الحمد لله
المتفضِّل بالنِّعم، وكاشف الضرَّاء والنِّقم ،
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين
محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
يعتبر حادث الهجرة
فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية،
هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية،
ولقد كان لهذه الحادث آثار جليلة على المسلمين،
ليس فقط في عصر رسول الله " صلى الله عليه وسلم "
ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين
في كل عصر ومصر،
كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضاً،
لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل
والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية،
قدمت، ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية
والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع،
والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان
بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته.
سيرة المصطفى " صلى الله عليه وسلم "
لا تحد آثارها بحدود الزمان والمكان،
وخاصة أنها سيرة القدوة الحسنة والقيادة الراشدة
قيادة محمد " صلى الله عليه وسلم "
الذي أرسله الله رحمة للعالمين،
وما نتج عن هذه الهجرة من أحكام
ليست منسوخة ولكنها تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان
ما دام حال المسلمين مشابهاً للحال التي كانت عليها حالهم
أيام الهجرة إلى يثرب.
وعلى هذا فإن من معاني الهجرة
يمكن أن يأخذ بها المسلمون في زماننا هذا،
بل إن الأخذ بها ضرورة حياتية، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً
مادياً من بلد إلى آخر فحسب،
ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال،
إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة
ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة،
ومن حالة الجمود إلى الحركة.
فالهجرة تعني لغة
ترك شي إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال،
أو من بلد إلى بلد،
يقول تعالى:
» والرجزَ فاهجرْ«
[size=16](المزمل 5)
وقال أيضاً:
» واهجرهم هجراً جميلاً «
(المزمل 10)
وتعني بمعناها الاصطلاحي
الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام،
وهذه هي الهجرة المادية،
أما الهجرة الشعورية
فتعني الانتقال بالنفسية الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة أخرى
بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى
كالانتقال من حالة التفرقة إلى حالة الوحدة،
أو تعتبر مكملة لها كالانتقال بالدعوة الإسلامية
من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.
فالهجرة المادية
من بلد لا يحكم بالإسلام إلى بلد تحكمه شريعة القرآن
ليست منسوخة، بل هي واجبة على جميع المسلمين
إذا خشوا أن يفتنهم الذين كفروا في دينهم وعقيدتهم،
لأن هدف المسلم في الحياة أن يعيش في مجتمع
يساعده على طاعة الله والالتزام بأوامره وأحكامه،
أو على الأقل لا يحارب بعقيدته،
لأن الفتنة في الدين هي الفتنة الكبرى،
فالله تبارك وتعالى يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب،
ولكن لا يعطي الدين إلا لمن أحب،
فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه،
وقد تتم هجرة المسلم من بلد إلى آخر لعدة أهداف:
- فقد يهاجر المسلم فراراً بدينه وعقيدته
- وقد يهاجر المسلم فراراً من ظلم اجتماعي أو اقتصادي لحق به
- ويتحتم على المسلم أن يهاجر من أرض الشرك إلى أرض
الإسلام حينما تقوم الدولة الإسلامية
- أما الهجرة الشعورية،
فتعني اصطلاحاً انكار ومعاداة كل ما لا يرضي الله
أو يخالف شريعة الله، ويظهر المسلم هذا العداء
بكل الوسائل الممكنة
إذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال،
فإن الهجرة الشعورية واجبة على كل حال وفي كل حين،
لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى،
وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة.
ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال:
جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله " صلى الله عليه وسلم "
بعد الفتح، فقلت:
يا رسول الله بايعه على الهجرة.
فقال " صلى الله عليه وسلم ":
» قد مضت الهجرةُ بأهلها «
قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟
فقال رسول الله " صلى الله عليه وسلم":
»على الإسلام والجهاد والخير«.
ويقول " صلى الله عليه وسلم ":
» لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة،
ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها «.
أما قوله " صلى الله عليه وسلم":
» لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية «
فالمراد بها هنا أن لا هجرة واجبة بعد الفتح،
وقد زاد مسلم
» وإذا استنفرتم فانفروا «.
والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله،
وأن يهاجر إلى ما أحل الله،
فقال عليه الصلاة والسلام:
»المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده،
والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه«.
(رواه البخاري)
وفي رواية (ابن حبان):
»المهاجر من هجر السيئات،
والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده«.
والمعنى الذي حدده المصطفى " صلى الله عليه وسلم "
للهجرة معنى عام،
على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه،
وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية
المعذبة إلى شاطئ الأمان والاطمئنان.
فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد
القولية منها والفعلية،
والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد.
لقد كان هدف المصطفى " صلى الله عليه وسلم"
من هجرته إلى المدينة إيجاد موطئ قدم للدعوة
لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها
من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج،
كما كان هدف رسول الله " صلى الله عليه وسلم "
من الهجرة تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة،
لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود ويذلل في
طريقها الكثير من الصعاب، والمجال الخصب الذي تتحقق فيه
الأهداف، والمنطلق الذي تنطلق من الطاقات،
ولهذا حرص رسول الله " صلى الله عليه وسلم"
أن يبعث (مصعب بن عمير)
إلى المدينة ليعلم الأنصار الإسلام وينشر دعوة الله فيها.
ولما اطمأن رسول الله " صلى الله عليه وسلم "
إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة
في المدينة حثّ أصحابه إلى الهجرة إليها وقال لهم:
» هاجروا إلى يثرب
فقد جعل الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها «.
كما كان هدف رسول الله " صلى الله عليه وسلم"
من الهجرة
استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة،
فقد كان وضعاً أن يكون الرسول القائد في مكة،
والأنصار والمهاجرون في المدينة،
ولهذا هاجر رسول الله " صلى الله عليه وسلم"
ليكون بين ظهراني أتباعه، لأن الجماعة بدون قائد
كالجسد بلا رأس،
ولأن تحقيق أهداف الإسلام الكبرى
لا يتم إلا بوجود جماعة مؤمنة منظمة،
تغذ السير إلى أهدافها بخطى وئيدة.
فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرة إلى الله ورسوله،
هجرة إلى الله
بالتمسكـ بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم،
وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم،
باتباع سنته، والاقتداء بسيرته،
فإن فعلوا ذلكـ فقد بدأوا السسير في الطريق الصحيح،
وبدأوا يأخذون بأسباب النصر، وما النصر إلا من عند الله.
ويسألونكـ متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً
أســأل الله الثبـات
لى ولكم على طـاعته حتى نلقــاه ..
وصلى اللهم وســلم على حبيبنا صـاحب الهـجرة
محمد وعلى آله وصحـبه وســلم ..
منقول للفائدة ..