الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله
من شرور انفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له
و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا
عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبعهم
بإحسان الى يوم الديـــن و سلم تسليما كثيرا ، أما بعد ...
إنما نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر
الكاتب: محمد حاج عيسى الجزائري
قد يظن البعض أن هذا متن حديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وليس الأمر كذلك، ولكن هي كلمة قال معناها الإمام الشافعي فتناقلها بعض
الفقهاء بعده على أنها حديث مرفوع، ولكن هي من حيث المعنى صحيحة، وقد دل
عليها أدلة شرعية كثيرة وأولها أن محمدا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم
الموحى إليه من ربه قال يوما للمختصمين عنده:« إنكم تختصمون إلي ولعل
بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع منه فمن قطعت
له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار» متفق عليه،
وقال صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد لما قتل في المعركة رجلا قال لا
إله إلا الله وزعم أنه قالها خوفا من السلاح:« أفلا شققت عن قلبه» رواه
مسلم وفي رواية له:«وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاء يوم القيامة».
وخلاف الظاهر هو الظن، ومحاولة الكشف عن الباطن ضرب من التجسس وقد
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً
مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا)
(الحجرات:12)، وهذه القاعدة عظيمة لو وعاها المسلمون وعملوا بها في جميع
الميادين في الحكم بين الناس، وفي الحكم عليهم وفي تقويم أعمالهم، ولكن من
المسلمين -وهم في غفلة شبه عامة- يحسبون أنهم أذكياء ومن ذوي البصائر
النافذة التي تخترق القلوب فتستخرج ما فيها، وتقرأ الغيب في ملامح الوجوه،
ولا يعترضن هنا معترض بأن الفراسة والتوسم حق لأننا نقول للفراسة أهلها من
الذين نوَّر الله قلوبهم بالعلم والإيمان، وهي مع ذلك لا يجوز الحكم بها؛
لأن صاحب الفراسة مهما علا شأنه فلن يبلغ رتبة النبي صلى الله عليه وسلم
الذي كان يقضي ويحكم بالظاهر، قال الشاطبي في الموافقات (2/271):« فإن أصل
الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير
عموما أيضا، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي يجرى
الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم وإن علم بواطن أحوالهم ولم يكن
ذلك بمخرجة عن جريان الظواهر على ما جرت عليه».
وهذا دليل آخر على هذا الأصل أعني معاملة النبي صلى الله عليه وسلم
للمنافقين النفاق الأكبر الذين كان يعلمهم ومع ذلك قبل منهم علانيتهم
وعاملهم معاملة المسلمين في الأنكحة والجنائز وغير ذلك، فعلى هؤلاء
المتسارعين في حلبة التكفير والتفسيق والتبديع لعباد الله بالباطل والظنون
أن ينضبطوا بضوابط الشرع الحنيف الذي من حكم بغير أحكامه الظاهرة كان أحق
الناس بأن يكون محكوما عليه لا حاكما، وفي الختام نزف هذه الرسالة من شيخ
الإسلام ابن تيمية إلى بعض هؤلاء الموصوفين لعلهم يرجعون:« وإن أردت
بالتستر أنهم يجتنون به ويتقون به غيرهم ويتظاهرون به حتى إذا خوطب أحدهم
قال أنا على مذهب السلف وهذا الذي أراده والله أعلم، فيقال له لا عيب على
من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه بل يجب قبول ذلك منه
بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقا فإن كان موافقا له باطنا وظاهرا
فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنا وظاهرا، وإن كان موافقا له في
الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق فتقبل منه علانيته وتوكل سريرته
إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم « مجموع
الفتاوى (4/149).