نسبه وقبيلته:
هو النعمان بن ثابت بن المرزُبان، وكنيته أبو حنيفة، من أبناء فارس
الأحرار، ينتسب إلى أسرة شريفة في قومه، أصله من كابل - عاصمة أفغانستان
اليوم - أسلم جده المرزبان أيام عمر رضي الله عنه، وتحوّل إلى الكوفة
واتخذها سكنًا.
مولده ونشأته:
ولد أبو حنيفة رحمه الله بالكوفة سنة ثمانين من الهجرة على القول الراجح، سنة 699م.
ونشأ
رحمه الله بالكوفة في أسرة مسلمة صالحة غنية كريمة، ويبدو أنه كان وحيد
أبويه، وكان أبوه يبيع الأثواب في دكان له بالكوفة، ولقد خلف أبو حنيفة
أباه بعد ذلك فيه.
حفظ أبو حنيفة القرآن الكريم في صغره، شأن أمثاله من ذوي النباهة والصلاح.
حين
بلغ السادسة عشر من عمره خرج به أبوه لأداء فريضة الحج وزياة النبي صلى
الله عليه وسلم ومسجده، فعن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول: حججت مع
أبي سنة ست وتسعين، ولي ست عشرة سنة، فإذا أنا بشيخ قد اجتمع عليه الناس،
فقلت لأبي: من هذا الشيخ؟ قال: هذا رجل قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم،
يُقال له عبدالله بن الحارث بن جَزء الزبيدي، فقلت لأبي: قدمني إليه، فتقدم
بين يدين فجعل يفرج عني الناس حتى دنوت منه، فسمعت منه: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من تفقه في دين الله كفاه الله همه، ورزقه من حيث لا
يحتسب".
وكان أول ما اتجه إليه أبو حنيفة من العلوم علم أصول الدين
ومناقشة أهل الإلحاد والضلال، ولقد دخل البصرة أكثر من سبع وعشرين مرة،
يناقش تارة ويجادل ويرد الشبهات عن الشريعة تارة أخرى، وكان يدفع عن
الشريعة ما يريد أهل الضلال أن يلصقوه بها، فناقش جهم بن صفوان حتى أسكته،
وجادل الملاحدة حتى أقرّهم على الشريعة، كما ناظر المعتزلة والخوارج
فألزمهم الحجة، وجادل غلاة الشيعة فأقنعهم.
مضى رحمه الله في هذه
السبيل من علم الكلام وأصول الدين، ومجادلة الزائغين وأهل الضلال، حتى أصبح
علمًا يُشار إليه بالبنان وهو ما يزال في العشرين من عمره، وقد اتخذ حلقة
خاصة في مسجد الكوفة، يجلس إليه فيها طلاب هذا النوع من العلوم.
ثم
توجه أبو حنيفه رحمه الله إلى علم الفقه وكان سبب توجهه إليه ما رواه عنه
زُفَر رحمه الله تعالى، قال: سمعت أبا حنيفة يقول: كنت أنظر في الكلام حتى
بلغت فيه مبلغًا يُشار إلي فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن
أبي سليمان، فجاءتني امرأةٌ يومًا فقالت: رجل له امراة أراد أن يطلقها
للسنة كم يطلقها؟
فأمرتها أن تسأل حمادًا ثم ترجع فتخبرني، فسألت
حمادًا فقال: يطلقها وهي طاهرة من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى
تحيض حيضتين - بعد الحيضة الأولى فهي ثلاث حِيَض - فإذا اغتسلت فقد حلت
للأزواج، فرجَعَتْ فأخبرتني، فقلت: لا حاجة لي في الكلام - أي في علم
الكلام -، وأخذت نعلي فجلست إلى حمّاد أسمع مسائله، فأحفظ قوله، ثم يعيدها
من الغد فأحفظ ويخطيء أصحابه، فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي
حنيفة.
ملامح شخصيته وأخلاقه:
كان زاهدا ورعا أراده يزيد بن هبيرة أمير العراق أيام مروان بن محمد أن يلي
القضاء فأبى وأراده بعد ذلك المنصور العباسي على القضاء فامتنع وقال: لن
أصلح للقضاء فحلف عليه المنصور ليفعلن فحلف أبو حنيفة أنه لن يفعل فحبسه
المنصور...
وكان واسع العلم في كل العلوم الإسلامية وهو الذي تجرد
لفرض المسائل وتقدير وقوعها وفرض أحكامها بالقياس وفرع للفقه فروعا زاد في
فروعه وقد تبع أبا حنيفة جل الفقهاء بعده ففرضوا المسائل وقدروا وقوعها ثم
بينوا أحكامها وكان أبو حنيفة يتشدد في قبول الحديث ويتحرى عنه وعن رجاله
فلا يقبل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه جماعة عن
جماعة أو إذا اتفق فقهاء الأمصار على العمل به.
ورعه و تقواه و عبادته لله تعالى:
قال ابن المبارك: قلتُ لسفيان الثوري: ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، ما
سمعتُه يغتاب عدواً له. قال: والله هو أعقل من أن يسلِّط على حسناته ما
يذهب بها.
كان أبو حنيفة يختم القرآن في كل يوم ثم حين اشتغل بالأصول والاستنباط و اجتمع حوله الأصحاب أخذ يختمه في ثلاث في الوتر.
صلى أبو حنيفة ثلاثين سنة صلاة الفجر بوضوء العتمة وحج خمساً وخمسين حجة.
قال
مِسْعَر بن كِدَام: رأيتُ الإمام يصلي الغداة ثم يجلس للعلم إلى أن يصلي
الظهر ثم يجلس إلى العصر ثم إلى قريب المغرب ثم إلى العشاء، فقلتُ في نفسي
متى يتفرغ للعبادة؟ فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد وكان بيته بجوار المسجد
الذي يؤم فيه حسبة لله تعالى. فانتصب للصلاة إلى الفجر ثم دخل فلبس ثيابه.
وكانت
له ثياب خاصة يلبسها لقيام الليل وخرج إلى صلاة الصبح ففعل كما فعل، ثم
تعاهدته على هذه الحالة فما رأيته مفطراً ولا بالليل نائماً.
وكان
يغفو قبل الظهر إغفاءة خفيفة، وقرأ ليلة حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَمَنَّ
اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] فما زال
يرددها حتى أذَّن الفجر. وردد قوله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ
وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، ليلة كاملة في الصلاة. وقالت
أم ولده: ما توسَّد فراشاً بليل منذ عرفتُه وإنما كان نومه بين الظهر و
العصر في الصيف وأول الليل بمسجده في الشتاء.
شيوخــــــــــــه:
بلغ عدد شيوخ أبي حنيفة رحمه الله أربعة آلاف شيخ، فيهم سبعة
من الصحابة، وثلاثة وتسعون من التابعين، والباقي من أتباعهم، ولا غرابة في
هذا ولا عجب، فقد عاش رحمه الله تعالى سبعين سنة، وحج خمسًا وخمسين مرة،
وموسم الحج يجمع علماء العالم الإسلامي في الحرمين الشريفين، وأقام بمكة
رحمه الله تعالى حين ضربه ابن هبيرة على تولّي القضاء بالكوفة ثم هرب منه
ست سنين، وكانت الكوفة مركز علم وحديث تعجّ بكبار العلماء.
وقد كان
الإمام رحمه الله حريصًا على اللقي والاستفادة من العلم وأهله، وقد تيسّر
له في خمس وخمسين سنة أن يلتقي بأربعة آلاف شيخ، وأن يأخذ عنهم ما بين مكثر
منه ومُقِلّ، ولو حديثًا أو مسألة، وقال الإمام أبو حفص الكبير بعد أن ذكر
عدد شيوخ الإمام رحمه الله: وقد صنّف في ذلك جماعة من العلماء ورتبوهم على
ترتيب حروف المعجم.
وأستاذ الإمام أبي حنيفة هو حماد بن أبي سليمان
جاء في "المغني": هو أبو إسماعيل، كوفي يُعدّ تابعيًا سمع أنسًا والنخعي
وكان أعلمهم برأي النخعي، روى عنه المنصور والحكم وشعبة والثوري، مات سنة
عشرين ومائة، قال ابن معين: حماد ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال العِجلي:
كوفي ثقة كان أفقه أصحاب إبراهيم.
روى عنه أبو حنيفة رحمه الله ألفي
حديث من أحاديث الأحكام، وأكثر من ثلث أحاديث الإمام في مسنده الذي جمعه
الحَصْكَفي، هي برواية الإمام عنه عن إبراهيم بن أبي موسى الأشعري، عن
الأسود عن عائشة رضي الله عنهم.
من شيوخه رحمه الله أيضًا: إبراهيم
بن محمد المنتشر الكوفي، وإبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي، وأيوب السختياني
البصري، والحارث بن عبد الرحمن الهمذاني الكوفي وربيعة بن عبد الرحمن
المدني المعروف بربيعة الرأي، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أحد الفقهاء السبعة، وسعيد بن مسروق والد سفيان الثوري، وسليمان بن
يسار الهلالي المدني وعاصم بن كليب بن شهاب الكوفي... وغيرهم الكثير.
تلامذتـــــــــــــه:
روى عنه جماعة منهم ابنه حماد وإبراهيم بن طهمان، وإسحاق بن
يوسف الازرق، وأسد بن عمرو القاضي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحمزة الزيات،
وداود الطائي، وزفر، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، ومحمد بن الحسن الشيباني،
وهشيم، ووكيع، وأبو يوسف القاضي، وغيرهم كثير...
منهجه في البحث:
ابتكر الإمام أبو حنيفة رحمه الله نموذجًا منهجيًا في تقرير مسائل
الاجتهاد، وذلك عن طريق عرض المسألة على تلاميذ العلماء في حلقة الدرس
ليدلي كل بدلوه، ويذكر ما يرى لرأيه من حجة، ثم يعقّب هو على آرائهم بما
يدفعها بالنقل أو الرأي، ويصوّب صوابأهل الصوابن ويؤيده بما عنده من أدلةٍ،
ولربما تقضّت أيام حتى يتم تقرير تلك المسألة، وهذه هي الدراسة المنهجية
الحرة الشريفة التي يظهر فيها احترام الآراء، ويشتغل فيها عقل الحاضرين من
التلامذة، كما يظهر علم الأستاذ وفضله، فإذا تقررت مسألة من مسائل الفقه
على تلك الطريقة، كان من العسير نقدها فضلًا عن نقضها.
وقال الموفّق المكي:
وضع أبو حنيفة رحمه الله مذهبه شورى بينهم، لم يستبد فيه بنفسه دونهم
اجتهادًا منه في الدين ومبالغة في النصيحة لله ولرسوله والمؤمنين، فكان
يلقي مسألة مسألة، يقلّبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده وربما ناظرهم
شهرًا أو أكثر من ذلك، حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها القاضي أبو
يوسف في الأصول، حتى أثبت الأصول كلها، وغذا أُشكلت عليه مسألة قال
لأصحابه: ما هذا إلا لذنب أذنبته ويستغفر، وربما قام وصلّى، فتنكشف له
المسألة، ويقول: رجوتُ أنه تيب عليَّ، فبلغ ذلك الضيل بن عياض فبكى بكاءًا
شديدًا، ثم قال: ذلك لقلة ذنبه، أما غيره فلا ينتبه لهذا.
آراء العلماء فيه:
قال وقيع بن الجرّاح شيخ الشافعي: كان أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان يؤثر
رِضَى الله تعالى على كل شيءٍ، ولو أخذته السيوف في الله تعالى لاحتملها.
وقال الإمام الشافعي: ما طلب أحد الفقه إلا كان عيالًا على أبي حنيفة، وما قامت النساء على رجل أعقل من أبي حنيفة.
وقال
الإمام أحمد بن حنبل: إن أبا حنيفة من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة
بمحل لا يدركه أحد، ولقد ضرب بالسياط ليلي للمنصور فلم يفعل، فرحمة الله
عليه ورضوانه.
وقال الإمام أبو يوسف: كانوا يقولون: أبو حنيفة زينه الله بالفقه والعلم والسخاء والبذل وأخلاق القرآن التي كانت فيه.
وقال عنه الإمام سفيان الثوري: ما مقلت عيناي مثل أبي حنيفة.
وقال عنه يحيى بن سعيد القطان إمام الجرح والتعديل: إن أبا حنيفة - والله - لأعلم هذه الأمة بما جاء عن الله ورسوله.
وقال
عنه الحافظ ابن كثير: هو أحد أئمة الاسلام، والسادة الاعلام، وأحد أركان
العلماء، وأحد الائمة الأربعة أصحاب المذاهب المتنوعة، وهو أقدمهم وفاة،
لأنه أدرك عصر الصحابة، ورأى أنس بن مالك، قيل وغيره، وذكر بعضهم أنه روى
عن سبعة من الصحابة...
وفاتـــــــــــه:
توفي رحمه الله ببغداد سنة 150 هـ الموافق 767 م يقول ابن كثير: وصُلّي عليه ببغداد ست مرات لكثرة الزحام، وقبره هناك رحمه الله.
هو النعمان بن ثابت بن المرزُبان، وكنيته أبو حنيفة، من أبناء فارس
الأحرار، ينتسب إلى أسرة شريفة في قومه، أصله من كابل - عاصمة أفغانستان
اليوم - أسلم جده المرزبان أيام عمر رضي الله عنه، وتحوّل إلى الكوفة
واتخذها سكنًا.
مولده ونشأته:
ولد أبو حنيفة رحمه الله بالكوفة سنة ثمانين من الهجرة على القول الراجح، سنة 699م.
ونشأ
رحمه الله بالكوفة في أسرة مسلمة صالحة غنية كريمة، ويبدو أنه كان وحيد
أبويه، وكان أبوه يبيع الأثواب في دكان له بالكوفة، ولقد خلف أبو حنيفة
أباه بعد ذلك فيه.
حفظ أبو حنيفة القرآن الكريم في صغره، شأن أمثاله من ذوي النباهة والصلاح.
حين
بلغ السادسة عشر من عمره خرج به أبوه لأداء فريضة الحج وزياة النبي صلى
الله عليه وسلم ومسجده، فعن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول: حججت مع
أبي سنة ست وتسعين، ولي ست عشرة سنة، فإذا أنا بشيخ قد اجتمع عليه الناس،
فقلت لأبي: من هذا الشيخ؟ قال: هذا رجل قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم،
يُقال له عبدالله بن الحارث بن جَزء الزبيدي، فقلت لأبي: قدمني إليه، فتقدم
بين يدين فجعل يفرج عني الناس حتى دنوت منه، فسمعت منه: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من تفقه في دين الله كفاه الله همه، ورزقه من حيث لا
يحتسب".
وكان أول ما اتجه إليه أبو حنيفة من العلوم علم أصول الدين
ومناقشة أهل الإلحاد والضلال، ولقد دخل البصرة أكثر من سبع وعشرين مرة،
يناقش تارة ويجادل ويرد الشبهات عن الشريعة تارة أخرى، وكان يدفع عن
الشريعة ما يريد أهل الضلال أن يلصقوه بها، فناقش جهم بن صفوان حتى أسكته،
وجادل الملاحدة حتى أقرّهم على الشريعة، كما ناظر المعتزلة والخوارج
فألزمهم الحجة، وجادل غلاة الشيعة فأقنعهم.
مضى رحمه الله في هذه
السبيل من علم الكلام وأصول الدين، ومجادلة الزائغين وأهل الضلال، حتى أصبح
علمًا يُشار إليه بالبنان وهو ما يزال في العشرين من عمره، وقد اتخذ حلقة
خاصة في مسجد الكوفة، يجلس إليه فيها طلاب هذا النوع من العلوم.
ثم
توجه أبو حنيفه رحمه الله إلى علم الفقه وكان سبب توجهه إليه ما رواه عنه
زُفَر رحمه الله تعالى، قال: سمعت أبا حنيفة يقول: كنت أنظر في الكلام حتى
بلغت فيه مبلغًا يُشار إلي فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن
أبي سليمان، فجاءتني امرأةٌ يومًا فقالت: رجل له امراة أراد أن يطلقها
للسنة كم يطلقها؟
فأمرتها أن تسأل حمادًا ثم ترجع فتخبرني، فسألت
حمادًا فقال: يطلقها وهي طاهرة من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى
تحيض حيضتين - بعد الحيضة الأولى فهي ثلاث حِيَض - فإذا اغتسلت فقد حلت
للأزواج، فرجَعَتْ فأخبرتني، فقلت: لا حاجة لي في الكلام - أي في علم
الكلام -، وأخذت نعلي فجلست إلى حمّاد أسمع مسائله، فأحفظ قوله، ثم يعيدها
من الغد فأحفظ ويخطيء أصحابه، فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي
حنيفة.
ملامح شخصيته وأخلاقه:
كان زاهدا ورعا أراده يزيد بن هبيرة أمير العراق أيام مروان بن محمد أن يلي
القضاء فأبى وأراده بعد ذلك المنصور العباسي على القضاء فامتنع وقال: لن
أصلح للقضاء فحلف عليه المنصور ليفعلن فحلف أبو حنيفة أنه لن يفعل فحبسه
المنصور...
وكان واسع العلم في كل العلوم الإسلامية وهو الذي تجرد
لفرض المسائل وتقدير وقوعها وفرض أحكامها بالقياس وفرع للفقه فروعا زاد في
فروعه وقد تبع أبا حنيفة جل الفقهاء بعده ففرضوا المسائل وقدروا وقوعها ثم
بينوا أحكامها وكان أبو حنيفة يتشدد في قبول الحديث ويتحرى عنه وعن رجاله
فلا يقبل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه جماعة عن
جماعة أو إذا اتفق فقهاء الأمصار على العمل به.
ورعه و تقواه و عبادته لله تعالى:
قال ابن المبارك: قلتُ لسفيان الثوري: ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، ما
سمعتُه يغتاب عدواً له. قال: والله هو أعقل من أن يسلِّط على حسناته ما
يذهب بها.
كان أبو حنيفة يختم القرآن في كل يوم ثم حين اشتغل بالأصول والاستنباط و اجتمع حوله الأصحاب أخذ يختمه في ثلاث في الوتر.
صلى أبو حنيفة ثلاثين سنة صلاة الفجر بوضوء العتمة وحج خمساً وخمسين حجة.
قال
مِسْعَر بن كِدَام: رأيتُ الإمام يصلي الغداة ثم يجلس للعلم إلى أن يصلي
الظهر ثم يجلس إلى العصر ثم إلى قريب المغرب ثم إلى العشاء، فقلتُ في نفسي
متى يتفرغ للعبادة؟ فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد وكان بيته بجوار المسجد
الذي يؤم فيه حسبة لله تعالى. فانتصب للصلاة إلى الفجر ثم دخل فلبس ثيابه.
وكانت
له ثياب خاصة يلبسها لقيام الليل وخرج إلى صلاة الصبح ففعل كما فعل، ثم
تعاهدته على هذه الحالة فما رأيته مفطراً ولا بالليل نائماً.
وكان
يغفو قبل الظهر إغفاءة خفيفة، وقرأ ليلة حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَمَنَّ
اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] فما زال
يرددها حتى أذَّن الفجر. وردد قوله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ
وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، ليلة كاملة في الصلاة. وقالت
أم ولده: ما توسَّد فراشاً بليل منذ عرفتُه وإنما كان نومه بين الظهر و
العصر في الصيف وأول الليل بمسجده في الشتاء.
شيوخــــــــــــه:
بلغ عدد شيوخ أبي حنيفة رحمه الله أربعة آلاف شيخ، فيهم سبعة
من الصحابة، وثلاثة وتسعون من التابعين، والباقي من أتباعهم، ولا غرابة في
هذا ولا عجب، فقد عاش رحمه الله تعالى سبعين سنة، وحج خمسًا وخمسين مرة،
وموسم الحج يجمع علماء العالم الإسلامي في الحرمين الشريفين، وأقام بمكة
رحمه الله تعالى حين ضربه ابن هبيرة على تولّي القضاء بالكوفة ثم هرب منه
ست سنين، وكانت الكوفة مركز علم وحديث تعجّ بكبار العلماء.
وقد كان
الإمام رحمه الله حريصًا على اللقي والاستفادة من العلم وأهله، وقد تيسّر
له في خمس وخمسين سنة أن يلتقي بأربعة آلاف شيخ، وأن يأخذ عنهم ما بين مكثر
منه ومُقِلّ، ولو حديثًا أو مسألة، وقال الإمام أبو حفص الكبير بعد أن ذكر
عدد شيوخ الإمام رحمه الله: وقد صنّف في ذلك جماعة من العلماء ورتبوهم على
ترتيب حروف المعجم.
وأستاذ الإمام أبي حنيفة هو حماد بن أبي سليمان
جاء في "المغني": هو أبو إسماعيل، كوفي يُعدّ تابعيًا سمع أنسًا والنخعي
وكان أعلمهم برأي النخعي، روى عنه المنصور والحكم وشعبة والثوري، مات سنة
عشرين ومائة، قال ابن معين: حماد ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال العِجلي:
كوفي ثقة كان أفقه أصحاب إبراهيم.
روى عنه أبو حنيفة رحمه الله ألفي
حديث من أحاديث الأحكام، وأكثر من ثلث أحاديث الإمام في مسنده الذي جمعه
الحَصْكَفي، هي برواية الإمام عنه عن إبراهيم بن أبي موسى الأشعري، عن
الأسود عن عائشة رضي الله عنهم.
من شيوخه رحمه الله أيضًا: إبراهيم
بن محمد المنتشر الكوفي، وإبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي، وأيوب السختياني
البصري، والحارث بن عبد الرحمن الهمذاني الكوفي وربيعة بن عبد الرحمن
المدني المعروف بربيعة الرأي، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أحد الفقهاء السبعة، وسعيد بن مسروق والد سفيان الثوري، وسليمان بن
يسار الهلالي المدني وعاصم بن كليب بن شهاب الكوفي... وغيرهم الكثير.
تلامذتـــــــــــــه:
روى عنه جماعة منهم ابنه حماد وإبراهيم بن طهمان، وإسحاق بن
يوسف الازرق، وأسد بن عمرو القاضي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحمزة الزيات،
وداود الطائي، وزفر، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، ومحمد بن الحسن الشيباني،
وهشيم، ووكيع، وأبو يوسف القاضي، وغيرهم كثير...
منهجه في البحث:
ابتكر الإمام أبو حنيفة رحمه الله نموذجًا منهجيًا في تقرير مسائل
الاجتهاد، وذلك عن طريق عرض المسألة على تلاميذ العلماء في حلقة الدرس
ليدلي كل بدلوه، ويذكر ما يرى لرأيه من حجة، ثم يعقّب هو على آرائهم بما
يدفعها بالنقل أو الرأي، ويصوّب صوابأهل الصوابن ويؤيده بما عنده من أدلةٍ،
ولربما تقضّت أيام حتى يتم تقرير تلك المسألة، وهذه هي الدراسة المنهجية
الحرة الشريفة التي يظهر فيها احترام الآراء، ويشتغل فيها عقل الحاضرين من
التلامذة، كما يظهر علم الأستاذ وفضله، فإذا تقررت مسألة من مسائل الفقه
على تلك الطريقة، كان من العسير نقدها فضلًا عن نقضها.
وقال الموفّق المكي:
وضع أبو حنيفة رحمه الله مذهبه شورى بينهم، لم يستبد فيه بنفسه دونهم
اجتهادًا منه في الدين ومبالغة في النصيحة لله ولرسوله والمؤمنين، فكان
يلقي مسألة مسألة، يقلّبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده وربما ناظرهم
شهرًا أو أكثر من ذلك، حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها القاضي أبو
يوسف في الأصول، حتى أثبت الأصول كلها، وغذا أُشكلت عليه مسألة قال
لأصحابه: ما هذا إلا لذنب أذنبته ويستغفر، وربما قام وصلّى، فتنكشف له
المسألة، ويقول: رجوتُ أنه تيب عليَّ، فبلغ ذلك الضيل بن عياض فبكى بكاءًا
شديدًا، ثم قال: ذلك لقلة ذنبه، أما غيره فلا ينتبه لهذا.
آراء العلماء فيه:
قال وقيع بن الجرّاح شيخ الشافعي: كان أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان يؤثر
رِضَى الله تعالى على كل شيءٍ، ولو أخذته السيوف في الله تعالى لاحتملها.
وقال الإمام الشافعي: ما طلب أحد الفقه إلا كان عيالًا على أبي حنيفة، وما قامت النساء على رجل أعقل من أبي حنيفة.
وقال
الإمام أحمد بن حنبل: إن أبا حنيفة من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة
بمحل لا يدركه أحد، ولقد ضرب بالسياط ليلي للمنصور فلم يفعل، فرحمة الله
عليه ورضوانه.
وقال الإمام أبو يوسف: كانوا يقولون: أبو حنيفة زينه الله بالفقه والعلم والسخاء والبذل وأخلاق القرآن التي كانت فيه.
وقال عنه الإمام سفيان الثوري: ما مقلت عيناي مثل أبي حنيفة.
وقال عنه يحيى بن سعيد القطان إمام الجرح والتعديل: إن أبا حنيفة - والله - لأعلم هذه الأمة بما جاء عن الله ورسوله.
وقال
عنه الحافظ ابن كثير: هو أحد أئمة الاسلام، والسادة الاعلام، وأحد أركان
العلماء، وأحد الائمة الأربعة أصحاب المذاهب المتنوعة، وهو أقدمهم وفاة،
لأنه أدرك عصر الصحابة، ورأى أنس بن مالك، قيل وغيره، وذكر بعضهم أنه روى
عن سبعة من الصحابة...
وفاتـــــــــــه:
توفي رحمه الله ببغداد سنة 150 هـ الموافق 767 م يقول ابن كثير: وصُلّي عليه ببغداد ست مرات لكثرة الزحام، وقبره هناك رحمه الله.