السـؤال: نريد معرفةَ ما يتردَّد على ألسنة بعض الأساتذة مِن أنَّ الشريعة تنقسم إلى ثوابتَ ومُتغيِّراتٍ؟ فهل هذا التقسيمُ صحيح؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا. الجـواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد: فتقسيمُ الدِّين الإسلاميِّ إلى ثوابتَ ومُتغيِّراتٍ باطلٌ، لا يُعرف له أصلٌ في الشرع، والمعلوم أنَّ الله تعالى أكملَ أحكامَه وشرعَه ودِينَه بنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وتمَّت نعمتُه واستقرَّت، فدِينُ الله كلُّه حقٌّ ثابتٌ ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنـزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، وليس لأحدٍ أن يُغيِّرَ شيئًا منه أو يبدِّلَ أو يزيدَ عليه أو يُنقصَ منه؛ لأنَّ الشريعة كاملةٌ غيرُ منقوصةٍ، وتامَّةٌ لا تحتاج إلى زيادة المبتدعين واستدراكاتِ المستدركين، وقد أتمَّ اللهُ هذا الدِّينَ فلا ينقصه أبدًا، ورضيه فلا يَسْخَطُهُ أبدًا، كذا ينبغي أن يكون عليه إيمان المسلم الصادق، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «وَأَيْمُ اللهِ لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ البَيْضَاءِ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ»(١- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (5)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (688)، وفي «صحيح الجامع»: (9)). هذا، وإن أُريد بالمتغيِّرات آراءُ المجتهدين الذين يبذلون الوسعَ في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية منها، فقد يُغيِّر الرأيَ في المسألةِ المجتهَدِ فيها أو في حقِّ نازلةٍ يبْحَث فيها في محاولةٍ للكشْفِ عن حُكمها الشرعيِّ، فإنه يجوز للمجتهِد تغييرُ رأيِهِ وتبديلُ اجتهادِه، والعدولُ عنه إلى قولٍ آخرَ اتباعًا للدليلِ الشرعي، والقولُ بالمتغيِّرات بهذا الوجهِ هو محمَلُ هؤلاء الأساتذة؛ لأنَّ المجتهِد لا يصحُّ أن يقطع بصواب قوله وخطأِ مَن خالفه، فيما إذا كانت المسألة محتملة، إلاَّ أنَّ الجدير بالتنبيه والتذكيرِ في باب الاجتهاد أنَّ آراء المجتهِد وأنظارَه وأقوالَه لا يُسمَّى تشريعًا، فإنَّ التشريع هو الكتاب والسُّنَّة، أمَّا الاجتهاد فهو رأيُ الفقيه أو حُكم الحاكم، وقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لأمير سرية: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ»(٢- أخرجه مسلم «صحيحه» كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصية إياهم بآداب الغزو وغيرها: (4522)، وأبو داود في «سننه» كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين: (2612)، والترمذي في «سننه» كتاب السير، باب ما جاء في وصيته في القتال: (1617)، وأحمد في «مسنده»: (22521)، من حديث بريدة الأسلمي رضي الله. ). فالحاصل: أنه كما أنَّ اجتهادات المجتهدين لا تنقسم إلى ثوابتَ ومتغيِّرات؛ لأنَّ المسائل الاجتهادية ظنِّيةٌ في الغالب، لا يُقطع فيها بصحة القول وخطئه، فهي قابلةٌ للتغيير متى كانت مخالفةً للدليل الشرعي، فليس في اجتهاداتهم ثوابتُ، بل هي من المتغيرات، وبالعكس فأحكام الله قضايا تشريعية يقينية يجزم فيها بحكم الله تعالى، فهي حقٌّ ثابتٌ لا يقبل التغيير ولا التبديلَ، ولذلك فنسبة الثوابت والمتغيرات للدِّين غيرُ صحيحٍ، وإضافتها إلى المجتهدين غير سليمٍ. وأخيرًا، نلفت النظر إلى أنه بواسطة تسمية الحقِّ بغيره تأتي مثل هذه العبارات يتشوَّف بها أهل الأهواء تسلُّلاً للوصول إلى تمييع الدِّين وصرف الناس عن الحقِّ، ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 71]. والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا. الجزائر في: 22 جمادى الأولى 1429ﻫ الموافق ﻟ: 27 ماي 2008م ١- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (5)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (688)، وفي «صحيح الجامع»: (9). ٢- أخرجه مسلم «صحيحه» كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصية إياهم بآداب الغزو وغيرها: (4522)، وأبو داود في «سننه» كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين: (2612)، والترمذي في «سننه» كتاب السير، باب ما جاء في وصيته في القتال: (1617)، وأحمد في «مسنده»: (22521)، من حديث بريدة الأسلمي رضي الله. |
شيخ : أبو عبد المعزِّ محمَّد علي بن بوزيد بن علي فركوس القُبِّي |