مر على الأعضاء لفظ المناسبة ولتعمي الفائدة جئت بهذا الموضوع
القرآن الكريم - وهو المعجزة الخالدة - إذا قُرئ من أوله إلى آخره،
لأجمع كل منصف على أنه كتاب محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي
الاتصال، آخذ بعضه برقاب بعض، يجري الإعجاز في آياته وسوره جريان الدم في
الجسم، وكأنه سبيكة واحدة، وعقد فريد، نُظمت أجزائه على أكمل وجه وأتمه، { كتاب أحكمت آياته ثم فُصِّلت من لدن حكيم خبير } (هود:1) { قرآنًا عربيًا غير ذي عوج } (فصلت:28) .
ولا
يخفاك - قارئي الكريم - ما وصف به صناديد قريش - وهم أرباب الفصاحة
والبيان - القرآن الكريم عندما سمعوه؛ بل قالت الجن في حقه لمَّا سمعوه: { إنا سمعنا قرآنا عجبًا } (الجن:1) .
ومن العلوم القرآنية التي نالت عناية واهتمام علماء القرآن ما يسمى ( علم المناسبات ) وهو - كما يقول الإمام الرازي -:
" علم عظيم، أودعت فيه أكثر لطائف علل وحكم ترتيب الآيات والسور " ،
ويُعنى هذا العلم باستقصاء الفوائد والحِكَم في ترتيب سور القرآن على النحو
الذي نجده في المصاحف، ومعرفة مناسبة هذا الترتيب، كما يهتم بالبحث في
مناسبة ورود الآيات القرآنية على نحو ما أنزلت عليه .
ثم إن من
المسائل الوثيقة الصلة بهذا العلم، مسألة ترتيب سور القرآن وآياته، هل هو
أمر توقيفي، لا مجال للاجتهاد فيه؛ أم هو أمر اجتهادي ؟
والذي ذهب
إليه المحققون من أهل العلم، أن ترتيب آيات القرآن الكريم أمر توقيفي من
النبي صلى الله عليه وسلم، لا مدخل للاجتهاد فيه، ومن أهم الأدلة على ذلك،
قوله تعالى: { إن علينا جمعه وقرآنه }
(القيامة:17) والجمع في الآية - كما قال المفسرون - على معنيين، الأول:
جمعه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم؛ والثاني: جمعه بمعنى تأليفه وترتيب
سوره وآياته .
وفي حديث عثمان رضي الله عنه: (
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من
السور ذوات العدد، وكان إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده يقول:
ضعوا هذا في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا ) رواه أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وغيرهم .
أما
ترتيب السور، فالتحقيق أن منه ما أُخذ من إشارات الأحاديث النبوية،
وأفعاله صلى الله عليه وسلم؛ ومنه ما وقع باجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم
أجمعين .
إذا عُرف هذا، نزيد عليه فنقول: إن التناسب في القرآن
الكريم على أنواع؛ فهناك التناسب بين السورة واسمها، وهناك التناسب بين
بداية السورة ونهايتها، وهناك التناسب بين الآيات في السورة الواحدة،
وأخيرًا لا آخرًا، هناك التناسب بين السورة والسورة التي تليها .
ومن
ثمرات هذا العلم - كما يذكر العلماء - الالتفات إلى الحكمة من ترتيب السور
والآيات على الوجه الذي هو عليه، والاهتمام باستخراج المعاني والحكم
ولطائف الفوائد، التي لا يتوصل إليها إلا بالتماس المناسبة بينها، ومعرفة
وجوه الربط بين أنواع المناسبات .
ولمعرفة وجوه المناسبات طرق،
فصَّل أهل العلم القول فيها؛ ومجمل ذلك أن هناك من المناسبات القرآنية ما
يُعرف بأدنى تأمل، وذلك من خلال إدراك الارتباط الظاهر بين أنواعها
المختلفة؛ ومن المناسبات ما لا يُعرف إلا بعد طول تأمل، وإعمال نظر، وهذا
لا يتيسر إلا لمن أعمل الفكر، وأطال النظر في سور القرآن الكريم وآياته .
والأمر
الذي ينبغي التنبيه إليه في هذا السياق، أن تقرير المناسبات بين الآيات
والسور، وغير ذلك من أنواع المناسبات، لا ينبغي أن يكون خبط عشواء، بل لابد
أن يقوم على أساس متين، ويستند إلى ركن ركين؛ معتمدًا في كل ذلك على قرائن
وأدلة، تؤيد تقرير وجه هذه المناسبة أو تلك؛ أما التكلًُّف في استخراج
وجوه المناسبات، من غير دليل يستند إليه، أو أمر يعول عليه، فهو أمر مرفوض
لا يؤبه به، ولا يلتفت إليه؛ ولأجل هذا المعنى، يقول الشيخ ابن عبد السلام رحمه
الله: إن من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض، ويتشبث بعضه ببعض، لئلا
يكون مقطعًا متبرًا، وهذا بشرط أن يكون الكلام في أمر متحد؛ فيرتبط أوله
بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحد الكلامين بالآخر،
ومن ربط ذلك فهو متكلِّف لما لم يقدر عليه إلا بربط ركيك، يصان عن مثله
حَسَنُ الكلام، فضلاً عن أحسنه .
ومع أن علم المناسبات علم شريف - كما يقول الإمام السيوطي -
بَيْدَ أن القليل من أهل العلم من اهتم به؛ وذلك لدقة هذا العلم، وحاجته
لغير قليل من النظر والتأمل؛ ومن أشهر من اعتنى بهذا العلم وألف به، الإمام
برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي
المتوفى سنة ( 885هـ ) إذ ألف كتابًا سماه ( نظم الدرر في تناسب الآيات
والسور ) وهذا الكتاب عمدة في هذا الباب؛ فقد ذكر فيه مؤلِّفه وجوه
المناسبات بين السور والآيات، وغير ذلك من وجوه المناسبات، بشكل موسع ومفصل
.
ومن الذين تعرضوا لهذا الموضوع الإمام الزركشي رحمه الله في كتابه ( البرهان ) وكذلك فعل الإمام السيوطي رحمه الله، في كتابه ( قطف الأزهار في كشف الأسرار ) .
ونحن
في محورنا هذا، محور القرآن، ستكون لنا وقفة - بعون الله - مع شيء من
نفحات هذا العلم، نعرِّج فيها على أوجه مختارة من أوجه المناسبات بين السور
والآيات. مستمدين العون منه سبحانه فيما نحن إليه، فهو ولي التوفيق .
القرآن الكريم - وهو المعجزة الخالدة - إذا قُرئ من أوله إلى آخره،
لأجمع كل منصف على أنه كتاب محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي
الاتصال، آخذ بعضه برقاب بعض، يجري الإعجاز في آياته وسوره جريان الدم في
الجسم، وكأنه سبيكة واحدة، وعقد فريد، نُظمت أجزائه على أكمل وجه وأتمه، { كتاب أحكمت آياته ثم فُصِّلت من لدن حكيم خبير } (هود:1) { قرآنًا عربيًا غير ذي عوج } (فصلت:28) .
ولا
يخفاك - قارئي الكريم - ما وصف به صناديد قريش - وهم أرباب الفصاحة
والبيان - القرآن الكريم عندما سمعوه؛ بل قالت الجن في حقه لمَّا سمعوه: { إنا سمعنا قرآنا عجبًا } (الجن:1) .
ومن العلوم القرآنية التي نالت عناية واهتمام علماء القرآن ما يسمى ( علم المناسبات ) وهو - كما يقول الإمام الرازي -:
" علم عظيم، أودعت فيه أكثر لطائف علل وحكم ترتيب الآيات والسور " ،
ويُعنى هذا العلم باستقصاء الفوائد والحِكَم في ترتيب سور القرآن على النحو
الذي نجده في المصاحف، ومعرفة مناسبة هذا الترتيب، كما يهتم بالبحث في
مناسبة ورود الآيات القرآنية على نحو ما أنزلت عليه .
ثم إن من
المسائل الوثيقة الصلة بهذا العلم، مسألة ترتيب سور القرآن وآياته، هل هو
أمر توقيفي، لا مجال للاجتهاد فيه؛ أم هو أمر اجتهادي ؟
والذي ذهب
إليه المحققون من أهل العلم، أن ترتيب آيات القرآن الكريم أمر توقيفي من
النبي صلى الله عليه وسلم، لا مدخل للاجتهاد فيه، ومن أهم الأدلة على ذلك،
قوله تعالى: { إن علينا جمعه وقرآنه }
(القيامة:17) والجمع في الآية - كما قال المفسرون - على معنيين، الأول:
جمعه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم؛ والثاني: جمعه بمعنى تأليفه وترتيب
سوره وآياته .
وفي حديث عثمان رضي الله عنه: (
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من
السور ذوات العدد، وكان إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده يقول:
ضعوا هذا في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا ) رواه أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وغيرهم .
أما
ترتيب السور، فالتحقيق أن منه ما أُخذ من إشارات الأحاديث النبوية،
وأفعاله صلى الله عليه وسلم؛ ومنه ما وقع باجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم
أجمعين .
إذا عُرف هذا، نزيد عليه فنقول: إن التناسب في القرآن
الكريم على أنواع؛ فهناك التناسب بين السورة واسمها، وهناك التناسب بين
بداية السورة ونهايتها، وهناك التناسب بين الآيات في السورة الواحدة،
وأخيرًا لا آخرًا، هناك التناسب بين السورة والسورة التي تليها .
ومن
ثمرات هذا العلم - كما يذكر العلماء - الالتفات إلى الحكمة من ترتيب السور
والآيات على الوجه الذي هو عليه، والاهتمام باستخراج المعاني والحكم
ولطائف الفوائد، التي لا يتوصل إليها إلا بالتماس المناسبة بينها، ومعرفة
وجوه الربط بين أنواع المناسبات .
ولمعرفة وجوه المناسبات طرق،
فصَّل أهل العلم القول فيها؛ ومجمل ذلك أن هناك من المناسبات القرآنية ما
يُعرف بأدنى تأمل، وذلك من خلال إدراك الارتباط الظاهر بين أنواعها
المختلفة؛ ومن المناسبات ما لا يُعرف إلا بعد طول تأمل، وإعمال نظر، وهذا
لا يتيسر إلا لمن أعمل الفكر، وأطال النظر في سور القرآن الكريم وآياته .
والأمر
الذي ينبغي التنبيه إليه في هذا السياق، أن تقرير المناسبات بين الآيات
والسور، وغير ذلك من أنواع المناسبات، لا ينبغي أن يكون خبط عشواء، بل لابد
أن يقوم على أساس متين، ويستند إلى ركن ركين؛ معتمدًا في كل ذلك على قرائن
وأدلة، تؤيد تقرير وجه هذه المناسبة أو تلك؛ أما التكلًُّف في استخراج
وجوه المناسبات، من غير دليل يستند إليه، أو أمر يعول عليه، فهو أمر مرفوض
لا يؤبه به، ولا يلتفت إليه؛ ولأجل هذا المعنى، يقول الشيخ ابن عبد السلام رحمه
الله: إن من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض، ويتشبث بعضه ببعض، لئلا
يكون مقطعًا متبرًا، وهذا بشرط أن يكون الكلام في أمر متحد؛ فيرتبط أوله
بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحد الكلامين بالآخر،
ومن ربط ذلك فهو متكلِّف لما لم يقدر عليه إلا بربط ركيك، يصان عن مثله
حَسَنُ الكلام، فضلاً عن أحسنه .
ومع أن علم المناسبات علم شريف - كما يقول الإمام السيوطي -
بَيْدَ أن القليل من أهل العلم من اهتم به؛ وذلك لدقة هذا العلم، وحاجته
لغير قليل من النظر والتأمل؛ ومن أشهر من اعتنى بهذا العلم وألف به، الإمام
برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي
المتوفى سنة ( 885هـ ) إذ ألف كتابًا سماه ( نظم الدرر في تناسب الآيات
والسور ) وهذا الكتاب عمدة في هذا الباب؛ فقد ذكر فيه مؤلِّفه وجوه
المناسبات بين السور والآيات، وغير ذلك من وجوه المناسبات، بشكل موسع ومفصل
.
ومن الذين تعرضوا لهذا الموضوع الإمام الزركشي رحمه الله في كتابه ( البرهان ) وكذلك فعل الإمام السيوطي رحمه الله، في كتابه ( قطف الأزهار في كشف الأسرار ) .
ونحن
في محورنا هذا، محور القرآن، ستكون لنا وقفة - بعون الله - مع شيء من
نفحات هذا العلم، نعرِّج فيها على أوجه مختارة من أوجه المناسبات بين السور
والآيات. مستمدين العون منه سبحانه فيما نحن إليه، فهو ولي التوفيق .