السؤال:
نحن نعمل في مجال الدعوة ، ويطرح علينا سؤال : يقول الله تعالى ( إن أول
بيت وضع للناس للذي ببكة ) هل وضع البيت كان أثناء مراحل خلق الله للأرض
ودحيها وقبل السماء ؟ أم بعد فراغ الله من خلق الكون كله ؟ وكيف كان الوضع
؟ هل كان بناء ؟ أم قواعد على الرمل ؟ ومن كان الواضع ؟ هل هو الله ؟ .
ويقول الله تعالى ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) أي القواعد
والأركان كانت موجودة من قبل إبراهيم ؟ ومن بنى البناء الأول ؟ .
أفيدونا جزاكم الله خيراً بإجابة نستطيع الرد على المتسائلين .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
نشكر لكم عملكم في الدعوة إلى الله ، ونسأل الله تعالى أن يثيبكم على ذلك أجراً
جزيلاً ، فالقيام بعمل الرسل الكرام وظيفة جليلة ، وواجب شرعي ، يستحق من يقوم أن
يُثنى على جهده ، ويُعان بالمستطاع .
واعلموا أنه ليس على كل سؤال جواب ، فبعض الناس يسأل عن شيءٍ غيبي لم يرد نص من
الشرع ببيانه ، كما أن بعض الناس يسأل أسئلة تهكمية أو تعجيزية لا يريد من ورائها
إلا تضييع أوقات الدعاة وطلبة العلم ، وفي النهاية لا يوجد إجابة على مسائله ، فخير
ما يُفعل معه أن تُذكر قواعد الشرع ومهماته ، ويوكَل علم ما لا نعلم إلى الله
سبحانه وتعالى .
ثانياً:
وضع البيت الحرام في الأرض لم يكن – فيما يظهر لنا – مع خلق الأرض ، ولا بعد دحيها
، وليس هو من وضع الله تعالى مباشرة ، بل كان الرب تعالى هو الآمر ببنائه ، وهو
المقدِّر أزلاً أن يكون ذلك البيت في تلك البقعة ، وقد جعل الله تعالى مكة بلداً
حراماً يوم خلق السموات والأرض ، وقِدَم تحريم البلدة لا يعني وجود البناء في ذلك
اليوم .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ ( لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ
جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ
حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ
اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ... ) . رواه البخاري ( 1737 ) ومسلم ( 1353 ) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
" ولا معارضة بين هذا وبين قوله الآتي - في الجهاد وغيره - من حديث أنس أن (
إبراهيم حرَّم مكة ) ؛ لأن المعنى : أن إبراهيم حرَّم مكة بأمر الله تعالى لا
باجتهاده ، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرِّم مكة ، أو
المعنى : أن إبراهيم أول من أظهر تحريمها بين الناس وكانت قبل ذلك عند الله حراماً
، أو أول من أظهره بعد الطوفان" .
" فتح الباري " ( 4 / 43 ) .
وقد رويت أحاديث وآثار تبين أن الكعبة كانت صخرة في الماء ، وأن دحي الأرض كان من
تحتها ، وأنها مخلوقة قبل الأرض بألفي سنة ، وكل ذلك لا يخلو من ضعف ، وما صح منه
فمأخوذ عن بني إسرائيل ، وانظر هذه الأحاديث والآثار في جواب السؤال ( 102590 ) ؛
فلا يدرى على وجه اليقين : كيف كان حال بيت الله الحرام أول ما وضع .
ثالثاً:
أما معنى " الوضع " في قوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) آل عمران/ 96 فهو بمعنى
التأسيس ، وتدل تلك الكلمة على تقريب البيت ودنوه لانتفاع الناس به في الطاعة
والعبادة ، وجاءت كلمة " الرفع " في فعل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام تشريفاً
لهما .
قال الشيخ الطاهر بن عاشور – رحمه الله - :
ومعنى ( وُضع ) أسّسَ وأثْبِتَ ، ومنه سمّي المكان موضعاً ، وأصل الوضع : أنَّه
الحطّ ، ضدّ الرفع ، ولمَّا كان الشيءُ المرفوع بعيداً عن التناول : كان الموضوع هو
قريب التناول ، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول ، والتَّهيئة للانتفاع .
" التحرير والتنوير " ( 4 / 12 ) .
والكلام عن الأولية في الآية – ( أول بيتٍ ) - هو عن أول بيت بني لعبادة الناس
وهدايتهم ، وليس أول بيت بناه الناس مطلقا .
ويدل على ذلك حديث أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ ؟ قَالَ : ( الْمَسْجِدُ
الْحَرَامُ ) .
رواه البخاري ( 3186 ) ومسلم ( 520 ) .
فالبناء هو المسجد ، والظاهر أنه هو القبلة – كما سيأتي - .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
وهذا الحديث يفسر المراد بقوله تعالى ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ) ويدل على
أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت ، وقد ورد ذلك صريحاً عن علي أخرجه
إسحاق بن راهويه وابن أبي حاتم وغيرهما بإسناد صحيح عنه ، قال : " كانت البيوت قبله
ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله " . " فتح الباري " ( 6 / 408 ) .
رابعاً:
اختلف العلماء فيمن بنى البيت أولاً على أقوال ، أشهرها :
1. أن منهم من قال : إنهم الملائكة – وهو قول أبي جعفر الباقر - .
2. ومنهم من قال : إنه آدم عليه السلام – وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب ، وممن قال
به : ابن الجوزي وابن حجر ، ويرجحه الشيخ الأمين الشنقيطي - .
3. وذهبت طائفة إلى أنه إبراهيم عليه السلام – وهو قول ابن تيمية وابن القيم وابن
كثير ويرجحه الشيخ العثيمين - .
والذي يترجح لنا : هو القول الثاني ، وأن باني البيت هو آدم عليه السلام ، والذي
كان من إبراهيم عليه السلام هو تجديد بنائه ورفعه بعد أن تهدم بالطوفان أو بغيره ،
ومما يدل على ذلك :
1. قوله تعالى ( وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ
) البقرة/ 125 ، ولا يُعهد إليهما بتطهير البيت إلا وهو موجود قبلهما .
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
آدم هو الذي أنشأه وأقامه ، فهو أقدم من إبراهيم بأزمان بعيدة ، وفى هذا يقول اللّه
تعالى ( وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ ) البقرة/ 125 ، ففى قوله
تعالى ( وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ ) إشارة
إلى أنه كان بيتا للّه قبل أن يعهد اللّه إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهيره من الأوثان
التي عبدها العابدون فيه .
" التفسير القرآني للقرآن " ( 2 / 534 ) .
2. قوله تعالى ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ
إِسْماعِيلُ ) البقرة/ 127 ، وذِكر رفع إبراهيم عليه السلام للقواعد يدل على أنها
موجودة قبله ، وإنما عمله الكشف عنها ورفعها ، والبناء عليها .
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
وفى هذا إشارة أخرى إلى أن البيت كان قائما على قواعد ، وأنها كانت إلى عهد إبراهيم
وإسماعيل قد تهدمت .. فكان عمل إبراهيم وإسماعيل فيها هو إقامتها على أصولها التي
كانت عليها.
" التفسير القرآني للقرآن " ( 2 / 534 ) .
3. قوله تعالى ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) .
4. قوله تعالى ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا
تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) .
فظاهر الآيتين يدل على وجود البيت قبل إبراهيم عليه السلام ، بل وعلى لسانه .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
فقوله ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ) أي : هيأناه له ،
وعرَّفناه إياه ؛ ليبنيه بأمرنا على قواعده الأصلية المندرسة ، حين أمرْنا ببنائه ،
كما يُهيأ المكان لمن يريد النزول فيه .
... .
وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله بوأ مكانه لإبراهيم ، فهيأه له ، وعرفه إياه ؛
ليبنيه في محله ، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يُبن
قبله ، وظاهر قوله : حين ترك إسماعيل ، وهاجر في مكة ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ
مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) يدل
على أنه كان مبنيّاً واندرس ، كما يدل عليه قوله هنا ( مَكَانَ الْبَيْتِ ) ؛ لأنه
يدل على أن له مكاناً سابقاً كان معروفاً ، والله أعلم . انتهى من " أضواء البيان "
( 4 / 296 ) .
5. كون الكعبة قِبلة الأنبياء قبل إبراهيم عليه السلام .
قال ابن عادل الحنبلي – رحمه الله - :
فدلت هذه الأقوال المتقدمة على أن الكعبة كانت موجودةً في زمان آدم عليه السلام ،
ويؤيده أن الصلوات كانت لازمةً في جميع أديان الأنبياء ؛ لقوله : ( أولئك الذين
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ
حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ
هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّواْ
سُجَّداً وَبُكِيّاً ) مريم/ 58 .
ولما كانوا يسجدون لله : فالسجود لا بد له من قِبْلَةٍ ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس
ونوح موضعاً آخر سوى القبلة : لبطل قوله : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ ) ، فدلَّ ذلك على أن قبلةَ أولئك الأنبياء هي الكعبةُ .
" اللباب في علوم الكتاب " ( 5 / 401 ) .
6. استقبال إبراهيم عليه السلام مكان الكعبة من أجل الدعاء قبل بنائه لها ، وتسميته
للبيت ووصفه بأنه محرَّم .
جاء في حديث ابن عباس المشهور : " ... فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ :
يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ
فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا
يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ : أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ
: نَعَمْ ، قَالَتْ : إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ
إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ
اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ
يَدَيْهِ فَقَالَ رَبِّ ( إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) حَتَّى بَلَغَ ( يَشْكُرُونَ ) ... .
رواه البخاري ( 3184 ) .
والثنيَّة " مكان مرتفع .
وهذا الحديث نصٌّ في أن دعاء إبراهيم عليه السلام هذا إنما كان قبل بناء البيت ؛
خلافا لمن ذهب إلى أن هذا الدعاء منه عليه السلام كان بعد بنائه البيت ، كما قاله
ابن كثير رحمه الله في " تفسيره " ( 4 / 513 ) .
7. إخبار الملَك لهاجر أم إسماعيل بوجود مكان البيت وأنه يبنيه زوجها وولدها .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ
تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا قَالَ فَشَرِبَتْ
وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ
هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَهْلَهُ وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ
تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ... .
رواه البخاري ( 3184 ) .
والخلاصة :
أن الذي ترجح عندنا هو أن آدم عليه السلام باني الكعبة المشرفة ، والمسألة ليست من
القطعيات ، بل الأقوال فيها محتملة ؛ ولا مما ينبني عليها شيء من العمل ؛ فنرى ألا
تكون مثارا للقيل والقال ، وكثرة الأخذ والجدال .
والله أعلم .
نحن نعمل في مجال الدعوة ، ويطرح علينا سؤال : يقول الله تعالى ( إن أول
بيت وضع للناس للذي ببكة ) هل وضع البيت كان أثناء مراحل خلق الله للأرض
ودحيها وقبل السماء ؟ أم بعد فراغ الله من خلق الكون كله ؟ وكيف كان الوضع
؟ هل كان بناء ؟ أم قواعد على الرمل ؟ ومن كان الواضع ؟ هل هو الله ؟ .
ويقول الله تعالى ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) أي القواعد
والأركان كانت موجودة من قبل إبراهيم ؟ ومن بنى البناء الأول ؟ .
أفيدونا جزاكم الله خيراً بإجابة نستطيع الرد على المتسائلين .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
نشكر لكم عملكم في الدعوة إلى الله ، ونسأل الله تعالى أن يثيبكم على ذلك أجراً
جزيلاً ، فالقيام بعمل الرسل الكرام وظيفة جليلة ، وواجب شرعي ، يستحق من يقوم أن
يُثنى على جهده ، ويُعان بالمستطاع .
واعلموا أنه ليس على كل سؤال جواب ، فبعض الناس يسأل عن شيءٍ غيبي لم يرد نص من
الشرع ببيانه ، كما أن بعض الناس يسأل أسئلة تهكمية أو تعجيزية لا يريد من ورائها
إلا تضييع أوقات الدعاة وطلبة العلم ، وفي النهاية لا يوجد إجابة على مسائله ، فخير
ما يُفعل معه أن تُذكر قواعد الشرع ومهماته ، ويوكَل علم ما لا نعلم إلى الله
سبحانه وتعالى .
ثانياً:
وضع البيت الحرام في الأرض لم يكن – فيما يظهر لنا – مع خلق الأرض ، ولا بعد دحيها
، وليس هو من وضع الله تعالى مباشرة ، بل كان الرب تعالى هو الآمر ببنائه ، وهو
المقدِّر أزلاً أن يكون ذلك البيت في تلك البقعة ، وقد جعل الله تعالى مكة بلداً
حراماً يوم خلق السموات والأرض ، وقِدَم تحريم البلدة لا يعني وجود البناء في ذلك
اليوم .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ ( لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ
جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ
حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ
اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ... ) . رواه البخاري ( 1737 ) ومسلم ( 1353 ) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
" ولا معارضة بين هذا وبين قوله الآتي - في الجهاد وغيره - من حديث أنس أن (
إبراهيم حرَّم مكة ) ؛ لأن المعنى : أن إبراهيم حرَّم مكة بأمر الله تعالى لا
باجتهاده ، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرِّم مكة ، أو
المعنى : أن إبراهيم أول من أظهر تحريمها بين الناس وكانت قبل ذلك عند الله حراماً
، أو أول من أظهره بعد الطوفان" .
" فتح الباري " ( 4 / 43 ) .
وقد رويت أحاديث وآثار تبين أن الكعبة كانت صخرة في الماء ، وأن دحي الأرض كان من
تحتها ، وأنها مخلوقة قبل الأرض بألفي سنة ، وكل ذلك لا يخلو من ضعف ، وما صح منه
فمأخوذ عن بني إسرائيل ، وانظر هذه الأحاديث والآثار في جواب السؤال ( 102590 ) ؛
فلا يدرى على وجه اليقين : كيف كان حال بيت الله الحرام أول ما وضع .
ثالثاً:
أما معنى " الوضع " في قوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) آل عمران/ 96 فهو بمعنى
التأسيس ، وتدل تلك الكلمة على تقريب البيت ودنوه لانتفاع الناس به في الطاعة
والعبادة ، وجاءت كلمة " الرفع " في فعل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام تشريفاً
لهما .
قال الشيخ الطاهر بن عاشور – رحمه الله - :
ومعنى ( وُضع ) أسّسَ وأثْبِتَ ، ومنه سمّي المكان موضعاً ، وأصل الوضع : أنَّه
الحطّ ، ضدّ الرفع ، ولمَّا كان الشيءُ المرفوع بعيداً عن التناول : كان الموضوع هو
قريب التناول ، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول ، والتَّهيئة للانتفاع .
" التحرير والتنوير " ( 4 / 12 ) .
والكلام عن الأولية في الآية – ( أول بيتٍ ) - هو عن أول بيت بني لعبادة الناس
وهدايتهم ، وليس أول بيت بناه الناس مطلقا .
ويدل على ذلك حديث أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ ؟ قَالَ : ( الْمَسْجِدُ
الْحَرَامُ ) .
رواه البخاري ( 3186 ) ومسلم ( 520 ) .
فالبناء هو المسجد ، والظاهر أنه هو القبلة – كما سيأتي - .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
وهذا الحديث يفسر المراد بقوله تعالى ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ) ويدل على
أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت ، وقد ورد ذلك صريحاً عن علي أخرجه
إسحاق بن راهويه وابن أبي حاتم وغيرهما بإسناد صحيح عنه ، قال : " كانت البيوت قبله
ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله " . " فتح الباري " ( 6 / 408 ) .
رابعاً:
اختلف العلماء فيمن بنى البيت أولاً على أقوال ، أشهرها :
1. أن منهم من قال : إنهم الملائكة – وهو قول أبي جعفر الباقر - .
2. ومنهم من قال : إنه آدم عليه السلام – وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب ، وممن قال
به : ابن الجوزي وابن حجر ، ويرجحه الشيخ الأمين الشنقيطي - .
3. وذهبت طائفة إلى أنه إبراهيم عليه السلام – وهو قول ابن تيمية وابن القيم وابن
كثير ويرجحه الشيخ العثيمين - .
والذي يترجح لنا : هو القول الثاني ، وأن باني البيت هو آدم عليه السلام ، والذي
كان من إبراهيم عليه السلام هو تجديد بنائه ورفعه بعد أن تهدم بالطوفان أو بغيره ،
ومما يدل على ذلك :
1. قوله تعالى ( وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ
) البقرة/ 125 ، ولا يُعهد إليهما بتطهير البيت إلا وهو موجود قبلهما .
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
آدم هو الذي أنشأه وأقامه ، فهو أقدم من إبراهيم بأزمان بعيدة ، وفى هذا يقول اللّه
تعالى ( وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ ) البقرة/ 125 ، ففى قوله
تعالى ( وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ ) إشارة
إلى أنه كان بيتا للّه قبل أن يعهد اللّه إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهيره من الأوثان
التي عبدها العابدون فيه .
" التفسير القرآني للقرآن " ( 2 / 534 ) .
2. قوله تعالى ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ
إِسْماعِيلُ ) البقرة/ 127 ، وذِكر رفع إبراهيم عليه السلام للقواعد يدل على أنها
موجودة قبله ، وإنما عمله الكشف عنها ورفعها ، والبناء عليها .
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
وفى هذا إشارة أخرى إلى أن البيت كان قائما على قواعد ، وأنها كانت إلى عهد إبراهيم
وإسماعيل قد تهدمت .. فكان عمل إبراهيم وإسماعيل فيها هو إقامتها على أصولها التي
كانت عليها.
" التفسير القرآني للقرآن " ( 2 / 534 ) .
3. قوله تعالى ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) .
4. قوله تعالى ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا
تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) .
فظاهر الآيتين يدل على وجود البيت قبل إبراهيم عليه السلام ، بل وعلى لسانه .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
فقوله ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ) أي : هيأناه له ،
وعرَّفناه إياه ؛ ليبنيه بأمرنا على قواعده الأصلية المندرسة ، حين أمرْنا ببنائه ،
كما يُهيأ المكان لمن يريد النزول فيه .
... .
وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله بوأ مكانه لإبراهيم ، فهيأه له ، وعرفه إياه ؛
ليبنيه في محله ، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يُبن
قبله ، وظاهر قوله : حين ترك إسماعيل ، وهاجر في مكة ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ
مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) يدل
على أنه كان مبنيّاً واندرس ، كما يدل عليه قوله هنا ( مَكَانَ الْبَيْتِ ) ؛ لأنه
يدل على أن له مكاناً سابقاً كان معروفاً ، والله أعلم . انتهى من " أضواء البيان "
( 4 / 296 ) .
5. كون الكعبة قِبلة الأنبياء قبل إبراهيم عليه السلام .
قال ابن عادل الحنبلي – رحمه الله - :
فدلت هذه الأقوال المتقدمة على أن الكعبة كانت موجودةً في زمان آدم عليه السلام ،
ويؤيده أن الصلوات كانت لازمةً في جميع أديان الأنبياء ؛ لقوله : ( أولئك الذين
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ
حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ
هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّواْ
سُجَّداً وَبُكِيّاً ) مريم/ 58 .
ولما كانوا يسجدون لله : فالسجود لا بد له من قِبْلَةٍ ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس
ونوح موضعاً آخر سوى القبلة : لبطل قوله : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ ) ، فدلَّ ذلك على أن قبلةَ أولئك الأنبياء هي الكعبةُ .
" اللباب في علوم الكتاب " ( 5 / 401 ) .
6. استقبال إبراهيم عليه السلام مكان الكعبة من أجل الدعاء قبل بنائه لها ، وتسميته
للبيت ووصفه بأنه محرَّم .
جاء في حديث ابن عباس المشهور : " ... فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ :
يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ
فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا
يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ : أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ
: نَعَمْ ، قَالَتْ : إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ
إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ
اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ
يَدَيْهِ فَقَالَ رَبِّ ( إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) حَتَّى بَلَغَ ( يَشْكُرُونَ ) ... .
رواه البخاري ( 3184 ) .
والثنيَّة " مكان مرتفع .
وهذا الحديث نصٌّ في أن دعاء إبراهيم عليه السلام هذا إنما كان قبل بناء البيت ؛
خلافا لمن ذهب إلى أن هذا الدعاء منه عليه السلام كان بعد بنائه البيت ، كما قاله
ابن كثير رحمه الله في " تفسيره " ( 4 / 513 ) .
7. إخبار الملَك لهاجر أم إسماعيل بوجود مكان البيت وأنه يبنيه زوجها وولدها .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ
تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا قَالَ فَشَرِبَتْ
وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ
هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَهْلَهُ وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ
تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ... .
رواه البخاري ( 3184 ) .
والخلاصة :
أن الذي ترجح عندنا هو أن آدم عليه السلام باني الكعبة المشرفة ، والمسألة ليست من
القطعيات ، بل الأقوال فيها محتملة ؛ ولا مما ينبني عليها شيء من العمل ؛ فنرى ألا
تكون مثارا للقيل والقال ، وكثرة الأخذ والجدال .
والله أعلم .