تحري ليلة القدر
ليلة القدر في ليالي شهر رمضان ، ويمكن التماسها في العشر الأواخر منه ، وفي الأوتار خاصة ، والصحيح أن ليلة القدر لا أحد يعرف لها يوماً محدداً ، فهي ليلة متنقلة ، فقد تكون في سنة ليلة خمس وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة إحدى وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة تسع وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة تحري ليلة القدر
سبع وعشرين ، ولقد أخفى الله تعالى علمها ، حتى يجتهد الناس في طلبها ،
فيكثرون من الصلاة والقيام والدعاء في ليالي العشر من رمضان رجاء إدراكها ،
وهي مثل الساعة المستجابة يوم الجمعة .يقول البغوي رحمه الله تعالى : وفي
الجملة أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا بالعبادة في ليالي
رمضان طمعاً في إدراكها .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر ، ويأمر أصحابه بتحريها ، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر الأواخر من رمضان رجاء أن يدركوا ليلة
القدر، وكان يشد المئزر وذلك كناية عن جده واجتهاده عليه الصلاة والسلام
في العبادة في تلك الليالي ، واعتزاله النساء فيها ، فعن عائشة رضي الله
عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ، أحيا ليله ،
وأيقظ أهله ، وشد المئزر " ([1])
،و قولها: ( أحيا الليل ) أي: سهره، فأحياه بالطاعة، وقولها: ( وأيقظ أهله
) أي: للصلاة بالليل، وقوله: ( وشد مئزره ) أي: اعتزل النساء ليتفرغ
للعبادة صلوات الله وسلامه عليه ([2]) وفي رواية : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره "([3]) وعن علي بن أبي طالب أن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من شهر رمضان([4])وروي
عن ربيبة النبي زينب بنت أم سلمة أنها قالت: لم يكن النبي إذا بقي من
رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه([5]) .
فحري
بكل مؤمن صادق يخاف عذاب ربه ، ويخشى عقابه ، ويهرب من نار تلظى ، حري به
أن يقوم هذه الليالي ، ويعتكف فيها بقدر استطاعته ، تأسياً بالنبي الكريم ،
نبي الرحمة والهدى صلى الله عليه وسلم ، فما هي إلا ليالي عشر ، ثم ينقضي
شهر الخير والبركة ,ما هي إلا ليالي معدودات ، ويرتحل الضيف العزيز بكل فرح
وشوق ، وبكل لهفة وحب .
فليحرص
الجميع على أداء صلاتي التراويح والتهجد جماعة في بيوت الله تعالى طمعاً
في رحمته ، وخوفاً من عذابه ، كما يحرص الواحد منا على جمع ماله ، فكم هم
الناس اليوم الذين نجدهم حول آلات الصرف الآلي ، وكم هم الناس اليوم الذين
نجدهم على الأرصفة ، وحول شاشات التلفاز ، والفضائيات ، متحلقين وقد غشيتهم
السكينة ، وهدأت منهم الحركات ، فهم جمود لا يتكلمون ، وأسرى شاشات لا
يُطلقون ، وكلهم مسيئون ومذنبون ، والعياذ بالله ، وهذه العشر هي ختام شهر
رمضان ، والأعمال بالخواتيم ، ولعل أحدنا أن يدرك ليلة القدر وهو قائم يصلي بين يدي ربه سبحانه وتعالى ، فيغفر الله له ما تقدم من ذنبه .
وعلى
المسلم أن يحث أهله وينشطهم ويرغبهم في قيام هذه الليالي للاستزاده من
العبادة ، وكثرة الطاعة وفعل الخير ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول لأصحابه : " قد جاءكم شهر رمضان ،
شهر مبارك ، كتب الله عليكم صيامه ، فيه تفتَّح أبواب الجنة ، وتغلق أبواب
الجحيم ، وتغل الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم " ([6])
، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً : " أتاكم رمضان ، شهر
بركة ، يغشاكم الله فيه ، فينزل الرحمة ، ويحط الخطايا ، ويستجيب فيه
الدعاء ، ينظر إلى تنافسكم فيه ، ويباهي بكم ملائكته ، فأروا من أنفسكم
خيرا ، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله " ([7])
فتنافسوا
عباد الله في طاعة ربكم ، وأروا ربكم منكم خيراً ، واحذروا من الوقوع في
الذنوب والمعاصي فكل مؤاخذ بما فعل ، وبما قال ، قال تعالى : " ما يلفظ من
قول إلا لديه رقيب عتيد " ([8]) ، وقال تعالى : " ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه " ([9]) .
[1]. رواه البخاري (2024) ومسلم (2/832).
[2]. ينظر: الفتح لابن حجر (4/316).
[2]. ينظر: الفتح لابن حجر (4/316).
[3]. رواه مسلم (2/832).
[4]. روى الترمذي (795)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
[5]. رواه محمد بن نصر في «قيام رمضان» (مختصره- )، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف لا يحتج به.
[6]. أخرجه أحمد والنسائي
[7]. أخرجه الطبراني ورواته ثقات
[8]. ق 18
[9]. يونس 61