فهم الصحابة لشمول العبادة:
كانالصحابة - رضي الله عنهم - يفهمون شمول العبادة، ومما روي عنهم من الآثار
في ذلك ما أخرجه الإمام الطبري من خبر بكر بن عبد الله المزني قال: جاء عمر
بن الخطاب إلى باب عبد الرحمن بن عوف فضربه فجاءت المرأة ففتحته إلى أن
قال: وعبد الرحمن بن عوف قائم يصلي، فقال له ـ يعني عمر ـ: تجوز أيها الرجل
أي خفف صلاتك، فسلم عبد الرحمن حينئذ، ثم أقبل عليه فقال: ما جاء بك هذه
الساعة يا أمير المؤمنين؟ فقال: رفقة نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سراق
المدينة، فانطلق نحرسهم الخ.."تاريخ الطبري (4/ 205).
وإننا لنجد
في هذا الخبر فهم عمر العميق لمجالات العبادة وتقديم الأهم على المهم،
فحين كان بعض المسلمين بحاجة إلى عمر وعبد الرحمن بن عوف كان أمر احتياجهم
مقدما على صلاة النفل، فالصلاة عبادة وخدمة المسلمين أيضاً عبادة، وما دامت
الصلاة نفلا فإن ما نزل في حاجة المسلمين مقدم على ذلك، لأن الصلاة عبادة
يقتصر نفعها على صاحبها، وخدمة المسلمين عبادة يتعدى نفعها للمسلمين.
ولقد كان
هذا الأمر واضحاً لدى الصحابة - رضي الله عنهم -ولذلك لم ينكر عبد الرحمن
على عمر أن أمره بتخفيف الصلاة وإنهائها من أجل المشاركة في خدمة المسلمين،
ولم يرى أن غيرهما من صغار المسلمين أولى بالقيام بهذه المهمة لأنهم كانوا
ينظرون إلى هذا الأمر من خلال كونه عبادة وعملاً صالحاً، فهو أمر يتنافسون
عليه، ولا يكلونه إلى غيره.
ومن ذلك ما
رواه أبو وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -قال: ارض بما قسم
الله تكن أغنى الناس، واجتنب المحارم تكن أورع الناس، وأد ما افترض عليك
تكن من أعبد الناس.
فالتورع عن
المحارم والشبهات يعد عبادة لله - تعالى - إذا كان ذلك من أجل التقرب إليه
- جل وعلا -، وفي قول ابن مسعود"وأد ما افترض عليك تكن من أعبد
الناس"دلالة على شمول العبادة كل فرائض الدين.
وأخرج
الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - تعالى - من خبر الأسود بن يزيد - رحمه
الله -عن عائشة - رضي الله عنها -قالت: إنكم تفعلون أفضل العبادة: التواضع.
كما أخرج
عن عون بن عبد الله - رحمه الله - تعالى - قال: كنا نجلس إلى أم الدرداء -
رضي الله عنها -، فنذكر الله - عز وجل - عندها، فقالوا: لعلنا قد أمللناك،
قالت: تزعمون أنكم قد أمللتموني، فقد طلبت العبادة في كل شيء فما وجدت شيئا
أشفى لصدري ولا أحرى أن أصيب به الدين من مجالس الذكر.
وذكر
الإمام البغوي عن الشعبي قال: خرج ناس من أهل الكوفة إلى الجبانة ـ أي إلى
الصحراءـ يتعبدون واتخذوا مسجداً وبنوا بنيانا، فأتاهم عبد الله بن مسعود -
رضي الله عنه - فقالوا: مرحباً بك يا أبا عبد الرحمن لقد سرّنا أن تزورنا،
قال: ما أتيتكم زائرا، ولست بالذي أترك حتى يهدم مسجد الجبان، إنكم لأهدى
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أرأيتم لو أن الناس صنعوا كما
صنعتم من كان يجاهد العدو، ومن كان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ومن
كان يقيم الحدود؟ ارجعوا فتعلموا من هو أعلم منكم، وعلموا من أنتم أعلم
منهم. قال: واسترجع فما برح حتى قلع أبنيتهم وردهم.
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -:"مادمت تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في السوق".
وقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -:"مدارسة العلم تسبيح".
=============
حقيقة العبادة التي خلق من أجلها الثقلان
عبد العزيز بن عبد الله بن بازحقيقة العبادة التي خلق من أجلها الثقلان
من عبد
العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطَّلع عليه من المسلمين، سلك الله بي
وبهم سبيل عباده المؤمنين، وأعاذني وإياهم من طريق المغضوب عليهم والضالين
آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإن أهم واجب على المكلف
وأعظم فريضة عليه، أن يعبد ربه سبحانه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم
القائل في كتابه الكريم:
إِنَّ
رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ
بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا
وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ
وأخبرنا
سبحانه في موضع من كتابه أنه خلق الثقلين لعبادته، فقال عز وجل: وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ وهذه العبادة التي خلق
الله الثقلين من أجلها هي توحيده بأنواع العبادة من الصلاة والصوم والزكاة
والحج والسجود والطواف والذبح والنذر والخوف والرجاء والاستغاثة والاستعانة
والاستعاذة، وسائر أنواع الدعاء، ويدخل في ذلك طاعته سبحانه في جميع
أوامره وترك نواهيه على ما دل عليه كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من
ربه أفضل الصلاة والتسلي، وقد أمر الله سبحانه جميع الثقلين بهذه العبادة
التي خلقوا لها، وأرسل الرسل جميعا، وأنزل الكتب لبيان هذه العبادة
وتفصيلها والدعوة إليها، والأمر بإخلاصها لله وحده، كما قال تعالى:
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقال عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا
تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ومعنى قضى ربك في
هذه الآية أمر وأوصى، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ
والآيات في
هذا المعنى كثيرة، وقال عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
وقال عز
وجل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ الآية، وقال سبحانه:
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية، وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
فَاعْبُدُونِ وقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي
لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ .