بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السفر إلى الله
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
عباد الله:
وما زال الحديث موصولاً عن السفر، فهناك سفر لا خيار
فيه، والناس فيه متفاوتون، فمنهم من انقضى سفره ووصل إلى نهايته، ومنهم من
لا يزال ولكنه جاد في السفر فهو ينتظر نهايته، ومنهم المنقطع في سفره فلم
يتزود له كما ينبغي، واتخذ له في سفره رفقاء خذلوه في السفر.
إن ذلكم السفر -يا عبد الله- هو السفر إلى الله
-تعالى-، إنه السفر إلى الجنة -نسأل الله من فضله-، إنه سفر عظيم، سفر
طويل وشاق، إنه سفر لا تحتاج في التزود له كما تتزود للأسفار المعتادة في
الدنيا، إنه يحتاج إلى زاد خاص يحتاج إلى زاد التقوى: (وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].
لا بدّ في هذا السفر أن يكون الإنسان مستيقظاً لسفره،
فإن المقيم في وطنه لا يتأتى منه السفر حتى يستيقظ من غفلته عن السفر ثم
يتبصر في أمر سفره وخطره وما فيه من المنفعة له والمصلحة، ثم يفكر في أهبة
السفر والتزود وإعداد عدته ثم يعزم عليه.
إن هذا السفر يحتاج إلى التقوى بصنوف أنواعها، من نيات،
وأعمال وأقوال، يحتاج هذا السفر أول ما يحتاج إليه هو إخلاص النية لله
-سبحانه وتعالى-، قال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 5]، وقال -عليه الصلاة
والسلام-: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى... )).
فمن خلصت نيته كانت أعماله وسائل موصلة له إلى الغاية
العظيمة في السفر، وإن النية إذا شابها ما شابها من الرياء ونحوه كانت
سبباً في إعاقة السفر.
وكما يحتاج هذا السفر إلى التقوى فهو يحتاج أيضًا إلى
أن تكون وسائل السفر صحيحة مشروعة، أي يحتاج إلى المتابعة كما في الحديث:
((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
عباد الله:
إن وسائل هذا السفر كثيرة، هي الطاعات بأنواعها، وعلى
رأس هذه الطاعات الصلوات الخمس، فمن حافظ عليها وأداها في وقتها مع
الجماعة كانت وسيلة إلى وصوله تلك المنزلة العظيمة في سفره، قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: ((من صلى البردين دخل الجنة))، والبردان هما: الصبح
والعصر، هذا مثال من الصلوات المفروضة، وكذلك أيضاً صلاة النافلة كما في
الحديث: ((من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة)).
وكذلك الصيام: ((إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل الصائمون))،
والحج: ((الحج المبرور ليس له جزاء على الجنة)). ومن ذلك الأذكار، ومنها:
سيد الاستغفار: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على
عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء
بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ إذا قال ذلك حين يمسي فمات
من ليلته دخل الجنة)).
عباد الله:
إن هذا السفر يحتاج إلى آداب كثيرة، ومنها: الصبر على
مشقة الطريق، والاستمرار والحذر من الانقطاع: ((إن أحب العمل إلى الله
أدومه وإن قل))، ((إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)).
ومن الآداب: اصطحاب الرفيق في السفر، وهو الجليس الصالح
الذي إذا رآك على خير أعانك، وإن تقاعست عن السفر شجعك، وإن انحرفت عن
الطريق قومك.
ومن هذه الآداب: محاسبة النفس وعدم الغفلة عن الانحراف
في طريق السفر، وتعديل الخطأ عند الزلة، والتوبة من الذنوب الحاصلة في
طريق السفر، فإن المسافر لا يمكن أن يسلم من كل شيء، ولكن عليه المبادرة
والتوبة إلى الله -سبحانه وتعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، ((إن الله
يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)).
عباد الله:
إن لهذا السفر معوقات لا بدّ من الحذر منها، فمن هذه
المعوقات: الشيطان، والهوى، والنفس الأمارة بالسوء، ورفقاء السوء، فجدير
بالمسافر الجاد في سفره على الله أن يحذر هذه المعوقات التي حذرنا الله
ورسوله منها: (يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27]. وقال: (وَلَا
تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26]. وقال:
(يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ
الْقَرِينُ) [الزخرف: 38]، والمعوقات كثيرة.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله...
عباد الله:
كيف هي محطة الوصول؟ قَالَ اللَّهُ -تبارك وتعالى-:
((أعددت لعبادي الصالحين مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ،
وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ –رضي الله
عنه-: "فَاقْرَأُوا إنْ شِئْتُمْ: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ
لَهُمْ مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة: 17]".
وقد ذكر الحسن البصري -رحمه الله- جملتها، فقال: "إن
رمانها مثل الدلاء، وإن أنهارها لمن ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير
طعمه، وأنهار من عسل مصفى لم يصفه الرجال، وأنهار من خمر لذة للشاربين لا
تسفه الأحلام ولا تصدع منها الرؤوس، وإن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت
ولا خطر على قلب بشر. ملوك ناعمون أبناء ثلاث وثلاثون في سن واحد، طولهم
ستون ذراعاً في السماء، كحل جرد مرد قد أمنوا العذاب واطمأنت بهم الدار،
وإن أنهارها لتجرى على رضراض من ياقوت وزبرجد، وإن عروقها ونخلها وكرمها
اللؤلؤ وثمارها لا يعلم علمها إلا الله -تعالى-، وإن ريحها ليوجد من مسيرة
خمسمائة سنة، وإن لهم فيها خيلاً وإبلاً هفافة رحالها وأزمتها وسروجها من
ياقوت يتزاورون فيها، وأزواجهم الحور العين كأنهن بيض مكنون، وإن المرأة
لتأخذ بين أصبعيها سبعين حلة فتلبسها.
ومن من لم يصل إلى هذه المحطة فما المحطة الأخرى؟ إنها:
(نَارًا تَلَظَّى): [الليل: 14]، (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ
جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ
مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا
نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ
وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 36- 37]، (وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ
لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ
الْعَذَابِ * قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم
بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ
الْكَافِرِينَ إِلاَّ في ضَلالٍ) [غافر: 49- 50].
يا من عزم على الجنة والدار الآخرة، قد رفع لك علم فشمر
إليه، فقد أمكن التشمير، واجعل سيرك بين مطالعة منته ومشاهدة عيب النفس
والعمل والتقصير، فما أبقى مشهد النعمة والذنب للعارف من حسنة يقول: هذه
منجيتي من عذاب السعير، ما المعول إلا على عفوه ومغفرته، فكل أحد إليهما
فقير، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي، أنا المذنب المسكين وأنت
الرحيم الغفور، ما تساوي أعمالك لو سلمت مما يبطلها أدنى نعمة من نعمه
عليك، وأنت مرتهن بشكرها من حين أرسل بها إليك، فهل رعيتها بالله حق
رعايتها، وهى في تصريفك وطوع يديك؟ فتعلق بحبل الرجاء وادخل من باب التوبة
والعمل الصالح إنه غفور شكور. نهج للعبد طريق النجاة، وفتح له أبوابها،
وعرفه طرق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها، وحذره من وبال معصيته، وأشهده
على نفسه وعلى غيره شؤمها وعقابها.
وقال: إن أُطِعتُ فبفضلي وأنا أشكر، وإن عُصِيت فبقضائي، وأنا أغفر إن ربنا لغفور شكور.
أزاح عن العبد العلل، وأمره أن يستعيذ به من العجز
والكسل، ووعده أن يشكر له القليل من العمل ويغفر له الكثير من الزلل إن
ربنا لغفور شكور. أعطاه ما يشكر عليه، ثم يشكره على إحسانه إلى نفسه لا
على إحسانه إليه، ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاءه ويقربه لديه وأن
يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه إن ربنا لغفور شكور.
وثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعتها، وعكفت بكرمه آمال
المحسنين فما قطع طمعها، وخرقت السبع الطباق دعوات التائبين والسائلين
فسمعها، ووسع الخلائق عفوه ومغفرته ورزقه فما من دابة في الأرض إلا على
الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها إن ربنا لغفور شكور. يجود على عبيده
بالنوافل قبل السؤال، ويعطى سائله ومؤمله فوق ما تعلقت به منهم الآمال،
ويغفر لمن تاب إليه ولو بلغت ذنوبه عدد الأمواج والحصى والتراب والرمال،
إن ربنا لغفور شكور.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السفر إلى الله
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
عباد الله:
وما زال الحديث موصولاً عن السفر، فهناك سفر لا خيار
فيه، والناس فيه متفاوتون، فمنهم من انقضى سفره ووصل إلى نهايته، ومنهم من
لا يزال ولكنه جاد في السفر فهو ينتظر نهايته، ومنهم المنقطع في سفره فلم
يتزود له كما ينبغي، واتخذ له في سفره رفقاء خذلوه في السفر.
إن ذلكم السفر -يا عبد الله- هو السفر إلى الله
-تعالى-، إنه السفر إلى الجنة -نسأل الله من فضله-، إنه سفر عظيم، سفر
طويل وشاق، إنه سفر لا تحتاج في التزود له كما تتزود للأسفار المعتادة في
الدنيا، إنه يحتاج إلى زاد خاص يحتاج إلى زاد التقوى: (وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].
لا بدّ في هذا السفر أن يكون الإنسان مستيقظاً لسفره،
فإن المقيم في وطنه لا يتأتى منه السفر حتى يستيقظ من غفلته عن السفر ثم
يتبصر في أمر سفره وخطره وما فيه من المنفعة له والمصلحة، ثم يفكر في أهبة
السفر والتزود وإعداد عدته ثم يعزم عليه.
إن هذا السفر يحتاج إلى التقوى بصنوف أنواعها، من نيات،
وأعمال وأقوال، يحتاج هذا السفر أول ما يحتاج إليه هو إخلاص النية لله
-سبحانه وتعالى-، قال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 5]، وقال -عليه الصلاة
والسلام-: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى... )).
فمن خلصت نيته كانت أعماله وسائل موصلة له إلى الغاية
العظيمة في السفر، وإن النية إذا شابها ما شابها من الرياء ونحوه كانت
سبباً في إعاقة السفر.
وكما يحتاج هذا السفر إلى التقوى فهو يحتاج أيضًا إلى
أن تكون وسائل السفر صحيحة مشروعة، أي يحتاج إلى المتابعة كما في الحديث:
((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
عباد الله:
إن وسائل هذا السفر كثيرة، هي الطاعات بأنواعها، وعلى
رأس هذه الطاعات الصلوات الخمس، فمن حافظ عليها وأداها في وقتها مع
الجماعة كانت وسيلة إلى وصوله تلك المنزلة العظيمة في سفره، قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: ((من صلى البردين دخل الجنة))، والبردان هما: الصبح
والعصر، هذا مثال من الصلوات المفروضة، وكذلك أيضاً صلاة النافلة كما في
الحديث: ((من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة)).
وكذلك الصيام: ((إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل الصائمون))،
والحج: ((الحج المبرور ليس له جزاء على الجنة)). ومن ذلك الأذكار، ومنها:
سيد الاستغفار: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على
عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء
بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ إذا قال ذلك حين يمسي فمات
من ليلته دخل الجنة)).
عباد الله:
إن هذا السفر يحتاج إلى آداب كثيرة، ومنها: الصبر على
مشقة الطريق، والاستمرار والحذر من الانقطاع: ((إن أحب العمل إلى الله
أدومه وإن قل))، ((إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)).
ومن الآداب: اصطحاب الرفيق في السفر، وهو الجليس الصالح
الذي إذا رآك على خير أعانك، وإن تقاعست عن السفر شجعك، وإن انحرفت عن
الطريق قومك.
ومن هذه الآداب: محاسبة النفس وعدم الغفلة عن الانحراف
في طريق السفر، وتعديل الخطأ عند الزلة، والتوبة من الذنوب الحاصلة في
طريق السفر، فإن المسافر لا يمكن أن يسلم من كل شيء، ولكن عليه المبادرة
والتوبة إلى الله -سبحانه وتعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، ((إن الله
يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)).
عباد الله:
إن لهذا السفر معوقات لا بدّ من الحذر منها، فمن هذه
المعوقات: الشيطان، والهوى، والنفس الأمارة بالسوء، ورفقاء السوء، فجدير
بالمسافر الجاد في سفره على الله أن يحذر هذه المعوقات التي حذرنا الله
ورسوله منها: (يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27]. وقال: (وَلَا
تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26]. وقال:
(يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ
الْقَرِينُ) [الزخرف: 38]، والمعوقات كثيرة.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله...
عباد الله:
كيف هي محطة الوصول؟ قَالَ اللَّهُ -تبارك وتعالى-:
((أعددت لعبادي الصالحين مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ،
وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ –رضي الله
عنه-: "فَاقْرَأُوا إنْ شِئْتُمْ: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ
لَهُمْ مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة: 17]".
وقد ذكر الحسن البصري -رحمه الله- جملتها، فقال: "إن
رمانها مثل الدلاء، وإن أنهارها لمن ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير
طعمه، وأنهار من عسل مصفى لم يصفه الرجال، وأنهار من خمر لذة للشاربين لا
تسفه الأحلام ولا تصدع منها الرؤوس، وإن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت
ولا خطر على قلب بشر. ملوك ناعمون أبناء ثلاث وثلاثون في سن واحد، طولهم
ستون ذراعاً في السماء، كحل جرد مرد قد أمنوا العذاب واطمأنت بهم الدار،
وإن أنهارها لتجرى على رضراض من ياقوت وزبرجد، وإن عروقها ونخلها وكرمها
اللؤلؤ وثمارها لا يعلم علمها إلا الله -تعالى-، وإن ريحها ليوجد من مسيرة
خمسمائة سنة، وإن لهم فيها خيلاً وإبلاً هفافة رحالها وأزمتها وسروجها من
ياقوت يتزاورون فيها، وأزواجهم الحور العين كأنهن بيض مكنون، وإن المرأة
لتأخذ بين أصبعيها سبعين حلة فتلبسها.
ومن من لم يصل إلى هذه المحطة فما المحطة الأخرى؟ إنها:
(نَارًا تَلَظَّى): [الليل: 14]، (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ
جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ
مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا
نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ
وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 36- 37]، (وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ
لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ
الْعَذَابِ * قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم
بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ
الْكَافِرِينَ إِلاَّ في ضَلالٍ) [غافر: 49- 50].
يا من عزم على الجنة والدار الآخرة، قد رفع لك علم فشمر
إليه، فقد أمكن التشمير، واجعل سيرك بين مطالعة منته ومشاهدة عيب النفس
والعمل والتقصير، فما أبقى مشهد النعمة والذنب للعارف من حسنة يقول: هذه
منجيتي من عذاب السعير، ما المعول إلا على عفوه ومغفرته، فكل أحد إليهما
فقير، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي، أنا المذنب المسكين وأنت
الرحيم الغفور، ما تساوي أعمالك لو سلمت مما يبطلها أدنى نعمة من نعمه
عليك، وأنت مرتهن بشكرها من حين أرسل بها إليك، فهل رعيتها بالله حق
رعايتها، وهى في تصريفك وطوع يديك؟ فتعلق بحبل الرجاء وادخل من باب التوبة
والعمل الصالح إنه غفور شكور. نهج للعبد طريق النجاة، وفتح له أبوابها،
وعرفه طرق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها، وحذره من وبال معصيته، وأشهده
على نفسه وعلى غيره شؤمها وعقابها.
وقال: إن أُطِعتُ فبفضلي وأنا أشكر، وإن عُصِيت فبقضائي، وأنا أغفر إن ربنا لغفور شكور.
أزاح عن العبد العلل، وأمره أن يستعيذ به من العجز
والكسل، ووعده أن يشكر له القليل من العمل ويغفر له الكثير من الزلل إن
ربنا لغفور شكور. أعطاه ما يشكر عليه، ثم يشكره على إحسانه إلى نفسه لا
على إحسانه إليه، ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاءه ويقربه لديه وأن
يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه إن ربنا لغفور شكور.
وثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعتها، وعكفت بكرمه آمال
المحسنين فما قطع طمعها، وخرقت السبع الطباق دعوات التائبين والسائلين
فسمعها، ووسع الخلائق عفوه ومغفرته ورزقه فما من دابة في الأرض إلا على
الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها إن ربنا لغفور شكور. يجود على عبيده
بالنوافل قبل السؤال، ويعطى سائله ومؤمله فوق ما تعلقت به منهم الآمال،
ويغفر لمن تاب إليه ولو بلغت ذنوبه عدد الأمواج والحصى والتراب والرمال،
إن ربنا لغفور شكور.