السؤال:
وفقاً لما ذُكر في القرآن فإن الله خلق الماء أول ما خلق ، ثم خلق الأرض
على الماء ، ثم خلق الجبال أوتاداً لحفظ توازنها ، ثم خلق السماء سقفاً
محفوظاً من غير عمد ، ثم خلق سبعاً طباقاً ، ومعلوم أن الشمس والقمر
والنجوم كلها في السماء الدنيا ، وكل ذلك سيتغير وينتهي يوم القيامة .
سؤالي هو : كيف نجح جبريل عليه السلام في التنقل بين السماء والأرض عندما
كان يبلّغ الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ هل جعل الله له فتحة
سرِّيَّة في السماء ينفذ منها ؟ وهل استخدم النبي صلى الله عليه وسلم نفس
الفتحة عندما عُرج به إلى السماء ؟ .
أرجو التوضيح .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
قول الأخ السائل " وفقاً لما ذُكر في القرآن فإن الله خلق الماء أول ما خَلق " :
يحتمل أمرين :
الأمر الأول : أن الماء هو أول مخلوقات الله مطلقاً ، وهذا إن كان هو قصده ففيه
ملاحظتان :
الأولى : أنه أحد الأقوال في المسألة ، والجمهور على أنه العرش ، ومن العلماء من
قال بأنه القلم .
الثانية : أن هذا القول ليس في القرآن ؛ إذ ليس في القرآن ولا في السنَّة بيان لأول
شيء خَلَقَه الله تعالى ، لا الماء ولا غيره من المخلوقات .
وثمة خلاف في أول ما خلق الله من هذا العالَم ، والأقوال المعتبرة في المسألة ثلاثة
: القلم ، كما يرجحه ابن جرير الطبري وابن الجوزي ، والعرش ، كما يرجحه ابن تيمية
وابن القيم ، ، والماء ، وهو مروي عن ابن مسعود وطائفة من السلف ، ورجحه بدر الدين
العيني .
وأما الأقوال غير المعتبرة فكثيرة ، وبعضها من الإسرائيليات ، وأغلبها أقوال لأهل
البدع ، كمن زعم أن العقل هو أول مخلوق ، وكمن زعم أن نبينا محمداً صلى الله عليه
وسلم هو أول مخلوق ، حتى صار من يعظِّم مخلوقاً أو شيئاً يجعله أول مخلوق ! .
وانظر جواب السؤال رقم (
9420 ) وفيه الترتيب بين العرش والقلم وتقديم العرش .
ثانياً:
الذين قالوا إن القلم هو أول مخلوق قد استدلوا بما
رواه عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ
فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ ، قَالَ : رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ : اكْتُبْ
مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) .
رواه الترمذي ( 2155 ) وأبو داود ( 4700 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
لكن
قد صح في السنة أحاديث نبوية تبين أن الله تعالى حين خلق القلم وأمره بكتابة مقادير
كل شيء إلى يوم القيامة : كان عرشه على الماء ، مما يقتضي أن خلق العرش كان قبل خلق
القلم ، ومن هذه الأحاديث :
أ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ
الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ ، قَالَ : وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) رواه مسلم ( 2653 ) .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
فهذا يدل على أنه قدَّر إذ كان عرشه على الماء ، فكان العرش موجوداً مخلوقاً عند
التقدير لم يوجد بعده
.
"
الصفدية " ( 2 / 82 ) .
ب.
وعن عمران بن حصين عن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : (
كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ
وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ) .
رواه البخاري ( 3019 ) .
(
كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ
ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ) .
رواه البخاري ( 6982 ) .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وفي رواية ( ثم كتب في الذِّكر كل شيء ) فهو أيضاً دليل على أن الكتابة في الذكر
كانت والعرش على الماء .
"
الصفدية " ( 2 / 82 ) .
قال ابن القيم - رحمه الله – في النونية :
والناس مختلفون في القلم الذي ***
كُتِبَ القضاء به من الديَّانِ
هل كان قبل العرش أو هو بعده *** قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه *** عند الكتابة كان ذا أركانِ
فالصحيح أن القلم مخلوق بعد العرش ، ويكون قوله في الحديث ( فأَوَّلَ ما خَلَقَ
الله القلم قال له اكتب ) يعني : حين خَلَقَ الله القلم ، فتكون ( ما ) هنا مصدرية
وليست موصولة .
وخلق العرش قبل القلم لا يعني بالضرورة أنه خلق قبل " الماء " ، وغاية ما يمكن أن
يقال إنهما خلقا معاً ، أما أن يكون العرش خُلف قبله فليس بظاهر .
ومن أدلة الذين قالوا بأن الماء أول المخلوقات :
1.
عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ ؟ قَالَ : ( كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ
وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ، وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ) .
رواه الترمذي ( 3109 ) وابن ماجه ( 182 ) .
ولفظه عند ابن ماجه - وأحمد ( 26 / 108 ) – ( ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ
) .
والحديث صححه الطبري ، وحسَّنه الترمذي والذهبي وابن تيمية ، وضعفه الألباني في "
ضعيف الترمذي " .
قال الترمذي :
قال أحمد بن منيع : قال يزيد بن هارون : العماء : أي : ليس معه شيء .
" سنن الترمذي " ( 5 / 288 ) وقيل : معنى " عماء " : السحاب الأبيض .
قال
الطبري – رحمه الله – وهو يرى أن القلم أول المخلوقات مطلقا وأنه قبل الماء وقبل
العرش - :
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب : قول من قال إن الله تبارك وتعالى خلق الماء
قبل العرش ؛ لصحة الخبر الذي ذكرتُ قبلُ عن أبي رزين العقيلي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال حين سئل أين كان ربنا عز وجل قبل أن يَخْلُق خلقَه قال : ( كان
في عماء ، ما تحته هواء ، وما فوقه هواء ، ثم خلق عرشه على الماء ) ، فأخبر صلى
الله عليه وسلم أن الله خلق عرشه على الماء ، ومحال ـ إذ كان خلَقَه على الماء ـ أن
يكون خلَقَه عليه ، والذي خلقه عليه غير موجود ، إما قبله أو معه .
فإذا كان ذلك كذلك : فالعرش لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون خُلق بعد خَلق الله
الماء ، وإما أن يكون خُلق هو والماء معاً ، فأما أن يكون خَلْقُه قبل خلق الماء :
فذلك غير جائز صحته على ما روي عن أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم .
"
تاريخ الطبري " ( 1 / 32 ) .
وقد
جزم الحافظ ابن حجر بأن حديث عمران بن حصين رضي الله عنه يدل على أن الماء سابق على
العرش . انظر : " فتح الباري " ( 6 / 289 ) .
2.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا
رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ
فَقَالَ : ( كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ ) .
رواه أحمد ( 13 / 314 ) ، وقال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ( 5 / 29 ) :
إسناده صحيح ، وصححه محققو مسند أحمد .
3.
عن أبي هريرة قال : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مِمَّ خُلِقَ الخَلْقُ ؟ قَالَ : (
مِنَ الْمَاءِ ) .
رواه الترمذي ( 2526 ) .
قال
الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي " : صحيح دون قوله ( مِمَّ خُلِقَ الخَلْقُ ) .
انتهى
قلت
: ويشهد له ما قبله ، فأقل أحوال اللفظة أن تكون حسنة .
قال
ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة لما سأله : " ممَّ خُلِقَ الخَلْقُ " فقال له:
( مِنَ المَاءِ ) : يدل على أن الماء أصل جميع المخلوقات ، ومادتها ، وجميع
المخلوقات خُلقت منه .
وقال :
وقد
حكى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود وطائفة من السلف : أن أول المخلوقات الماء .
"
لطائف المعارف " ( ص 21 ، 22 ) .
3.
رواية الإمام السدِّي في " تفسيره " بأسانيد متعددة " أن
الله تعالى لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء " .
قال
الإمام ابن خزيمة في " كتاب التوحيد " ( 1 / 569 ) : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الأَوْدِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ،
يَعْنِي ابْنَ طَلْحَةَ الْقَنَّادَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ وَهُوَ ابْنُ
نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ،
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ) قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا
خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ ... .
ورواه ابن أبى حاتم في " تفسيره " ( 1 / 74 ، 75 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 1 /
435 ، 436 ) .
وإسناد السدِّي فيه كلام ، والظاهر أنه حسن جيد ، وأما المتون ففيها غرائب ، وهذا
منها ، ولعلها مأخوذة من أحاديث بني إسرائيل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
كما أن السّدّي أيضاً يذكر تفسيره عن ابن مسعود ، وعن ابن عباس ، وغيرهما من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ، وليست تلك ألفاظهم بعينها ، بل نقل هؤلاء شبيه بنقل أهل
المغازي والسِّيَر ، وهو مما يُستشهدُ به ويُعتبَرُ به ، وبضم بعضه إلى بعض يصير
حجة ، وأما ثبوت شيءٍ بمجرد هذا النقل عن ابن عباس: فهذا لا يكون عند أهل المعرفة
بالمنقولات .
" نقض التأسيس " ( 3 / 41 ) .
وقال ابن كثير – رحمه الله - :
هذا الاسناد يَذكر به " السُّدِّي " أشياء كثيرة فيها غرابة ، وكأن كثيرا منها
متلقى من الإسرائيليات.
" البداية والنهاية " ( 1 / 19 ) .
وللشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعليق مطول على أسانيد السدي ، فانظره في تحقيقه لـ "
تفسير الطبري " ( 1 / 156 ) .
وقد علق الشيخ أبو إسحاق الحويني في تحقيقه لـ " تفسير ابن كثير " على إسناد السدي
هذا في ( 1 / 488 - 490 ) ، وقال في آخره : " وجملة القول : أن إسناد تفسير السدِّي
جيِّد حسَن ".
انتهى
ثالثاً:
إن
كان الأخ السائل قد قصد بقوله السابق – وهو الأمر الثاني المحتمل في كلامه - أن
الله تعالى خلق الماء قبل خلق السموات والأرض : فقوله صحيح – كما سبق - ، لكنه ليس
منصوصاً صريحا في القرآن كما ذَكر ، وإنما هو مفهموم من دلالة بعض النصوص كما سبق ،
وعلى ذلك يكون ترتيب المذكورات في الخلق : الماء ، العرش ، القلم ، السموات والأرض.
رابعاً:
وأما قول الأخ السائل "
ثم خلق الأرض على الماء ، ثم خلق الجبال أوتاداً لحفظ توازنها ، ثم خلق السماء
سقفاً محفوظاً من غير عمد ، ثم خلق سبعاً طباقاً
" ، فيقال فيه :
"
خلق الله الأرض على الماء " : لم يدل عليه دليل صحيح صريح ، لا من القرآن ، ولا من
السنَّة ، ومع ذلك فهو قول لبعض السلف من الصحابة والتابعين ، وهو كذلك في التوراة
والإنجيل وغيرهما .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وقد
جاءت الآثار المتعددة عن الصحابة والتابعين وغيرهم بأن الله سبحانه لما كان عرشه
على الماء : خلقَ السماء من بخار الماء ، وأيبس الأرض ، وهكذا في أول التوراة
الإخبار بأن الماء كان موجوداً ، وأن الريح كانت ترف عليه ، وأن الله خلق من ذلك
الماء السماء والأرض ، فهذه الأخبار الثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم في الكتاب
والسنَّة مطابقة لما عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى مما في التوراة ، وكل ذلك
يصدِّق بعضُه بعضاً ، ويخبر أن الله خلق هذا العالم - سمواته وأرضه - في ستة أيام ،
ثم استوى على العرش ، وأنه كان قبل ذلك مخلوقات ، كالماء ، والعرش ، فليس في أخبار
الله تعالى أن السموات والأرض أبدعتا من غير شيء ، ولا أنه لم يكن قبلهما شيء من
المخلوقات .
"
الصفدية " ( 2 / 82 ، 83 ) ، وينظر أيضا : " مجموع
الفتاوى " ( 6 / 598 ) ، " تفسير القرطبي " ( 1 / 255 ) .
الثانية : قوله " ثم خلق الجبال أوتاداً ... ثم خلق السماء " : غير صحيح ؛ إذ كان
تسوية السموات وقضاؤهن سبعاً بعد دحو الأرض وإرساء الجبال فيها ،
وفي ذلك يقول تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة/ 29 .
قال
ابن عباس – رضي الله عنه - :
خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ، ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ -
وَدَحْوُهَا : أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى - ، وَخَلَقَ
الْجِبَالَ ، وَالْجِمَالَ ، وَالآكَامَ ، وَمَا بَيْنَهُمَا : فِي يَوْمَيْنِ
آخَرَيْنِ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ( دَحَاهَا ) وَقَوْلُهُ ( خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ ) ، فَجُعِلَتْ الأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ ، وَخُلِقَتْ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ .
رواه البخاري معلَّقاً ، وانظر " فتح الباري " ( 8 / 556 ) .
وانظر تفصيلاً وافياً في هذه المسألة في جواب السؤال رقم : (
70217 ) .
الثالثة : قوله "
ثم خلق السماء سقفاً محفوظاً من غير عمد ، ثم خلق سبعاً طباقاً " ، صوابه أن يقول :
" ثم سواهن سبعاً طباقاً " ، فهي كلها سبع سموات وليست السبع غير سماء الدنيا ، قال
عز وجل : (
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة/ 29 .
خامساً:
أما
عن سؤال الأخ السائل كيف أن جبريل عليه السلام يتنقل بين السماء والأرض لتبليغ
الوحي من ربه عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع وجود الشمس والقمر والنجوم :
فهذا يرد في حال كان السؤال عن بشر يريد الصعود إلى السماء وحده بقدراته البشرية !
أما عندما يكون الحديث عن الملائكة المخلوقة من نور ، والمرسلة من رب العالمين ، أو
عندما يكون الحديث عن محمد رسول الله الذي أرسل الله إليه ليصعد إلى السماء السابعة
مع جبريل عليه السلام : فإن الأمر يختلف ؛ لأننا نتحدث الآن عن " قدرة الله تعالى "
لا عن " قدرة البشر " ، فلا يرد إشكال في صعود ونزول الملائكة إلى السماء ومنها ،
ولا يرد إشكال في معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء ، وليس ثمة فتحة خاصة
- أو طريق خاص - للملائكة تصعد إلى السماء منها ، بل إنه في ليلة القدر تتنزل
الملائكة وجبريل عليهم السلام من السماء إلى الدنيا حتى إنهم ليغطون بأنوارهم نور
الشمس التي تظهر في صبيحتها .
والذي عرفناه من السنَّة الصحيحة هو وسيلة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس ، فقد
أخبرنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقال :
(
ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ " الْبُرَاقُ " فَوْقَ الْحِمَارِ
وَدُونَ الْبَغْلِ يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ )
.
رواه مسلم ( 164 ) .
وأما المعراج فلم يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بتفاصيل وسيلته ، وغاية ما قاله
لنا :
(
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ) .
رواه البخاري ( 342 ) ومسلم ( 163 ) .
إلا
أن اللفظ نفسه – أي : " المعراج " - هو اسم آلة ، يعني : السلَّم ، ومن هنا قال
طائفة من أهل العلم إن المعراج كان بسلَّم خاص .
وقد
جاء في صفاته ما لم نقف على إسناد له ، مثل رواية :
(
ثم تقدم قدَّام ذلك إلى موضع فوضع له مرقاة من ذهب ومرقاة من فضة ، وهو المعراج ،
حتى عرج جبريلُ والنبي صلى الله عليه و سلم إلى السماء ) .
فهذه رواه الواسطي في " فضائل بيت المقدس " كما في " الدر المنثور " للسيوطي ( 5 /
226 ) من حديث كعب ، ولم يذكر لتلك الرواية إسناد .
وثمة أوصاف أخرى لتلك الآلة تراها في " فتح الباري " ( 7 / 208 ) من روايات لم يذكر
إسنادها ، ولم يحكم عليها الحافظ رحمه الله ، وفي جميعها ما يؤكد على أن العروج إلى
السماء كان بآلة ، وهي السلَّم ، لكن ليس في شيء من ذلك كله ما يحتج به . ثم ليس في
شيء من العلم بذلك ما ينفع المرء في شيء من دينه ، أو دنياه ، وليس في الجهل به ما
يضره في شيء منهما ، وقد نهينا عن تكلف التشقيق والتنقير عما لم يُبَيَّن لنا .
والله أعلم
وفقاً لما ذُكر في القرآن فإن الله خلق الماء أول ما خلق ، ثم خلق الأرض
على الماء ، ثم خلق الجبال أوتاداً لحفظ توازنها ، ثم خلق السماء سقفاً
محفوظاً من غير عمد ، ثم خلق سبعاً طباقاً ، ومعلوم أن الشمس والقمر
والنجوم كلها في السماء الدنيا ، وكل ذلك سيتغير وينتهي يوم القيامة .
سؤالي هو : كيف نجح جبريل عليه السلام في التنقل بين السماء والأرض عندما
كان يبلّغ الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ هل جعل الله له فتحة
سرِّيَّة في السماء ينفذ منها ؟ وهل استخدم النبي صلى الله عليه وسلم نفس
الفتحة عندما عُرج به إلى السماء ؟ .
أرجو التوضيح .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
قول الأخ السائل " وفقاً لما ذُكر في القرآن فإن الله خلق الماء أول ما خَلق " :
يحتمل أمرين :
الأمر الأول : أن الماء هو أول مخلوقات الله مطلقاً ، وهذا إن كان هو قصده ففيه
ملاحظتان :
الأولى : أنه أحد الأقوال في المسألة ، والجمهور على أنه العرش ، ومن العلماء من
قال بأنه القلم .
الثانية : أن هذا القول ليس في القرآن ؛ إذ ليس في القرآن ولا في السنَّة بيان لأول
شيء خَلَقَه الله تعالى ، لا الماء ولا غيره من المخلوقات .
وثمة خلاف في أول ما خلق الله من هذا العالَم ، والأقوال المعتبرة في المسألة ثلاثة
: القلم ، كما يرجحه ابن جرير الطبري وابن الجوزي ، والعرش ، كما يرجحه ابن تيمية
وابن القيم ، ، والماء ، وهو مروي عن ابن مسعود وطائفة من السلف ، ورجحه بدر الدين
العيني .
وأما الأقوال غير المعتبرة فكثيرة ، وبعضها من الإسرائيليات ، وأغلبها أقوال لأهل
البدع ، كمن زعم أن العقل هو أول مخلوق ، وكمن زعم أن نبينا محمداً صلى الله عليه
وسلم هو أول مخلوق ، حتى صار من يعظِّم مخلوقاً أو شيئاً يجعله أول مخلوق ! .
وانظر جواب السؤال رقم (
9420 ) وفيه الترتيب بين العرش والقلم وتقديم العرش .
ثانياً:
الذين قالوا إن القلم هو أول مخلوق قد استدلوا بما
رواه عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ
فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ ، قَالَ : رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ : اكْتُبْ
مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) .
رواه الترمذي ( 2155 ) وأبو داود ( 4700 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
لكن
قد صح في السنة أحاديث نبوية تبين أن الله تعالى حين خلق القلم وأمره بكتابة مقادير
كل شيء إلى يوم القيامة : كان عرشه على الماء ، مما يقتضي أن خلق العرش كان قبل خلق
القلم ، ومن هذه الأحاديث :
أ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ
الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ ، قَالَ : وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) رواه مسلم ( 2653 ) .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
فهذا يدل على أنه قدَّر إذ كان عرشه على الماء ، فكان العرش موجوداً مخلوقاً عند
التقدير لم يوجد بعده
.
"
الصفدية " ( 2 / 82 ) .
ب.
وعن عمران بن حصين عن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : (
كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ
وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ) .
رواه البخاري ( 3019 ) .
(
كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ
ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ) .
رواه البخاري ( 6982 ) .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وفي رواية ( ثم كتب في الذِّكر كل شيء ) فهو أيضاً دليل على أن الكتابة في الذكر
كانت والعرش على الماء .
"
الصفدية " ( 2 / 82 ) .
قال ابن القيم - رحمه الله – في النونية :
والناس مختلفون في القلم الذي ***
كُتِبَ القضاء به من الديَّانِ
هل كان قبل العرش أو هو بعده *** قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه *** عند الكتابة كان ذا أركانِ
فالصحيح أن القلم مخلوق بعد العرش ، ويكون قوله في الحديث ( فأَوَّلَ ما خَلَقَ
الله القلم قال له اكتب ) يعني : حين خَلَقَ الله القلم ، فتكون ( ما ) هنا مصدرية
وليست موصولة .
وخلق العرش قبل القلم لا يعني بالضرورة أنه خلق قبل " الماء " ، وغاية ما يمكن أن
يقال إنهما خلقا معاً ، أما أن يكون العرش خُلف قبله فليس بظاهر .
ومن أدلة الذين قالوا بأن الماء أول المخلوقات :
1.
عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ ؟ قَالَ : ( كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ
وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ، وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ) .
رواه الترمذي ( 3109 ) وابن ماجه ( 182 ) .
ولفظه عند ابن ماجه - وأحمد ( 26 / 108 ) – ( ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ
) .
والحديث صححه الطبري ، وحسَّنه الترمذي والذهبي وابن تيمية ، وضعفه الألباني في "
ضعيف الترمذي " .
قال الترمذي :
قال أحمد بن منيع : قال يزيد بن هارون : العماء : أي : ليس معه شيء .
" سنن الترمذي " ( 5 / 288 ) وقيل : معنى " عماء " : السحاب الأبيض .
قال
الطبري – رحمه الله – وهو يرى أن القلم أول المخلوقات مطلقا وأنه قبل الماء وقبل
العرش - :
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب : قول من قال إن الله تبارك وتعالى خلق الماء
قبل العرش ؛ لصحة الخبر الذي ذكرتُ قبلُ عن أبي رزين العقيلي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال حين سئل أين كان ربنا عز وجل قبل أن يَخْلُق خلقَه قال : ( كان
في عماء ، ما تحته هواء ، وما فوقه هواء ، ثم خلق عرشه على الماء ) ، فأخبر صلى
الله عليه وسلم أن الله خلق عرشه على الماء ، ومحال ـ إذ كان خلَقَه على الماء ـ أن
يكون خلَقَه عليه ، والذي خلقه عليه غير موجود ، إما قبله أو معه .
فإذا كان ذلك كذلك : فالعرش لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون خُلق بعد خَلق الله
الماء ، وإما أن يكون خُلق هو والماء معاً ، فأما أن يكون خَلْقُه قبل خلق الماء :
فذلك غير جائز صحته على ما روي عن أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم .
"
تاريخ الطبري " ( 1 / 32 ) .
وقد
جزم الحافظ ابن حجر بأن حديث عمران بن حصين رضي الله عنه يدل على أن الماء سابق على
العرش . انظر : " فتح الباري " ( 6 / 289 ) .
2.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا
رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ
فَقَالَ : ( كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ ) .
رواه أحمد ( 13 / 314 ) ، وقال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ( 5 / 29 ) :
إسناده صحيح ، وصححه محققو مسند أحمد .
3.
عن أبي هريرة قال : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مِمَّ خُلِقَ الخَلْقُ ؟ قَالَ : (
مِنَ الْمَاءِ ) .
رواه الترمذي ( 2526 ) .
قال
الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي " : صحيح دون قوله ( مِمَّ خُلِقَ الخَلْقُ ) .
انتهى
قلت
: ويشهد له ما قبله ، فأقل أحوال اللفظة أن تكون حسنة .
قال
ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة لما سأله : " ممَّ خُلِقَ الخَلْقُ " فقال له:
( مِنَ المَاءِ ) : يدل على أن الماء أصل جميع المخلوقات ، ومادتها ، وجميع
المخلوقات خُلقت منه .
وقال :
وقد
حكى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود وطائفة من السلف : أن أول المخلوقات الماء .
"
لطائف المعارف " ( ص 21 ، 22 ) .
3.
رواية الإمام السدِّي في " تفسيره " بأسانيد متعددة " أن
الله تعالى لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء " .
قال
الإمام ابن خزيمة في " كتاب التوحيد " ( 1 / 569 ) : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الأَوْدِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ،
يَعْنِي ابْنَ طَلْحَةَ الْقَنَّادَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ وَهُوَ ابْنُ
نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ،
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ) قَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا
خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ ... .
ورواه ابن أبى حاتم في " تفسيره " ( 1 / 74 ، 75 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 1 /
435 ، 436 ) .
وإسناد السدِّي فيه كلام ، والظاهر أنه حسن جيد ، وأما المتون ففيها غرائب ، وهذا
منها ، ولعلها مأخوذة من أحاديث بني إسرائيل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
كما أن السّدّي أيضاً يذكر تفسيره عن ابن مسعود ، وعن ابن عباس ، وغيرهما من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ، وليست تلك ألفاظهم بعينها ، بل نقل هؤلاء شبيه بنقل أهل
المغازي والسِّيَر ، وهو مما يُستشهدُ به ويُعتبَرُ به ، وبضم بعضه إلى بعض يصير
حجة ، وأما ثبوت شيءٍ بمجرد هذا النقل عن ابن عباس: فهذا لا يكون عند أهل المعرفة
بالمنقولات .
" نقض التأسيس " ( 3 / 41 ) .
وقال ابن كثير – رحمه الله - :
هذا الاسناد يَذكر به " السُّدِّي " أشياء كثيرة فيها غرابة ، وكأن كثيرا منها
متلقى من الإسرائيليات.
" البداية والنهاية " ( 1 / 19 ) .
وللشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعليق مطول على أسانيد السدي ، فانظره في تحقيقه لـ "
تفسير الطبري " ( 1 / 156 ) .
وقد علق الشيخ أبو إسحاق الحويني في تحقيقه لـ " تفسير ابن كثير " على إسناد السدي
هذا في ( 1 / 488 - 490 ) ، وقال في آخره : " وجملة القول : أن إسناد تفسير السدِّي
جيِّد حسَن ".
انتهى
ثالثاً:
إن
كان الأخ السائل قد قصد بقوله السابق – وهو الأمر الثاني المحتمل في كلامه - أن
الله تعالى خلق الماء قبل خلق السموات والأرض : فقوله صحيح – كما سبق - ، لكنه ليس
منصوصاً صريحا في القرآن كما ذَكر ، وإنما هو مفهموم من دلالة بعض النصوص كما سبق ،
وعلى ذلك يكون ترتيب المذكورات في الخلق : الماء ، العرش ، القلم ، السموات والأرض.
رابعاً:
وأما قول الأخ السائل "
ثم خلق الأرض على الماء ، ثم خلق الجبال أوتاداً لحفظ توازنها ، ثم خلق السماء
سقفاً محفوظاً من غير عمد ، ثم خلق سبعاً طباقاً
" ، فيقال فيه :
"
خلق الله الأرض على الماء " : لم يدل عليه دليل صحيح صريح ، لا من القرآن ، ولا من
السنَّة ، ومع ذلك فهو قول لبعض السلف من الصحابة والتابعين ، وهو كذلك في التوراة
والإنجيل وغيرهما .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وقد
جاءت الآثار المتعددة عن الصحابة والتابعين وغيرهم بأن الله سبحانه لما كان عرشه
على الماء : خلقَ السماء من بخار الماء ، وأيبس الأرض ، وهكذا في أول التوراة
الإخبار بأن الماء كان موجوداً ، وأن الريح كانت ترف عليه ، وأن الله خلق من ذلك
الماء السماء والأرض ، فهذه الأخبار الثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم في الكتاب
والسنَّة مطابقة لما عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى مما في التوراة ، وكل ذلك
يصدِّق بعضُه بعضاً ، ويخبر أن الله خلق هذا العالم - سمواته وأرضه - في ستة أيام ،
ثم استوى على العرش ، وأنه كان قبل ذلك مخلوقات ، كالماء ، والعرش ، فليس في أخبار
الله تعالى أن السموات والأرض أبدعتا من غير شيء ، ولا أنه لم يكن قبلهما شيء من
المخلوقات .
"
الصفدية " ( 2 / 82 ، 83 ) ، وينظر أيضا : " مجموع
الفتاوى " ( 6 / 598 ) ، " تفسير القرطبي " ( 1 / 255 ) .
الثانية : قوله " ثم خلق الجبال أوتاداً ... ثم خلق السماء " : غير صحيح ؛ إذ كان
تسوية السموات وقضاؤهن سبعاً بعد دحو الأرض وإرساء الجبال فيها ،
وفي ذلك يقول تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة/ 29 .
قال
ابن عباس – رضي الله عنه - :
خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ، ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ -
وَدَحْوُهَا : أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى - ، وَخَلَقَ
الْجِبَالَ ، وَالْجِمَالَ ، وَالآكَامَ ، وَمَا بَيْنَهُمَا : فِي يَوْمَيْنِ
آخَرَيْنِ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ( دَحَاهَا ) وَقَوْلُهُ ( خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ ) ، فَجُعِلَتْ الأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ ، وَخُلِقَتْ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ .
رواه البخاري معلَّقاً ، وانظر " فتح الباري " ( 8 / 556 ) .
وانظر تفصيلاً وافياً في هذه المسألة في جواب السؤال رقم : (
70217 ) .
الثالثة : قوله "
ثم خلق السماء سقفاً محفوظاً من غير عمد ، ثم خلق سبعاً طباقاً " ، صوابه أن يقول :
" ثم سواهن سبعاً طباقاً " ، فهي كلها سبع سموات وليست السبع غير سماء الدنيا ، قال
عز وجل : (
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة/ 29 .
خامساً:
أما
عن سؤال الأخ السائل كيف أن جبريل عليه السلام يتنقل بين السماء والأرض لتبليغ
الوحي من ربه عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع وجود الشمس والقمر والنجوم :
فهذا يرد في حال كان السؤال عن بشر يريد الصعود إلى السماء وحده بقدراته البشرية !
أما عندما يكون الحديث عن الملائكة المخلوقة من نور ، والمرسلة من رب العالمين ، أو
عندما يكون الحديث عن محمد رسول الله الذي أرسل الله إليه ليصعد إلى السماء السابعة
مع جبريل عليه السلام : فإن الأمر يختلف ؛ لأننا نتحدث الآن عن " قدرة الله تعالى "
لا عن " قدرة البشر " ، فلا يرد إشكال في صعود ونزول الملائكة إلى السماء ومنها ،
ولا يرد إشكال في معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء ، وليس ثمة فتحة خاصة
- أو طريق خاص - للملائكة تصعد إلى السماء منها ، بل إنه في ليلة القدر تتنزل
الملائكة وجبريل عليهم السلام من السماء إلى الدنيا حتى إنهم ليغطون بأنوارهم نور
الشمس التي تظهر في صبيحتها .
والذي عرفناه من السنَّة الصحيحة هو وسيلة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس ، فقد
أخبرنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقال :
(
ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ " الْبُرَاقُ " فَوْقَ الْحِمَارِ
وَدُونَ الْبَغْلِ يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ )
.
رواه مسلم ( 164 ) .
وأما المعراج فلم يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بتفاصيل وسيلته ، وغاية ما قاله
لنا :
(
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ) .
رواه البخاري ( 342 ) ومسلم ( 163 ) .
إلا
أن اللفظ نفسه – أي : " المعراج " - هو اسم آلة ، يعني : السلَّم ، ومن هنا قال
طائفة من أهل العلم إن المعراج كان بسلَّم خاص .
وقد
جاء في صفاته ما لم نقف على إسناد له ، مثل رواية :
(
ثم تقدم قدَّام ذلك إلى موضع فوضع له مرقاة من ذهب ومرقاة من فضة ، وهو المعراج ،
حتى عرج جبريلُ والنبي صلى الله عليه و سلم إلى السماء ) .
فهذه رواه الواسطي في " فضائل بيت المقدس " كما في " الدر المنثور " للسيوطي ( 5 /
226 ) من حديث كعب ، ولم يذكر لتلك الرواية إسناد .
وثمة أوصاف أخرى لتلك الآلة تراها في " فتح الباري " ( 7 / 208 ) من روايات لم يذكر
إسنادها ، ولم يحكم عليها الحافظ رحمه الله ، وفي جميعها ما يؤكد على أن العروج إلى
السماء كان بآلة ، وهي السلَّم ، لكن ليس في شيء من ذلك كله ما يحتج به . ثم ليس في
شيء من العلم بذلك ما ينفع المرء في شيء من دينه ، أو دنياه ، وليس في الجهل به ما
يضره في شيء منهما ، وقد نهينا عن تكلف التشقيق والتنقير عما لم يُبَيَّن لنا .
والله أعلم