السؤال :
إذا أصيب إنسان بمس أو سحر فهل يمكن مخاطبة هذا الجني ودعوته إلى الإسلام ووعظه ، أم أن ذلك دجل وشعوذة ؟
الجواب:
الحمد لله
ليست مخاطبة الجن ووعظه ودعوته إلى الإسلام نوعاً من الدجل والشعوذة ، فذلك ممكن ،
بل قد وقع ذلك كثيراً ، وأعلن كثير من الجن إسلامهم .
ولكن ... ليس معنى هذا أن كل من ادعى هذه الدعوى فهو صادق ، فقد يكون كاذباً ، لكن
كذب بعض المشعوذين لا يجعلنا ننفي وقوع ذلك من بعض الناس .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/68، 69) عن شيخه ابن تيمية أنه كان
يخاطب الجن ويعظه وينهاه عن الظلم ، وسيأتي نص كلامه إن شاء الله .
وذكر الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أن امرأة كانت مصابة بمس من الجن وأن ذلك
الجني أعلن إسلامه أمام الشيخ ، وقد أنكر ذلك بعض الناس فكتب الشيخ مقالاً يبين فيه
خطأ هؤلاء المنكرين ، فقال بعد أن ذكر أن الجن أعلن إسلامه أمامه :
"وقد بلغني عن فضيلة الشيخ ..... أنه أنكر مثل حدوث هذا الأمر وذكر أنه تدجيل وكذب
، وأنه يمكن أن يكون كلاما مسجلا مع المرأة ولم تكن نطقت بذلك . وقد طلبت الشريط
الذي سجل فيه كلامه وعلمت منه ما ذكر ، وقد عجبت كثيرا من تجويزه أن يكون ذلك مسجلا
مع أني سألت الجني عدة أسئلة وأجاب عنها ، فكيف يظن عاقل أن المسجل يسأل ويجيب ،
هذا من أقبح الغلط ومن تجويز الباطل ، وزعم أيضا في كلمته أن إسلام الجني على يد
الإنسي يخالف قول الله تعالى في قصة سليمان : (وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ولا شك أن هذا غلط منه أيضا هداه الله وفهم باطل فليس في
إسلام الجني على يد الإنسي ما يخالف دعوة سليمان .
فقد أسلم جم غفير من الجن على يد النبي صلى الله عليه وسلم . . وقد أوضح الله ذلك
في سورة الأحقاف وسورة الجن وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي
فأمكنني الله منه فذعتّه (أي خنقته) ، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا
فتنظروا إليه فذكرت قول أخي سليمان عليه السلام : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فرده الله خاسئا. هذا لفظ البخاري ،
وروى النسائي على شرط البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (حتى
وجدت برد لسانه على يدي ، ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقا حتى يراه الناس) .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن صفية رضي
الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى
الدم) .
كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان معه قرين من
الملائكة وقرين من الشياطين حتى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الله أعانه عليه
فأسلم فلا يأمره إلا بخير .
وقد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة على جواز دخول
الجني بالإنسي وصرعه إياه ، فكيف يجوز لمن ينتسب إلى العلم أن ينكر ذلك بغير علم
ولا هدى ، بل تقليدا لبعض أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة؟ فالله المستعان
، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأنا أذكر لك أيها القارئ ما تيسر من كلام أهل العلم
في ذلك إن شاء الله .
بيان كلام المفسرين رحمهم الله في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا
يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)
.
قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله : يعني بذلك يتخبله الشيطان في الدنيا وهو الذي
يخنقه فيصرعه (من المس) يعني : من الجنون .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه : أي : لا يقومون من
قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له .
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره على قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ الْمَسِّ) : في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم
أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس . ا هـ .
وكلام المفسرين في هذا المعنى كثير من أراده وجده . وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه
الله في كتابه "إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين" الموجود في "مجموع الفتاوى"
جـ 19 ص 9 إلى ص 65 ما نصه بعد كلام سبق : ( ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي
وأبي بكر الرازي وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن ، إذ لم
يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا وإن كانوا مخطئين في ذلك . ولهذا ذكر
الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون إن الجني يدخل في بدن المصروع ،
كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (وهذا مبسوط في موضعه ) .
وقال أيضا رحمه الله في جـ 24 من الفتاوى ص 276- 277 ما نصه . ( وجود الجن ثابت
بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان
ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ الْمَسِّ) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أن الشيطان يجري من ابن
آدم مجرى الدم) .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل : ( قلت : لأبي إن أقواما يقولون : إن الجني
لا يدخل بدن المصروع ، فقال : يا بني ، يكذبون . هو ذا يتكلم على لسانه ) ، وهذا
الذي قاله أمر مشهور ، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه ، ويضرب على
بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما ، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب
ولا بالكلام الذي يقوله ، وقد يجر المصروع غير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه
ويحول الآلات وينقل من مكان إلى مكان ، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته
علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان
. وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع ، ومن أنكر ذلك وادعى
أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع ، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك ) . ا
هـ .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه [زاد المعاد في هدي خير العباد] جـ
4 ص 66 إلى 69 ما نصه :
"الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من الأخلاط الرديئة ،
والثاني : هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه .
وأما صرع الأرواح . فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه . ويعترفون بأن علاجه
بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدافع
أثارها ، وتعارض أفعالها وتبطلها . وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه . فذكر بعض
علاج الصرع . وقال : ( هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة ، وأما
الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج .
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلةً فأولئك ينكرون صرع
الأرواح ، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل ، وإلا فليس في
الصناعة الطبية ما يدفع ذلك ، والحس والوجود شاهد به ، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض
الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها .
إلى أن قال : وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده ، ومن له عقل
ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم .
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع ، وأمر من جهة المعالج ، فالذي
من جهة المصروع : يكون بقوة نفسه . وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها .
والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان . فإن هذا نوع محاربة . والمحارب
لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحا في نفسه
جيدا ، وأن يكون الساعد قويا فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل . فكيف إذا
عدم الأمران جميعا ، ويكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ، ولا
سلاح له .
والثاني من جهة المعالج : بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا ، حتى إن من المعالجين من
يكتفي بقوله : ( اخرج منه ) أو يقول : ( بسم الله ) أو يقول : ( لا حول ولا قوة إلا
بالله ) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : اخرج عدو الله ، أنا رسول الله .
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه . ويقول قال لك الشيخ :
اخرجي ، فإن هذا لا يحل لك ، فيفيق المصروع ، وربما خاطبها بنفسه ، وربما كانت
الروح ماردة فيخرجها بالضرب . فيفيق المصروع ولا يحس بألم ، وقد شاهدنا نحن وغيرنا
منه ذلك مرارا . . . إلى أن قال : وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره
إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة ، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله
تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات
النبوية والإيمانية ، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه وربما كان عريانا
فيؤثر فيه هذا . . ) . انتهى المقصود من كلامه رحمه الله .
وبما ذكرناه من الأدلة الشرعية وإجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على جواز
دخول الجني بالإنسي ، يتبين للقراء بطلان قول من أنكر ذلك .
تنبيه:
قد دل ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلام أهل
العلم على أن مخاطبة الجني ووعظه وتذكيره ودعوته للإسلام وإجابته إلى ذلك ليس
مخالفا لما دل عليه قوله تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام في سورة ص أنه قال :
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ) وهكذا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وضربه إذا امتنع من
الخروج كل ذلك لا يخالف الآية المذكورة ، بل ذلك واجب من باب دفع الصائل ونصر
المظلوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يفعل ذلك مع الإنسي .
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق ، واسأل الله بأسمائه الحسنى
وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه ، والثبات عليه ، وأن يمن
علينا جميعا بإصابة الحق في الأقوال والأعمال ، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من القول
عليه بغير علم ، ومن إنكار ما لم نحط به علما ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى
الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان" انتهى
باختصار .
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" الشيخ ابن باز (3/299-308) .
إذا أصيب إنسان بمس أو سحر فهل يمكن مخاطبة هذا الجني ودعوته إلى الإسلام ووعظه ، أم أن ذلك دجل وشعوذة ؟
الجواب:
الحمد لله
ليست مخاطبة الجن ووعظه ودعوته إلى الإسلام نوعاً من الدجل والشعوذة ، فذلك ممكن ،
بل قد وقع ذلك كثيراً ، وأعلن كثير من الجن إسلامهم .
ولكن ... ليس معنى هذا أن كل من ادعى هذه الدعوى فهو صادق ، فقد يكون كاذباً ، لكن
كذب بعض المشعوذين لا يجعلنا ننفي وقوع ذلك من بعض الناس .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/68، 69) عن شيخه ابن تيمية أنه كان
يخاطب الجن ويعظه وينهاه عن الظلم ، وسيأتي نص كلامه إن شاء الله .
وذكر الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أن امرأة كانت مصابة بمس من الجن وأن ذلك
الجني أعلن إسلامه أمام الشيخ ، وقد أنكر ذلك بعض الناس فكتب الشيخ مقالاً يبين فيه
خطأ هؤلاء المنكرين ، فقال بعد أن ذكر أن الجن أعلن إسلامه أمامه :
"وقد بلغني عن فضيلة الشيخ ..... أنه أنكر مثل حدوث هذا الأمر وذكر أنه تدجيل وكذب
، وأنه يمكن أن يكون كلاما مسجلا مع المرأة ولم تكن نطقت بذلك . وقد طلبت الشريط
الذي سجل فيه كلامه وعلمت منه ما ذكر ، وقد عجبت كثيرا من تجويزه أن يكون ذلك مسجلا
مع أني سألت الجني عدة أسئلة وأجاب عنها ، فكيف يظن عاقل أن المسجل يسأل ويجيب ،
هذا من أقبح الغلط ومن تجويز الباطل ، وزعم أيضا في كلمته أن إسلام الجني على يد
الإنسي يخالف قول الله تعالى في قصة سليمان : (وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ولا شك أن هذا غلط منه أيضا هداه الله وفهم باطل فليس في
إسلام الجني على يد الإنسي ما يخالف دعوة سليمان .
فقد أسلم جم غفير من الجن على يد النبي صلى الله عليه وسلم . . وقد أوضح الله ذلك
في سورة الأحقاف وسورة الجن وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي
فأمكنني الله منه فذعتّه (أي خنقته) ، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا
فتنظروا إليه فذكرت قول أخي سليمان عليه السلام : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فرده الله خاسئا. هذا لفظ البخاري ،
وروى النسائي على شرط البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (حتى
وجدت برد لسانه على يدي ، ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقا حتى يراه الناس) .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن صفية رضي
الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى
الدم) .
كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان معه قرين من
الملائكة وقرين من الشياطين حتى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الله أعانه عليه
فأسلم فلا يأمره إلا بخير .
وقد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة على جواز دخول
الجني بالإنسي وصرعه إياه ، فكيف يجوز لمن ينتسب إلى العلم أن ينكر ذلك بغير علم
ولا هدى ، بل تقليدا لبعض أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة؟ فالله المستعان
، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأنا أذكر لك أيها القارئ ما تيسر من كلام أهل العلم
في ذلك إن شاء الله .
بيان كلام المفسرين رحمهم الله في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا
يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)
.
قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله : يعني بذلك يتخبله الشيطان في الدنيا وهو الذي
يخنقه فيصرعه (من المس) يعني : من الجنون .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه : أي : لا يقومون من
قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له .
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره على قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ الْمَسِّ) : في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم
أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس . ا هـ .
وكلام المفسرين في هذا المعنى كثير من أراده وجده . وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه
الله في كتابه "إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين" الموجود في "مجموع الفتاوى"
جـ 19 ص 9 إلى ص 65 ما نصه بعد كلام سبق : ( ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي
وأبي بكر الرازي وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن ، إذ لم
يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا وإن كانوا مخطئين في ذلك . ولهذا ذكر
الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون إن الجني يدخل في بدن المصروع ،
كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (وهذا مبسوط في موضعه ) .
وقال أيضا رحمه الله في جـ 24 من الفتاوى ص 276- 277 ما نصه . ( وجود الجن ثابت
بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان
ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ الْمَسِّ) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أن الشيطان يجري من ابن
آدم مجرى الدم) .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل : ( قلت : لأبي إن أقواما يقولون : إن الجني
لا يدخل بدن المصروع ، فقال : يا بني ، يكذبون . هو ذا يتكلم على لسانه ) ، وهذا
الذي قاله أمر مشهور ، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه ، ويضرب على
بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما ، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب
ولا بالكلام الذي يقوله ، وقد يجر المصروع غير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه
ويحول الآلات وينقل من مكان إلى مكان ، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته
علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان
. وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع ، ومن أنكر ذلك وادعى
أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع ، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك ) . ا
هـ .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه [زاد المعاد في هدي خير العباد] جـ
4 ص 66 إلى 69 ما نصه :
"الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من الأخلاط الرديئة ،
والثاني : هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه .
وأما صرع الأرواح . فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه . ويعترفون بأن علاجه
بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدافع
أثارها ، وتعارض أفعالها وتبطلها . وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه . فذكر بعض
علاج الصرع . وقال : ( هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة ، وأما
الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج .
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلةً فأولئك ينكرون صرع
الأرواح ، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل ، وإلا فليس في
الصناعة الطبية ما يدفع ذلك ، والحس والوجود شاهد به ، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض
الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها .
إلى أن قال : وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده ، ومن له عقل
ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم .
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع ، وأمر من جهة المعالج ، فالذي
من جهة المصروع : يكون بقوة نفسه . وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها .
والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان . فإن هذا نوع محاربة . والمحارب
لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحا في نفسه
جيدا ، وأن يكون الساعد قويا فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل . فكيف إذا
عدم الأمران جميعا ، ويكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ، ولا
سلاح له .
والثاني من جهة المعالج : بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا ، حتى إن من المعالجين من
يكتفي بقوله : ( اخرج منه ) أو يقول : ( بسم الله ) أو يقول : ( لا حول ولا قوة إلا
بالله ) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : اخرج عدو الله ، أنا رسول الله .
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه . ويقول قال لك الشيخ :
اخرجي ، فإن هذا لا يحل لك ، فيفيق المصروع ، وربما خاطبها بنفسه ، وربما كانت
الروح ماردة فيخرجها بالضرب . فيفيق المصروع ولا يحس بألم ، وقد شاهدنا نحن وغيرنا
منه ذلك مرارا . . . إلى أن قال : وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره
إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة ، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله
تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات
النبوية والإيمانية ، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه وربما كان عريانا
فيؤثر فيه هذا . . ) . انتهى المقصود من كلامه رحمه الله .
وبما ذكرناه من الأدلة الشرعية وإجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على جواز
دخول الجني بالإنسي ، يتبين للقراء بطلان قول من أنكر ذلك .
تنبيه:
قد دل ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلام أهل
العلم على أن مخاطبة الجني ووعظه وتذكيره ودعوته للإسلام وإجابته إلى ذلك ليس
مخالفا لما دل عليه قوله تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام في سورة ص أنه قال :
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ) وهكذا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وضربه إذا امتنع من
الخروج كل ذلك لا يخالف الآية المذكورة ، بل ذلك واجب من باب دفع الصائل ونصر
المظلوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يفعل ذلك مع الإنسي .
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق ، واسأل الله بأسمائه الحسنى
وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه ، والثبات عليه ، وأن يمن
علينا جميعا بإصابة الحق في الأقوال والأعمال ، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من القول
عليه بغير علم ، ومن إنكار ما لم نحط به علما ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى
الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان" انتهى
باختصار .
"مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" الشيخ ابن باز (3/299-308) .