السؤال :
أشكل علي كلام منسوب إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله تعالى ،
وذلك أن واحدا مِن أهل البدع قال لي : إن الشيخ رحمه الله أتى بكلام
مفهومه أنه يقول إن عمار بن ياسر كافر ، لذا أريد منكم بارك الله فيكم أن
تبينوا لي هذ الكلام ، وإليكم الكلام المنسوب :
قال محمد بن عبد الوهاب النجدي - في كتاب "مؤلفات محمد بن عبد الوهاب" في
الجزء السادس/ 272-273
وهي الرسالة الثامنة والثلاثون التي توجد في "الدرر السنية" ج 8 ص 49 -51::
" واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله أو صار مع
المشركين على الموحدين ولو لم يشرك أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام
رسوله وكلام أهل العلم كلهم ،
وأنا أذكر لكم آية من كتاب أجمع أهل العلم على تفسيرها ، وأنها في المسلمين
، وأن مَن فعل ذلك فهو كافر في أي زمان كان ، قال تعالى : ( من كفر بالله
من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) إلى آخر الآية وفيها : (
ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة )
فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة لمّا فتنهم أهل مكة ، وذكروا
أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه مع بغضه لذلك وعداوة أهله لكن خوفا
منهم أنه كافر بعد إيمانه ، فكيف بالموحد في زماننا إذا تكلم في البصرة أو
الإحساء أو مكة أو غير ذلك خوفا منهم لكن قبل الإكراه ، وإذا كان هذا يكفر
فكيف بمن صار معهم ، وسكن معهم ، وصار مِن جملتهم ، فكيف مَن أعانهم على
شركهم وزينه لهم ، فكيف بمن أمر بقتل الموحدين وحثهم على لزوم دينهم ،
فأنتم وفقكم الله تأملوا هذه الآية ، وتأملوا مَن نزلت فيه ، وتأملوا إجماع
العلماء على تفسيرها ، وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله نطلبهم دائما
الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم في مسألة التكفير والقتال فلا يجيبوننا إلا
بالشكوى عند الشيوخ وأمثالهم ، والله أسأل أن يوفقكم لدينه ويرزقكم الثبات
عليه ".
الجواب :
الحمد لله
أولا :
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يعتقد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عظيم المنزلة ورفيع القدر والشرف والمكانة ، يلتزم في ذلك ما جاء في القرآن
الكريم وفي السنة الصحيحة من الثناء عليهم وتعظيم قدرهم .
وكان يرفض طريقة الرافضة الطاعنين فيهم ، وينص على عذر من أخطأ من الصحابة ، وأن
خطأه خطأ اجتهاد يؤجر عليه ، ويرد على كل من اتهم صحابيا أو تكلم فيه بالذم والنقص
.
يقول رحمه الله "مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (القسم الثالث/ مختصر سيرة
الرسول صلى الله عليه وسلم/ص 322) :
" وأجمع أهل السنة على السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، ولا يقال فيهم
إلا الحسنى ، فمن تكلم في معاوية أو غيره من الصحابة فقد خرج عن الإجماع "
قال أيضا "مؤلفات الشيخ" ( رسالة في الرد على الرافضة/ ج12،ص14) :
" وقوله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وغير ذلك من الآيات
والأحاديث الناصة على أفضلية الصحابة واستقامتهم على الدين ؛ ومن اعتقد ما يخالف
كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر . ما أشنع مذهب قوم يعتقدون
ارتداد من اختاره الله لصحبة رسوله ونصرة دينه ! "
انتهى .
ثانيا :
النص المنقول عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يريد به التفريق بين :
الخوف المجرد - الذي لا يستند إلى سبب مباشر ، فلا يعتبر هذا عذرا يرخص الوقوع في
الكفر ؛ لأن الباعث عليه هو الطمع في المال والجاه والعافية –
وبين التهديد الفعلي الحقيقي بالضرب والإيذاء والسجن والتعذيب ، ولما كان الكفر
أعظم المحرمات ، لم يجز للمسلم الوقوع فيه إلا بسبب مباشر وتهديد حقيقي ، أما الحرص
على الدنيا والخوف من نقص شيء منها دون أن يسبق ذلك تهديد أو فعل حقيقي ، فليس هذا
بعذر يرخص الكفر بالله العظيم .
وقد ساق الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله للاستدلال على هذه المسألة قوله تعالى
:
( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )
النحل/106
فالاستثناء في الآية هو للمكره ، وليس للخائف المتوهم ، أو الخائف الطامع ، وسبب
نزول الآية يوضح ذلك ، فقد وقع على آل ياسر من العذاب الشيء العظيم ، حتى قتلت سمية
وياسر ، وأوذي عمار بأشد أنواع الضرب والتعذيب ، ثم رخص له النبي صلى الله عليه
وسلم في التلفظ بالكفر ، ولم يكن عمار متوهما ولا طامعا في الاحتفاظ بجاهه ومنصبه
وماله ، بل كان يرد عن نفسه أشد أنواع العذاب الذي تعرض له .
يوضح ذلك تكملة الآيات السابقة ، فقد قال تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ
اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) النحل/107
فانظر كيف نفى الله العذر عن كل من أخلد إلى الدنيا ، وآثر شهواتها ، وركن إلى
حظوظها .
ومثله قوله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى
أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ
مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ )
المائدة/51-52
ففي هذه الآية نفي العذر عن أولئك الذين يوالون الكفار على المسلمين ، ويعتذرون
بالخوف من الدوائر والمصائب ونكاية الكفار بهم إذا ظهروا عليهم .
لذلك يقول الشيخ رحمه الله – كما في "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، نواقض
الإسلام، ص 387، والقسم الخامس، الشخصية، رقم 32، ص 212) والدرر السنية (2/362) :
" ولا فرق في جميع هذه النواقض – نواقض الإسلام العشرة - بين الهازل والجاد والخائف
، إلا المكره ، وكلها من أعظم ما يكون خطرا ، ومن أكثر ما يكون وقوعا ، فينبغي
للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه "
ويقول في "كشف الشبهات" :
" لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل ; فإن اختل شيء من هذا
لم يكن الرجل مسلما . فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند ، كفرعون وإبليس
وأمثالهما .
وهذا يغلط فيه كثير من الناس ، يقولون : هذا حق . ونحن نفهم هذا ، ونشهد أنه الحق ،
ولكنا لا نقدر أن نفعله ، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم ، أو غير ذلك من
الأعذار .
ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار ،
كما قال تعالى : ( اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وغير ذلك من
الآيات ،
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة ، تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس ، ترى مَن
يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد .
وترى من يعمل به ظاهرا لا باطنا ، فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه .
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله :
أولاهما : قوله تعالى : ( لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )
فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كفروا
بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب ، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به
خوفا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها .
والآية الثانية : قوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ
إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ )
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنا بالإيمان .
وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه ، سواء فعله خوفا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله
أو عشيرته أو ماله ، أو فعله على وجه المزح ، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره .
فالآية تدل على هذا من جهتين :
الأولى : قوله : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ) فلم يستثن الله تعالى إلا المكره ،
ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل ، وأما عقيدة القلب فلا يكره
عليها أحد .
والثانية : قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
عَلَى الآخِرَةِ )
فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة
الكفر ، وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين "
انتهى بتصرف يسير .
وانظر أيضا : الرسالة رقم/33 من رسائله
الشخصية (ص/21-218) "مؤلفات الشيخ" .
والذي يقرره الشيخ محمد بن عبد الوهاب هنا هو مما اتفق عليه أهل العلم ، فلم يعد
أحد من أهل العلم الخوف المتوهم النابع من طمع وحرص ورغبة في إيثار الدنيا رخصة في
الوقوع بالكفر ، بل إن الإمام أحمد نفى أن يكون التهديد المباشر رخصة حتى يقع
المهدد به ، كما أن الأحناف والمالكية نفوا أن يكون الضرب اليسير أو السجن اليسير
عذرا في الوقوع في الكفر ، على خلاف وتفصيل عند الفقهاء ، يمكن مراجعته في
"الموسوعة الفقهية" (6/105) .
ثالثا :
بعد ذلك يمكن أن نفهم النص المنقول في السؤال ، في ضوء فهم أصل المسألة في موانع
التكفير ، فالشيخ رحمه الله يثبت أن عمار بن ياسر كان مكرها ، وأنه معذور بسبب
العذاب الحقيقي الذي وقع عليه ، ولكنه ينكر أن يكون الخوف المجرد المتوهم عذرا كعذر
عمار بن ياسر ، وتأمل معي مرة أخرى النص تجده على هذا الفهم ، وليس على الفهم
السقيم الذي ذكره لك ذلك الرجل .
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب – كما في "الدرر السنية" (10/9) - :
" قال تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ)
سورة النحل/106 إلى آخر الآية
وفيها : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ
) سورة الأنفال آية/23
فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة لمَّا فتنهم أهل مكة ; وذكروا : أن
الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه ، مع بغضه لذلك وعداوة أهله ، لكن خوفا منهم ،
أنه كافر بعد إيمانه . – تأمل كيف ذكر قيد الخوف وليس الإكراه -
فكيف بالموحد في زماننا ، إذا تكلم في البصرة أو الإحساء أو مكة أو غير ذلك خوفا
منهم ، لكن قبل الإكراه ! – وهذا واضح أن مراده التفريق بين الخوف والإكراه وليس
تكفير عمار بن ياسر رضي الله عنه -
وإذا كان هذا يكفر فكيف بمن صار معهم وسكن معهم وصار من جملتهم ؟!
فكيف بمن أعانهم على شركهم ، وزينه لهم ؟
فكيف بمن أمر بقتل الموحدين ، وحثهم على لزوم دينهم ؟ "
انتهى .
بل إذا افترضنا جدلا أن تفريق الشيخ بين الإكراه الحقيقي ، المعتبر في الشرع ، وبين
الخوف المتوهم ، إذا افترضنا أنه لم يوافقه عليه غيره من أهل العلم ، وأن الخوف
المتوهم ، هو مثل الإكراه ، فإن الذي يعنينا هنا أن الشيخ رحمه الله يجعل عمار بن
ياسر من أهل الإكراه الحقيقي ، وهم أهل العذر الذي نزلت فيهم الآية ؛ ولذلك يقول
رحمه الله لمخالفه :
" وأنت - والعياذ بالله - تنْزل درجة درجة، أول مرة في الشك، وبلد الشرك وموالاتهم،
والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم ... من غير إكراه ، لكن خوفا
ومداراة ؛
وغاب عنك قوله تعالى، في عمار بن ياسر وأشباهه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} 2 إلى
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}
3، فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، بشرط طمأنينة قلبه . والإكراه
لا يكون على العقيدة ، بل على القول والفعل .. "
الرسائل الشخصية ، رقم (33) ص (215) ، الدرر السنية
(13/61) .
وهذا واضح جدا ، ويكفينا هنا في تبرئة الشيخ رحمه الله من هذا الفهم السقيم لكلامه
، لا سيما إذا ضممنا إليه ما سبق من موقفه العام من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم
.
والله أعلم .
أشكل علي كلام منسوب إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله تعالى ،
وذلك أن واحدا مِن أهل البدع قال لي : إن الشيخ رحمه الله أتى بكلام
مفهومه أنه يقول إن عمار بن ياسر كافر ، لذا أريد منكم بارك الله فيكم أن
تبينوا لي هذ الكلام ، وإليكم الكلام المنسوب :
قال محمد بن عبد الوهاب النجدي - في كتاب "مؤلفات محمد بن عبد الوهاب" في
الجزء السادس/ 272-273
وهي الرسالة الثامنة والثلاثون التي توجد في "الدرر السنية" ج 8 ص 49 -51::
" واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله أو صار مع
المشركين على الموحدين ولو لم يشرك أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام
رسوله وكلام أهل العلم كلهم ،
وأنا أذكر لكم آية من كتاب أجمع أهل العلم على تفسيرها ، وأنها في المسلمين
، وأن مَن فعل ذلك فهو كافر في أي زمان كان ، قال تعالى : ( من كفر بالله
من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) إلى آخر الآية وفيها : (
ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة )
فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة لمّا فتنهم أهل مكة ، وذكروا
أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه مع بغضه لذلك وعداوة أهله لكن خوفا
منهم أنه كافر بعد إيمانه ، فكيف بالموحد في زماننا إذا تكلم في البصرة أو
الإحساء أو مكة أو غير ذلك خوفا منهم لكن قبل الإكراه ، وإذا كان هذا يكفر
فكيف بمن صار معهم ، وسكن معهم ، وصار مِن جملتهم ، فكيف مَن أعانهم على
شركهم وزينه لهم ، فكيف بمن أمر بقتل الموحدين وحثهم على لزوم دينهم ،
فأنتم وفقكم الله تأملوا هذه الآية ، وتأملوا مَن نزلت فيه ، وتأملوا إجماع
العلماء على تفسيرها ، وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله نطلبهم دائما
الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم في مسألة التكفير والقتال فلا يجيبوننا إلا
بالشكوى عند الشيوخ وأمثالهم ، والله أسأل أن يوفقكم لدينه ويرزقكم الثبات
عليه ".
الجواب :
الحمد لله
أولا :
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يعتقد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم عظيم المنزلة ورفيع القدر والشرف والمكانة ، يلتزم في ذلك ما جاء في القرآن
الكريم وفي السنة الصحيحة من الثناء عليهم وتعظيم قدرهم .
وكان يرفض طريقة الرافضة الطاعنين فيهم ، وينص على عذر من أخطأ من الصحابة ، وأن
خطأه خطأ اجتهاد يؤجر عليه ، ويرد على كل من اتهم صحابيا أو تكلم فيه بالذم والنقص
.
يقول رحمه الله "مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (القسم الثالث/ مختصر سيرة
الرسول صلى الله عليه وسلم/ص 322) :
" وأجمع أهل السنة على السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، ولا يقال فيهم
إلا الحسنى ، فمن تكلم في معاوية أو غيره من الصحابة فقد خرج عن الإجماع "
قال أيضا "مؤلفات الشيخ" ( رسالة في الرد على الرافضة/ ج12،ص14) :
" وقوله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وغير ذلك من الآيات
والأحاديث الناصة على أفضلية الصحابة واستقامتهم على الدين ؛ ومن اعتقد ما يخالف
كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر . ما أشنع مذهب قوم يعتقدون
ارتداد من اختاره الله لصحبة رسوله ونصرة دينه ! "
انتهى .
ثانيا :
النص المنقول عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يريد به التفريق بين :
الخوف المجرد - الذي لا يستند إلى سبب مباشر ، فلا يعتبر هذا عذرا يرخص الوقوع في
الكفر ؛ لأن الباعث عليه هو الطمع في المال والجاه والعافية –
وبين التهديد الفعلي الحقيقي بالضرب والإيذاء والسجن والتعذيب ، ولما كان الكفر
أعظم المحرمات ، لم يجز للمسلم الوقوع فيه إلا بسبب مباشر وتهديد حقيقي ، أما الحرص
على الدنيا والخوف من نقص شيء منها دون أن يسبق ذلك تهديد أو فعل حقيقي ، فليس هذا
بعذر يرخص الكفر بالله العظيم .
وقد ساق الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله للاستدلال على هذه المسألة قوله تعالى
:
( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )
النحل/106
فالاستثناء في الآية هو للمكره ، وليس للخائف المتوهم ، أو الخائف الطامع ، وسبب
نزول الآية يوضح ذلك ، فقد وقع على آل ياسر من العذاب الشيء العظيم ، حتى قتلت سمية
وياسر ، وأوذي عمار بأشد أنواع الضرب والتعذيب ، ثم رخص له النبي صلى الله عليه
وسلم في التلفظ بالكفر ، ولم يكن عمار متوهما ولا طامعا في الاحتفاظ بجاهه ومنصبه
وماله ، بل كان يرد عن نفسه أشد أنواع العذاب الذي تعرض له .
يوضح ذلك تكملة الآيات السابقة ، فقد قال تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ
اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) النحل/107
فانظر كيف نفى الله العذر عن كل من أخلد إلى الدنيا ، وآثر شهواتها ، وركن إلى
حظوظها .
ومثله قوله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى
أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ
مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ )
المائدة/51-52
ففي هذه الآية نفي العذر عن أولئك الذين يوالون الكفار على المسلمين ، ويعتذرون
بالخوف من الدوائر والمصائب ونكاية الكفار بهم إذا ظهروا عليهم .
لذلك يقول الشيخ رحمه الله – كما في "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، نواقض
الإسلام، ص 387، والقسم الخامس، الشخصية، رقم 32، ص 212) والدرر السنية (2/362) :
" ولا فرق في جميع هذه النواقض – نواقض الإسلام العشرة - بين الهازل والجاد والخائف
، إلا المكره ، وكلها من أعظم ما يكون خطرا ، ومن أكثر ما يكون وقوعا ، فينبغي
للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه "
ويقول في "كشف الشبهات" :
" لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل ; فإن اختل شيء من هذا
لم يكن الرجل مسلما . فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند ، كفرعون وإبليس
وأمثالهما .
وهذا يغلط فيه كثير من الناس ، يقولون : هذا حق . ونحن نفهم هذا ، ونشهد أنه الحق ،
ولكنا لا نقدر أن نفعله ، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم ، أو غير ذلك من
الأعذار .
ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار ،
كما قال تعالى : ( اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وغير ذلك من
الآيات ،
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة ، تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس ، ترى مَن
يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد .
وترى من يعمل به ظاهرا لا باطنا ، فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه .
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله :
أولاهما : قوله تعالى : ( لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )
فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كفروا
بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب ، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به
خوفا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها .
والآية الثانية : قوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ
إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ )
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنا بالإيمان .
وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه ، سواء فعله خوفا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله
أو عشيرته أو ماله ، أو فعله على وجه المزح ، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره .
فالآية تدل على هذا من جهتين :
الأولى : قوله : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ) فلم يستثن الله تعالى إلا المكره ،
ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل ، وأما عقيدة القلب فلا يكره
عليها أحد .
والثانية : قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
عَلَى الآخِرَةِ )
فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة
الكفر ، وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين "
انتهى بتصرف يسير .
وانظر أيضا : الرسالة رقم/33 من رسائله
الشخصية (ص/21-218) "مؤلفات الشيخ" .
والذي يقرره الشيخ محمد بن عبد الوهاب هنا هو مما اتفق عليه أهل العلم ، فلم يعد
أحد من أهل العلم الخوف المتوهم النابع من طمع وحرص ورغبة في إيثار الدنيا رخصة في
الوقوع بالكفر ، بل إن الإمام أحمد نفى أن يكون التهديد المباشر رخصة حتى يقع
المهدد به ، كما أن الأحناف والمالكية نفوا أن يكون الضرب اليسير أو السجن اليسير
عذرا في الوقوع في الكفر ، على خلاف وتفصيل عند الفقهاء ، يمكن مراجعته في
"الموسوعة الفقهية" (6/105) .
ثالثا :
بعد ذلك يمكن أن نفهم النص المنقول في السؤال ، في ضوء فهم أصل المسألة في موانع
التكفير ، فالشيخ رحمه الله يثبت أن عمار بن ياسر كان مكرها ، وأنه معذور بسبب
العذاب الحقيقي الذي وقع عليه ، ولكنه ينكر أن يكون الخوف المجرد المتوهم عذرا كعذر
عمار بن ياسر ، وتأمل معي مرة أخرى النص تجده على هذا الفهم ، وليس على الفهم
السقيم الذي ذكره لك ذلك الرجل .
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب – كما في "الدرر السنية" (10/9) - :
" قال تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ)
سورة النحل/106 إلى آخر الآية
وفيها : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ
) سورة الأنفال آية/23
فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة لمَّا فتنهم أهل مكة ; وذكروا : أن
الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه ، مع بغضه لذلك وعداوة أهله ، لكن خوفا منهم ،
أنه كافر بعد إيمانه . – تأمل كيف ذكر قيد الخوف وليس الإكراه -
فكيف بالموحد في زماننا ، إذا تكلم في البصرة أو الإحساء أو مكة أو غير ذلك خوفا
منهم ، لكن قبل الإكراه ! – وهذا واضح أن مراده التفريق بين الخوف والإكراه وليس
تكفير عمار بن ياسر رضي الله عنه -
وإذا كان هذا يكفر فكيف بمن صار معهم وسكن معهم وصار من جملتهم ؟!
فكيف بمن أعانهم على شركهم ، وزينه لهم ؟
فكيف بمن أمر بقتل الموحدين ، وحثهم على لزوم دينهم ؟ "
انتهى .
بل إذا افترضنا جدلا أن تفريق الشيخ بين الإكراه الحقيقي ، المعتبر في الشرع ، وبين
الخوف المتوهم ، إذا افترضنا أنه لم يوافقه عليه غيره من أهل العلم ، وأن الخوف
المتوهم ، هو مثل الإكراه ، فإن الذي يعنينا هنا أن الشيخ رحمه الله يجعل عمار بن
ياسر من أهل الإكراه الحقيقي ، وهم أهل العذر الذي نزلت فيهم الآية ؛ ولذلك يقول
رحمه الله لمخالفه :
" وأنت - والعياذ بالله - تنْزل درجة درجة، أول مرة في الشك، وبلد الشرك وموالاتهم،
والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم ... من غير إكراه ، لكن خوفا
ومداراة ؛
وغاب عنك قوله تعالى، في عمار بن ياسر وأشباهه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} 2 إلى
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}
3، فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، بشرط طمأنينة قلبه . والإكراه
لا يكون على العقيدة ، بل على القول والفعل .. "
الرسائل الشخصية ، رقم (33) ص (215) ، الدرر السنية
(13/61) .
وهذا واضح جدا ، ويكفينا هنا في تبرئة الشيخ رحمه الله من هذا الفهم السقيم لكلامه
، لا سيما إذا ضممنا إليه ما سبق من موقفه العام من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم
.
والله أعلم .