عندما بدأ العالم الغربي أول مرة يتساءل عن أراضي بلاد آشور وبلاد بابل القديمة التي كان يعرف أنها بين النهرين العظيمين المذكورين في الكتاب المقدس" دجلة والفرات "، كان الانطباع الأول هو أنها مقفرة رغم أن الأرض نفسها كانت خصبة وقادرة آنذاك على قيام زراعة مركزة وعلى كثافة السكان كما كانت الحال في العصور القديمة، وقد عبر عدة كتاب عن هذا الانطباع منهم " لايارد " و " تومبسون ". في حين أن الخرائب التي كانت في الأزمنة القديمة مدناً سومرية مزدهرة مثل أور والوركاء تحيط بها الأراضي الملحية والرمال بسبب تغيير مجاري الأنهار، وتتصف بطابع كثيب لا ينسجم حتى والتلال الآشورية الضخمة التي تنمو عليها الحشائش، إذ أن المواقع الأثرية في شمالي البلاد وجنوبها متشابهة حيث أنها على حد سواء نتيجة تراكم الآجر غير المفخور الملازم لبلاد الرافدين
كانت بابل والمدن الرئيسية الأقدم منها في الجنوب تقع في مناطق رسوبية بعيدة عن أي مصدر مناسب لحجر البناء، وحتى في بلاد آشور اكتفي عموماً باستعمال الحجر في الواجهات الزخرفية وأحياناً في جوانب الأرصفة حيث كان مفضلاً في مكافحة التآكل بتأثير المياه، وشيد كل ما عدا ذلك من قصور الملوك، ومعابد الآلهة بالآجر الطيني الرخيص والموجود في كل مكان، ويمكن أن يشوى الآجر، وكان ذلك طبيعياً غالباً لبعض الأغراض وإن كان الوقود باهظ الثمن، ورغم أن نبوخذ نصر ملك بابل كان يأمل بضمان الخلود لمبانيه باستعمال كميه هائلة من الآجر المفخور المعد لتحصيناته وقصوره إلا أن نوعية آجره الممتازة لم تحقق غرضه لأن الآجر خدم أجيالاً متعاقبة إذ ستعمل بصفته أفضل مادة بناء في البلاد.
إن للآجر البسيط مزايا معينة إضافة إلى رخص ثمنه إذ أنه متعدد الاستعمالات، ويمكن أن يشكل أو يعاد تكوينه ليلائم حاجة معينة كما أنه عازل قوي إذ تحافظ الجدران المشيدة بالآجر الطيني والسقف المبني بالطين والقصب على صدر حرارة الصيف والبرد القارص في الشتاء، وهذا مهم في مناخ بلاد الرافدين، وبسبب درجات الحرارة المتطرفة، والعواصف المطرية المدمرة سرعان ما يبدأ هيكل الدار المشيدة بالآجر الطيني بالتصدع وحتى إذا أعيد تبيض الدار بعناية كل عام غالباً ما يعاد تشييد المبنى الطيني عدة مرات، ولا يكلف إعداد مواد البناء الجديدة كثيراً بحيث أن الجدران القديمة تهدم وتصبح قاعدة بيت جديد أو تنتقل العائلة إلى مكان آخر في القرية وتترك البيت المهجور إلى رحمة عوامل الطبيعة، وفي كلتا الحالتين فإن كل بيت جديد يكون إضافة جديدة إلى تراكم طبقات سكن متعاقبة، وهكذا تصبح المستوطنة تلاً يحدد حجمه بامتداد السكن وقدمه.
مدن الكتاب المقدس:
عندما بدأ الأوروبيون أول مرة يخمنون المواقع المحتملة للمدن الكبيرة المذكورة في الكتاب المقدس مثل نينوى وبابل كان محتماً أن يتحول اهتمامهم أولاً إلى الأبراج الضخمة المشيدة بالآجر التي كانت ما تزال تشاهد في منطقة بغداد وكانت تثير الاهتمام أكثر جداً من التلال الواطئة التي تنتشر فيها المصنوعات الفخارية،والتي لم يكن أحدها يبدو مختلفاً عن الآخر، وقد علق على برجين خاصة أحدهما زقورة عقرقوف القريبة من بغداد، وتميزت بارتفاعها، وإن تمييز البرج الآخر واسمه بيرس بوجود كتل غير عادية من الآجر المزجج حول أسفل البرج، وكان شاهداً على استعمال حرارة هائلة القوة يصعب تفسيرها إلى اليوم، ولا عجب أن هذا البرج الضخم " يمل البرج المائل الذي ناشد إلحاق الانتقام الإلهي ودمرته نيران السماء وفق أحد المأثورات العالمية " أو بعبارة أخرى برج بابل.
كانت توجد أسباب مقنعة لارتكاب هذا الخطأ إذ باستثناء الكتاب المقدس نفسه لم تكن المصادر المتيسرة للباحثين في أوائل القرن التاسع عشر سوى إشارات في كتابات المؤرخين الإغريق مثل هيرودوت وسترابو وديودورس سيكولس، ورغم أنهم يصفون بابل كل بطريقته فإن دقة أوصافهم المختلفة ولا سيما الأبعاد المنسوبة إلى العاصمة العظيمة أدت إلى عدد كبير من التفسيرات، وهكذا فإن محباً إنجليزياً للفنون واسمه ج.س بكنغهام زار خرائب بابل عام / 1816م / استطاع أن يورد حججاً قوية ليظهر أن البرج في بيرس نمرود
( العائد لمعبد نابو في بورسيبار ) كان حقاً " برج بيلوس " الذي وصفه الكتاب الكلاسيكيون.
إن المدينة القديمة امتدت ليس من ذلك البرج إلى التلال الكبيرة التي تعود لبابل أي إلى مسافة /10 أميال / بل كذلك لمسافة مساوية أبعد منها إلى زقورة الأحيمر التي عدت أحد الأبراج الشرقية لسور التحصين الضخم، وهو سور ذكر هيرودوت أن طوله / 120فرلنغاً / ( الفرلنغ = 1/8 الميل ) من كل جانب وله مجال في قمته يتسع لعربة تجرها أربعة خيول، وفي الواقع أن الأحيمر الآن أنه جزء من مدينة كيش المنفصلة تماماً والأقدم من بابل.
لقد حذا بكنغهام في ملاحظاته حذو مضيفه في بغداد كلوديوس ريتش الذي كان ممثل شركة الهند الشرقية المقيم في بغداد، وهو منصب كان يتولاه منذ / 9 أعوام / أي منذ تعيينه عام / 1807م / في سن الحادية والعشرين، وفي حين أنه اشتهر هناك بإتقانه لغات الشرق الأدنى وصلاته القوية بالسلطات المحلية فإنه عني عناية شديدة بآثار البلاد، وإضافة إلى اقتناء مجموعة جيدة من المخطوطات الشرقية والقطع الأثرية الأقدم منها استطاع تكريس جهد واسع لفحص خرائب بابل، وفاقت " مذكراته " في الدقة والشمول أي أوصاف سابقة للموقع، وتظهر ملاحظات ريتش عن الموقع الحذر الذي يتسم به ذو الخبرة، وهو ما لم يكن يتصف به القائم بزيارة عرضية أو الباحث النظري، وهكذا لم يخدع مثل بكنغهام بالتشابه الذي لا يمكن إنكاره بين زقورة بيرس نمرود ومعبد بيل كما وصفه المؤلفون الإغريق، وقد كتب بدقة أكاديمية " لو كان هذا في الجانب الآخر من النهر وأقرب إلى الخرائب لما شك أحد في كونه بقايا من البرج " كما لم يخطئ ريتش مثل بكنغهام في الاعتقاد بأن ضفاف القنوات الكثيرة القديمة والأقل قدماً، وغير المستعملة والتي تشاهد على الطريق من بابل إلى الأحيمر كانت " صفوفاً من البيوت والشوارع المهدمة ".
زار ريتش أيضاً شمالي العراق عام / 1820م / ووصف خرائب نينوى ونمرود باهتمام متساوي، ورغم أنه توفي في سن مبكرة بالكوليرا في شيراز إلا أن نشر كتاباته جعل العالم يدرك أن هذه التلال المهجورة تخفي حتماً عواصم الإمبراطوريتين بابل وآشور، بيد أن الإدراك كان بطيئاً، وأرسل بول إميل بوتا إلى الموصل قنصلاً فرنسياً عام / 1843م / في مهمة محددة هي فحص الإمبراطورية الآشورية، وقد شرع بوتا بعمله في تل قوينجق مقابل الموصل، وإن لم يجد سوى القليل مما كان يتوقعه، ولكن لحسن حظه أن السكان المحليين لفتوا انتباهه إلى أن تل مماثل في خورسباد على بعد زهاء / 14 ميلاً / شمال شرق الموصل حيث كانت تستخرج الحجارة من حين إلى آخر، وهناك ومن أول ضربة فأس كشفت الأرض عن غرفة فوق غرفة صفت فيها ألواح منحوتة نحتاً متقناً تعود للملك الآشوري سرجون واستطاع بوتا أن يقدم تقريراً متسماً بالحماس إلى من كانوا يدعمونه في الأكاديمية الفرنسية، وقد كان ردهم نموذجياً فقد أرسلوا فنان لرسم المنحوتات المكتشفة حديثاً، واتخذت الترتيبات اللازمة فأصدرت السلطات العثمانية فرماناً يسمح بمواصلة العمل وخصصت الأموال التي مكنت بوتا من مواصلة كشف النقاب عن منطقة القصر الواسعة عام/1845م/.
منتديات الشباب العربي