لوصية
الأولى: اغتنام هذا الزمن الفاضل بكثرة الأعمال الصالحة قبل فواتها فقد
جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «ما
من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، فقالوا:
"يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟"، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ، فلم يرجع من
ذلك بشيء» [رواه الترمذي وصححه الألباني].
وفيه دليل على أن كل عمل
صالح في هذه الأيام فهو أحب إلى الله تعالى منه في غيرها، وهذا يدل على فضل
العمل الصالح فيها وكثرة ثوابه، وأن جميع الأعمال الصالحة تضاعف في العشر
من غير استثناء شيء منها. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال: «ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظمُ أجراً من
خير يعمله في عشر الأضحى»، قيل: "ولا الجهاد في سبيل الله؟"، قال: «ولا
الجهاد في سبيل الله - عز وجل - إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك
بشيء» [حسنه الألباني]، وهذا شأن سلف هذه الأمة، كما قال أبو عثمان النهدي -
رحمه الله -: "كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر
الأَوَّلَ من ذي الحجة، والعشر الأَوَّلَ من المحرم ".
وفي العشر أعمال فاضلة وطاعة كثيرة، ومن ذلك:
الإكثار
من نوافل الصلاة، والصدقة، وسائر الأعمال الصالحة، كبرّ الوالدين، وصلة
الأرحام، والتوبة النصوح، وحسن الإنابة، الإكثار من ذكر الله تعالى،
وتكبيره، وتلاوة كتابه والصيام.
الوصية الثانية: الالتزام بسنة
المصطفى وعمل الصحابة رضوان الله عليهم في هذه العشر فإن العمل بالسنة أكثر
أجراً وأعظم من كثرة العمل مع مخالفة السنة، وكذلك تعظيم الحرمات وعدم
الجرأة في مخالفة أوامر الله ورسوله ومن هذه الأوامر مثلاً امتثال أمر
الرسول صلى الله عليه و سلم في عدم أخذ شيء من الشعر والبشر والظفر إذا
أراد الإنسان أن يضحي من أول العشر إلى حين ذبح الأضحية فقد جاء عن أم سلمة
- رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «إذا رأيتم هلال ذي
الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره» [رواه مسلم]، وفي
رواية: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئا»
[رواه مسلم]. ومن أخذ شيئاً من شعره وظفره فعليه بالتوبة والاستغفار ولا
فدية عليه وأضحيته صحيحة مقبولة بإذن الله وهذا لا يعم الزوجة ولا الأولاد
ولكنه خاص بمن يريد أن يضحي وهو رب الأسرة أو من اشترى أضحية بماله ولو كان
امرأة، ولا يشمل النهي لمن كان وكيلاً عن غيره في ذبح الأضحية أو من يطبق
وصية غيره فإن النهي لا يشمله، ويشمل النهي كذلك من وكل غيره فإنه ما دام
أنه يريد أن يضحي فإن النهي متوجه إليه، ومن أراد الأضحية وأراد الحج أيضاً
فعليه بأن يمسك عن أخذ الشعر والظفر وعند أداء نسك العمرة فيشرع له أن
يأخذ من شعره ليتحلل فقط ويبقى ممسكاً حتى يذبح أضحيته على الراجح من أقوال
أهل العلم، وصدق الله إذ يقول: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ
فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [سورة الحج: 30]، وقال سبحانه:
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى
الْقُلُوبِ} [سورة الحج: 32].
الوصية الثالثة: المبادرة إلى أداء
الركن العظيم، وهو الحج إلى بيت الله الحرام فهو واجب على كل بالغ عاقل
قادر، كما قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران: 97].
ومن فضل الله تعالى ورحمته وتيسيره أن الحج فَرْضٌ مرةً في العمر، لقوله صلى الله عليه و سلم:
«الحج
مرةً، فمن زاد فتطوع» [صححه الألباني]. وقد ورد عن ابن عباس عن الفضل أو
أحدهما عن الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «تعجلوا إلى الحج
- يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يَعْرِضُ له» [صححه الألباني]،
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يبادر إلى أداء هذا الركن العظيم متى استطاع
إلى ذلك سبيلاً، وعلى المستطيع من الآباء والأولياء العمل على حَجِّ من
تحت ولايتهم من الأبناء والبنات وغيرهم، لعموم قوله صلى الله عليه و سلم:
«كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته» [رواه البخاري ومسلم].
ويتأكد
ذلك في حق البنت قبل زواجها، لأن حجها قبل أن تتزوج سهل وميسور، بخلاف ما
إذا تزوجت فقد يعتريها الحمل والإرضاع والتربية، ونحو ذلك من العوارض
الطارئة. وليس للزوج أن يمنع زوجته من حجة الإسلام، لأنها واجبة بأصل
الشرع، وينبغي للزوج إن كان قادراً أن يكون عوناً لزوجته على أداء فريضتها،
ولا سيما من كان حديث عهد بالزواج، فيسهل مهمتها، إما بسفره معها، أو
بالإذن لأحد إخوانها أو غيرهم من محارمها بالحج بها، وعليه أن يَخْلُفَها
في حفظ الأولاد والعناية بالمنزل، فهو بذلك مأجور. وليتذكر عظيم الأجر
المترتب على أداء الحج «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [رواه
البخاري].
الوصية الرابعة: موجهة إلى من أراد أن يحج أو يعتمر وهي
وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «من حج فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع
من ذنوبه كيومَ ولدته أمه» [أخرجه البخاري ومسلم]، وفي لفظ لمسلم: «من أتى
هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع كما ولدته أمه» الحديث دليل على
فضل الحج وعظيم ثوابه عند الله تعالى، وأن الحاج يرجع من حجه نقياً من
الذنوب، طاهراً من الأدناس، كحاله يوم ولدته أمه، إذا تحقق له وصفان:
الأول:
قوله: «فلم يَرْفُثْ» والرَّفَثُ - بفتح الراء والفاء -: ذِكْرُ الجماع
ودواعيه إما إطلاقاً، وإما في حضرة النساء بالإفضاء إليهن بجماع أو مباشرة
لشهوة.
الوصف الثاني: «ولم يَفْسُقْ» أي: ولم يخرج عن طاعة الله
تعالى بفعل المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ
فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
[سورة البقرة: 197] والمعنى: فمن أوجب فيهن الحج على نفسه بأن أحرم به
فليحترم ما التزم به من شعائر الله، وَلْيَنْتَهِ عن كل ما ينافي التجردَ
لله تعالى وقَصْدَ بيته الحرام، فلا يرفث ولا يفسق ولا يخاصم أو ينازع في
غير فائدة، لأن ذلك يخرج الحج عن الحكمة منه، وهي الخشوع لله تعالى
والاشتغال بذكره ودعائه.
فالواجب على حجاج بيت الله الحرام أن
يحرصوا على تحقيق أسباب هذه المغفرة الموعود بها، وأن يحذروا كل الحذر من
الذنوب والمعاصي التي يتساهل بها كثير من الناس في زماننا هذا.
الوصية
الخامسة: مما يشرع في هذه العشر ذكر الله عز وجل وأعظم الذكر قراءة كتاب
الله عز و جل، ومن السنة كذلك التكبير وهو مطلق ومقيد فأما المطلق فيبدأ من
أول العشر في الأماكن العامة وفي الأسواق والبيوت وهناك تكبير مقيد يشرع
بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، وصفته: "الله أكبر، الله
أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد". قيل لأحمد -
رحمه الله -: "بأي حديث تذهب إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى
آخر أيام التشريق؟"، قال: "بالإجماع: عمرَ وعليٍّ وابنِ عباس وابنِ مسعود
رضي الله عنهم"، وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «غدونا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر»
[أخرجه مسلم] ومثله ورد عن أنس رضي الله عنه متفق عليه.
قال شيخ
الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور
السلف الفقهاء من الصحابة والأئمة أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام
التشريق عقب كل صلاة".
الوصيةالسادسة: ومن العبادات العظيمة في هذه
العشر الصيام، ويدل عليه عموم الحديث بالحث على العمل في هذه العشر وأن له
مزية عن غيره من الأيام، وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها
قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صائماً العشر قط" أي أنه لم
يصمها كلها كما قال الإمام أحمد وليس المراد أنه ما صامها مطلقاً وقد جاء
في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم هذه العشر ولكن ليس
دائماً بدليل قول عائشة السابق.
الوصية السابعة: ومن أعظم الأيام
التي تصام في العشر هو اليوم التاسع يوم عرفة فقد جاء عن أبي قتادة
الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن صوم يوم
عرفة، قال: «يكفر السنة الماضية والسنة القابلة» [أخرجه مسلم].
الحديث
دليل على فضل صوم يوم عرفة وجزيل ثوابه عند الله تعالى حيث إن صيامه يكفر
ذنوب سنتين. وإنما يستحب صيام يوم عرفة لأهل الأمصار، أما الحاج فلا يسن له
صيامه، بل يفطر تأسياً بالنبي صلى الله عليه و سلم. فعلى المسلم المقيم أن
يحرص على صيام هذا اليوم العظيم اغتناماً للأجر، وإذا وافق يوم عرفة يوم
الجمعة فإنه يصام، وأما ما ورد من النهي عن إفراد يوم الجمعة في الصوم
فإنما هو لذات يوم الجمعة، وأما يوم عرفة فإنما يُصام لهذا المعنى وافق
جمعةً أو غيرها، فدل على أن الجمعة غير مقصودة.
والذنوب التي تكفَّر
بصيام يوم عرفة هي الصغائر، وأما الكبائر كالزنا وأكل الربا والسحر وغير
ذلك، فلا تكفرها الأعمال الصالحة بل لابد لها من توبة أو إقامة الحد فيما
يتعلق به حد، وهذا قول الجمهور.
ومما جاء في فضل هذا اليوم ما جاء
في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق
الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة،
فيقول ما أراد هؤلاء»، وعلى المسلم أن يحرص على الدعاء اغتناماً لفضله
ورجاءً للإجابة، فإن دعاء الصائم مستجاب، وإذا دعا عند الإفطار فما أقرب
الإجابة وما أحرى القبول!.
الوصية الثامنة: هذه العشر فرصة للتوبة
إلى الله وترك المعاصي وتجديد العهد مع الله يا مسلم يا عبد الله لا تفوت
على نفسك الفرصة فهذه الأيام هي من أفضل أيام عمرك، جاهد نفسك على اغتنام
الأوقات في الأعمال الصالحة والبعد عن كل ما يغضب الله ولا تكن من
المحرومين الخاسرين الذين يتلاعب بهم الشيطان ويضيع عليه أغلى أوقات العمر،
وهي مواسم الطاعات، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن
عبادتك.
الوصية التاسعة: فيما يتعلق بيوم العيد من أحكام. ورد في
الحديث عن عبد الله بن قُرْطٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم:
«إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر ثم يوم القَرِّ» [أخرجه أبو داود
بإسناد جيد]، والحديث دليل على فضل يوم النحر وأنه أعظم الأيام عند الله
تعالى وهو يوم الحج الأكبر، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم: «يوم الحج
الأكبر يوم النحر» [أخرجه أبو داود بسند صحيح]. وعن عقبة بن عامر رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «يومُ عرفة، ويوم النحر،
وأيام التشريق، عيدنا أهلُ الإسلام…» [أخرجه أصحاب السنن إلا ابن ماجة
بإسناد صحيح]، وعيد النحر أفضل من عيد الفطر، لأن عيد النحر فيه الصلاة
والذبح، وذلك فيه الصدقة والصلاة، والنحر أفضل من الصدقة، كما أن يوم النحر
يجتمع فيه شرف المكان والزمان لأهل الموسم.
وفي هذا اليوم وظائف نرتبها كما يلي:
أولاً:
الخروج إلى مصلى العيد على أحسن هيئة، متزيناً بما يباح، تأسياً بالنبي
صلى الله عليه وسلم، ولا يترك التنظف والتزين حتى يذبح أضحيته، كما يفعله
بعض الناس، ويبكر إلى المصلى، ليحصل له الدنو من الإمام، وفضل انتظار
الصلاة.
ثانياً: يسن التكبير في طريقه إلى المصلى حتى يخرج الإمام للصلاة، وإذا شرع الإمام في الخطبة ترك التكبير، إلا إذا كبر فيكبر معه.
ثالثاً:
تسن مخالفة الطريق، وهو أن يذهب من طريق ويرجع من آخر، لما ورد عن جابر بن
عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان
يوم عيد خالف الطريق» [أخرجه البخاري].
رابعاً: يسن في عيد الأضحى
ألا يأكل شيئاً حتى يصلي، لما ورد عن عبد الله ابن بريدة عن أبيه قال: «كان
النبي صلى الله عليه و سلم لا يخرج يوم الفطر حتى يَطْعَمَ، ولا يطعم يوم
الأضحى حتى يصلي» [أخرجه الترمذي].
خامساً: صلاة العيد واجبة على كل
مسلم ومسلمة على الصحيح من أقوال أهل العلم وليحرص المسلم على أدائها،
وينبغي حث الأولاد على حضورها، حتى الصبيان، إظهاراً لشعائر الإسلام.
سادساً:
بعد الصلاة والخطبة يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح، ويأكل منها،
ويهدي للأقارب والجيران، ويتصدق على الفقراء، ويجوز ادخار لحوم الأضاحي.
ولا
تجوز الاستهانة بلحوم الأضاحي أو رَمْيُ ما يحتاج منها إلى تنظيف بحجة
مشقة تنظيفه، بل من تمام الشكر الاستفادة منها كلِّها أو إعطائها من يستفيد
منها ولو كلف ذلك جهداً.
سابعاً: لا بأس بالتهنئة بالعيد، وتجب
زيارة الوالدين والأقارب، وزيارتهم تقدم على زيارة الاخوة في الله، لأن
الواجب على المسلم أن يبدأ بمن حقهم آكد وصلتهم أوجب.
الوصية
العاشرة: أيها المسلم يا عبد الله إن من علامة توفيق الله لك أن توفق للعمل
الصالح فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «إذا أراد الله
بعبد خيرا استعمله»، قالوا يا رسول الله: "وكيف يستعمله؟"، قال: «يوفقه
لعمل صالح قبل موته»، وجاء أيضا في الحديث عنه صلى الله عليه و سلم: عن أبي
بكرة أن رجلا قال: "يا رسول الله أي الناس خير؟"، قال: «من طال عمره وحسن
عمله»، قيل: "فأي الناس شر؟"، قال: «من طال عمره وساء عمله».
اللهم أحسن ختامنا وأحسن عملنا يا أرحم الراحمين.
الأولى: اغتنام هذا الزمن الفاضل بكثرة الأعمال الصالحة قبل فواتها فقد
جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «ما
من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، فقالوا:
"يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟"، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ، فلم يرجع من
ذلك بشيء» [رواه الترمذي وصححه الألباني].
وفيه دليل على أن كل عمل
صالح في هذه الأيام فهو أحب إلى الله تعالى منه في غيرها، وهذا يدل على فضل
العمل الصالح فيها وكثرة ثوابه، وأن جميع الأعمال الصالحة تضاعف في العشر
من غير استثناء شيء منها. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى
الله عليه و سلم قال: «ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظمُ أجراً من
خير يعمله في عشر الأضحى»، قيل: "ولا الجهاد في سبيل الله؟"، قال: «ولا
الجهاد في سبيل الله - عز وجل - إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك
بشيء» [حسنه الألباني]، وهذا شأن سلف هذه الأمة، كما قال أبو عثمان النهدي -
رحمه الله -: "كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر
الأَوَّلَ من ذي الحجة، والعشر الأَوَّلَ من المحرم ".
وفي العشر أعمال فاضلة وطاعة كثيرة، ومن ذلك:
الإكثار
من نوافل الصلاة، والصدقة، وسائر الأعمال الصالحة، كبرّ الوالدين، وصلة
الأرحام، والتوبة النصوح، وحسن الإنابة، الإكثار من ذكر الله تعالى،
وتكبيره، وتلاوة كتابه والصيام.
الوصية الثانية: الالتزام بسنة
المصطفى وعمل الصحابة رضوان الله عليهم في هذه العشر فإن العمل بالسنة أكثر
أجراً وأعظم من كثرة العمل مع مخالفة السنة، وكذلك تعظيم الحرمات وعدم
الجرأة في مخالفة أوامر الله ورسوله ومن هذه الأوامر مثلاً امتثال أمر
الرسول صلى الله عليه و سلم في عدم أخذ شيء من الشعر والبشر والظفر إذا
أراد الإنسان أن يضحي من أول العشر إلى حين ذبح الأضحية فقد جاء عن أم سلمة
- رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «إذا رأيتم هلال ذي
الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره» [رواه مسلم]، وفي
رواية: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئا»
[رواه مسلم]. ومن أخذ شيئاً من شعره وظفره فعليه بالتوبة والاستغفار ولا
فدية عليه وأضحيته صحيحة مقبولة بإذن الله وهذا لا يعم الزوجة ولا الأولاد
ولكنه خاص بمن يريد أن يضحي وهو رب الأسرة أو من اشترى أضحية بماله ولو كان
امرأة، ولا يشمل النهي لمن كان وكيلاً عن غيره في ذبح الأضحية أو من يطبق
وصية غيره فإن النهي لا يشمله، ويشمل النهي كذلك من وكل غيره فإنه ما دام
أنه يريد أن يضحي فإن النهي متوجه إليه، ومن أراد الأضحية وأراد الحج أيضاً
فعليه بأن يمسك عن أخذ الشعر والظفر وعند أداء نسك العمرة فيشرع له أن
يأخذ من شعره ليتحلل فقط ويبقى ممسكاً حتى يذبح أضحيته على الراجح من أقوال
أهل العلم، وصدق الله إذ يقول: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ
فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [سورة الحج: 30]، وقال سبحانه:
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى
الْقُلُوبِ} [سورة الحج: 32].
الوصية الثالثة: المبادرة إلى أداء
الركن العظيم، وهو الحج إلى بيت الله الحرام فهو واجب على كل بالغ عاقل
قادر، كما قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران: 97].
ومن فضل الله تعالى ورحمته وتيسيره أن الحج فَرْضٌ مرةً في العمر، لقوله صلى الله عليه و سلم:
«الحج
مرةً، فمن زاد فتطوع» [صححه الألباني]. وقد ورد عن ابن عباس عن الفضل أو
أحدهما عن الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «تعجلوا إلى الحج
- يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يَعْرِضُ له» [صححه الألباني]،
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يبادر إلى أداء هذا الركن العظيم متى استطاع
إلى ذلك سبيلاً، وعلى المستطيع من الآباء والأولياء العمل على حَجِّ من
تحت ولايتهم من الأبناء والبنات وغيرهم، لعموم قوله صلى الله عليه و سلم:
«كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته» [رواه البخاري ومسلم].
ويتأكد
ذلك في حق البنت قبل زواجها، لأن حجها قبل أن تتزوج سهل وميسور، بخلاف ما
إذا تزوجت فقد يعتريها الحمل والإرضاع والتربية، ونحو ذلك من العوارض
الطارئة. وليس للزوج أن يمنع زوجته من حجة الإسلام، لأنها واجبة بأصل
الشرع، وينبغي للزوج إن كان قادراً أن يكون عوناً لزوجته على أداء فريضتها،
ولا سيما من كان حديث عهد بالزواج، فيسهل مهمتها، إما بسفره معها، أو
بالإذن لأحد إخوانها أو غيرهم من محارمها بالحج بها، وعليه أن يَخْلُفَها
في حفظ الأولاد والعناية بالمنزل، فهو بذلك مأجور. وليتذكر عظيم الأجر
المترتب على أداء الحج «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [رواه
البخاري].
الوصية الرابعة: موجهة إلى من أراد أن يحج أو يعتمر وهي
وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «من حج فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع
من ذنوبه كيومَ ولدته أمه» [أخرجه البخاري ومسلم]، وفي لفظ لمسلم: «من أتى
هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع كما ولدته أمه» الحديث دليل على
فضل الحج وعظيم ثوابه عند الله تعالى، وأن الحاج يرجع من حجه نقياً من
الذنوب، طاهراً من الأدناس، كحاله يوم ولدته أمه، إذا تحقق له وصفان:
الأول:
قوله: «فلم يَرْفُثْ» والرَّفَثُ - بفتح الراء والفاء -: ذِكْرُ الجماع
ودواعيه إما إطلاقاً، وإما في حضرة النساء بالإفضاء إليهن بجماع أو مباشرة
لشهوة.
الوصف الثاني: «ولم يَفْسُقْ» أي: ولم يخرج عن طاعة الله
تعالى بفعل المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ
فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
[سورة البقرة: 197] والمعنى: فمن أوجب فيهن الحج على نفسه بأن أحرم به
فليحترم ما التزم به من شعائر الله، وَلْيَنْتَهِ عن كل ما ينافي التجردَ
لله تعالى وقَصْدَ بيته الحرام، فلا يرفث ولا يفسق ولا يخاصم أو ينازع في
غير فائدة، لأن ذلك يخرج الحج عن الحكمة منه، وهي الخشوع لله تعالى
والاشتغال بذكره ودعائه.
فالواجب على حجاج بيت الله الحرام أن
يحرصوا على تحقيق أسباب هذه المغفرة الموعود بها، وأن يحذروا كل الحذر من
الذنوب والمعاصي التي يتساهل بها كثير من الناس في زماننا هذا.
الوصية
الخامسة: مما يشرع في هذه العشر ذكر الله عز وجل وأعظم الذكر قراءة كتاب
الله عز و جل، ومن السنة كذلك التكبير وهو مطلق ومقيد فأما المطلق فيبدأ من
أول العشر في الأماكن العامة وفي الأسواق والبيوت وهناك تكبير مقيد يشرع
بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، وصفته: "الله أكبر، الله
أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد". قيل لأحمد -
رحمه الله -: "بأي حديث تذهب إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى
آخر أيام التشريق؟"، قال: "بالإجماع: عمرَ وعليٍّ وابنِ عباس وابنِ مسعود
رضي الله عنهم"، وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «غدونا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر»
[أخرجه مسلم] ومثله ورد عن أنس رضي الله عنه متفق عليه.
قال شيخ
الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور
السلف الفقهاء من الصحابة والأئمة أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام
التشريق عقب كل صلاة".
الوصيةالسادسة: ومن العبادات العظيمة في هذه
العشر الصيام، ويدل عليه عموم الحديث بالحث على العمل في هذه العشر وأن له
مزية عن غيره من الأيام، وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها
قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صائماً العشر قط" أي أنه لم
يصمها كلها كما قال الإمام أحمد وليس المراد أنه ما صامها مطلقاً وقد جاء
في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم هذه العشر ولكن ليس
دائماً بدليل قول عائشة السابق.
الوصية السابعة: ومن أعظم الأيام
التي تصام في العشر هو اليوم التاسع يوم عرفة فقد جاء عن أبي قتادة
الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن صوم يوم
عرفة، قال: «يكفر السنة الماضية والسنة القابلة» [أخرجه مسلم].
الحديث
دليل على فضل صوم يوم عرفة وجزيل ثوابه عند الله تعالى حيث إن صيامه يكفر
ذنوب سنتين. وإنما يستحب صيام يوم عرفة لأهل الأمصار، أما الحاج فلا يسن له
صيامه، بل يفطر تأسياً بالنبي صلى الله عليه و سلم. فعلى المسلم المقيم أن
يحرص على صيام هذا اليوم العظيم اغتناماً للأجر، وإذا وافق يوم عرفة يوم
الجمعة فإنه يصام، وأما ما ورد من النهي عن إفراد يوم الجمعة في الصوم
فإنما هو لذات يوم الجمعة، وأما يوم عرفة فإنما يُصام لهذا المعنى وافق
جمعةً أو غيرها، فدل على أن الجمعة غير مقصودة.
والذنوب التي تكفَّر
بصيام يوم عرفة هي الصغائر، وأما الكبائر كالزنا وأكل الربا والسحر وغير
ذلك، فلا تكفرها الأعمال الصالحة بل لابد لها من توبة أو إقامة الحد فيما
يتعلق به حد، وهذا قول الجمهور.
ومما جاء في فضل هذا اليوم ما جاء
في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق
الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة،
فيقول ما أراد هؤلاء»، وعلى المسلم أن يحرص على الدعاء اغتناماً لفضله
ورجاءً للإجابة، فإن دعاء الصائم مستجاب، وإذا دعا عند الإفطار فما أقرب
الإجابة وما أحرى القبول!.
الوصية الثامنة: هذه العشر فرصة للتوبة
إلى الله وترك المعاصي وتجديد العهد مع الله يا مسلم يا عبد الله لا تفوت
على نفسك الفرصة فهذه الأيام هي من أفضل أيام عمرك، جاهد نفسك على اغتنام
الأوقات في الأعمال الصالحة والبعد عن كل ما يغضب الله ولا تكن من
المحرومين الخاسرين الذين يتلاعب بهم الشيطان ويضيع عليه أغلى أوقات العمر،
وهي مواسم الطاعات، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن
عبادتك.
الوصية التاسعة: فيما يتعلق بيوم العيد من أحكام. ورد في
الحديث عن عبد الله بن قُرْطٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم:
«إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر ثم يوم القَرِّ» [أخرجه أبو داود
بإسناد جيد]، والحديث دليل على فضل يوم النحر وأنه أعظم الأيام عند الله
تعالى وهو يوم الحج الأكبر، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم: «يوم الحج
الأكبر يوم النحر» [أخرجه أبو داود بسند صحيح]. وعن عقبة بن عامر رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «يومُ عرفة، ويوم النحر،
وأيام التشريق، عيدنا أهلُ الإسلام…» [أخرجه أصحاب السنن إلا ابن ماجة
بإسناد صحيح]، وعيد النحر أفضل من عيد الفطر، لأن عيد النحر فيه الصلاة
والذبح، وذلك فيه الصدقة والصلاة، والنحر أفضل من الصدقة، كما أن يوم النحر
يجتمع فيه شرف المكان والزمان لأهل الموسم.
وفي هذا اليوم وظائف نرتبها كما يلي:
أولاً:
الخروج إلى مصلى العيد على أحسن هيئة، متزيناً بما يباح، تأسياً بالنبي
صلى الله عليه وسلم، ولا يترك التنظف والتزين حتى يذبح أضحيته، كما يفعله
بعض الناس، ويبكر إلى المصلى، ليحصل له الدنو من الإمام، وفضل انتظار
الصلاة.
ثانياً: يسن التكبير في طريقه إلى المصلى حتى يخرج الإمام للصلاة، وإذا شرع الإمام في الخطبة ترك التكبير، إلا إذا كبر فيكبر معه.
ثالثاً:
تسن مخالفة الطريق، وهو أن يذهب من طريق ويرجع من آخر، لما ورد عن جابر بن
عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان
يوم عيد خالف الطريق» [أخرجه البخاري].
رابعاً: يسن في عيد الأضحى
ألا يأكل شيئاً حتى يصلي، لما ورد عن عبد الله ابن بريدة عن أبيه قال: «كان
النبي صلى الله عليه و سلم لا يخرج يوم الفطر حتى يَطْعَمَ، ولا يطعم يوم
الأضحى حتى يصلي» [أخرجه الترمذي].
خامساً: صلاة العيد واجبة على كل
مسلم ومسلمة على الصحيح من أقوال أهل العلم وليحرص المسلم على أدائها،
وينبغي حث الأولاد على حضورها، حتى الصبيان، إظهاراً لشعائر الإسلام.
سادساً:
بعد الصلاة والخطبة يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح، ويأكل منها،
ويهدي للأقارب والجيران، ويتصدق على الفقراء، ويجوز ادخار لحوم الأضاحي.
ولا
تجوز الاستهانة بلحوم الأضاحي أو رَمْيُ ما يحتاج منها إلى تنظيف بحجة
مشقة تنظيفه، بل من تمام الشكر الاستفادة منها كلِّها أو إعطائها من يستفيد
منها ولو كلف ذلك جهداً.
سابعاً: لا بأس بالتهنئة بالعيد، وتجب
زيارة الوالدين والأقارب، وزيارتهم تقدم على زيارة الاخوة في الله، لأن
الواجب على المسلم أن يبدأ بمن حقهم آكد وصلتهم أوجب.
الوصية
العاشرة: أيها المسلم يا عبد الله إن من علامة توفيق الله لك أن توفق للعمل
الصالح فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «إذا أراد الله
بعبد خيرا استعمله»، قالوا يا رسول الله: "وكيف يستعمله؟"، قال: «يوفقه
لعمل صالح قبل موته»، وجاء أيضا في الحديث عنه صلى الله عليه و سلم: عن أبي
بكرة أن رجلا قال: "يا رسول الله أي الناس خير؟"، قال: «من طال عمره وحسن
عمله»، قيل: "فأي الناس شر؟"، قال: «من طال عمره وساء عمله».
اللهم أحسن ختامنا وأحسن عملنا يا أرحم الراحمين.