كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطي لكل أهل تخصُّص من العلوم المختلفة الفرصة لكي يُبْدِع في علمه وتخصُّصه، وقال للجميع الحديث الذي يفتح الباب أمام كل العلماء للإنتاج والبذل، فقال -كما روى مسلم عَنْ أنس رضي الله عنه-: "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ".
ومع ذلك فقد أوصى ببعض أمور في كل مجال من مجالات العلوم، فصارت هذه الوصايا سُنَّة نبوية، وصار في تطبيقها خير كثير في الدنيا والآخرة، ومن هذه السنن الحجامة؛ فقد روى البخاري واللفظ له ومسلم عَنْ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ لَذْعَةٍ مِنْ نَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ".
ومن أعجب الأمور أن الملائكة أوصت النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا في رحلة الإسراء والمعراج بالحجامة! فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عن ابن مسعود رضي الله عنه: "حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلإٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ إِلاَّ أَمَرُوهُ أَنْ مُرْ أُمَّتَكَ بِالحِجَامَةِ"!
ووجه العجب أن الملائكة تُوصي كثيرًا بأمر يظنُّ بعض الناس أنه لا يُفْعَل إلا في ظروف محدودة؛ وقد يعيش المسلم عشرات السنين دون أن يفعله، ولو مرَّة واحدة؛ بل قد يتفاقم الأمر مع بعضهم فيعتبره من الطب القديم؛ الذي صار بلا نفع ولا جدوى مع تقدُّم الطب في زماننا؛ فهذه الوصية الملائكية تُثبت أن علمنا ما زال محدودًا، وأن ارتباط معظمنا بالسُّنَّة ما زال ضعيفًا، وأننا نحتاج أن نعيد تقييم الأشياء وفق رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرته، ولقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يُطَبِّق هذه السُّنَّة بنفسه، فاستأجر حَجَّامًا ليحجمه؛ فقد روى مسلم عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أنَّه قَالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ لاَ يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ». فلنفعل هذه السُّنَّة العظيمة، ونحن على قناعة كاملة بفضلها وجدواها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].
د/راغب السرجاني