بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقصص
القرآن الكريم غايته ، فهو لم يأت لتزجية فراغ ، أو لمشاكلة العرب في
جاهليتهم ، وكذا اليهود والنصارى ، فيما كان لكل من قصص وأحداث غابره ترنوا
إليها الأسماع ، صحيحها وسقيمها ،حقها وباطلها ، بل كانت استجابة الحق
سبحانه لرغبة الفئة المؤمنة بأن يكون لها قصصها الحق المتميز عن سواه ، ذلك
أن مصدر روايته هو الله الخالق سبحانه ، فهو قصص يدحض الأباطيل ، ويزيل
الغموض عما تتحدث به يهود عن الغابرين ، ثم إن هذا القصص القرآني كان لسوق
العظة والعبرة للفئة المؤمنة التي كانت آنذاك لا تزال مستضعفة ، حتى لا
تستعجل النصر ، ولا تنطلق في ثباتها أمام قوى الشر إلا ثقة بأن (والله غالب
على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون) وتلك سنة الله في خلقه ، تتربى عليها الفئة المؤمنة من خلال "أحسن
القصص" كما وصفه الله عز وجل ، ثم إن هذا القصص جاء تلبية لمواقف كانت
تعترض الأمة المسلمة ، أي تفريجًا عن تلك النفوس المؤمنة حين يشتد الخناق ،
عليها فتنفسح تلك النفوس ، وتنطلق في آفاق من العلو والسمو ، على كل ما
تواجه من عنت وتضييق ، فهو تسليةٌ وعزاءٌ وتثقيف واعٍ وحكيم ، وتصحيح
لمعارف ، وتاريخ يخرج الأمة عن أن تكون معارفها عن السابقين رهينة بأباطيل
اليهود والنصارى ، إذن فالقصص القرآني كان تخفيفًا وتوثيقًا لمعارف
المسلمين ، حيث كان مصدره حق (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
تنزيل حكيم حميد ) ، وهكذا يجيء القصص في القرآن مادة تربية للنفوس ،
وتقرير لحقائق وسنن في الوجود (لعلهم يتذكرون) .
ولهذا القصص مشاهد سوف نحاول تتبعها من خلال قصة قارون في سورة القصص . مع ظلال القرآن ومشاهد من قصة قارون
ولقد اقتضت حكمة الحق سبحانه أن ينزل الوحي بسورة القصص (والمسلمون
قلة مستضعفة والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان" لتطمئن تلك
النفوس المسلمة إلى حقيقة قيمتها بالموازين الصحيحة التي وضعها الحق سبحانه
، فلا قوة مهما استطالت سوى قوة الإيمان ، (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )
(آل عمران:139) فإن كان سلطان الحكم و جبروته ، وقوة الملك وسطوته، إن كان
كل ذلك قد انتهى إلى بوار وخسارة نتيجة بغيه وظلمه ، فقد واجهت قيمة المال
مهما تعددت أسباب الحصول عليه نفس المصير ، عندما يكون أداة للفساد والبغي
والعدوان وهكذا يكون مصير كل باغ في الأرض مهما كان مصدر بغيه ، بالحكم
وسلطانه ، أو المال وعدوانه ، فلتطمئن تلك النفوس إلى علوها وتمكينها ،
ولكن على مهل وبعد طول تجربة ، ولتستشرف مكانتها فيما بعد التمكين لتدرك ،
(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا
العاقبة للمتقين) (سورة القصص : 83) ذلك أن (الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد
الجوانب والتبعات ، يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة
والتذوق في واقع الحياة العملي) إلى جانب توفيق الله للقلب والضمير ، حتى
إذا صعدت الجماعة المؤمنة بعد طول عناء ، استطاعت أن تقيم ميزان الحق
والعدل ، وتنشر الخير والبر في ثبات ويقين ، دون أن تتقاذفها الأهواء أو
المطامع الشخصية أو تستميلها قوى من هنا وهناك ، تريد أن تنتزع منها النصر
أو تحول بينها وبين القيادة والريادة ، ومن ثم كان على كل حركة إسلامية
تحملت عبء مواجهة الطغيان السلطوي أو المادي ، أن تعد نفسها لذلك ، حتى لا
تكون نهباً لمن يدير الدائرة عليها وكان عليها ، أن توطن نفسها في ظل عولمة
لا تريد إلا إحكام القبضة على المسلمين والحيلولة دون وصول نماذج مسلمة
إلى مكان القيادة والريادة ، حتى لا تأخذ طريقها في (إخراج العباد من عبادة
العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة) .
وقارون في قصتنا يمثل قوة المال وسطوته ، حين يستأثر به صاحبه ، ويظن
كل الظن أنه مالكه ومجتبيه ومحصله وجامعه ، مهما كانت أسباب جبايته
وتحصيله ، وأنه إنما أوتيه بقدرته ، فهو المتصرف فيه وحده ، وما دام قد
جمعه بسبب منه ومقدرة ، فلم لا ينفقه أيضاً بحرية منه وإنطلاق ؟!
ولقد بلغ مال قارون مبلغًا عظيمًا ، يعجز الرجال عن حمل مفاتيح كنوزه .
يقول الحق تبارك وتعالى (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من
الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) . وبالطبع فإننا نلاحظ هنا
الارتباط بين قصة موسى مع فرعون ذي الطول والحول ، ومصيره الأليم ،
والتعقيب عليها بقصة قارون ذي المال و الجاه زيادة في تطمين النفوس المؤمنة
إلى ضعف هذه القوى حين تبغي الفساد في الأرض .وهنا يبرز السؤال كيف يكون
البغي بالمال ؟
لم تتعرض السورة الكريمة لصور البغي ، ولم تذكر
فيم كان البغي لتدعه مجهولاً لا يشمل شتى الصور ، فربما كان البغي (بظلمه
قومه وغصبهم أرضهم وأشياءهم ، كما صنع طغاة المال في كثير من الأحيان ،
وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال ، حق الفقراء في أموال
الأغنياء ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ، ومن حولهم محاويج إلى شيء
منه ، فتفسد القلوب وتفسد الحياة) وربما بغي عليهم بانتقاص حقهم ، أو
تكليفهم ما لا يطيقون من الأعمال لقاء أجر زهيد لا يستطيعون معه مواجهة
تكاليف الحياة . ولعل تجهيل صور البغي بالمال هنا يفتح الطريق أمام كل صور
البغي في العصر الحديث وحتى قيام الساعة ، سواء من قبل الأغنياء أمثال
قارون ، أو من قبل الحكومات التي تستنزف طاقات وثروات الضعفاء ليزدادوا
فقرًا وضعفًا على ضعف. وبالطبع فإن المجتمعات مهما اختلفت مشاربها ، لا
تخلو من صوت عاقل يريد وضع الأمور في نصابها ، بتوضيح الحقائق وردها إلى
مكانها ، وهم هنا الدعاة المصلحون في كل زمان ومكان ، والذين لا يكادون
يسكتون عن منكر يرونه ، في قوة يقين وإدراك واع لسنة الله في الحياة ( إذ
قال له قومه : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ) (القصص : 76) .
والفرح هنا إنما هو ( فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال والاحتفال
بالثراء والتعلق بالكنوز والابتهاج بالملك والاستحواذ ) وهو ( فرح البطر
الذي يُنسي المنعم بالمال ، ويُنسي نعمته وما يجب لها من الحمد والشكران )
وهو ( فرح الذي يستخفه المال ، فيشغل به قلبه ، ويطير له لبه ، فيتطاول على
العباد ) .فهو نهي عن فرح مدمر لصاحبه ، مهلك له ، لا لأن الله لا يحب مثل
هذا الفرح . ثم ينطلق هؤلاء الدعاة لرسم المنهج الإلهي القويم في هذا
المال ، فهم إذًا يقدمون له بديلاً عن سياسته المهلكة في المال ، وهو بديل (
يعلق قلب صاحب المال بالآخرة ، ولا يحرمه أن يأخذه ، بقسط من المتعة في
هذه الحياة ، بل يحضه على هذا ، ويكلفه إياه تكليفًا ، كي لا يتزهد الزهد
الذي يهمل الحياة ويضعفها ) والمتاع هنا الذي يكلف به صاحب المال بأخذ قسطه
منه هو ( لون من ألوان الشكر للنعم ، وتقبل لعطاياه ، وانتفاع بها ، فهو
طاعة من الطاعات يجزى عليها بالحسنى ) ومن ثم تتحقق ( التعادل والتناسق في
حياة الإنسان الطبيعية المتعادلة التي لا حرمان فيها ولا إهدار لمقومات
الحياة الفطرية البسيطة ) ثم ترجع الفضل لله سبحانه الرازق المنعم حين تطلب
إليه " وأحسن كما أحسن الله إليك " لتخفف بتلك المرجعية للمال من ثقل
الإنفاق ( فكما كان هناك تقبل لإحسان الله فينبغي أن يكون هناك تقبل لإحسان
التصرف فيه إلى الحق ) .
ولا يقف دور الوعاة من الدعاة عند مجرد
إبانة المنهج الرباني فيما يرون ، بل يزيدون الأمر توضيحًا حتى لا يكون في
توجيهاتهم أي لبس أو غموض .. وهم هنا يحذرون قارون من الفساد في الأرض بهذا
المال " ولا تبغِ الفساد في الأرض " ، وهو نهي عن الإفساد بالمال في الأرض
بشتى صوره وأشكاله مهما كانت ، وهنا أيضًا لا يتعرض النهي لأشكال الفساد
لتظل منفتحة على كل صوره في كل عصر وفي كل مكان.فلعله ( الفساد بالبغي
والظلم ، والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة ، والفساد
بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء ، والفساد بإنفاق المال في غير
وجهه على كل حال ) أو لعله الإفساد ببخس الناس حقوقهم ومنعهم كامل أجورهم ،
أو استغلال حاجاتهم واضطرارهم قبول أدنى ما يتفضل به صاحب المال عليهم ،
ولا سيما إذا كانوا هم الأداة التي تستثمر هذا المال فتنميه بجهدها وعرقها
وكدها .. وهو فساد بالحيلولة دون التواصل والتكافل ، حين يتوقف العامل عن
عمله بسبب من الأسباب ، فلا يجد ما يعينه على أعباء الحياة لقاء ما بذل أو
قدم ، فتفسد النفوس ، ويكون التحاسد والتباغض ..وهي صور منهي عنها للإفساد
بالمال ، مهما كان أقلها وأدناها ، وأصحاب الثروات أمثال قارون في كل عصر
لا يرضون بغير هذا الفساد ، ففي تصورهم الضيق الذي لا يعدو الحياة الدنيا ،
أن التوسعة على الآخرين ، حتى وإن كانت في الأجور ، تقلل نسب هوامش
الأرباح التي اعتادوها ، فيستأثرون بكل ربح ، ضاربين عرض الحائظ بحاجات من
حولهم ، ممن يجدِّون في إنماء تلك الأموال .. وعلى العكس من ذلك ، يكون
المسلم الثري أو الغني ، فهو يرى أنه مستخلف في ماله ، يضعه حيث يكون الخير
والبر ، وحين يكون رفع الحرج عن المحتاج ، فهو يسلك في ماله مسلكًا رشيدًا
، من سخاء النفس ، وطيب الخاطر ، واضعًا نصب عينيه دعاء الملائكة بظهر
الغيب ( اللهم أعط منفقًا خلفًا .. اللهم أعط ممسكًا تلفًا ) ، ذاكرً قول
القائل : ومن لم يسخُ بما يسخو الإله فإنه
أحمقٌ بالحرص ينتحر
فإمساك المال عن وجهه فساد ينأى المسلم بنفسه
عنه " إن الله لا يحب المفسدين ، " وتتراءى هنا صور أولئك الذين تاجروا
بأموالهم مع الله ، فكانوا نعم عباد الله الصالحين ، أعطوا المال الصالح
فجعلوه حيث أراد الله له أن يكون ، دون من أو أذىً ، بل سعوا إلى انفاقه
حيث سعيًا ، ويجدون له ثقلاً وعبئًا ، وهي : صور مشرقة لمن يضعون أموالهم
في أياديهم ويخرجونها من قلوبهم ، فلا تسفل بهم نحو الدونية والاستئثار
بالنعمة وإنكار حقها ..
وعودة إلى سياق القصة ، نجد أن قارون لم
يأبه لقول الدعاة المخلصين من قومه ، ولم يسمع لقولهم بل كان رده ( جملة
واحدة تحمل شتى معاني الفساد والإفساد : " قال إنما أوتيته على علم عندي
" وتأتي كلمة علم على سبيل التنكير لتعميم كل سبب مؤد إلى تحصيل المال ) أو
هو ( العلم الخاص الذي حازه قارون واستطاع به أن يحوز المال ) وهذه دائمًا
قولة كل مغرور يظن ( أن علمه وكده هما سبب غناه ، ومن ثم فهو غير مسؤول
عما ينفق وما يمسك ، غير محاسب على ما يفسد بالمال ويصلح ، غير حاسب لله
حسابًا ، ولا ناظرًا إلى غضبه ورضاه ) .
وقد يتواجد في مجتمعاتنا
الإسلامية أشخاص من ذوي الأموال والثراء ، ينحرفون عن الفطرة بعض الانحراف ،
فلا يتصورون أن يكونوا وعمالهم أو موظفيهم شركاء فيما تفضل الله به عليهم
من الأرباح ، ويحسبون أن قوانين العمال التي تنظم حقوق العمال في شيء من
التيسير وبعض الشراكة في الأموال ، إنما هي من قبيل التعدي على ملكيتهم
الخاصة ، فهم لا يدركون أن هذا الإنحراف عن معاني الخير والبر قد يتسع
ليجعل منهم قارون آخر ، أو قوارين آخرين إن صح الجمع .
" ومنهج
الإسلام في الملكية الفردية أنه يعترف بها ، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل
في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ، ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو
يلغيه ، ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجًا معينًا للتصرف في هذه الملكية ،
كما يفرض منهجًا لتحصيلها وتنميتها ، وهو منهج متوازن متعادل ، لا يحرم
الفرد ثمرة جهده ، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ، ولا في إمساكه
حتى التقتير ، ويؤمن للجماعة حقوقها في هذا المال ، ورقابتها على طرق
تحصيله وطرق تنميته وطرق إنفاقه والاستمتاع به ، وهو منهج خاص ، واضح
الملامح ، متميز السمات ) ، لا يمكن لمسلم أن ينفلت منه او ينحرف عنه إلى
غيره ، وإلا كان مصيره الخسران المبين . فحين لم يعمل قارون بهذا المنهج
وأعرض عنه ولم يسمع لنصح قومه في (استكبار لئيم وبطر ذميم ) جاءه ( التهديد
قبل تمام الآية ردًا على قولته الفاجرة المغرورة ) " أو لم يعلم أن الله
قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعًا " ؟!(ولا يسأل عن
ذنوبهم المجرمون ) فهو ( وأمثاله من المجرمين أهون على الله من أن يسألهم
عن ذنوبهم ، فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد ) .
وإلى هنا ينتهي
المشهد الأول من مشاهد القصة. يأتي المشهد الثاني ليبين لتلك الفئة المؤمنة
بمكة كيف كان موقف ضعاف النفوس من قارون وزينته وكيف أنها كانت تقوِّم
الأشياء بموازين ظاهرية واهنة ، وإلى أي حدٍ يكون أثر البغي بالمال بعدم
إنفاقه على المحاويج ، وكيف أن الإمساك عن النفقة موجب للتحاسد وتهاوي
النفوس الضعيفة أمام بريق المال ، تلك النفوس التي تستشعر الحرمان ولا تجد
من يرده عنها من الأغنياء دون مذلة أو إراقة ماء وجه .
يقول تعالى : "
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا : يا ليت لنا مثل
ما أوتي قارون إنه لذو حظٍ عظيم " وهنا ( تبدو معايير طلبة الدنيا ومدى
وهنها وهشاشتها ؛ إنهم لم يروا غير ظاهر ما خرج به قارون ، فتمنوا مثله ،
بصرف النظر عن الطرق الموصلة إليه حلالاً كانت أم حرامًا؟ ثم جعلوا حظه
عظيمًا لما ملك من متاع الدنيا ، فكانت قيمة المال عندهم هي الميزان الذي
يوزن به الرجال .. وهؤلاء دائمًا يقفون أمام فتنة الحياة الدنيا _ وقفة
المأخوذ المبهور المتهافت ) ومن ثم ( تتهافت نفوسهم وتتهاوى كما يتهافت
الذباب على الحلوى ، ويتهاوى ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من
متاع ) ولو فتشنا عما شكل هذه النفسية المريضة لوجدنا أن المجتمع ، حين
يفقد كثيرًا من معاني الكرم والسخاء والحب والعطاء والبر والإحسان والخير
والإيثار ، حين لا يتواصى المجتمع بالتكامل والتعاون ولا يبر بعضه بعضاً
عندئذ تكثر تلك الفئة لمعاناتها الحرمان فتقع فريسة لإهمال الأغنياء وشحهم ،
إذ كيف تعالج القلوب الضعيفة ، وكيف تؤلف على الصمود أمام إغراء المال
وفتنته ؟!
وعلى جانب آخر وفي نفس المشهد ، تظهر الفئة المؤمنة - ولو
كانت قلة - تستعلي على كل قيمة عدا قيمة الإيمان ففي ( نفوسهم قيم أخرى غير
قيم المال والزينة والمتاع ، وهم أعلى نفسًا وأكبر قلبًا من أن يتهاووا
ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعاً ، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من
التخاذل أمام جاه العباد ، وهؤلاء هم ( الذين أوتوا العلم الصحيح الذي
يقوِّمون به الحياة حق التقويم ) ، ولذلك ولأنهم دائمًا الوعاة من الدعاة
في كل عصر ، تنطلق كلماتهم الواثقة لتصحح المفاهيم الخاطئة ، وترد الأمور
إلى مسلماتها الصائبة " ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ، ولا
يلقاها إلا الصابرون " نعم ... ثواب الله خير مما خرج به قارون وما عند
الله خير مما يمتلك قارون .
ثوابت يجب أن يعيها المسلم حق الوعي مهما
كانت المغريات ، فإذا وعاها عصمه الله من الانزلاق والسقوط أمام كل الفتن ،
وإذا أحسها على نحو ما تكلم به المخلصون ، فإن ذلك يصبح درجة رفيعةً من
الشعور ، لا يلقاها إلا (الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم ، الصابرون
على فتنة الحياة وإغرائها ، الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون )
ونتيجة هذا الصبر يرفعهم الله إلى ( درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض
والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان) ، وعندما يشيع فساد البغاة من
الأغنياء ، وتنقلب المعايير التي تقوم بها الحياة ، ويكثر المتخاذلون أمام
سطوة القشور من متاع الدنيا ، ويؤدي الدعاة واجب النصح والإعذار إلى
المجتمع ببيان الصحيح من السقيم في المبادىء والقيم ، وحين يتآمر بغي
السلطان وبغي ذوي المال على تدمير النماذج المثلى ، التي يحاول الدعاة
تقديمها لمجتمعاتهم كبدائل فضلى عن البغي ، عند ذلك تتدخل القدرة الإلهية (
لتضع حدًا للفتنة ، وترحم الناس الضعاف من إغرائها ، وتحطم الغرور والكبر
تحطيمًا ) وهذا المعاني ( التي كانت الجماعة المسلمة الصغيرة المستضعفة في
مكة في حاجة إلى الإطمئنان إليها ، وكان المشركون المستكبرون في حاجة إلى
تدبرها ، وهي المعاني المتجددة الدائمة حيثما كانت دعوة إلى الهدى ، وحيثما
كان طغيان يقف في وجه الهدى ) وهي معانٍ أولى بالتجدد والتدبر والإطمئنان
إليها كلما كثر الخبث ، وأصبح المسلمون الوعاة قبض سياسات التضييق والتجفيف
لمنابع الدعوة في كل عصر ، يكون الموقف الفاصل " فخسفنا به وبداره الأرض ،
فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان من المنتصرين " أنظر
إلىهذا المصير ومصير صاحب الجنتين " وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما
أنفق فيها وهي خاويةٌ على عروشها " وانظر إليه وإلى مصير أصحاب الجنة "
فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ، فأصبحت كالصريم " وهو مصير واحد لكل
أولئك الذين يبخلون بما أوتوا ، ويكون سلوكهم فيما استخلفهم الله فيه من
وفرة الرزق .. البغي بشتى صوره وأنواعه ، والتي تصب في هدف واحد ، ألا وهو
الحيلولة دون أن يكون لأحد في هذا المال نصيبًا ، ففي لمحة خاطفة " فخسفنا
به وبداره الأرض " يكون مصير قارون وأمثاله ( وابتلعته الأرض وابتلعت داره
وهو في بطنها التي علا فيها واستطال فوقها جزاءً وفاقًا ، وذهب ضعيفًا
عاجزاً ، لا ينصره أحد ولا ينتصر بجاه أو مال ) ومع هذا المصير الأليم
لقارون ( هوت الفئة الطاغية التي جرفت بعض الناس ، وردتهم الضربة القاضية
إلى الله وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال ) وهذا البعض ممن يأخذون
بظاهر الأشياء ، وقشورها ، ولأنهم ضعاف النفوس ، وربما عانوا الحرمان ،
كانوا في حاجة إلى مثل هذه الضربة ليعودوا إلى نفوسهم فيثقوا بما لم يكونوا
واثقين به ، أو كانوا على حرف من القناعة به ( وأصبح الذين تمنوا مكانه
بالأمس يقولون ويكأنَّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ، لولا أن
مَنَّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لايفلح الكافرون) هنا فقط تبدَّت الحقائق
والمسلمات العقيدية ، لذلك كانت العودة بالفضل إلى الله المنعم ، فالثراء
أو الفقر ليسا دليلاً على الرضا والغضب ، إنما هما رزق للعبد لحكمة أخرى
يعلمها الحق سبحانه .
( هنا يسدل الستار على هذا المشهد ، وقد
انتصرت القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة ، وقد رجحت قيمة الإيمان في
كفة الميزان ) ليأتي بعد ذلك التعقيب الحق بالحقيقة التي لا تدركها إلا
الفئة المؤمنة ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض
ولا فسادًا والعاقبة للمتقين ) ، فالدار الآخرة بكل ما فيها من نعيم مقيم
لأولئك الذين ( لا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ، ولا
يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها ، إنما
يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله ومنهجه في الحياة ، وهم ( لا
يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابًا ، ولا يبغون
فيها كذلك فسادًا ) .
( فهي في تعاملاتها فيما استخلفت فيه تحسن
التصرف فيه إلى الخلق ، وهي تضع موازين الرحمة والبر والرفق قبل موازين
الربح والخسارة ، وتضع معاني التيسير والتفريج والإنظار والعفو بينها وبين
نار الدنيا والآخرة ، وتجعلها واقعًا عمليًا وسلوكيًا يضفي على المجتمع حلة
من المحبة والإخاء ، وهي عندما تفعل ذلك ، إنما تحمي نفسها ومؤسساتها
بصنائع معروفها من السقطات الاقتصادية ، والتقلبات المالية التي تشيع في
المجتمعات الربوبية ، فصاحب المعروف لا يقع ، فإذا وقع أصاب متكئًا ..
ولذلك فإن هذه الفئة المؤمنة حين تتواجد في مجتمعاتها بهذا الفهم ، حاملةً
تلك المعاني السامية ، تتلاشى الأنانية ، ويشيع الإيثار ، ولا يكون هناك
تحاسد أو تباغض .. ولا تتواجد النفوس التي تحمل على الأغنياء ، ومن ثم ينشأ
مجتمعًا متحابًا ومتكافلاً ، يسوده البر والخير ، ويعمه التآلف والتواد ،
وهو غاية الإسلام .
المصدر اسام ويب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مع ظلال القرآن...ومشاهد من قصة هارون
لقصص
القرآن الكريم غايته ، فهو لم يأت لتزجية فراغ ، أو لمشاكلة العرب في
جاهليتهم ، وكذا اليهود والنصارى ، فيما كان لكل من قصص وأحداث غابره ترنوا
إليها الأسماع ، صحيحها وسقيمها ،حقها وباطلها ، بل كانت استجابة الحق
سبحانه لرغبة الفئة المؤمنة بأن يكون لها قصصها الحق المتميز عن سواه ، ذلك
أن مصدر روايته هو الله الخالق سبحانه ، فهو قصص يدحض الأباطيل ، ويزيل
الغموض عما تتحدث به يهود عن الغابرين ، ثم إن هذا القصص القرآني كان لسوق
العظة والعبرة للفئة المؤمنة التي كانت آنذاك لا تزال مستضعفة ، حتى لا
تستعجل النصر ، ولا تنطلق في ثباتها أمام قوى الشر إلا ثقة بأن (والله غالب
على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون) وتلك سنة الله في خلقه ، تتربى عليها الفئة المؤمنة من خلال "أحسن
القصص" كما وصفه الله عز وجل ، ثم إن هذا القصص جاء تلبية لمواقف كانت
تعترض الأمة المسلمة ، أي تفريجًا عن تلك النفوس المؤمنة حين يشتد الخناق ،
عليها فتنفسح تلك النفوس ، وتنطلق في آفاق من العلو والسمو ، على كل ما
تواجه من عنت وتضييق ، فهو تسليةٌ وعزاءٌ وتثقيف واعٍ وحكيم ، وتصحيح
لمعارف ، وتاريخ يخرج الأمة عن أن تكون معارفها عن السابقين رهينة بأباطيل
اليهود والنصارى ، إذن فالقصص القرآني كان تخفيفًا وتوثيقًا لمعارف
المسلمين ، حيث كان مصدره حق (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
تنزيل حكيم حميد ) ، وهكذا يجيء القصص في القرآن مادة تربية للنفوس ،
وتقرير لحقائق وسنن في الوجود (لعلهم يتذكرون) .
ولهذا القصص مشاهد سوف نحاول تتبعها من خلال قصة قارون في سورة القصص . مع ظلال القرآن ومشاهد من قصة قارون
ولقد اقتضت حكمة الحق سبحانه أن ينزل الوحي بسورة القصص (والمسلمون
قلة مستضعفة والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان" لتطمئن تلك
النفوس المسلمة إلى حقيقة قيمتها بالموازين الصحيحة التي وضعها الحق سبحانه
، فلا قوة مهما استطالت سوى قوة الإيمان ، (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )
(آل عمران:139) فإن كان سلطان الحكم و جبروته ، وقوة الملك وسطوته، إن كان
كل ذلك قد انتهى إلى بوار وخسارة نتيجة بغيه وظلمه ، فقد واجهت قيمة المال
مهما تعددت أسباب الحصول عليه نفس المصير ، عندما يكون أداة للفساد والبغي
والعدوان وهكذا يكون مصير كل باغ في الأرض مهما كان مصدر بغيه ، بالحكم
وسلطانه ، أو المال وعدوانه ، فلتطمئن تلك النفوس إلى علوها وتمكينها ،
ولكن على مهل وبعد طول تجربة ، ولتستشرف مكانتها فيما بعد التمكين لتدرك ،
(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا
العاقبة للمتقين) (سورة القصص : 83) ذلك أن (الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد
الجوانب والتبعات ، يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة
والتذوق في واقع الحياة العملي) إلى جانب توفيق الله للقلب والضمير ، حتى
إذا صعدت الجماعة المؤمنة بعد طول عناء ، استطاعت أن تقيم ميزان الحق
والعدل ، وتنشر الخير والبر في ثبات ويقين ، دون أن تتقاذفها الأهواء أو
المطامع الشخصية أو تستميلها قوى من هنا وهناك ، تريد أن تنتزع منها النصر
أو تحول بينها وبين القيادة والريادة ، ومن ثم كان على كل حركة إسلامية
تحملت عبء مواجهة الطغيان السلطوي أو المادي ، أن تعد نفسها لذلك ، حتى لا
تكون نهباً لمن يدير الدائرة عليها وكان عليها ، أن توطن نفسها في ظل عولمة
لا تريد إلا إحكام القبضة على المسلمين والحيلولة دون وصول نماذج مسلمة
إلى مكان القيادة والريادة ، حتى لا تأخذ طريقها في (إخراج العباد من عبادة
العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة) .
وقارون في قصتنا يمثل قوة المال وسطوته ، حين يستأثر به صاحبه ، ويظن
كل الظن أنه مالكه ومجتبيه ومحصله وجامعه ، مهما كانت أسباب جبايته
وتحصيله ، وأنه إنما أوتيه بقدرته ، فهو المتصرف فيه وحده ، وما دام قد
جمعه بسبب منه ومقدرة ، فلم لا ينفقه أيضاً بحرية منه وإنطلاق ؟!
ولقد بلغ مال قارون مبلغًا عظيمًا ، يعجز الرجال عن حمل مفاتيح كنوزه .
يقول الحق تبارك وتعالى (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من
الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) . وبالطبع فإننا نلاحظ هنا
الارتباط بين قصة موسى مع فرعون ذي الطول والحول ، ومصيره الأليم ،
والتعقيب عليها بقصة قارون ذي المال و الجاه زيادة في تطمين النفوس المؤمنة
إلى ضعف هذه القوى حين تبغي الفساد في الأرض .وهنا يبرز السؤال كيف يكون
البغي بالمال ؟
لم تتعرض السورة الكريمة لصور البغي ، ولم تذكر
فيم كان البغي لتدعه مجهولاً لا يشمل شتى الصور ، فربما كان البغي (بظلمه
قومه وغصبهم أرضهم وأشياءهم ، كما صنع طغاة المال في كثير من الأحيان ،
وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال ، حق الفقراء في أموال
الأغنياء ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ، ومن حولهم محاويج إلى شيء
منه ، فتفسد القلوب وتفسد الحياة) وربما بغي عليهم بانتقاص حقهم ، أو
تكليفهم ما لا يطيقون من الأعمال لقاء أجر زهيد لا يستطيعون معه مواجهة
تكاليف الحياة . ولعل تجهيل صور البغي بالمال هنا يفتح الطريق أمام كل صور
البغي في العصر الحديث وحتى قيام الساعة ، سواء من قبل الأغنياء أمثال
قارون ، أو من قبل الحكومات التي تستنزف طاقات وثروات الضعفاء ليزدادوا
فقرًا وضعفًا على ضعف. وبالطبع فإن المجتمعات مهما اختلفت مشاربها ، لا
تخلو من صوت عاقل يريد وضع الأمور في نصابها ، بتوضيح الحقائق وردها إلى
مكانها ، وهم هنا الدعاة المصلحون في كل زمان ومكان ، والذين لا يكادون
يسكتون عن منكر يرونه ، في قوة يقين وإدراك واع لسنة الله في الحياة ( إذ
قال له قومه : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ) (القصص : 76) .
والفرح هنا إنما هو ( فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال والاحتفال
بالثراء والتعلق بالكنوز والابتهاج بالملك والاستحواذ ) وهو ( فرح البطر
الذي يُنسي المنعم بالمال ، ويُنسي نعمته وما يجب لها من الحمد والشكران )
وهو ( فرح الذي يستخفه المال ، فيشغل به قلبه ، ويطير له لبه ، فيتطاول على
العباد ) .فهو نهي عن فرح مدمر لصاحبه ، مهلك له ، لا لأن الله لا يحب مثل
هذا الفرح . ثم ينطلق هؤلاء الدعاة لرسم المنهج الإلهي القويم في هذا
المال ، فهم إذًا يقدمون له بديلاً عن سياسته المهلكة في المال ، وهو بديل (
يعلق قلب صاحب المال بالآخرة ، ولا يحرمه أن يأخذه ، بقسط من المتعة في
هذه الحياة ، بل يحضه على هذا ، ويكلفه إياه تكليفًا ، كي لا يتزهد الزهد
الذي يهمل الحياة ويضعفها ) والمتاع هنا الذي يكلف به صاحب المال بأخذ قسطه
منه هو ( لون من ألوان الشكر للنعم ، وتقبل لعطاياه ، وانتفاع بها ، فهو
طاعة من الطاعات يجزى عليها بالحسنى ) ومن ثم تتحقق ( التعادل والتناسق في
حياة الإنسان الطبيعية المتعادلة التي لا حرمان فيها ولا إهدار لمقومات
الحياة الفطرية البسيطة ) ثم ترجع الفضل لله سبحانه الرازق المنعم حين تطلب
إليه " وأحسن كما أحسن الله إليك " لتخفف بتلك المرجعية للمال من ثقل
الإنفاق ( فكما كان هناك تقبل لإحسان الله فينبغي أن يكون هناك تقبل لإحسان
التصرف فيه إلى الحق ) .
ولا يقف دور الوعاة من الدعاة عند مجرد
إبانة المنهج الرباني فيما يرون ، بل يزيدون الأمر توضيحًا حتى لا يكون في
توجيهاتهم أي لبس أو غموض .. وهم هنا يحذرون قارون من الفساد في الأرض بهذا
المال " ولا تبغِ الفساد في الأرض " ، وهو نهي عن الإفساد بالمال في الأرض
بشتى صوره وأشكاله مهما كانت ، وهنا أيضًا لا يتعرض النهي لأشكال الفساد
لتظل منفتحة على كل صوره في كل عصر وفي كل مكان.فلعله ( الفساد بالبغي
والظلم ، والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة ، والفساد
بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء ، والفساد بإنفاق المال في غير
وجهه على كل حال ) أو لعله الإفساد ببخس الناس حقوقهم ومنعهم كامل أجورهم ،
أو استغلال حاجاتهم واضطرارهم قبول أدنى ما يتفضل به صاحب المال عليهم ،
ولا سيما إذا كانوا هم الأداة التي تستثمر هذا المال فتنميه بجهدها وعرقها
وكدها .. وهو فساد بالحيلولة دون التواصل والتكافل ، حين يتوقف العامل عن
عمله بسبب من الأسباب ، فلا يجد ما يعينه على أعباء الحياة لقاء ما بذل أو
قدم ، فتفسد النفوس ، ويكون التحاسد والتباغض ..وهي صور منهي عنها للإفساد
بالمال ، مهما كان أقلها وأدناها ، وأصحاب الثروات أمثال قارون في كل عصر
لا يرضون بغير هذا الفساد ، ففي تصورهم الضيق الذي لا يعدو الحياة الدنيا ،
أن التوسعة على الآخرين ، حتى وإن كانت في الأجور ، تقلل نسب هوامش
الأرباح التي اعتادوها ، فيستأثرون بكل ربح ، ضاربين عرض الحائظ بحاجات من
حولهم ، ممن يجدِّون في إنماء تلك الأموال .. وعلى العكس من ذلك ، يكون
المسلم الثري أو الغني ، فهو يرى أنه مستخلف في ماله ، يضعه حيث يكون الخير
والبر ، وحين يكون رفع الحرج عن المحتاج ، فهو يسلك في ماله مسلكًا رشيدًا
، من سخاء النفس ، وطيب الخاطر ، واضعًا نصب عينيه دعاء الملائكة بظهر
الغيب ( اللهم أعط منفقًا خلفًا .. اللهم أعط ممسكًا تلفًا ) ، ذاكرً قول
القائل : ومن لم يسخُ بما يسخو الإله فإنه
أحمقٌ بالحرص ينتحر
فإمساك المال عن وجهه فساد ينأى المسلم بنفسه
عنه " إن الله لا يحب المفسدين ، " وتتراءى هنا صور أولئك الذين تاجروا
بأموالهم مع الله ، فكانوا نعم عباد الله الصالحين ، أعطوا المال الصالح
فجعلوه حيث أراد الله له أن يكون ، دون من أو أذىً ، بل سعوا إلى انفاقه
حيث سعيًا ، ويجدون له ثقلاً وعبئًا ، وهي : صور مشرقة لمن يضعون أموالهم
في أياديهم ويخرجونها من قلوبهم ، فلا تسفل بهم نحو الدونية والاستئثار
بالنعمة وإنكار حقها ..
وعودة إلى سياق القصة ، نجد أن قارون لم
يأبه لقول الدعاة المخلصين من قومه ، ولم يسمع لقولهم بل كان رده ( جملة
واحدة تحمل شتى معاني الفساد والإفساد : " قال إنما أوتيته على علم عندي
" وتأتي كلمة علم على سبيل التنكير لتعميم كل سبب مؤد إلى تحصيل المال ) أو
هو ( العلم الخاص الذي حازه قارون واستطاع به أن يحوز المال ) وهذه دائمًا
قولة كل مغرور يظن ( أن علمه وكده هما سبب غناه ، ومن ثم فهو غير مسؤول
عما ينفق وما يمسك ، غير محاسب على ما يفسد بالمال ويصلح ، غير حاسب لله
حسابًا ، ولا ناظرًا إلى غضبه ورضاه ) .
وقد يتواجد في مجتمعاتنا
الإسلامية أشخاص من ذوي الأموال والثراء ، ينحرفون عن الفطرة بعض الانحراف ،
فلا يتصورون أن يكونوا وعمالهم أو موظفيهم شركاء فيما تفضل الله به عليهم
من الأرباح ، ويحسبون أن قوانين العمال التي تنظم حقوق العمال في شيء من
التيسير وبعض الشراكة في الأموال ، إنما هي من قبيل التعدي على ملكيتهم
الخاصة ، فهم لا يدركون أن هذا الإنحراف عن معاني الخير والبر قد يتسع
ليجعل منهم قارون آخر ، أو قوارين آخرين إن صح الجمع .
" ومنهج
الإسلام في الملكية الفردية أنه يعترف بها ، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل
في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ، ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو
يلغيه ، ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجًا معينًا للتصرف في هذه الملكية ،
كما يفرض منهجًا لتحصيلها وتنميتها ، وهو منهج متوازن متعادل ، لا يحرم
الفرد ثمرة جهده ، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ، ولا في إمساكه
حتى التقتير ، ويؤمن للجماعة حقوقها في هذا المال ، ورقابتها على طرق
تحصيله وطرق تنميته وطرق إنفاقه والاستمتاع به ، وهو منهج خاص ، واضح
الملامح ، متميز السمات ) ، لا يمكن لمسلم أن ينفلت منه او ينحرف عنه إلى
غيره ، وإلا كان مصيره الخسران المبين . فحين لم يعمل قارون بهذا المنهج
وأعرض عنه ولم يسمع لنصح قومه في (استكبار لئيم وبطر ذميم ) جاءه ( التهديد
قبل تمام الآية ردًا على قولته الفاجرة المغرورة ) " أو لم يعلم أن الله
قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعًا " ؟!(ولا يسأل عن
ذنوبهم المجرمون ) فهو ( وأمثاله من المجرمين أهون على الله من أن يسألهم
عن ذنوبهم ، فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد ) .
وإلى هنا ينتهي
المشهد الأول من مشاهد القصة. يأتي المشهد الثاني ليبين لتلك الفئة المؤمنة
بمكة كيف كان موقف ضعاف النفوس من قارون وزينته وكيف أنها كانت تقوِّم
الأشياء بموازين ظاهرية واهنة ، وإلى أي حدٍ يكون أثر البغي بالمال بعدم
إنفاقه على المحاويج ، وكيف أن الإمساك عن النفقة موجب للتحاسد وتهاوي
النفوس الضعيفة أمام بريق المال ، تلك النفوس التي تستشعر الحرمان ولا تجد
من يرده عنها من الأغنياء دون مذلة أو إراقة ماء وجه .
يقول تعالى : "
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا : يا ليت لنا مثل
ما أوتي قارون إنه لذو حظٍ عظيم " وهنا ( تبدو معايير طلبة الدنيا ومدى
وهنها وهشاشتها ؛ إنهم لم يروا غير ظاهر ما خرج به قارون ، فتمنوا مثله ،
بصرف النظر عن الطرق الموصلة إليه حلالاً كانت أم حرامًا؟ ثم جعلوا حظه
عظيمًا لما ملك من متاع الدنيا ، فكانت قيمة المال عندهم هي الميزان الذي
يوزن به الرجال .. وهؤلاء دائمًا يقفون أمام فتنة الحياة الدنيا _ وقفة
المأخوذ المبهور المتهافت ) ومن ثم ( تتهافت نفوسهم وتتهاوى كما يتهافت
الذباب على الحلوى ، ويتهاوى ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من
متاع ) ولو فتشنا عما شكل هذه النفسية المريضة لوجدنا أن المجتمع ، حين
يفقد كثيرًا من معاني الكرم والسخاء والحب والعطاء والبر والإحسان والخير
والإيثار ، حين لا يتواصى المجتمع بالتكامل والتعاون ولا يبر بعضه بعضاً
عندئذ تكثر تلك الفئة لمعاناتها الحرمان فتقع فريسة لإهمال الأغنياء وشحهم ،
إذ كيف تعالج القلوب الضعيفة ، وكيف تؤلف على الصمود أمام إغراء المال
وفتنته ؟!
وعلى جانب آخر وفي نفس المشهد ، تظهر الفئة المؤمنة - ولو
كانت قلة - تستعلي على كل قيمة عدا قيمة الإيمان ففي ( نفوسهم قيم أخرى غير
قيم المال والزينة والمتاع ، وهم أعلى نفسًا وأكبر قلبًا من أن يتهاووا
ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعاً ، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من
التخاذل أمام جاه العباد ، وهؤلاء هم ( الذين أوتوا العلم الصحيح الذي
يقوِّمون به الحياة حق التقويم ) ، ولذلك ولأنهم دائمًا الوعاة من الدعاة
في كل عصر ، تنطلق كلماتهم الواثقة لتصحح المفاهيم الخاطئة ، وترد الأمور
إلى مسلماتها الصائبة " ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ، ولا
يلقاها إلا الصابرون " نعم ... ثواب الله خير مما خرج به قارون وما عند
الله خير مما يمتلك قارون .
ثوابت يجب أن يعيها المسلم حق الوعي مهما
كانت المغريات ، فإذا وعاها عصمه الله من الانزلاق والسقوط أمام كل الفتن ،
وإذا أحسها على نحو ما تكلم به المخلصون ، فإن ذلك يصبح درجة رفيعةً من
الشعور ، لا يلقاها إلا (الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم ، الصابرون
على فتنة الحياة وإغرائها ، الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون )
ونتيجة هذا الصبر يرفعهم الله إلى ( درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض
والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان) ، وعندما يشيع فساد البغاة من
الأغنياء ، وتنقلب المعايير التي تقوم بها الحياة ، ويكثر المتخاذلون أمام
سطوة القشور من متاع الدنيا ، ويؤدي الدعاة واجب النصح والإعذار إلى
المجتمع ببيان الصحيح من السقيم في المبادىء والقيم ، وحين يتآمر بغي
السلطان وبغي ذوي المال على تدمير النماذج المثلى ، التي يحاول الدعاة
تقديمها لمجتمعاتهم كبدائل فضلى عن البغي ، عند ذلك تتدخل القدرة الإلهية (
لتضع حدًا للفتنة ، وترحم الناس الضعاف من إغرائها ، وتحطم الغرور والكبر
تحطيمًا ) وهذا المعاني ( التي كانت الجماعة المسلمة الصغيرة المستضعفة في
مكة في حاجة إلى الإطمئنان إليها ، وكان المشركون المستكبرون في حاجة إلى
تدبرها ، وهي المعاني المتجددة الدائمة حيثما كانت دعوة إلى الهدى ، وحيثما
كان طغيان يقف في وجه الهدى ) وهي معانٍ أولى بالتجدد والتدبر والإطمئنان
إليها كلما كثر الخبث ، وأصبح المسلمون الوعاة قبض سياسات التضييق والتجفيف
لمنابع الدعوة في كل عصر ، يكون الموقف الفاصل " فخسفنا به وبداره الأرض ،
فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان من المنتصرين " أنظر
إلىهذا المصير ومصير صاحب الجنتين " وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما
أنفق فيها وهي خاويةٌ على عروشها " وانظر إليه وإلى مصير أصحاب الجنة "
فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ، فأصبحت كالصريم " وهو مصير واحد لكل
أولئك الذين يبخلون بما أوتوا ، ويكون سلوكهم فيما استخلفهم الله فيه من
وفرة الرزق .. البغي بشتى صوره وأنواعه ، والتي تصب في هدف واحد ، ألا وهو
الحيلولة دون أن يكون لأحد في هذا المال نصيبًا ، ففي لمحة خاطفة " فخسفنا
به وبداره الأرض " يكون مصير قارون وأمثاله ( وابتلعته الأرض وابتلعت داره
وهو في بطنها التي علا فيها واستطال فوقها جزاءً وفاقًا ، وذهب ضعيفًا
عاجزاً ، لا ينصره أحد ولا ينتصر بجاه أو مال ) ومع هذا المصير الأليم
لقارون ( هوت الفئة الطاغية التي جرفت بعض الناس ، وردتهم الضربة القاضية
إلى الله وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال ) وهذا البعض ممن يأخذون
بظاهر الأشياء ، وقشورها ، ولأنهم ضعاف النفوس ، وربما عانوا الحرمان ،
كانوا في حاجة إلى مثل هذه الضربة ليعودوا إلى نفوسهم فيثقوا بما لم يكونوا
واثقين به ، أو كانوا على حرف من القناعة به ( وأصبح الذين تمنوا مكانه
بالأمس يقولون ويكأنَّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ، لولا أن
مَنَّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لايفلح الكافرون) هنا فقط تبدَّت الحقائق
والمسلمات العقيدية ، لذلك كانت العودة بالفضل إلى الله المنعم ، فالثراء
أو الفقر ليسا دليلاً على الرضا والغضب ، إنما هما رزق للعبد لحكمة أخرى
يعلمها الحق سبحانه .
( هنا يسدل الستار على هذا المشهد ، وقد
انتصرت القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة ، وقد رجحت قيمة الإيمان في
كفة الميزان ) ليأتي بعد ذلك التعقيب الحق بالحقيقة التي لا تدركها إلا
الفئة المؤمنة ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض
ولا فسادًا والعاقبة للمتقين ) ، فالدار الآخرة بكل ما فيها من نعيم مقيم
لأولئك الذين ( لا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ، ولا
يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها ، إنما
يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله ومنهجه في الحياة ، وهم ( لا
يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابًا ، ولا يبغون
فيها كذلك فسادًا ) .
( فهي في تعاملاتها فيما استخلفت فيه تحسن
التصرف فيه إلى الخلق ، وهي تضع موازين الرحمة والبر والرفق قبل موازين
الربح والخسارة ، وتضع معاني التيسير والتفريج والإنظار والعفو بينها وبين
نار الدنيا والآخرة ، وتجعلها واقعًا عمليًا وسلوكيًا يضفي على المجتمع حلة
من المحبة والإخاء ، وهي عندما تفعل ذلك ، إنما تحمي نفسها ومؤسساتها
بصنائع معروفها من السقطات الاقتصادية ، والتقلبات المالية التي تشيع في
المجتمعات الربوبية ، فصاحب المعروف لا يقع ، فإذا وقع أصاب متكئًا ..
ولذلك فإن هذه الفئة المؤمنة حين تتواجد في مجتمعاتها بهذا الفهم ، حاملةً
تلك المعاني السامية ، تتلاشى الأنانية ، ويشيع الإيثار ، ولا يكون هناك
تحاسد أو تباغض .. ولا تتواجد النفوس التي تحمل على الأغنياء ، ومن ثم ينشأ
مجتمعًا متحابًا ومتكافلاً ، يسوده البر والخير ، ويعمه التآلف والتواد ،
وهو غاية الإسلام .
المصدر اسام ويب