{وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: - 2]، نحن إزاء أفضل أيام السنة
على الإطلاق.. نحن على أبواب موسم عظيم وأيام مباركة يغنمها من يغنمها
ويخسرها من يخسرها..
ماذا قال الفقهاء والعلماء عن هذه الأيام المباركة؟
في البدايه يتحدث سماحة مفتي عام المملكة العلاّمة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ:
إنَّ
من رحمة الله بعباده أن جعلَ لهم مواسمَ للطاعات يتنافسُ المسلمون فيها
بصالح الأعمال، فضلاً من الله ورحمة، والله ذو الفضلِ العظيم، ومن هذه
الأيام أيامُ عشر ذي الحجّة، فهي أيامٌ معظّمة في شرع الله، لها خصوصيّة في
مزيد الطاعة والإحسان، وقد نوَّه الله بها في كتابه العزيز قال تعالى:
{وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: - 2]، والمراد بها عشرُ ذي الحجة،
وقال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ
عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، والمراد
بالأيام المعلومات هي عشرُ ذي الحجّة.
ودلَّت سنّة رسول الله على
فضلِها وأنَّه يُشرع التنافس فيها في صالحِ العمل، يقول صلى الله عليه
وسلم: «ما من أيّام العملُ الصالح فيهنَّ أحبّ إلى الله من هذِه العشر»،
قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: «ولا الجهادُ في سبيل
الله إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله فلم يرجِع من ذلك بشيء»، وقال: «ما من
أيّامٍ العملُ فيها أعظم عند الله سبحانه ولا أحبّ إليه من العمل في هذه
الأيام - يعني عشر ذي الحجة - ، فأكثِروا فيهنّ من التهليل والتكبير
والتحميد».
قال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان
إلى السوق في أيام العشر يكبّران ويكبّر الناس بتكبيرهما"، بمعنى أنّهما
يحيِيَان هذه السنّة، فيذكرون الله جلّ وعلا، يقومان رضي الله عنهما بذكر
الله، فيقتدي النّاس بهما، فيذكرُ الجميع ربَّ العالمين. وكان عمر بن
الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه بمنًى يكبِّر عقِب الصلوات، ويكبّر في
فسطاطه وعلى فراشِه وفي مجلسِه، ماشياً وقاعداً، وهكذا كانوا يُحيون هذه
السنّة ويعظّمونها، فيذكرون الله جلَّ وعلا.
في هذه الأيّام المباركةِ يُشرَع لك التزوّد من صالح العمل؛ التوبة إلى الله ممَّا سلف وكان من سيِّئات الأقوال والأعمال.
إنَّ
هذه الأيامَ العشر اجتمعت فيها أنواعٌ من العبادة؛ الصلاة والصوم والصدقة
والحجّ، فاجتمعت أنواع هذه الطاعة؛ الصلاة والصدقة والصوم والحج، فأكثِر من
فعلِ الطاعَة، وبادِر إلى الفرائِض، وأكثِر من النوافِل، في حديث ثوبان:
«عليك بكثرةِ السّجود، فإنَّك لا تسجُد لله سجدة إلا حطّ الله بها عنك
خطيئة، ورفع لك بِها درجة».
ويُسنّ صيامُ هذه التّسع لمن قدر على ذلك،
ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله أنَّ النبيّ كان يصوم تسعَ ذي الحجة ويومَ
عاشوراء وثلاثةَ أيام من كلّ شهر.
وأفضلها وآكدُها صومُ يوم عرفة لمن لم يكن حاجاً، يقول في صيام يوم عرفة: «أحتسبُ على الله أن يكفّر سنةً قبله وسنة بعده».
فعظِّموا هذه الأيامَ، فإنّها أيّامٌ عظيمة عندَ الله، شُرِع لكم فيها أنواعٌ من الطاعة، فتزوَّدوا من صالِح العمل.
الموفّقوت ينالون نفحات الأيام المباركة:
ويقول فضيلة الدكتور عبد الباري الثبيتي إمام المسجد النبوي:
في
بعض الأيّام المباركة نفحاتٌ ينالها الموفَّقون من عباد الله، ومن تلك
الأيام أيامُ عشر ذي الحجة، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «ما العملُ في أيامٍ أفضَل منها في هذه»، قالوا: ولا الجهاد؟ قال:
«ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطرُ بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» (أخرجه
البخاري).
كان السلفُ إذا دخلت أيامُ العشر من ذي الحجّة يجدّون في البرّ والطاعة، ويكثرون من الذكر والدعاء وتعظيم الله.
ومما
هو مشروع في هذه الأيام الإكثار من صلاة النافلة والتهليلِ والتكبير
والتحميد وقراءة القرآن والصدقة على الفقراء والمساكين وإغاثة الملهوفين
وبرّ الوالدين وقيام الليل وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
ومن ذلك صومُ
غير الحاجّ ما تيسّر له من أيام العشر، خاصة يوم عرفة لما في صحيح مسلم عن
رسول الله أنه قال: «أحتسب على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبله والسنة
التي بعده».
ومما يُشرع تكبيرُ الله تعالى وتعظيمه، ويكون التكبير
المطلَق في جميع الأوقات من ليل أو نهارٍ إلى صلاة العيد، أما التكبيرُ
المقيَّد فهو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبةِ التي تصلَّى في جماعة، ويبدأ
لغير الحاجّ من فجر يومِ عرفة، وللحاجّ من ظهر يوم النحر، ويستمرّ إلى
صلاة عصرِ آخر أيام التشريق.
ومما يشرع إعدادُ الأضحية، ومن أراد أن
يضحِّي ودخل شهر ذو الحجة فلا يحلّ له أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره حتى
يذبحَ أضحيتَه، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا
رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحّي فليمسِك عن شعره وأظفاره».
الموسم العظيم والأيام الفاضلة:
ويقول فضيلة الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن فوزان بن صالح الفوزان الباحث والفقيه المعروف:
يعيش
المسلمون في هذه الأيام موسماً عظيماً، وأياماً فاضلة، رفع الله شأنها،
وأعلى مكانها، وميزها على بقية أيام العام، وجعلها غرة في جبين الدهر، ألا
وهي أيام العشر، أعني العشر الأول من ذي الحجة، هذه الأيام المباركة التي
اختصها الله بمزيد من الشرف والكرامة، وجعلها ميداناً للمنافسة في الخيرات،
والمسابقة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات، وموسماً عظيماً
للتجارة الرابحة مع الله.
وإن شرف هذه الأيام أمر معلوم من دين
الإسلام، وقد تواطأت نصوص الكتاب والسنَّة على التنويه بفضلها، والإشادة
بمكانتها ورفعة قدرها، والإعلان عن تعظيم الله لشأنها، فقد أقسم الله بها
تشريفاً لها، وتنبيهاً على فضلها، فقال سبحانه: {وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ
عَشْرٍ} [الفجر: - 2].
والليالي العشر: هي عشر ذي الحجة، كما قاله ابن
عباس وابن الزبير ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف. و{الوتر} قيل: هو يوم
عرفة، لكونه التاسع، و{الشفع}، هو يوم النحر، لكونه العاشر، وهذان اليومان
داخلان في الأيام العشر، ولكن الله خصهما بالقسم اهتماماً بشأنهما،
وبياناً لمزيد شرفهما، وأنهما أفضل أيام العشر، التي هي أفضل أيام الدهر.
وهذه
الأيام العشر هي الأيام المعلومات التي قال الله تعالى عنها: {وَأَذِّن
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج:27 - 28].
وإنما
قيل لها {معلومات}: للحرص على علمها، من أجل أن وقت الحج في آخرها، ولأنها
معلوم فضلها وأنها موسم الحج من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أذن
في الناس بالحج إلى يومنا هذا.
أما السنَّة النبوية، فقد جاءت فيها
نصوص كثيرة تدل على فضل هذه الأيام، وأنها أفضل أيام العام، وأن العمل فيها
أعظم أجراً، وأحب إلى الله، وأزكى عنده، وأحظى لديه من العمل فيما سواها
من الأيام. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «ما من أيّام العملُ الصالح
فيهنَّ أحبّ إلى الله من هذِه العشر»، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في
سبيل الله؟! قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله فلم
يرجِع من ذلك بشيء» (رواه البخاري وغيره).
وروى الدارمي والبيهقي
بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عمل أزكى عند الله
عزَّ وجلَّ ولا أعظم أجراً، من خير يعمله في عشر الأضحى»، قيل: ولا الجهاد
في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم
يرجع من ذلك بشيء»، قال القاسم بن أبي أيوب: وكان سعيد بن جبير إذا دخلت
أيام العشر، اجتهد اجتهاداً شديداً، حتى ما يكاد يقدر عليه.
والأحاديث
في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على أن عشر ذي الحجة، هي أفضل
أيام السنة على الإطلاق، فإن قوله: «ما من أيام» نكرة في سياق النفي، فتفيد
العموم، ثم إنها مؤكَّدة بـ"من" البيانية، وهي مزيدة لاستغراق النفي،
فيكون المعنى: ما من أيام الدنيا أيام أفضل عند الله، ولا أحب إليه العمل
فيهن من هذه الأيام العشر، وقد صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
آخر بقوله: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه
الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» رواه أحمد بسند
صحيح.
ولأجل هذا اختلف العلماء: أيهما أفضل عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟
قال
ابن كثير رحمه الله: "وبالجملة، فهذه العشر -يعني: عشر ذي الحجة- قد قيل:
إنها أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضّلها كثيرٌ على عشر رمضان
الأخيرة؛ لأن هذه يشرع فيها ما يشرع في تلك من صلاة وصيام وصدقة وغيرها،
وتمتاز هذه باختصاصها بأداء فرض الحج فيها. وقيل: تلك أفضل، لاشتمالها على
ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وتوسط آخرون، فقالوا: أيام هذه أفضل،
وليالي تلك أفضل، وبهذا يجتمع شمل الأدلة. والله أعلم" ا.هـ.
وقال
ابن القيم: "فإن قلت: أي العشرَين أفضل؟… فالصواب، أن يقال: ليالي العشر
الأخير من رمضان، أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة، أفضل من
أيام عشر رمضان، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه" ا.هـ.
والحقيقة أنه لا
يهمنا كثيراً، أي الأقوال أرجح؟ بقدر ما يهمنا أن ندرك فضل هذه العشر، وعظم
شأنها عند الله تعالى حتى نحرص على اغتنامها، والمنافسة على الخير فيها،
وبهذا نعلم مقدار ما نحن فيه من غفلة وتفريط، وحرمان من هذه الخيرات،
وخسارة لتلك النفحات.
وإن المرء ليسر سروراً عظيماً حين يرى اجتهاد
الناس في العشر الأواخر من رمضان، واهتمامهم بها، وحرصهم على اغتنامها،
والمنافسة على الخير فيها، ولكنه يعجب أشد العجب، حين يرى هؤلاء الصالحين
أنفسهم، لا يحفلون بهذه الأيام المباركة، ولا يهتمون لها، ولا يجتهدون فيها
كاجتهادهم في العشر الأخيرة من رمضان، مع أن هذه الأيام أفضل من تلك
الأيام كما سبق، فكانت جديرة بأن يهتم بها أكثر، وأن يحرص المؤمن على
اغتنامها بشكل أكبر، ويستثمر كل لحظة من لحظاتها فيما يقربه إلى الله ويرفع
درجاته عنده.
وقد دلت الأحاديث السابقة على أن العمل الصالح في عشر ذي
الحجة أحب إلى الله، وأفضل عنده من العمل نفسه لو عُمل في غيرها من الأيام،
وأن العبادة فيها أزكى عند الله وأعظم أجراً من نفس العبادة لو فُعلت في
غيرها من أيام العام، فإذا تصدقت بمئة ريال في هذه العشر، فإنه أعظم أجراً
وأحب إلى الله من التصدق بهذه المئة في شهر شعبان أو رمضان أو شوال، أو
غيرها، وإذا صليت ركعتين في هذه العشر فإنهما أحب إلى الله من ركعتين
مثلهما تصليهما في غير هذه العشر، وعلى ذلك فقس بقية الأعمال.
بل
دلت هذه الأحاديث على أن العمل فيها، وإن كان مفضولاً، فإنه أعظم أجراً،
وأزكى عند الله، وأحب إليه من العمل في غيرها، وإن كان فاضلاً، ولا أدل على
ذلك من كون العمل فيها أعظم من الجهاد في سبيل الله الذي يتضمن قطف
الرؤوس، وإزهاق النفوس، وتقطيع الأعضاء، وإسالة الدماء، والذي هو من أفضل
الأعمال وذروة سنام الإسلام. فالعمل في هذه العشر، أفضل من سائر الأعمال في
غيرها، وأفضل من أنواع الجهاد كلها إلا النوع الذي استثناه الرسول صلى
الله عليه وسلم بقوله: «إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء».
وإذا
كان الأمر كذلك، وعلمت أيها المسلم أن الله يحب العمل في هذه الأيام
ويباركه ويزكيه، فحري بك أن تجتهد في هذه الأيام، وتحرص على اغتنام كل لحظة
من لحظاتها، وأن تعمرها بأنواع الطاعات والقربات، التي تزيدك قرباً من
ربك، وتكون سبباً لسعادتك ونجاتك في دنياك وآخرتك، فإن الأيام مراحل
الآجال، ومخازن الأعمال، وليس لك أيها الإنسان من عمرك إلا ما قضيته في
طاعة ربك، واستودعته عملاً صالحاً تجده أحوج ما تكون إليه، في يوم لا ينفع
فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}
[المؤمنون:102-103].
وإن هذه المواسم الفاضلة لمن أعظم نعم الله على
عباده، حيث تستحث هممهم، وتشحذ عزائمهم للمسارعة إلى الخيرات، ومجاهدة
النفس على فعل الطاعات واجتناب المنكرات، حتى تزكو نفوسهم، وترق قلوبهم،
وتنجلي عنها تلك السحب الكثيفة من الغفلة والقسوة، وحتى تكون هذه الطاعات
غذاء لأرواحهم، وأنساً لقلوبهم، وسبباً لسعادتهم في دنياهم وآخرتهم.
ومما
يدل على فضل هذه العشر: أن الله عزَّ وجلَّ شرع فيها من الأعمال الجليلة
الفاضلة، ما لم يشرعه في غيرها من الأيام، وأنها تختص باجتماع أمهات
العبادة، فيها من الصلاة والصيام والصدقة والحج والأضاحي يوم العيد، ولا
يتأتى ذلك في غيرها، ولهذا فإن إدراك هذه العشر المباركة نعمة عظيمة جليلة،
وإن واجب المسلم استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة التي قد لا
يدركها مرة أخرى!!
وإن أفضل ما تقرب به العباد إلى ربهم: القيام بما
افترضه عليهم، وأداؤه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، يقول الله تعالى في
الحديث القدسي: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي
بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى
أحبه…».
فينبغي لك أيها المسلم أن تحرص غاية الحرص على أداء الفرائض
وإتمامها، وبخاصة الصلاة التي هي عمود الدين وآكد أركان الإسلام بعد
الشهادتين، ولا يكن حالك في هذه الأيام الفاضلة كحالك في غيرها من التأخر
عن صلاة الجماعة، أو التواني في التبكير إليها، أو التشاغل عنها، والغفلة
عن التدبر والخشوع فيها، وهكذا في بقية الفرائض والواجبات: من بر الوالدين،
وصلة الأرحام، وأداء الأمانة، والقيام بالحقوق الواجبة.
وإن من
الواجبات التي تتأكد في هذه الأيام: التوبة الصادقة النصوح. والتوبة واجبة
في كل وقت، ومن كل ذنب كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا
أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] ولكنها في
مثل هذه المواسم آكد وأوجب، وصاحبها أرجى بالقبول والإجابة، وأن يوفق
للهداية والاستقامة، فإنه إذا اجتمع للمسلم توبة نصوح، مع أعمال فاضلة، في
أزمنة فاضلة، فهذا عنوان الفلاح بتوفيق الله، كما قال الله تعالى:
{فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ
الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]، وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
والتوبة
بالنسبة للحاج أوجب عليه من غيره؛ لأن قبول حجه مشروط بالتوبة الصادقة،
وترك الرفث والفسوق، والندم على ما فرّط منه من الذنوب، والعزم الأكيد على
عدم العودة إليها بعد انقضاء موسم الحج،
قال الله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
ومن
ترك المعاصي حال حجه وهو عازم على معاودتها بعد الحج، فإنه لم يتب توبة
صادقة، ولم يترك الرفث والفسوق على الحقيقة، بل لا يزال متصفاً بالفسق،
لأنه لم يتب حقيقة من الذنب، فلا يعد حجه مبروراً، ولا يحصل له تكفير جميع
الذنوب المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق
رجع كيوم ولدته أمه» (متفق عليه).
ومن فضل الله تعالى على الحاج
أنه يجتمع له فضل الزمان، وهو عشر ذي الحجة، وفضل المكان، وهو مكة، وفضل
الحال، وهو التلبس بالحج، فينبغي أن يكون ذلك دافعاً له إلى المبادرة إلى
التوبة الصادقة من جميع الذنوب، واستثمار هذه الفضائل العظيمة في استباق
الخيرات، والمسارعة إلى مغفرة الله تعالى وجنة عرضها الأرض والسماوات.
ومما
يشرع في هذه الأيام: الصيام، فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة كما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يصومها، فقد ثبت من حديث حفصة رضي الله عنها
قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء
وثلاثة أيام من كل شهر».
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل
الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال، كيف وقد قال الله عنه في الحديث
القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به» (أخرجه
البخاري ومسلم)، وأخرجا كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صام
يوماً في سبيل الله باعد الله بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً». الله
أكبر، ما أعظمه من أجر، وما أجزله من عطاء، صيام يوم واحد ابتغاء وجه الله
تعالى لا رياء فيه ولا سمعة ولا طلباً لعرض دنيوي، يباعد الله به بين صاحبه
وبين النار مسيرة سبعين عاماً!! فما بالكم بمن يصوم تسع ذي الحجة، هذه
الأيام التي اختصت بمزيد من الشرف والكرامة.
وإن عجزت أيها المسلم،
وضعفت همتك عن صيام التسعة كلها، فلا تعجز عن صيام ثلاثة أيام منها من
أولها أو وسطها أو آخرها، فإن صيام ثلاثة أيام من كل شهر سنَّة متبعة، فإذا
كنت محروماً من صيامها في كل شهر، فلا تقعد عن صيامها في هذا الشهر
الكريم، وبخاصة في العشر الأول منه، وإن شغلت عن هذا، أو قعدت بك همتك،
فإياك أن يفوتك صيام يوم عرفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن صيامه:
«أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والسنة القابلة» (أخرجه مسلم).
وهذا
إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يشرع له صيامه؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يصمه في حجه، ونهى عن صيام يوم عرفة بعرفة، وحتى يتقوى بالفطر
على الذكر والدعاء في ذلك اليوم العظيم.
وأعظم ما ينبغي فعله في
هذه الأيام: الذكر بجميع أنواعه من تكبير وتسبيح وتهليل وتحميد ودعاء
واستغفار وقراءة قرآن؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي
أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وهي عشر ذي الحجة كما سبق، وقول النبي
صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير
والتحميد». وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من التهليل والتكبير
والتحميد دون غيرها من العبادات، دليل على أنها من آكد العبادات والشعائر
في هذه الأيام العشر.
وقد أدرك ذلك سلف الأمة رضي الله عنهم فكانوا
يلهجون بذكر الله منذ دخول العشر، ويعلنون ذلك في بيوتهم ومساجدهم وأسواقهم
وأماكن أعمالهم، ويذكرون الله على كل أحوالهم.
وقد جاء في صحيح
البخاري: "وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران،
ويكبر الناس بتكبيرهما"، وفيه أيضاً: "وكان عمر رضي الله عنه يكبِّر في
قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى
تكبيراً" والآثار في هذا الباب كثيرة.
والإكثار من التكبير والجهر
به من الشعائر التي يشابه بها المقيمون حجاج بيت الله الحرام. وقد أصبح
التكبير في هذا الزمن من السنن المهجورة، ولا سيما في أول العشر فلا تكاد
تسمعه إلا من القليل، فحري بالمسلمين أن يحيوا هذه السنة فيفوزوا بأجر
العمل، وأجر إحياء سنَّة تكاد تندثر.
وأما صفة التكبير، فليس له صفة خاصة يجب الالتزام بها، والأمر في ذلك واسع، والمقصود هو كثرة الذكر على أي صفة مشروعة.
وقد
ورد عن السلف صفات متعددة، والمنقول عن أكثرهم أنهم كانوا يقولون: الله
أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله
الحمد. وعن بعضهم: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر،
الله أكبر، ولله الحمد. وعن بعضهم: الله أكبر، الله أكبر كبيراً، وعن
بعضهم: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
وبالإضافة
إلى التكبير المطلق الذي يبتدئ من أول ذي الحجة إلى غروب الشمس من اليوم
الثالث عشر، فإنه يشرع كذلك التكبير المقيد بأدبار الصلوات بعد السلام، وهو
يبتدئ بالنسبة لغير الحجاج من فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام
التشريق، وبالنسبة للحجاج من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر
أيام التشريق، وهذا هو أصح الأقوال الذي عليه جمهور السلف والفقهاء قديماً
وحديثاً.
وظاهر النصوص: أن التكبير المقيد شامل للمقيم والمسافر،
والجماعة والمنفرد، والصلاة المفروضة والنافلة، والمسبوق ببعض الصلاة يكبر
إذا فرغ من قضاء ما فاته؛ لأن التكبير ذكر مشروع بعد السلام.
ومن
خصائص هذه الأيام العشر: مشروعية الحج فيها، وهو من أفضل مايعمل في هذه
الأيام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما
ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة» (حديث
صحيح رواه الترمذي والنسائي). وبين عليه الصلاة والسلام أن الحج المقبول
ليس لصاحبه جزاء إلا الجنة، فقال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما
والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (متفق عليه).
والحج ركن من
أركان الإسلام، وهو واجب في العمر مرة على كل مسلم بالغ عاقل مستطيع للحج
ببدنه وماله. فإن كان ذا مال، ولكنه عاجز عن الحج بنفسه بسبب كبر سنة، أو
مرضه الذي لا يرجى برؤه، فإنه يجب عليه أن يوكل من يحج عنه. وإن كان عجزه
يرجى زواله كالمرض الطارئ، فإنه ينتظر حتى يشفى منه ثم يحج. فإن مات قبل
تمكنه، حج عنه من تركته.
والواجب على المسلم: المبادرة إلى الحج عند
توافر شروطه فيه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تعجلوا إلى الحج فإن
أحدكم لا يدري ما يعرض له» (حديث حسن رواه أحمد وغيره). وصح عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات
يهودياً أو نصرانياً» وهو وإن كان موقوفاً على عمر، فإنه في حكم المرفوع؛
لأن عمر لا يجزم بمثل هذا من قبل نفسه.
ومما يجدر التنبيه إليه أنه
إذا دخلت عشر ذي الحجة، وأراد المسلم أن يضحي، فإنه لا يجوز له أن يأخذ من
شعره ولا أظفاره ولا بشرته شيئاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان
له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذ من شعره ولا من أظافره
شيئاً حتى يضحي».
وفي حديث آخر: «فليمسك عن شعره وأظافره حتى يضحي» فهذا أمر يدل على الوجوب، وذاك نهي يفيد التحريم، ولا صارف لهما.
لكن لو تعمد وأخذ، فعليه أن يستغفر الله، ولا فدية عليه، وأجر الأضحية كامل إن شاء الله.
ولا
حرج في غسل الرأس للرجل والمرأة، ولكن لا يتعمد إسقاط الشعر؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الأخذ، ولم ينه عن الغسل ونحوه.
والحكمة
من النهي عن الأخذ: أنه لما كان المضحي مشابهاً للمحرم في بعض أعمال
النسك، وهو التقرّب إلى الله بذبح القربان، أعطي بعض أحكامه.
ثم إن هذا
النهي ظاهره: أنه يخص صاحب الأضحية، ولا يعم الزوجة والأولاد المضحى عنهم،
إلا إذا كان لأحدهم أضحية تخصه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي عن
آل محمد، ولم ينقل عنه أنه نهاهم عن الأخذ.
نسأل الله تعالى أن
يوفقنا للمسارعة إلى الخيرات، واغتنام فضائل الأوقات، وأن يتقبل منا صالح
أعمالنا ويكفر عنا سيئاتنا. إنه هو الغفور الشكور.
أنخ مطاياك فثمّة فوائد لا تحصى:
ويقول فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي، إمام وخطيب مسجد قباء بالمدينة النبوية:
أفضل
الأيام عشر ذي الحجة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما من أيّام العملُ الصالح
فيهنَّ أحبّ إلى الله من هذِه العشر»، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في
سبيل الله؟! قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله
فلم يرجِع من ذلك بشيء» هنا ينيخ المرء مطاياه، فثمة فوائد لا تحصى: أولها:
أن الصحابة عندما قالوا: "ولا الجهاد في سبيل الله" يدل ظاهراً على أنه
استقر في أذهانهم فضيلة الجهاد في سبيل الله، وإلا لم يوردوا هذا الإشكال،
حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تلك العشر الأيام قال: «ولا
الجهاد في سبيل الله»، ثم استدرك صلوات الله وسلام عليه فقال: «إلا رجلاً
خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» هذا أمر.
الأمر الثاني: قوله
صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن» نلحظ أن الله جلَّ
وعلا لم يحدد عبادة معروفة في هذه الأيام حتى يكون الفضل ليس في العبادة،
إنما الفضل في اليوم، فتصبح هذه الأيام وعاء لكل عمل صالح. وعظمة هذه
الأيام تتأكد إذا أخذنا بقول جماهير أهل السير والتاريخ والتفسير أنها هي
الأيام التي زادها الله جلَّ وعلا لموسى، فإن الله قال: {وَوَاعَدْنَا
مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]،
فيصبح الميقات الأول لموسى شهر ذي القعدة، ثم زاده الله جلَّ وعلا العشر من
ذي الحجة، وعلى هذا فإن الله جلَّ وعلا كلم موسى يوم النحر عند جبل الطور.
لكن القرآن عبر عن تلك العشر بالليال، فقال: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى
ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] أي: بعشر
ليال، هنا يأتي ملحظ ينبغي أن ينتبه إليه الناس، وهو أن المنافع قسمان:
منافع دينية، ومنافع دنيوية، فالدنيوية يعبر عنها بالأيام؛ لأنها ترتبط
بمرور الشمس، وأما المناسك والمنافع الدينية البحتة فإنه يعبر عنها
بالليالي لأنها ترتبط بالأهلة، ومن ذلك دخول رمضان، وخروج رمضان، دخول ليلة
العيد وما أشبه ذلك، فكله مرتبط بالقمر، وهذه قاعدة مطردة أن المنافع
الدينية مرتبطة بالليالي، والمنافع الدنيوية مرتبطة بالأيام.
والمنافع الدنيوية مثل الزراعة، فالذين يحرثون ويبذرون ليس لهم علاقة بالقمر، بل بالشهور الشمسية الثابتة، لأن القمر يختلف
على الإطلاق.. نحن على أبواب موسم عظيم وأيام مباركة يغنمها من يغنمها
ويخسرها من يخسرها..
ماذا قال الفقهاء والعلماء عن هذه الأيام المباركة؟
في البدايه يتحدث سماحة مفتي عام المملكة العلاّمة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ:
إنَّ
من رحمة الله بعباده أن جعلَ لهم مواسمَ للطاعات يتنافسُ المسلمون فيها
بصالح الأعمال، فضلاً من الله ورحمة، والله ذو الفضلِ العظيم، ومن هذه
الأيام أيامُ عشر ذي الحجّة، فهي أيامٌ معظّمة في شرع الله، لها خصوصيّة في
مزيد الطاعة والإحسان، وقد نوَّه الله بها في كتابه العزيز قال تعالى:
{وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: - 2]، والمراد بها عشرُ ذي الحجة،
وقال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ
عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، والمراد
بالأيام المعلومات هي عشرُ ذي الحجّة.
ودلَّت سنّة رسول الله على
فضلِها وأنَّه يُشرع التنافس فيها في صالحِ العمل، يقول صلى الله عليه
وسلم: «ما من أيّام العملُ الصالح فيهنَّ أحبّ إلى الله من هذِه العشر»،
قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: «ولا الجهادُ في سبيل
الله إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله فلم يرجِع من ذلك بشيء»، وقال: «ما من
أيّامٍ العملُ فيها أعظم عند الله سبحانه ولا أحبّ إليه من العمل في هذه
الأيام - يعني عشر ذي الحجة - ، فأكثِروا فيهنّ من التهليل والتكبير
والتحميد».
قال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان
إلى السوق في أيام العشر يكبّران ويكبّر الناس بتكبيرهما"، بمعنى أنّهما
يحيِيَان هذه السنّة، فيذكرون الله جلّ وعلا، يقومان رضي الله عنهما بذكر
الله، فيقتدي النّاس بهما، فيذكرُ الجميع ربَّ العالمين. وكان عمر بن
الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه بمنًى يكبِّر عقِب الصلوات، ويكبّر في
فسطاطه وعلى فراشِه وفي مجلسِه، ماشياً وقاعداً، وهكذا كانوا يُحيون هذه
السنّة ويعظّمونها، فيذكرون الله جلَّ وعلا.
في هذه الأيّام المباركةِ يُشرَع لك التزوّد من صالح العمل؛ التوبة إلى الله ممَّا سلف وكان من سيِّئات الأقوال والأعمال.
إنَّ
هذه الأيامَ العشر اجتمعت فيها أنواعٌ من العبادة؛ الصلاة والصوم والصدقة
والحجّ، فاجتمعت أنواع هذه الطاعة؛ الصلاة والصدقة والصوم والحج، فأكثِر من
فعلِ الطاعَة، وبادِر إلى الفرائِض، وأكثِر من النوافِل، في حديث ثوبان:
«عليك بكثرةِ السّجود، فإنَّك لا تسجُد لله سجدة إلا حطّ الله بها عنك
خطيئة، ورفع لك بِها درجة».
ويُسنّ صيامُ هذه التّسع لمن قدر على ذلك،
ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله أنَّ النبيّ كان يصوم تسعَ ذي الحجة ويومَ
عاشوراء وثلاثةَ أيام من كلّ شهر.
وأفضلها وآكدُها صومُ يوم عرفة لمن لم يكن حاجاً، يقول في صيام يوم عرفة: «أحتسبُ على الله أن يكفّر سنةً قبله وسنة بعده».
فعظِّموا هذه الأيامَ، فإنّها أيّامٌ عظيمة عندَ الله، شُرِع لكم فيها أنواعٌ من الطاعة، فتزوَّدوا من صالِح العمل.
الموفّقوت ينالون نفحات الأيام المباركة:
ويقول فضيلة الدكتور عبد الباري الثبيتي إمام المسجد النبوي:
في
بعض الأيّام المباركة نفحاتٌ ينالها الموفَّقون من عباد الله، ومن تلك
الأيام أيامُ عشر ذي الحجة، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «ما العملُ في أيامٍ أفضَل منها في هذه»، قالوا: ولا الجهاد؟ قال:
«ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطرُ بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» (أخرجه
البخاري).
كان السلفُ إذا دخلت أيامُ العشر من ذي الحجّة يجدّون في البرّ والطاعة، ويكثرون من الذكر والدعاء وتعظيم الله.
ومما
هو مشروع في هذه الأيام الإكثار من صلاة النافلة والتهليلِ والتكبير
والتحميد وقراءة القرآن والصدقة على الفقراء والمساكين وإغاثة الملهوفين
وبرّ الوالدين وقيام الليل وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
ومن ذلك صومُ
غير الحاجّ ما تيسّر له من أيام العشر، خاصة يوم عرفة لما في صحيح مسلم عن
رسول الله أنه قال: «أحتسب على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبله والسنة
التي بعده».
ومما يُشرع تكبيرُ الله تعالى وتعظيمه، ويكون التكبير
المطلَق في جميع الأوقات من ليل أو نهارٍ إلى صلاة العيد، أما التكبيرُ
المقيَّد فهو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبةِ التي تصلَّى في جماعة، ويبدأ
لغير الحاجّ من فجر يومِ عرفة، وللحاجّ من ظهر يوم النحر، ويستمرّ إلى
صلاة عصرِ آخر أيام التشريق.
ومما يشرع إعدادُ الأضحية، ومن أراد أن
يضحِّي ودخل شهر ذو الحجة فلا يحلّ له أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره حتى
يذبحَ أضحيتَه، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا
رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحّي فليمسِك عن شعره وأظفاره».
الموسم العظيم والأيام الفاضلة:
ويقول فضيلة الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن فوزان بن صالح الفوزان الباحث والفقيه المعروف:
يعيش
المسلمون في هذه الأيام موسماً عظيماً، وأياماً فاضلة، رفع الله شأنها،
وأعلى مكانها، وميزها على بقية أيام العام، وجعلها غرة في جبين الدهر، ألا
وهي أيام العشر، أعني العشر الأول من ذي الحجة، هذه الأيام المباركة التي
اختصها الله بمزيد من الشرف والكرامة، وجعلها ميداناً للمنافسة في الخيرات،
والمسابقة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات، وموسماً عظيماً
للتجارة الرابحة مع الله.
وإن شرف هذه الأيام أمر معلوم من دين
الإسلام، وقد تواطأت نصوص الكتاب والسنَّة على التنويه بفضلها، والإشادة
بمكانتها ورفعة قدرها، والإعلان عن تعظيم الله لشأنها، فقد أقسم الله بها
تشريفاً لها، وتنبيهاً على فضلها، فقال سبحانه: {وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ
عَشْرٍ} [الفجر: - 2].
والليالي العشر: هي عشر ذي الحجة، كما قاله ابن
عباس وابن الزبير ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف. و{الوتر} قيل: هو يوم
عرفة، لكونه التاسع، و{الشفع}، هو يوم النحر، لكونه العاشر، وهذان اليومان
داخلان في الأيام العشر، ولكن الله خصهما بالقسم اهتماماً بشأنهما،
وبياناً لمزيد شرفهما، وأنهما أفضل أيام العشر، التي هي أفضل أيام الدهر.
وهذه
الأيام العشر هي الأيام المعلومات التي قال الله تعالى عنها: {وَأَذِّن
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج:27 - 28].
وإنما
قيل لها {معلومات}: للحرص على علمها، من أجل أن وقت الحج في آخرها، ولأنها
معلوم فضلها وأنها موسم الحج من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أذن
في الناس بالحج إلى يومنا هذا.
أما السنَّة النبوية، فقد جاءت فيها
نصوص كثيرة تدل على فضل هذه الأيام، وأنها أفضل أيام العام، وأن العمل فيها
أعظم أجراً، وأحب إلى الله، وأزكى عنده، وأحظى لديه من العمل فيما سواها
من الأيام. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «ما من أيّام العملُ الصالح
فيهنَّ أحبّ إلى الله من هذِه العشر»، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في
سبيل الله؟! قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله فلم
يرجِع من ذلك بشيء» (رواه البخاري وغيره).
وروى الدارمي والبيهقي
بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عمل أزكى عند الله
عزَّ وجلَّ ولا أعظم أجراً، من خير يعمله في عشر الأضحى»، قيل: ولا الجهاد
في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم
يرجع من ذلك بشيء»، قال القاسم بن أبي أيوب: وكان سعيد بن جبير إذا دخلت
أيام العشر، اجتهد اجتهاداً شديداً، حتى ما يكاد يقدر عليه.
والأحاديث
في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على أن عشر ذي الحجة، هي أفضل
أيام السنة على الإطلاق، فإن قوله: «ما من أيام» نكرة في سياق النفي، فتفيد
العموم، ثم إنها مؤكَّدة بـ"من" البيانية، وهي مزيدة لاستغراق النفي،
فيكون المعنى: ما من أيام الدنيا أيام أفضل عند الله، ولا أحب إليه العمل
فيهن من هذه الأيام العشر، وقد صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
آخر بقوله: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه
الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» رواه أحمد بسند
صحيح.
ولأجل هذا اختلف العلماء: أيهما أفضل عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟
قال
ابن كثير رحمه الله: "وبالجملة، فهذه العشر -يعني: عشر ذي الحجة- قد قيل:
إنها أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضّلها كثيرٌ على عشر رمضان
الأخيرة؛ لأن هذه يشرع فيها ما يشرع في تلك من صلاة وصيام وصدقة وغيرها،
وتمتاز هذه باختصاصها بأداء فرض الحج فيها. وقيل: تلك أفضل، لاشتمالها على
ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وتوسط آخرون، فقالوا: أيام هذه أفضل،
وليالي تلك أفضل، وبهذا يجتمع شمل الأدلة. والله أعلم" ا.هـ.
وقال
ابن القيم: "فإن قلت: أي العشرَين أفضل؟… فالصواب، أن يقال: ليالي العشر
الأخير من رمضان، أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة، أفضل من
أيام عشر رمضان، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه" ا.هـ.
والحقيقة أنه لا
يهمنا كثيراً، أي الأقوال أرجح؟ بقدر ما يهمنا أن ندرك فضل هذه العشر، وعظم
شأنها عند الله تعالى حتى نحرص على اغتنامها، والمنافسة على الخير فيها،
وبهذا نعلم مقدار ما نحن فيه من غفلة وتفريط، وحرمان من هذه الخيرات،
وخسارة لتلك النفحات.
وإن المرء ليسر سروراً عظيماً حين يرى اجتهاد
الناس في العشر الأواخر من رمضان، واهتمامهم بها، وحرصهم على اغتنامها،
والمنافسة على الخير فيها، ولكنه يعجب أشد العجب، حين يرى هؤلاء الصالحين
أنفسهم، لا يحفلون بهذه الأيام المباركة، ولا يهتمون لها، ولا يجتهدون فيها
كاجتهادهم في العشر الأخيرة من رمضان، مع أن هذه الأيام أفضل من تلك
الأيام كما سبق، فكانت جديرة بأن يهتم بها أكثر، وأن يحرص المؤمن على
اغتنامها بشكل أكبر، ويستثمر كل لحظة من لحظاتها فيما يقربه إلى الله ويرفع
درجاته عنده.
وقد دلت الأحاديث السابقة على أن العمل الصالح في عشر ذي
الحجة أحب إلى الله، وأفضل عنده من العمل نفسه لو عُمل في غيرها من الأيام،
وأن العبادة فيها أزكى عند الله وأعظم أجراً من نفس العبادة لو فُعلت في
غيرها من أيام العام، فإذا تصدقت بمئة ريال في هذه العشر، فإنه أعظم أجراً
وأحب إلى الله من التصدق بهذه المئة في شهر شعبان أو رمضان أو شوال، أو
غيرها، وإذا صليت ركعتين في هذه العشر فإنهما أحب إلى الله من ركعتين
مثلهما تصليهما في غير هذه العشر، وعلى ذلك فقس بقية الأعمال.
بل
دلت هذه الأحاديث على أن العمل فيها، وإن كان مفضولاً، فإنه أعظم أجراً،
وأزكى عند الله، وأحب إليه من العمل في غيرها، وإن كان فاضلاً، ولا أدل على
ذلك من كون العمل فيها أعظم من الجهاد في سبيل الله الذي يتضمن قطف
الرؤوس، وإزهاق النفوس، وتقطيع الأعضاء، وإسالة الدماء، والذي هو من أفضل
الأعمال وذروة سنام الإسلام. فالعمل في هذه العشر، أفضل من سائر الأعمال في
غيرها، وأفضل من أنواع الجهاد كلها إلا النوع الذي استثناه الرسول صلى
الله عليه وسلم بقوله: «إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء».
وإذا
كان الأمر كذلك، وعلمت أيها المسلم أن الله يحب العمل في هذه الأيام
ويباركه ويزكيه، فحري بك أن تجتهد في هذه الأيام، وتحرص على اغتنام كل لحظة
من لحظاتها، وأن تعمرها بأنواع الطاعات والقربات، التي تزيدك قرباً من
ربك، وتكون سبباً لسعادتك ونجاتك في دنياك وآخرتك، فإن الأيام مراحل
الآجال، ومخازن الأعمال، وليس لك أيها الإنسان من عمرك إلا ما قضيته في
طاعة ربك، واستودعته عملاً صالحاً تجده أحوج ما تكون إليه، في يوم لا ينفع
فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}
[المؤمنون:102-103].
وإن هذه المواسم الفاضلة لمن أعظم نعم الله على
عباده، حيث تستحث هممهم، وتشحذ عزائمهم للمسارعة إلى الخيرات، ومجاهدة
النفس على فعل الطاعات واجتناب المنكرات، حتى تزكو نفوسهم، وترق قلوبهم،
وتنجلي عنها تلك السحب الكثيفة من الغفلة والقسوة، وحتى تكون هذه الطاعات
غذاء لأرواحهم، وأنساً لقلوبهم، وسبباً لسعادتهم في دنياهم وآخرتهم.
ومما
يدل على فضل هذه العشر: أن الله عزَّ وجلَّ شرع فيها من الأعمال الجليلة
الفاضلة، ما لم يشرعه في غيرها من الأيام، وأنها تختص باجتماع أمهات
العبادة، فيها من الصلاة والصيام والصدقة والحج والأضاحي يوم العيد، ولا
يتأتى ذلك في غيرها، ولهذا فإن إدراك هذه العشر المباركة نعمة عظيمة جليلة،
وإن واجب المسلم استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة التي قد لا
يدركها مرة أخرى!!
وإن أفضل ما تقرب به العباد إلى ربهم: القيام بما
افترضه عليهم، وأداؤه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، يقول الله تعالى في
الحديث القدسي: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي
بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى
أحبه…».
فينبغي لك أيها المسلم أن تحرص غاية الحرص على أداء الفرائض
وإتمامها، وبخاصة الصلاة التي هي عمود الدين وآكد أركان الإسلام بعد
الشهادتين، ولا يكن حالك في هذه الأيام الفاضلة كحالك في غيرها من التأخر
عن صلاة الجماعة، أو التواني في التبكير إليها، أو التشاغل عنها، والغفلة
عن التدبر والخشوع فيها، وهكذا في بقية الفرائض والواجبات: من بر الوالدين،
وصلة الأرحام، وأداء الأمانة، والقيام بالحقوق الواجبة.
وإن من
الواجبات التي تتأكد في هذه الأيام: التوبة الصادقة النصوح. والتوبة واجبة
في كل وقت، ومن كل ذنب كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا
أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] ولكنها في
مثل هذه المواسم آكد وأوجب، وصاحبها أرجى بالقبول والإجابة، وأن يوفق
للهداية والاستقامة، فإنه إذا اجتمع للمسلم توبة نصوح، مع أعمال فاضلة، في
أزمنة فاضلة، فهذا عنوان الفلاح بتوفيق الله، كما قال الله تعالى:
{فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ
الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]، وقال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
والتوبة
بالنسبة للحاج أوجب عليه من غيره؛ لأن قبول حجه مشروط بالتوبة الصادقة،
وترك الرفث والفسوق، والندم على ما فرّط منه من الذنوب، والعزم الأكيد على
عدم العودة إليها بعد انقضاء موسم الحج،
قال الله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
ومن
ترك المعاصي حال حجه وهو عازم على معاودتها بعد الحج، فإنه لم يتب توبة
صادقة، ولم يترك الرفث والفسوق على الحقيقة، بل لا يزال متصفاً بالفسق،
لأنه لم يتب حقيقة من الذنب، فلا يعد حجه مبروراً، ولا يحصل له تكفير جميع
الذنوب المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق
رجع كيوم ولدته أمه» (متفق عليه).
ومن فضل الله تعالى على الحاج
أنه يجتمع له فضل الزمان، وهو عشر ذي الحجة، وفضل المكان، وهو مكة، وفضل
الحال، وهو التلبس بالحج، فينبغي أن يكون ذلك دافعاً له إلى المبادرة إلى
التوبة الصادقة من جميع الذنوب، واستثمار هذه الفضائل العظيمة في استباق
الخيرات، والمسارعة إلى مغفرة الله تعالى وجنة عرضها الأرض والسماوات.
ومما
يشرع في هذه الأيام: الصيام، فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة كما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يصومها، فقد ثبت من حديث حفصة رضي الله عنها
قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء
وثلاثة أيام من كل شهر».
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل
الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال، كيف وقد قال الله عنه في الحديث
القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به» (أخرجه
البخاري ومسلم)، وأخرجا كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صام
يوماً في سبيل الله باعد الله بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً». الله
أكبر، ما أعظمه من أجر، وما أجزله من عطاء، صيام يوم واحد ابتغاء وجه الله
تعالى لا رياء فيه ولا سمعة ولا طلباً لعرض دنيوي، يباعد الله به بين صاحبه
وبين النار مسيرة سبعين عاماً!! فما بالكم بمن يصوم تسع ذي الحجة، هذه
الأيام التي اختصت بمزيد من الشرف والكرامة.
وإن عجزت أيها المسلم،
وضعفت همتك عن صيام التسعة كلها، فلا تعجز عن صيام ثلاثة أيام منها من
أولها أو وسطها أو آخرها، فإن صيام ثلاثة أيام من كل شهر سنَّة متبعة، فإذا
كنت محروماً من صيامها في كل شهر، فلا تقعد عن صيامها في هذا الشهر
الكريم، وبخاصة في العشر الأول منه، وإن شغلت عن هذا، أو قعدت بك همتك،
فإياك أن يفوتك صيام يوم عرفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن صيامه:
«أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والسنة القابلة» (أخرجه مسلم).
وهذا
إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يشرع له صيامه؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يصمه في حجه، ونهى عن صيام يوم عرفة بعرفة، وحتى يتقوى بالفطر
على الذكر والدعاء في ذلك اليوم العظيم.
وأعظم ما ينبغي فعله في
هذه الأيام: الذكر بجميع أنواعه من تكبير وتسبيح وتهليل وتحميد ودعاء
واستغفار وقراءة قرآن؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي
أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وهي عشر ذي الحجة كما سبق، وقول النبي
صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير
والتحميد». وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من التهليل والتكبير
والتحميد دون غيرها من العبادات، دليل على أنها من آكد العبادات والشعائر
في هذه الأيام العشر.
وقد أدرك ذلك سلف الأمة رضي الله عنهم فكانوا
يلهجون بذكر الله منذ دخول العشر، ويعلنون ذلك في بيوتهم ومساجدهم وأسواقهم
وأماكن أعمالهم، ويذكرون الله على كل أحوالهم.
وقد جاء في صحيح
البخاري: "وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران،
ويكبر الناس بتكبيرهما"، وفيه أيضاً: "وكان عمر رضي الله عنه يكبِّر في
قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى
تكبيراً" والآثار في هذا الباب كثيرة.
والإكثار من التكبير والجهر
به من الشعائر التي يشابه بها المقيمون حجاج بيت الله الحرام. وقد أصبح
التكبير في هذا الزمن من السنن المهجورة، ولا سيما في أول العشر فلا تكاد
تسمعه إلا من القليل، فحري بالمسلمين أن يحيوا هذه السنة فيفوزوا بأجر
العمل، وأجر إحياء سنَّة تكاد تندثر.
وأما صفة التكبير، فليس له صفة خاصة يجب الالتزام بها، والأمر في ذلك واسع، والمقصود هو كثرة الذكر على أي صفة مشروعة.
وقد
ورد عن السلف صفات متعددة، والمنقول عن أكثرهم أنهم كانوا يقولون: الله
أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله
الحمد. وعن بعضهم: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر،
الله أكبر، ولله الحمد. وعن بعضهم: الله أكبر، الله أكبر كبيراً، وعن
بعضهم: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
وبالإضافة
إلى التكبير المطلق الذي يبتدئ من أول ذي الحجة إلى غروب الشمس من اليوم
الثالث عشر، فإنه يشرع كذلك التكبير المقيد بأدبار الصلوات بعد السلام، وهو
يبتدئ بالنسبة لغير الحجاج من فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام
التشريق، وبالنسبة للحجاج من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر
أيام التشريق، وهذا هو أصح الأقوال الذي عليه جمهور السلف والفقهاء قديماً
وحديثاً.
وظاهر النصوص: أن التكبير المقيد شامل للمقيم والمسافر،
والجماعة والمنفرد، والصلاة المفروضة والنافلة، والمسبوق ببعض الصلاة يكبر
إذا فرغ من قضاء ما فاته؛ لأن التكبير ذكر مشروع بعد السلام.
ومن
خصائص هذه الأيام العشر: مشروعية الحج فيها، وهو من أفضل مايعمل في هذه
الأيام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما
ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة» (حديث
صحيح رواه الترمذي والنسائي). وبين عليه الصلاة والسلام أن الحج المقبول
ليس لصاحبه جزاء إلا الجنة، فقال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما
والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (متفق عليه).
والحج ركن من
أركان الإسلام، وهو واجب في العمر مرة على كل مسلم بالغ عاقل مستطيع للحج
ببدنه وماله. فإن كان ذا مال، ولكنه عاجز عن الحج بنفسه بسبب كبر سنة، أو
مرضه الذي لا يرجى برؤه، فإنه يجب عليه أن يوكل من يحج عنه. وإن كان عجزه
يرجى زواله كالمرض الطارئ، فإنه ينتظر حتى يشفى منه ثم يحج. فإن مات قبل
تمكنه، حج عنه من تركته.
والواجب على المسلم: المبادرة إلى الحج عند
توافر شروطه فيه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تعجلوا إلى الحج فإن
أحدكم لا يدري ما يعرض له» (حديث حسن رواه أحمد وغيره). وصح عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات
يهودياً أو نصرانياً» وهو وإن كان موقوفاً على عمر، فإنه في حكم المرفوع؛
لأن عمر لا يجزم بمثل هذا من قبل نفسه.
ومما يجدر التنبيه إليه أنه
إذا دخلت عشر ذي الحجة، وأراد المسلم أن يضحي، فإنه لا يجوز له أن يأخذ من
شعره ولا أظفاره ولا بشرته شيئاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان
له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذ من شعره ولا من أظافره
شيئاً حتى يضحي».
وفي حديث آخر: «فليمسك عن شعره وأظافره حتى يضحي» فهذا أمر يدل على الوجوب، وذاك نهي يفيد التحريم، ولا صارف لهما.
لكن لو تعمد وأخذ، فعليه أن يستغفر الله، ولا فدية عليه، وأجر الأضحية كامل إن شاء الله.
ولا
حرج في غسل الرأس للرجل والمرأة، ولكن لا يتعمد إسقاط الشعر؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الأخذ، ولم ينه عن الغسل ونحوه.
والحكمة
من النهي عن الأخذ: أنه لما كان المضحي مشابهاً للمحرم في بعض أعمال
النسك، وهو التقرّب إلى الله بذبح القربان، أعطي بعض أحكامه.
ثم إن هذا
النهي ظاهره: أنه يخص صاحب الأضحية، ولا يعم الزوجة والأولاد المضحى عنهم،
إلا إذا كان لأحدهم أضحية تخصه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي عن
آل محمد، ولم ينقل عنه أنه نهاهم عن الأخذ.
نسأل الله تعالى أن
يوفقنا للمسارعة إلى الخيرات، واغتنام فضائل الأوقات، وأن يتقبل منا صالح
أعمالنا ويكفر عنا سيئاتنا. إنه هو الغفور الشكور.
أنخ مطاياك فثمّة فوائد لا تحصى:
ويقول فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي، إمام وخطيب مسجد قباء بالمدينة النبوية:
أفضل
الأيام عشر ذي الحجة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما من أيّام العملُ الصالح
فيهنَّ أحبّ إلى الله من هذِه العشر»، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في
سبيل الله؟! قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله
فلم يرجِع من ذلك بشيء» هنا ينيخ المرء مطاياه، فثمة فوائد لا تحصى: أولها:
أن الصحابة عندما قالوا: "ولا الجهاد في سبيل الله" يدل ظاهراً على أنه
استقر في أذهانهم فضيلة الجهاد في سبيل الله، وإلا لم يوردوا هذا الإشكال،
حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تلك العشر الأيام قال: «ولا
الجهاد في سبيل الله»، ثم استدرك صلوات الله وسلام عليه فقال: «إلا رجلاً
خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» هذا أمر.
الأمر الثاني: قوله
صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن» نلحظ أن الله جلَّ
وعلا لم يحدد عبادة معروفة في هذه الأيام حتى يكون الفضل ليس في العبادة،
إنما الفضل في اليوم، فتصبح هذه الأيام وعاء لكل عمل صالح. وعظمة هذه
الأيام تتأكد إذا أخذنا بقول جماهير أهل السير والتاريخ والتفسير أنها هي
الأيام التي زادها الله جلَّ وعلا لموسى، فإن الله قال: {وَوَاعَدْنَا
مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]،
فيصبح الميقات الأول لموسى شهر ذي القعدة، ثم زاده الله جلَّ وعلا العشر من
ذي الحجة، وعلى هذا فإن الله جلَّ وعلا كلم موسى يوم النحر عند جبل الطور.
لكن القرآن عبر عن تلك العشر بالليال، فقال: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى
ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] أي: بعشر
ليال، هنا يأتي ملحظ ينبغي أن ينتبه إليه الناس، وهو أن المنافع قسمان:
منافع دينية، ومنافع دنيوية، فالدنيوية يعبر عنها بالأيام؛ لأنها ترتبط
بمرور الشمس، وأما المناسك والمنافع الدينية البحتة فإنه يعبر عنها
بالليالي لأنها ترتبط بالأهلة، ومن ذلك دخول رمضان، وخروج رمضان، دخول ليلة
العيد وما أشبه ذلك، فكله مرتبط بالقمر، وهذه قاعدة مطردة أن المنافع
الدينية مرتبطة بالليالي، والمنافع الدنيوية مرتبطة بالأيام.
والمنافع الدنيوية مثل الزراعة، فالذين يحرثون ويبذرون ليس لهم علاقة بالقمر، بل بالشهور الشمسية الثابتة، لأن القمر يختلف