أريد الهداية وطريق الصلاح ولا أعرف . أحاول ولا
أستطيع . كلما أحاول نفسي الأمارة بالسوء تغلبني ، والشيطان يُذَلِّلُ لِيَ
المعصية . ماذا أفعل ؟
الحمد لله
أصدقك القول – أخي السائل – أنني أحسست بالمشاعر التي يكنها قلبك من خلال كلماتك
المعدودة في السؤال ، رأيت فيها صدقا ورغبة ورهبة ، ولمست فيها حرصا وحبا وخوفا ،
كما سمعت لها أنينا أحدثته قيود الهوى والشيطان .
ولكنني سرعان ما تعجبتُ من هذه النفس ، وتساءلتُ إن كانت تنتظر اللحظة الفاصلة التي
تنتقل بها فجأة نحو الهداية ، من غير أن تسعى أنت أو تتعب في هذه السبيل ؟!!
أو كانت تتنظر اللحظة الفاصلة حقا ، بين وقت الإمهال ، ووقت النهاية ، وضياع الفرصة
بهجمة الموت :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ
إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ
هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ
يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )
رواه الترمذي (2306) وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
غَرِيبٌ ، وضعفه الألباني .
والحقيقة التي يجب عليك إدراكُها ، والإيمانُ بها ، والتأملُ فيها أولا وأخيرا ، هي
أن التغيير يبدأ منك ، ومنك فقط ، من أعماق نفسك ، وإرادتك وسعيك ، وليس بكلمات
يكتبها لك المفتي ، ولا بتعليمات يرسلها إليك ناصح ، بل ولا بعزيمةٍ مترددةٍ فاترةٍ
على الهداية ، تحركها العاطفة المؤقتة ، فلا تلبث أن تنطفئ وترجع إلى عهدها الأول .
فإذا وعيت ذلك أدرَكتَ أنك تعيشُ في هذه الحياة في معركةٍ واحدةٍ ، أو لِنَقُل في
تحدٍّ واحد ، يُحَتِّمُ عليك أن تجمع له همَّكَ وفكرَك وجهدَك ، وتبذلَ في سبيل
الفوز فيه كلَّ حيلةٍ ووسيلةٍ ، وستجد نفسك مضطرةً إلى السؤال كثيرا ، والبحث كثيرا
، والقراءة كثيرا ، كي تصل إلى السر الذي تتحكم فيه بداخلك ، فتطفئ َمن خلاله
نوازعَ الشر والكسل والفشل ، وتوقظَ به قيم الخير والنجاح والعطاء .
وملخص ذلك في جملة سهلةٍ يسيرةٍ على من يسَّرها الله عليه ، بل في كلمة واحدة ، هي
:
" القوة " القوة في العزيمة ، والقوة في الضبط والسيطرة ، والقوة في الاحتمال .
وأكاد أجزم لك أخي السائل أنك إن تفكرت في هذا المعنى " قوة النفس " ملكت به مفاتح
الخير كلَّها إن شاء الله .
والموعظة إنما يقصد بها بعث هذا المعنى مِن جديد ، كي يتخلَّصَ القلب من أغلال
الوهن والضعف التي تحول بينه وبين الهدى والنجاة ، ولعلي هنا أرسل لك ببعض الكلمات
التي تخاطب بها نفسك ، لعلها تبث فيها روح الهداية والثبات :
" يا نفس ! أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار ، وأنك صائرةٌ إلى إحداهما على
القرب ؟! فما لك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو ، وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم
!؟ وعساك اليوم تُختطفين أو غدا ، فأراك تَرَينَ الموت بعيدا ، ويراه الله قريبا .
أما تعلمين أنَّ كلَّ آتٍ قريب ، وأن البعيدَ ما ليس بآت ؟!
أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ، ومن غير مواعدة ومواطأة ؟ وأن
كلَّ نَفَسٍ من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة ، فإن لم يكن الموت فجأة فيكون
المرض فجأة ، ثم يفضي إلى الموت ، فما لك لا تستعدين للموت وهو أقرب إليك من كل
قريب ؟!
أما تتدبرين قوله تعالى : ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا
اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ )
الأنبياء/1-3
فإن كنتِ يا نفسُ قد عرفت ذاك وآمنتِ به ، فما لك تُسوِّفين العمل ، والموتُ لك
بالمرصاد ؟!
أرأيتِ لو سافر رجل لِيتفَقَّهَ في الغربة ، فأقام فيها سنين متعطِّلاً بَطَّالاً ،
يَعِدُ نفسَه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه ، هل كنت تضحكين من عقله
؟!
ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع ، وأنه موصل إلى الدرجات العلا ، فلعل اليوم آخر
عمرك ، فلم لا تشتغلين فيه بذلك ؟
أفتنتظرين يوما يأتيك لا تعسُرُ فيه مخالفةُ الشهوات ؟ هذا يومٌ لم يخلقه الله
قَطُّ ، ولا يخلقه ، فلا تكون الجنةُ قَطُّ إلا محفوفةً بالمكاره ، ولا تكون
المكارهُ قَطُّ خفيفةً على النفوس ، وهذا محالٌ وجوده .
أما تتأملين مذ كم تَعِدين نفسك وتقولين : غدًا ، غدًا ؟ فقد جاء الغد وصار يوما ،
فكيف وجدتِهِ ؟ أما علمتِ أن الغد الذي جاء وصار يوما كان له حكم الأمس ، لا بل
الذي تعجزين عنه اليوم ، فأنت غدا عنه أعجز وأعجز ، لأنَّ الشهوةَ كالشجرة الراسخة
التي تعب العبد بقلعها ، فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخَّرها ، كان كمن عجز عن
قلع شجرة وهو شاب قوي ، فأخرها إلى سنة أخرى ، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة
قوة ورسوخا ، ويزد القالع ضعفا ووهنا .
ويحكِ يا نفسُ ! لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا ، ولا يغرنك بالله الغرور ، فانظري
لنفسك ، فما أمرُك بمهمٍّ لغيرِك ، ولا تُضيِّعي أوقاتك ، فالأنفاسُ معدودة ، فإذا
مضى منك نَفَسٌ فقد ذهب بعضك ، فاغتنمي الصحة قبل السقم ، والفراغَ قبل الشغل ،
والغنى قبل الفقر ، والشباب قبل الهرم ، والحياةَ قبل الموت ، واستعدي للآخرة على
قدرِ بقائِك فيها .
ويحكِ يا نفسُ ! ما أراكِ إلا ألفت الدنيا وأنست بها ، فعسُرَ عليكِ مفارقتُها وأنت
مقبلة على مقاربتها ، وتؤكدين في نفسك مودتها ، فحسبي أنك غافلةٌ عن عقاب الله
وثوابه ، وعن أهوال القيامة وأحوالِها ، فما أنت مؤمنةٌ بالموت المفرِّق بينك وبين
محابِّكِ .
ويحكِ يا نفسُ ! أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها مع أن الموت من
ورائه ، فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة ، وإنما يتزود من السم المهلك وهو لا
يدري ؟
أوَمَا تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ثم ذهبوا وخلوا ؟ وكيف أورث الله
أرضهم وديارهم أعداءهم ؟ أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون ، ويبنون ما لا يسكنون
، ويؤملون ما لا يدركون ؟ فهل في الدنيا حمق وانتكاس أعظم من هذا ؟ يعمر الواحد
دنياه وهو مرتحل عنها يقينا ، ويخرب آخرته وهو صائر إليها قطعا ؟
ويحكِ يا نفسُ ! ما لك إلا أيامٌ معدودة ، هي بضاعتك إن اتجرت فيها ، وقد ضيعتِ
أكثرَها ، فلو بكيت بقيةَ عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك ، فكيف إذا
ضيعت البقية وأصررت على عادتك ؟ أما تعلمين يا نفس أن الموت موعدُك ، والقبرَ بيتُك
، والترابَ فراشُك ، والدودَ أنيسُك ، والفزعَ الأكبرَ بين يديك ؟
فاحذري أيتها النفس المسكينة يوما آلى الله فيه على نفسه أن لا يترك عبدا أَمَرَه
في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله دقيقه وجليله ، سره وعلانيته ، فانظري يا نفس
بأي بدن تقفين بين يدي الله ، بأي لسان تجيبين ، وأعدي للسؤال جوابا ، وللجواب
صوابا ، واعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال ، وفي دارِ زوالٍ لدار مقامة ،
وفي دار حزن ونَصَبٍ لدار نعيم وخلود ، اعملي قبل أن لا تعملي ، اخرجي من الدنيا
اختيارا خروج الأحرار ، قبل أن تخرجي منها على الاضطرار ، ولا تفرحي بما يساعدك من
زهرات الدنيا ، فرب مسرور مغبون ، ورب مغبون لا يشعر ، فويل لمن له الويل ثم لا
يشعر ، يضحك ويفرح ويلهو ويمرح ويأكل ويشرب ، وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود
النار .
فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتبارا ، وسعيك لها اضطرارا ، ورفضك لها اختيارا ،
وطلبك للآخرة ابتداءا ، ولا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أُتِي ، ويبتغي الزيادةَ فيما
بَقي .
واعلمي يا نفس أنه ليس للدين عِوض ، ولا للإيمان بَدَل ، ولا للجسد خلف ، ومن كانت
مطيته الليل والنهار ، فإنه يُسار به وإن لم يسر .
فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة ، واقبلي هذه النصيحة ، فإن من أعرض عن الموعظة فقد رضي
بالنار ، وما أراك بها راضية ، ولا لهذه الموعظة واعية .
فإن كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجد والقيام ، فإن
لم تزل فبالمواظبة على الصيام ، فإن لم يزل فبقلة المخالطة والكلام ، فإن لم يزل
فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام ، واستعيني بأرحم الراحمين ، واشتكي إلى أكرم
الأكرمين ، وأدمني الاستغاثة ، ولا تملي طول الشكاية ، لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك ،
فإنَّ مصيبَتَك قد عظمت ، وبليتَك قد تفاقمت ، وتماديك قد طال ، وقد انقطعت منك
الحيل ، وراحت عنك العلل ، فلا مذهب ولا مطلب ، ولا مستغاثَ ولا مهرب ، ولا ملجأَ
ولا منجا إلا إلى مولاكِ ، فافزعي إليه بالتضرع ، واخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك
وكثرة ذنوبك ؛ لأنه يرحم المتضرع الذليل ، ويغيث الطالب المتلهف ، ويجيب دعوة
المضطر ، وقد أصبحت اليوم مضطرة ، وإلى رحمته محتاجة ، وقد ضاقت بك السبل ، وانسدت
عليك الطرق ، وانقطعت منك الحيل ، والمطلوب كريم ، والمسؤول جواد ، والمستغاث به بر
رؤوف ، والرحمة واسعة ، والكرم فائض ، والعفو شامل ."
اختصارا من "إحياء علوم الدين" (4/416-422)
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكلام الصالحين ، وموعظة الصادقين .
والله أعلم .
أستطيع . كلما أحاول نفسي الأمارة بالسوء تغلبني ، والشيطان يُذَلِّلُ لِيَ
المعصية . ماذا أفعل ؟
الحمد لله
أصدقك القول – أخي السائل – أنني أحسست بالمشاعر التي يكنها قلبك من خلال كلماتك
المعدودة في السؤال ، رأيت فيها صدقا ورغبة ورهبة ، ولمست فيها حرصا وحبا وخوفا ،
كما سمعت لها أنينا أحدثته قيود الهوى والشيطان .
ولكنني سرعان ما تعجبتُ من هذه النفس ، وتساءلتُ إن كانت تنتظر اللحظة الفاصلة التي
تنتقل بها فجأة نحو الهداية ، من غير أن تسعى أنت أو تتعب في هذه السبيل ؟!!
أو كانت تتنظر اللحظة الفاصلة حقا ، بين وقت الإمهال ، ووقت النهاية ، وضياع الفرصة
بهجمة الموت :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ
إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ
هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ
يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )
رواه الترمذي (2306) وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
غَرِيبٌ ، وضعفه الألباني .
والحقيقة التي يجب عليك إدراكُها ، والإيمانُ بها ، والتأملُ فيها أولا وأخيرا ، هي
أن التغيير يبدأ منك ، ومنك فقط ، من أعماق نفسك ، وإرادتك وسعيك ، وليس بكلمات
يكتبها لك المفتي ، ولا بتعليمات يرسلها إليك ناصح ، بل ولا بعزيمةٍ مترددةٍ فاترةٍ
على الهداية ، تحركها العاطفة المؤقتة ، فلا تلبث أن تنطفئ وترجع إلى عهدها الأول .
فإذا وعيت ذلك أدرَكتَ أنك تعيشُ في هذه الحياة في معركةٍ واحدةٍ ، أو لِنَقُل في
تحدٍّ واحد ، يُحَتِّمُ عليك أن تجمع له همَّكَ وفكرَك وجهدَك ، وتبذلَ في سبيل
الفوز فيه كلَّ حيلةٍ ووسيلةٍ ، وستجد نفسك مضطرةً إلى السؤال كثيرا ، والبحث كثيرا
، والقراءة كثيرا ، كي تصل إلى السر الذي تتحكم فيه بداخلك ، فتطفئ َمن خلاله
نوازعَ الشر والكسل والفشل ، وتوقظَ به قيم الخير والنجاح والعطاء .
وملخص ذلك في جملة سهلةٍ يسيرةٍ على من يسَّرها الله عليه ، بل في كلمة واحدة ، هي
:
" القوة " القوة في العزيمة ، والقوة في الضبط والسيطرة ، والقوة في الاحتمال .
وأكاد أجزم لك أخي السائل أنك إن تفكرت في هذا المعنى " قوة النفس " ملكت به مفاتح
الخير كلَّها إن شاء الله .
والموعظة إنما يقصد بها بعث هذا المعنى مِن جديد ، كي يتخلَّصَ القلب من أغلال
الوهن والضعف التي تحول بينه وبين الهدى والنجاة ، ولعلي هنا أرسل لك ببعض الكلمات
التي تخاطب بها نفسك ، لعلها تبث فيها روح الهداية والثبات :
" يا نفس ! أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار ، وأنك صائرةٌ إلى إحداهما على
القرب ؟! فما لك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو ، وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم
!؟ وعساك اليوم تُختطفين أو غدا ، فأراك تَرَينَ الموت بعيدا ، ويراه الله قريبا .
أما تعلمين أنَّ كلَّ آتٍ قريب ، وأن البعيدَ ما ليس بآت ؟!
أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ، ومن غير مواعدة ومواطأة ؟ وأن
كلَّ نَفَسٍ من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة ، فإن لم يكن الموت فجأة فيكون
المرض فجأة ، ثم يفضي إلى الموت ، فما لك لا تستعدين للموت وهو أقرب إليك من كل
قريب ؟!
أما تتدبرين قوله تعالى : ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا
اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ )
الأنبياء/1-3
فإن كنتِ يا نفسُ قد عرفت ذاك وآمنتِ به ، فما لك تُسوِّفين العمل ، والموتُ لك
بالمرصاد ؟!
أرأيتِ لو سافر رجل لِيتفَقَّهَ في الغربة ، فأقام فيها سنين متعطِّلاً بَطَّالاً ،
يَعِدُ نفسَه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه ، هل كنت تضحكين من عقله
؟!
ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع ، وأنه موصل إلى الدرجات العلا ، فلعل اليوم آخر
عمرك ، فلم لا تشتغلين فيه بذلك ؟
أفتنتظرين يوما يأتيك لا تعسُرُ فيه مخالفةُ الشهوات ؟ هذا يومٌ لم يخلقه الله
قَطُّ ، ولا يخلقه ، فلا تكون الجنةُ قَطُّ إلا محفوفةً بالمكاره ، ولا تكون
المكارهُ قَطُّ خفيفةً على النفوس ، وهذا محالٌ وجوده .
أما تتأملين مذ كم تَعِدين نفسك وتقولين : غدًا ، غدًا ؟ فقد جاء الغد وصار يوما ،
فكيف وجدتِهِ ؟ أما علمتِ أن الغد الذي جاء وصار يوما كان له حكم الأمس ، لا بل
الذي تعجزين عنه اليوم ، فأنت غدا عنه أعجز وأعجز ، لأنَّ الشهوةَ كالشجرة الراسخة
التي تعب العبد بقلعها ، فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخَّرها ، كان كمن عجز عن
قلع شجرة وهو شاب قوي ، فأخرها إلى سنة أخرى ، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة
قوة ورسوخا ، ويزد القالع ضعفا ووهنا .
ويحكِ يا نفسُ ! لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا ، ولا يغرنك بالله الغرور ، فانظري
لنفسك ، فما أمرُك بمهمٍّ لغيرِك ، ولا تُضيِّعي أوقاتك ، فالأنفاسُ معدودة ، فإذا
مضى منك نَفَسٌ فقد ذهب بعضك ، فاغتنمي الصحة قبل السقم ، والفراغَ قبل الشغل ،
والغنى قبل الفقر ، والشباب قبل الهرم ، والحياةَ قبل الموت ، واستعدي للآخرة على
قدرِ بقائِك فيها .
ويحكِ يا نفسُ ! ما أراكِ إلا ألفت الدنيا وأنست بها ، فعسُرَ عليكِ مفارقتُها وأنت
مقبلة على مقاربتها ، وتؤكدين في نفسك مودتها ، فحسبي أنك غافلةٌ عن عقاب الله
وثوابه ، وعن أهوال القيامة وأحوالِها ، فما أنت مؤمنةٌ بالموت المفرِّق بينك وبين
محابِّكِ .
ويحكِ يا نفسُ ! أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها مع أن الموت من
ورائه ، فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة ، وإنما يتزود من السم المهلك وهو لا
يدري ؟
أوَمَا تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ثم ذهبوا وخلوا ؟ وكيف أورث الله
أرضهم وديارهم أعداءهم ؟ أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون ، ويبنون ما لا يسكنون
، ويؤملون ما لا يدركون ؟ فهل في الدنيا حمق وانتكاس أعظم من هذا ؟ يعمر الواحد
دنياه وهو مرتحل عنها يقينا ، ويخرب آخرته وهو صائر إليها قطعا ؟
ويحكِ يا نفسُ ! ما لك إلا أيامٌ معدودة ، هي بضاعتك إن اتجرت فيها ، وقد ضيعتِ
أكثرَها ، فلو بكيت بقيةَ عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك ، فكيف إذا
ضيعت البقية وأصررت على عادتك ؟ أما تعلمين يا نفس أن الموت موعدُك ، والقبرَ بيتُك
، والترابَ فراشُك ، والدودَ أنيسُك ، والفزعَ الأكبرَ بين يديك ؟
فاحذري أيتها النفس المسكينة يوما آلى الله فيه على نفسه أن لا يترك عبدا أَمَرَه
في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله دقيقه وجليله ، سره وعلانيته ، فانظري يا نفس
بأي بدن تقفين بين يدي الله ، بأي لسان تجيبين ، وأعدي للسؤال جوابا ، وللجواب
صوابا ، واعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال ، وفي دارِ زوالٍ لدار مقامة ،
وفي دار حزن ونَصَبٍ لدار نعيم وخلود ، اعملي قبل أن لا تعملي ، اخرجي من الدنيا
اختيارا خروج الأحرار ، قبل أن تخرجي منها على الاضطرار ، ولا تفرحي بما يساعدك من
زهرات الدنيا ، فرب مسرور مغبون ، ورب مغبون لا يشعر ، فويل لمن له الويل ثم لا
يشعر ، يضحك ويفرح ويلهو ويمرح ويأكل ويشرب ، وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود
النار .
فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتبارا ، وسعيك لها اضطرارا ، ورفضك لها اختيارا ،
وطلبك للآخرة ابتداءا ، ولا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أُتِي ، ويبتغي الزيادةَ فيما
بَقي .
واعلمي يا نفس أنه ليس للدين عِوض ، ولا للإيمان بَدَل ، ولا للجسد خلف ، ومن كانت
مطيته الليل والنهار ، فإنه يُسار به وإن لم يسر .
فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة ، واقبلي هذه النصيحة ، فإن من أعرض عن الموعظة فقد رضي
بالنار ، وما أراك بها راضية ، ولا لهذه الموعظة واعية .
فإن كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجد والقيام ، فإن
لم تزل فبالمواظبة على الصيام ، فإن لم يزل فبقلة المخالطة والكلام ، فإن لم يزل
فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام ، واستعيني بأرحم الراحمين ، واشتكي إلى أكرم
الأكرمين ، وأدمني الاستغاثة ، ولا تملي طول الشكاية ، لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك ،
فإنَّ مصيبَتَك قد عظمت ، وبليتَك قد تفاقمت ، وتماديك قد طال ، وقد انقطعت منك
الحيل ، وراحت عنك العلل ، فلا مذهب ولا مطلب ، ولا مستغاثَ ولا مهرب ، ولا ملجأَ
ولا منجا إلا إلى مولاكِ ، فافزعي إليه بالتضرع ، واخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك
وكثرة ذنوبك ؛ لأنه يرحم المتضرع الذليل ، ويغيث الطالب المتلهف ، ويجيب دعوة
المضطر ، وقد أصبحت اليوم مضطرة ، وإلى رحمته محتاجة ، وقد ضاقت بك السبل ، وانسدت
عليك الطرق ، وانقطعت منك الحيل ، والمطلوب كريم ، والمسؤول جواد ، والمستغاث به بر
رؤوف ، والرحمة واسعة ، والكرم فائض ، والعفو شامل ."
اختصارا من "إحياء علوم الدين" (4/416-422)
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكلام الصالحين ، وموعظة الصادقين .
والله أعلم .