكْسُو العُراة.
تألّمَ سيدُنا أيوبُ وقال:
ـ أُظنُّكَ غريباً أيّها الشيخ ؟
ـ لا يا نبيَّ الله، أنا مِن بلادِ حُوران.
تألّمَ سيدُنا أيوب أكثَر وقال:
ـ ما أقساني.. بَيتي مليءٌ بالطعامِ وأنتَ جائع؟!
الشيخ قال:
ـ إنّه ذَنبي أنا.. لم أعرِضْ حاجَتي عليك مِن قَبل.
قال أيوب:
ـ الحقُّ علَيّ أنا لأنّني لم أبحَثْ عنكَ بنفسي.
التَفتَ أيوبُ إلى أبنائه وقال:
ـ ألا تَخافونَ من غَضَبِ الله ؟! كيف تَرضَونَ لأنفسِكُم أن تَبيتوا شِباعاً وفي حُورانَ أطفالٌ وشُيوخٌ جِياع ؟!
الأبناءُ اعتَذروا وقالوا:
ـ لقد بَحَثنا كثيراً ولكنّنا لم نَجد أحداً في حُورانَ مُحتاجاً..
قال الأب بألم:
ـ وهذا الشيخ ؟ ؟
ـ عَفْواً يا أبانا.
ـ هَيّا احمِلوا من الطعامِ والكِساءِ وأوصِلُوه إلى منزلهِ.
ـ سَمْعاً وطاعةً للنبيّ.
هكذا كانَ يعيشُ سيدُنا أيوبُ.. في ذلك البيتِ المَبْنيّ من الصُّخور. هو يَتفقَّدُ العَمَلَ في الحُقولِ والمَزارع، وزَوجتُه تَطحَنُ ومعها بناتُها وجَواريها يُساعدونها.
وأبناءُ أيوبَ يَحمِلونَ الطعامَ والكِساءَ ويَبحثونَ عن الفقراءِ والمُحتاجينَ في حُوران، والخَدَمُ يَعملونَ في المَزارعِ ويَحمِلونَ الثِّمارَ والحُبوبَ إلى المَخازن.
والرعاةُ يَسُوقونَ المَواشي إلى المَراعي، وكان أيوبُ يَشكرُ الله الذي بارَكَ له في أموالهِ وأولادهِ.
الناسُ كانوا يُحِبّونَ أيوبَ النبيّ.. لأنّه مؤمنٌ باللهِ يَشكرُ اللهَ على نِعَمِه.. ويُساعدُ الناسَ جميعاً.. لم تُبطِرْهُ الأموال، من مَزارعَ وحُقولٍ وماشيةٍ وأولادٍ كثيرين.. كان يعمل.
كانَ يُمكنهُ أن يعيشَ في راحة، ولكنّه كانَ يَعملُ بيدهِ؛ وزَوجتُه رحمةٌ هي الأخرى كانت تَعمل.. كانا يعتقدانِ أنّ كلَّ ما عندَهما هو من الله سبحانه؛ لهذا كانا يَذكُرانهِ دائماً ويَشكُرانهِ كثيراً.
الناسُ أحبُّوه واعتَقدوا أنّه رجلٌ مُبارَك، وأنه نبيٌّ من أنبياءِ الله. لهذا آمَنوا باللهِ سبحانه الذي يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاء ويَقْدِر.
الشيطان
الشيطانُ حسَدَ سيدنَا أيوّب، أيوبُ يريدُ الهدايةَ والخيرَ للناس، والشيطانُ يريدُ لهم الشُّرورَ والضَّلال، لهذا راحَ يُوَسوِسُ للناسِ، يقولُ لهم: إنّ أيوبَ يَعبدُ اللهَ لأنّهُ يخافُ على أموالهِ وحُقولهِ أن يأخُذَها منه... لو كانَ أيوبُ فقيراً ما عَبدَ الله ولا سَجَدَ له...
الناسُ أصغَوا إلى وَساوِسِ الشيطانِ وصَدَّقوا.. تَغَيرّت نَظرتُهم إلى أيوبَ: إنّه يَعبدُ اللهَ لأنّ الله أنعَمَ عليهِ ورَزَقهُ وهو يَخافُ مِن أن يَسلبَهُ نِعمتَه... إنّ أيوبَ لو حَلَّت به مصيبةٌ لَتَركَ العبادة... لو أحرَقَت الصَّواعِقُ حُقولَه لَجَزِع!! لَو سَلَبهُ الله نِعمتَهُ لَما سَجَد!
هكذا راحَ الشيطانُ يُوَسوِسُ في نفوسِ أهلِ حُوران...
الامتحان
الله سبحانه أرادَ أن يُظهِرَ للناسِ كذبَ الشيطان.. أرادَ أن يُظهرَ للناسِ صدقَ أيّوبَ وصبرَهُ وإيمانَه.. لهذا بَدَأت المِحنة.. سوف تَحلُّ بأيوّبَ المَصائبُ الواحدةُ بعد الأخرى... لِنرَى مدى إيمانِ سيدِنا أيوّبَ وصبرِه.
كلُّ شيءٍ كانَ يَمضي هادئاً.. أيّوبُ كانَ ساجِداً لله يَشكرُهُ على نعمهِ وآلائه.. وأبناؤه كانوا يَحمِلونَ أجْرِبَةَ الطَّعام ويَبحَثونَ عن فقيرٍ أو مِسكينٍ أو رجُلٍ مُسافرٍ انقَطَعت به السُّبل..
الخَدَمُ والعَبيدُ كانوا يَعملونَ في الأرض، ويَحملونَ حُبوبَ القمحِ إلى المَخازن.
« رحمةٌ » زوجةُ سيدِنا أيوبَ كانت تَطحَنُ في الرَّحى..
والبعضُ كانوا يَحملونَ حُزَمَ الحَطَب وآخرون يَجلِبونَ الماءَ من النَّبع.
والرُّعاةُ كانوا يَسُوقونَ قِطعانَ الماشِيةِ إلى المُروج.. كلُّ شيءٍ كانَ يَمضي هادئاً وجميلاً...
وفي تلك اللحظاتِ.. برَزَ الشيطان يُعَربِدُ ويُدَمِّر. يُريدُ أن يُدمّرَ إيمانَ أيّوب.
فجأةً جاءَ أحدُ الرُّعاة مَبهورَ الأنفاس... هَتَف:
ـ اينَ نبيُّ الله أيّوب ؟!!
ـ ماذا حَصَل ؟! تَكَلّمْ.
ـ لقد قَتَلوهُم.. قَتَلوا جميعَ رِفاقي.. الرُّعاةَ والفَلاّحين... جَميعهم قُتلوا.. جَرَت دِماؤهُم فوقَ الأرض...
ـ ماذا ؟!
ـ هاجَمَنا الأشرار.. واخَتَطفوا قِطْعانَ الماشيةِ، أخَذوا أبقارَنا وخِرافَنا وذَهَبوا!
الجبلُ لا يَهتزُّ أمامَ العاصفةِ.. سيدُنا أيوبُ تألّم ولكنّه تَحمّل، قالَ بثبات:
ـ إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون...
إنّ اللهَ سبحانَهُ شاءَ أن يَمتَحِن أيوبَ.. يَمتحنَ إيمانَهُ بِرَبِّ العالَمين.. أيَصبِرُ أم يَكفُر ؟
في اليومِ التالي حَدَثَ أمرٌ عجيب.. تَجَمّعت سُحُبٌ سَوداء في السماء.. وانفَجَرت الصَّواعِقُ ودَوَّت الرُّعود... وجاء أحدُ الفلاّحين.. كانت ثيابهُ مُحترقةً وجهُه أسوَد من الحرُوقِ والدُّخان.. هتَفَ سيدُنا أيوب:
ـ ماذا حَصَل ؟!
ـ النار! يا نبيَّ اللهِ النار!!
ـ أهِي مُصيبةٌ أخرى ؟!
ـ نعم يا نبيَّ الله، لقد احترَقَ كلُّ شيء.. لقد نَزَل البلاء.. الصَّواعقُ أحرَقَت الحُقولَ والمَزارع.. أصبَحَت أرضُنا رَماداً يا نبيَّ الله.. كل رفِاقي ماتُوا احتَرَقوا.
قالت رحمة:
ـ إن مصائبَ العالَم كلَّها ستَنزِلُ علينا!
ـ اصبِري يا رحمة.. هذه مشيئةُ الله.
ـ مشيئةُ الله!!
أجل.. لقد حانَ وقتُ الامتحان.. ما مِن نبيٍ إلاّ وامتَحَنَ اللهُ قلبَه.
نظرَ أيوبَ إلى السماء وقال بِضَراعة:
ـ إلهي، امنَحْني الصَّبر.
في ذلك اليوم أمَرَ سيدُنا أيّوبُ الخَدَمَ والعبيدَ بمغادرةِ مَنزلهِ.. قالَ لهم بإشفاق:
ـ عُودوا إلى أهليكم أو ابحَثوا عن مكانٍ آخر، إنّ الله سبحانه يَمتَحِنُني.
قالَ أحد الخَدَم:
ـ سنَعملُ على إصلاحِ الحقولِ والمَزارع... إنّني لا أُحبّ أن أُفارِقَكَ، نحن نؤمنُ بكَ ونُحبّكَ يا نبيَّ الله.
ـ يا أبنائي أعرِفُ ذلك.. ولكنّ البلاءَ سيَتَضاعَفُ، وأنا لا أُريدُ أن أرى أن تَحتَرقوا أمامي.. اذهَبوا يا أبنائي.. دَعُوني أواجِهُ الامتحانَ لوحدي.
يا صبرَ أيوب!
لم تَنْتَهِ مِحنةُ أيوبَ عند هذا الحدِّ، لم تَحترَقْ حُقولُه وتَتحوَّلْ إلى رمادٍ، لم تَفْنَ ماشيتُه جميعاً فقط. إنّه يُواجهُ محنةً أخرى.. لقد ماتَ جميعُ أولادِه وبناته، لم يَبقَ معه سوى رحمة زوجتهِ الطيّبة.. بعد ذلك أيضاً ابتُليَ أيّوب في جسده.. أصابه المرض، وتقرّح جِلُده، فزاد ابتعاد الناس عنه خوفاً من العَدوى.
أصبَحَ منزلهُ خالياً، ليس فيه وَلَدٌ واحدٌ من أولاده.. وهو شيخٌ مُسِنٌّ وزوجتُهُ المسكينةُ تبكي..
هذه مشيئةُ الله وعلَينا أن نُسَلِّمَ لأمره..
الشيطانُ لم يَترُكْه لحالهِ، جاء إليه ليوسوسَ له:
ـ يا لها مِن مصيبةٍ كُبرى.. سَبَعةُ بنينَ وثلاثُ بناتٍ في لحظةٍ واحدةٍ ماتوا.. كانوا أملاً.. بماذا يُسلِّي الإنسانُ نفسَه ؟.!
نَظَر أيوبُ إلى السماءِ الزاخرةِ بالنجوم:
ـ يا الله... أعرِفُ أنكَ مصدرٌ للخيرِ، كلِّ الخير..
إلهي وربّي، امنَحْني الصَّبر.
الشيطانُ فَرَّ بعيداً.. لا شيءَ يُرهِبُ الشيطانَ أكثرَ مِن ذِكرِ الله.. لا شيءَ يُخيفُ الشيطانَ أكثرَ مِن اسمِ الله.
فإذا قال الإنسان: أعوذُ باللهِ من الشيطان.. فإنّ الله يَحفَظُه ويَحميهِ ويَجعَلُ قَلبَهُ طاهراً.. اللهُ سبحانه يُحِبُّ عِبادَهُ ويُريدُ لهم الخير..
من أجلِ هذا كان سيّدنُا أيوبُ لا يزدادُ على البلاءِ إلاّ صبراً. يَعرفُ أن الله هو مصدرُ الخيرِ ويُريد له الخير.. أمّا الشرُّ فمِن الشيطانِ الذي يُريدُ للإنسانِ أن يَكفُر.
أهل حُوران
الشيطانُ لم يَكُفَّ عن وَسوَسَتهِ، إنّه يريدُ أن يَقهَرَ أيّوبَ.
ذهبَ الشيطانُ إلى أهل القريةِ وقال لهم: إنّ الله قد غَضِبَ على أيوب.. فصَبَّ عليه البلاء.. لقد أذنَبَ أيّوبُ ذنباً كبيراً فحَلَّت بهِ اللعنة.. إنّ في بقائه خَطَراً عليكم.. ربّما تَشمَلُكُم اللعنة.. مِن الأفضلِ أن تُخرِجوه مِن قريَتِكم.
أهالي حُورانَ أصْغَوا لوسوسةِ الشيطانِ، وجاءوا إلى منزلِ أيّوب.. لم يكن في منزلهِ أحدٌ سوى زوجتهِ رحمة..
قالَ رجلٌ منهم:
ـ نحنُ نَظُنُّ أن اللعنةَ قد حَلَّت بك، ونخافُ أن تَعُمَّ القريةَ كلَّها.. فاخرُجْ من قَريتِنا واذهْبْ بعيداً عنّا، نحن لا نُريدكَ أن تَبقى بيننا.
غَضِبَت رحمةٌ من هذا الكلام، قالت:
ـ نحنُ نعيشُ في مَنزلنا ولا يَحِقُّ لكم أن تُؤذوا نبيَّ الله..
أهالي القرية قالوا بِوَقاحَة:
ـ إذا لم تَخْرُجا فسنُخرِجُكما بالقوّة.. لقد حَلّت بكما اللعنةُ وستعمُّ القريةَ كلَّها بسببكما..
قال لهم أيوبُ بإشفاق!
ـ يا أبنائي، ما هذا الذي تَقولونه ؟! إنّ ما حَدَث لي هو امتحانٌ إلهي... الله سبحانه قد امتَحَنَ الأنبياء قبلي.. خافُوا الله يا أهلَ حُوران، ولا تُؤذوا نبيّكم.
قال رجلٌ أحمَق:
ـ ولكنّك عَصَيتَ الله، وهو الذي غَضِبَ عليك.
قالت رحمة:
ـ أنتم تَظلِمونَ نبيَّكم.. هل نَسِيتُم إحسانَهُ إليكُم ؟! هل نَسِيتُم يا أهلَ حُورانَ الكِساءَ والطعامَ الذي كانَ يأتيكم من منزلِ أيوب ؟!
نظر أيوبُ إلى السماء وقالَ بحزن:
ـ يا إلهي، إذا كانت هذه مَشيئتُك فسَأخرُجُ من القرية، وأسكُنُ في الصحراء.. يا الله سامِحْ هؤلاءِ على جَهلِهم.. لو كانوا يَعرفونَ الحقَّ ما فَعَلوا ذلك بنبيّهم.
في العَراء
هكذا وَصَلت مِحنةُ سيّدِنا أيوبَ؛ أن جاء أهلُ حُورانَ وأخرَجوه من منزلهِ.
كانوا يَظنّون أنّ اللعنَة قد حَلّت به، فخافوا أن تَشمَلَهُم أيضاً..
نَسُوا كل إحسانِ أيوبَ وطيبتهِ ورحمتهِ بالفقراءِ والمساكين!
لقد سَوَّلَ الشيطانُ لهم ذلك فاتَّبعوه وتَركوا أيّوبَ يُعاني آلامَ الوحدةِ والضعفِ.. لم يَبقَ معه سوى « رحمة » زوجتهِ الوفيّة.. وحدَها كانت تُؤمن بأن أيوبَ في محنةٍ تُشبهِ محنةَ الأنبياءِ، وعليها أن تَقِفَ إلى جانبهِ ولا تَترُكَه وحيداً.
كان على رحمة أن تَعملَ في بيوتِ حُوران، تَخدِمُ وتَكْدَحُ في المَنازِل لقاءَ لُقمةِ خُبزٍ لها ولزوجها..
وفي كلِّ مرّةٍ كانت تعودُ إلى أيوّبَ وهي قَلِقَةٌ عليه، فالصحراءُ لا تَخلو من الذئابِ والضِّباع، وأيّوب لا يَقْوى على النهوضِ والدفاعِ عن نفسهِ.
كان أيوبُ صابراً يَتحمّلُ الألمَ بإيمانه العميقِ بالله، وكانت رحمةٌ تَستمدُّ صبرَها من صبرِ زوجها وتَحَمُّلِه.. وفي تلك المدّةِ صَنَعَت رحمة لزوجِها عَريشاً يُظِلُّه من الشمسِ ويَحميهِ من المطرِ. وهكذا تمرّ الأيام وفي كلِّ يومٍ كانت مِحنةُ أيوبَ تزداد.
وكانت رحمة تَشْقى في منازلِ حُوران.
الجوع
ذات يومٍ بَحَثت رحمة عمّن يَستَخدِمُها في العمل، ولكنْ لا أحَد! كلُّ أهلِ حُورانَ أغلَقوا الأبوابَ في وجهِها.. ومع ذلك فرحمةٌ لم تَمُدَّ يدها إلى أحدٍ ولم تَسْتَجدِ أحداً.
كان أيّوبُ يَنتظرُ عودةَ زوجتهِ؛ لقد تأخَّرت هذه المرّة.
زوجتُه بَحثَت عن عملٍ في منازلِ حُورانَ، فوَجَدت الأبوابَ دونها مُوصَدَة... لهذا اضطُرّت أن تَقصَّ ضَفيرتَيها لِتبيعَهُما مُقابِلَ رَغيفَينِ من الخُبز.
عادَت رحمةٌ إلى زوجِها وقَدَّمت له رغيفَ الخبز. عندما رأى أيوبُ ما فعَلَت زوجتُه بنفسِها شَعَرَ بالغضب.
حَلَف أيوبُ أن يَضرِبَها إذا قَوِيَ على ذلك، لم يَأكُل رغيفَه، كانَ غاضباً مِن تَصَرُّفِ رحمة، ما كانَ يَنبغي لها أن تَفعلَ ذلك.
بَكَت رحمةٌ كثيراً، لم تَعُد تَتَحمّلُ هذا العذابَ والألم.. لم تَعُد تَتَحمّلُ الحياةَ القاسيةَ وشَماتَةَ الناس.. ومع ذلك فكلّما كانَ الشيطانُ يُوسوسُ في قلبِها أن تَترُكَ زوجَها، كانت تَستعَيذُ باللهِ، لهذا ظَلَّت وفيّةً لزوجِها تَرعاهُ وتَسهَرْ على راحتِه.
إنّ سيدَنا أيوبَ يُحبُّ زوجَته كثيراً؛ لأنها امرأةٌ مؤمنةٌ صابرةٌ راضيةٌ بقضاء الله.
من أجلِ ذلك قالت له زوجته:
ـ أنتَ نبيُّ اللهِ.. أُدْعُ اللهَ لِيُنقِذَكَ من هذه المِحنة!
قال أيوب:
ـ لقد عِشتُ سنواتٍ طويلةً في رَفاهٍ من العَيش، بَنونَ وأموالٌ ومَزارعُ وحُقول.. أفَلا أصِبرُ على حياةِ الفقرِ بقدرِ ذلك.
قالت رحمةٌ وهي تبكي:
ـ أكثَرُ ما يُحزِنُني شَماتَةُ الأعداء..
ـ اللهُ سبحانه يُراقِبُ حالَنا وهو أرحمُ الراحمين.
ـ ليسَ لدينا ما نأكُلُ هذا اليوم.. سأذهَبُ إلى أهلِ حُورانَ فلعلّ أحدَهُم يتذكّرُ إحسانَنا إليه.. مَن يدري فلعلّ قلبَ أحدِهم يَخفِقُ لِحُبِّ الخير.
ربيع الحياة
ذَهَبت رحمة إلى القريةِ لتحصَلَ على كِسرةِ خبزٍ لزوجها.. وظَلّ أيوبُ وحيداً تحتَ أشعّةِ الشمس..
كانَ يَعبدُ اللهَ ويَشكُرهُ. لم يَجْزَعْ أبداً ولم يَفقِدْ إيمانَه بالله.. إنّ الله مصدرُ الخيرِ والرحمةِ والبركة، وهو وحده القادرُ على كل شيء.
في الأثناءِ مَرّ رجُلانِ من أهل حُورانَ. تَوقَّفا عند أيّوبَ ونظرا إليه. قال أحدهما:
ـ ماذا أذنَبتَ لكي يَفَعلَ اللهُ بك هذا ؟!
وقال الآخر:
ـ إنكَ فَعَلت شيئاً كبيراً تَستُرهُ عنّا، فعاقَبَك اللهُ عليه.
تألمّ سيدُنا أيّوبُ. إنّ البعض يَتّهمُه بما هو بريء منه. قال أيوبُ بحزن:
ـ وعِزّةِ ربّي إنّه لَيَعلَمُ أنّي ما أكَلتُ طعاماً إلاّ ويتيمٌ أو ضعيفٌ يأكُلُ معي.
ونظر إلى السماء وقال:
إلهي أنا راضٍ بقضائك... بِيدِكَ الخيرُ إنّك على كلِّ شيء قدير، إلهي بيدِك شفائي.. بيدكَ مَرَضي.. أنتَ وحدَك تَستطيعُ أن تُعيدَ إليّ سلامتي.. ويا الهي! إنّي مَسَّنيَ الشيطانُ بِنُصْبٍ وعَذاب.
تَعجَّبَ الرجلانِ من صبرِ أيّوب، وانصَرَفا عنه في طريقهِما وهما يفكّرانِ في كلماتِ أيّوب!
فجأةً أضاءَ المكانُ بنورٍ شفّافٍ جميل، وامتلأ الفضاءُ برائحةٍ طيبّة، ورأى أيّوبُ مَلاكاً يَهبِطُ من السماءِ ويقول له:
السلامُ على أيّوبَ أعزّ عبادِ الله.. نِعْمَ العبدَ أنتَ يا أيّوب، إنّ الله يُقرئك السلامَ ويقول: لقد أُجِيبَت دَعوتُك، وأنّ الله يُعطيكَ أجرَ الصابرين. إضرِبْ برِجْلكَ الأرضَ يا أيّوب! واغسِلْ في النَّبعِ المقدّس.
غابَ المَلاك، وشَعَرَ أيوبُ بالنور يُضيء في قلبهِ، فضَرَب بقدمهِ الأرض، فجأة انبثَقَ نبعٌ باردٌ عَذبُ المَذاق.. ارتَوى أيّوبُ من الماءِ الطاهر، وتَدفَّقت دماءُ العافية في وجهه، وغادَره الضعفُ تماماً.
عاودته العافية و القوّة، فاذا هو إنسان جديد أقوى ممّا كان عليه قبل أيامَ المحنةِ والمرض.
خَلَعَ أيوبُ ثَوَب المرضِ والضَّعف وارتَدى ثياباً بيضاءَ ناصعةً مُضَمَّخةً برائحةِ الفِردوس.
وشيئاً فشيئاً ازدَهَرتِ الأرضُ مِن حولِ أيوبَ وأعْشَبَت.
عادَت رحمة تَبحَثُ عن زوجِها، فلم تَجِدْه، ووَجَدَت رجلاً يَفيضُ وجهُه نعمةً وصِحّةً وعافية. فقالت له باستعطاف:
ـ ألم تَرَ أيوب.. أيوبَ نبيَّ الله ؟!
ـ أنا أيوبُ يا رحمة!
ـ أنت ؟! إن زوجي رجلٌ عجوزٌ وضعيف.. ومريض أيضاً!
ـ المَرَضُ من الله، والصِّحَّةُ والسلامةُ منه أيضاً.. وهو سبحانه بيده كلُّ شيء.
ـ أنتَ أيوبُ حقاً ؟!
ـ نعم يا رحمة، لقد شاءَ اللهُ أن يَمُنَّ علَيَّ بالصحةِ والعافية، وأن تَنتهي مِحنتُنا. هيّا يا رحمة! اغتَسِلي في النَّبع، إنّ الله يُكافئك على صبرِك ووفائكِ وسيُعيدُ إليكِ شَبابَكِ.
اغتَسَلت رحمةُ في مياه النَّبعِ، وخَلَعَت ثوبَ الفقرِ والحاجةِ، وألبَسَها اللهُ ثوبَ الشبابِ والعافية.
كانت مياهُ النَّبع تتدفّق وتَسقي الحقولَ المُحترقةَ المليئة بالرمادِ، فتعيد إليها الخُضرةَ والبَهجةَ. وراحت المياهُ الطاهرةُ المقدّسةُ تَجري في الأرض فترَوي قبورَ أولادِ أيوبَ الذين ماتوا قبلَ سنينَ طويلة.
وانبَعَث أبناءُ أيّوبَ ليعودوا إلى أبوَيهم.. عادَ كلُّ شيءٍ كما كان عليه قبل سَبعِ سنوات يومَ كانَ أيّوبُ صَحيحاً مُعافى.
لقد أرادَ الله امتحانَ أيوبَ لِيَعبدَهُ عبادةَ الصبرِ، كما عَبَدهُ عبادةَ الشُّكر من قبل..
اللهُ سبحانه أرادَ للناسِ أن يَعرفوا أنْ المَرَضَ والصحةَ مِن اللهِ، وأن الفقرَ والثَّراءَ من الله..
الله أرادَ للناس أن لا يَطرُدوا الفقيرَ لفقرِه، ولا الضعيفَ لمرِضه أو شيخوختِه.
وهكذا أصبَحَت قصّةُ سيدِنا أيوبَ آيةً للناس وعِبرة، ودليلاً على أن الله هو القادرُ على كلّ شيء، هو الذي سَلَبَ أيوبَ نِعمَتَهُ وكلَّ ما يَملكهُ حتّى سلامَته، وهو الذي أعادَ إليه جميعَ أُسرتهِ بل وباركَ فيها، فنَمَت حُقولُه وتَكاثرت ماشيتُه وعادَ إليه شبابُه وصحتُه ورزقَه الله بَنيَن وحَفَدَة، وآمنَ الناسُ باللهِ الواحدِ الأحد وآمَنوا بنبوّةِ سيدِنا أيوبَ ورسالِته.
بسم الله الرحمن الرحيم
وأيّوبَ إذْ نادى ربَّه أنّي مَسّنيَ الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الرّاحمين * فآستَجَبْنا له فكَشَفْنا ما بهِ مِن ضُرٍّ وآتيناه أهلَه ومِثْلَهم مَعَهم رحمةً مِن عندنا وذكرى للعابِدين (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
وآذكُرْ عبدَنا أيّوبَ إذْ نادى ربَّه أنّي مَسّنيَ الشيطانُ بنُصْبٍ وعذاب * اركُضْ برِجْلِكَ هذا مُغتَسَلٌ باردٌ وشراب * ووَهَبْنا له أهلَه ومِثْلَهم مَعَهم رحمةً مِنّا وذكرى لأُولي الألباب * وخُذْ بيدِك ضِغْثاً فآضرِبْ به ولا تَحْنثْ إنّا وَجَدْناه صابراً نِعْمَ العبدُ إنّه أوّاب (2).
منقول للا فادة