إن المغتاب للناس لهو رجل مغفل أحمق
المواطن التي تجوز فيها الغيبة وأما ما سواها فلا تجوز أبداً.
إن الحمد
لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا،
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله
العظيم في قدره، العليم بحال عبده في سره وجهره، أحمده على القدر خيره
وشره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله غيره،. وأشهد أن
محمداً عبده رسوله أفضل من قام بطاعة ربه وأمره. اللهم صلى وسلم على عبدك
ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين.
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ
تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران. {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا
وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ
إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء. {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70) (71) سورة الأحزاب.
أما بعد:
فإن أصدق
الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور
محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد علّمنا
القرآن الأخلاق، وربانا عليها، وإن الناس لو تمسكوا بها لما رأيت فساداً
ولا خصاماً ولا شجاراً بينهم. وإن من الأخلاق الذميمة التي حذر منها أشد
التحذير هو خلق الغيبة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا
تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات .
قال ابن
كثير: وقوله تعالى: ((ولا يغتب بعضكم بعضاً)) فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرها
الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قيل
يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: (ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في
أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن
لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).[1]
أيها الإخوة: لقد شبه الله تعالى من يغتاب أخاه كأنه أكل لحمه وهو ميت. هل يستطيع أحدنا أن يأكل من جيفة ميت؟!
قال ابن
كثير: وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المختار عن أنس بن مالك رضي
الله عنه قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهئ لهما طعاماً
فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه. فقالا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقل له إن أبابكر وعمر يقرئانك السلام ويستأدمانك، فقال صلى الله عليه
وسلم: (إنهما قد ائتدما) فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا؟ فقال
صلى الله عليه وسلم: (بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين
ثناياكما) فقالا رضي الله عنهما: استغفر لنا يا رسول الله. فقال صلى الله
عليه وسلم: ((مراه فليستغفر لكما).[2]
عباد الله:
كلمة بسيطة لا يعيرها أحد أي اهتمام (نؤوم) أي كثير النوم. ولكنها غيبة
وأكل لحم مسلم. وفي حديث ماعز الصحابي الجليل الذي زنا وهو محصن وأراد أن
يطهره النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه فأمر برجمه فرجم - فسمع
النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر هذا الذي ستر
الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟ ثم سار النبي صلى الله عليه
وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال: أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا
الحمار. قالا: غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا؟ قال صلى الله عليه
وسلم: فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه. والذي نفسي بيده إنه الآن
لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)[3]. وفي مسند أحمد عن جابر رضي الله عنه: قال:
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفه منتنة. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب الله إليه لحمه في الآخرة فيقال له كله
ميتاً كما أكلته حياً قال: فيأكله ويكلح ويصيح)[4]. عباد الله: أرأيتم
بشاعة الغيبة، بشاعة ذكر الناس بما يكرهون.
إن الغيبة
هي: ذكر العيب بظهر الغيب. وقال الكفوي: أن يتكلم خلف إنسان مستور بكلام هو
فيه. وقال التهانوى: الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره لو بلغه سواء ذكرت
نقصاناً في بدنه أو في لبسه، أو خُلُقه، أو في فعله، أو في قوله، أو في
دينه، أو في دنياه، أو في ولده، أو في ثوبه، أو داره، أو دابته.
أيها
الإخوة: قد يظن ظان أن الغيبة تكون بالقول فقط. والصحيح أنها لا تقتصر على
القول فقط؛ بل تجري في الفعل كالحركة والإشارة والكناية لما ورد عن عائشة
رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا
تعني أنها قصيرة فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بما البحر لمزجته. وقالت:
وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا)[5].
لا إله إلا
الله!! كلمة بسيطة (قصيرة) من دنسها لو مزجت بما البحر العظيم لمزجته،
أتدرون ما البحر؟إن السفن والطائرات والمجاري وغيرها تفرغ مخلفاتها في
البحار ولا تستطيع أن تغير البحر لعظمه وسعته وانظروا هذه الكلمة التي هي
في نظر الكثير بسيطة لو مزجت بما البحر لمزجته.
أيها
المسلمون: لو نظرنا إلى مجالسنا اليوم فإن كثيراً منها مجالس سوء تكسوها
المنكرات وعلى رأسها الغيبة، لا يكاد يجتمع رجال أو نساء إلا وتكلموا في
الناس وتكلموا في أعراضهم وفلان كذا، وطبعه كذا، وهم لا يدركون أنهم
يرتكبون كبيرة من الكبائر وعظيمة من العظائم، التي تغضب الله تعالى.
أيها
المسلمون: إن الشيطان يمر على المجالس فيرى فيها الغيبة ويزينها للناس،
ويحبب الحديث لهم حتى يزدادوا إثماً. إن المغتاب للناس لهو رجل مغفل أحمق.
لأنه يهدي الرجل الذي اغتابه يهديه حسناته. وإن الذي اغتيب لفي نعمة فإنه
تصله حسنات بلا جهد وعناء.
قال الغزالي وهو يذكر أسباب وبواعث الغيبة وفيما يلي خلاصتها:
أول باعث
على الغيبة: شفاء المغتاب غيظه بذكر مساوئ من يغتابه. وثاني باعث: مجاملة
الأقران والرفاق ومشاركتهم فيما يخوضون فيه من الغيبة. ومن البواعث: ظن
المغتاب في غيره ظناً سيئاً فذلك مدعاة لغيبته. ومن البواعث على الغيبة: أن
يبرئ المغتاب نفسه من شيء وينسبه إلى غيره أو يذكر غيره بأنه مشارك له.
ومن البواعث: رفع النفس وتزكيتها بتنقيص الغير، ومن البواعث أيضاً: حسد من
يثنى عليه من قبل الناس أو يذكرونه بخير. ومن البواعث: الاستهزاء والسخرية
وتحقير الآخرين. ومن البواعث أيضاً: قلة إيمان المغتاب وقلة ورعه وغفلته.
ومن البواعث وقد ذكرناه سابقاً الشيطان فإنه وراء كل معصية يرتكبها
الإنسان.
أيها
المسلمون: إن الغيبة مرض خطير وداء فتاك، ومعول هدام، وسلوك يفرق بين
الأحباب، وبهتان يغطي محاسن الآخرين، وبذرة تنبت شروراً بين المجتمع
المسلم، وتقلب موازين العدالة والإنصاف إلى الكذب والجور وعلاج هذا المرض
لا يكون إلا بالعلم والعمل، فإذا عرف المغتاب أنه تعرض لسخط الله يوم
القيامة بإحباط عمله، وإعطاء حسناته من يغتابه في الدنيا، وقد يسلطه الله
عليه, إذا علم هذا وعمل بمقتضاه من خير فقد وفق للعلاج.
أي شعور
يصيب المغتاب عندما يرى حسناته التي عملها في الدنيا من صلاة وصوم وزكاة
وصدقة وتلاوة للقرآن وحج وجهاد ودعوة.. إلخ. توزع هذه الأجور العظيمة
والحسنات الكثيرة لأناس كان قد اغتابهم في الدنيا؟ أي شعور يصاب به ذلك
المغتاب وأي موقف ذلك الموقف إنها حسرة إنها ندامة إنه قهر ما بعده قهر.
وأشبَّه
ذلك برجل تعب زمناً طويلاً حتى جمع ثروة هائلة جداً، ثم بعد ذلك لم يتمتع
بها وإنما أعطيت لغيره ماذا سيصنع؟ إن الكثير اليوم يصابون بأزمة قلبية أو
جلطة أو ينتحر عندما يحدث له ذلك كمداً أو غيظاً وقهراً فكيف بذلك يوم
القيامة.
ألا فلنتق الله في ألسنتا وأقوالنا وأعمالنا، وليسلم الناس منا نسلم منهم.
بارك الله
لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما
تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله:
خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم النحر فقال: يا أيها الناس أي يوم
هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام؟ قال: فأي شهر
هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة
يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مراراً ثم رفع رأسه، فقال:
اللهم هل بغلت؟ اللهم هل بلغت؟ والحديث في الصحيحين.
لقد حرم
الرسول صلى الله عليه وسلم أعراض الناس فلا يجوز لأحد العبث بها أو المساس
بها، ومن العبث والمساس بها غيبتها وبهتانها. بل بين النبي صلى الله عليه
وسلم عاقبة الذي يتتبع عورات المسلمين فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل
الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولاتتبعوا عوراتهم فإنه من اتبع
عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) أخرجه أبو
داود.
فالواجب علينا أن إذا وجدنا في أحد المسلمين عيباً سترناه، ونقصاً كملناه, لا أن نجعل منه حديث مجالسنا، ومنتدى مسامرنا.
أتعلمون
أيها المسلمون: أن الذي يغتاب الناس يفضحه الله في جوف داره، وليس ذلك فقط
بل يناله العذاب في القبر قبل الآخرة فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: مر
النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير.
أما أحدهما فيعذب في البول وأما الآخر فيعذب في الغيبة)[6]. وقد بين حديث
أنس بن مالك رضي الله عنه ما هو العذاب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم
فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في
أعراضهم)[7].
قال عمر
رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه
داء، وقال الحسن البصري رحمه الله: ذكر الغير ثلاثة: الغيبة، والبهتان
والإفك، وكل في كتاب الله عز وجل. فالغيبة ما تقول فيه, والبهتان أن تقول
ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك, وقال أيضاً: والله للغيبة أسرع في دين
الرجل من الأكلة في الجسد والأكلة السرطان. وقال: يا ابن آدم إنك لن تصيب
حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب
فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان شغلك فيك خاصة، وأحب العباد إلى الله من
كان هكذا. وروي عن الحسن أن رجلاً قال له: إن فلاناً قد اغتابك فبعث إليه
رطباً على طبق، وقال: قد بلغني أنك أهديت إليَّ من حسناتك فأردت أن أكافئك
عليها فاعذرني فإني لا أقدر أكافئك على التمام.[8] والغيبة ليست مذمومة على
الإطلاق فلقد أجاز أهل العلم الغيبة في بعض الأحيان وذلك في ستة أسباب: أولاً:المتظلم
فيجوز للمتظلم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي فيقول ظلمني فلان بكذا.
ثانياً: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول فلان يعمل
كذا، ويكون مقصوده إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراماً. وثالثاً:
الاستفتاء فيقول للمفتي: ظلمني أبي وأخي أو زوجي... إلخ. فهذا جائز للحاجة
والأحوط أن يقول: ما تقول في رجل كان من أمره كذا... إلخ.
رابعاً:
تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من
الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع بل واجب للحاجة. ومنها: المشاورة في
مصاهرة إنسان وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأما معاوية
فصعلوك لا مال له... الحديث)رواه مسلم. أو المشاورة في مشاركة إنسان أو
إيداعه أو معاملته أو غير ذلك أو مجاورته ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله
بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة، ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى
مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم فعليه نصيحته وتحذيره منه.
خامساً: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر وما أشبه ذلك فيجوز ذكره بما يجاهر به.
سادساً:
التعريف به، فإذا كان معروف بلقب كالأعمش، والأعرج والأصم والأحول جاز
تعريضهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة النقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك لكان
أولى.[9]
هذه هي المواطن التي تجوز فيها الغيبة وأما ما سواها فلا تجوز أبداً.
أخيراً: اعلموا عباد الله أن الغيبة سرطان المجتمع وسبب تفككه وتمزقه فاجتنبوها تفوزوا برضوان الله ثم برضوان المسلمين.
وصلوا وسلموا على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين
المواطن التي تجوز فيها الغيبة وأما ما سواها فلا تجوز أبداً.
إن الحمد
لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا،
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله
العظيم في قدره، العليم بحال عبده في سره وجهره، أحمده على القدر خيره
وشره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله غيره،. وأشهد أن
محمداً عبده رسوله أفضل من قام بطاعة ربه وأمره. اللهم صلى وسلم على عبدك
ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين.
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ
تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران. {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا
وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ
إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء. {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70) (71) سورة الأحزاب.
أما بعد:
فإن أصدق
الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور
محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد علّمنا
القرآن الأخلاق، وربانا عليها، وإن الناس لو تمسكوا بها لما رأيت فساداً
ولا خصاماً ولا شجاراً بينهم. وإن من الأخلاق الذميمة التي حذر منها أشد
التحذير هو خلق الغيبة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا
تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات .
قال ابن
كثير: وقوله تعالى: ((ولا يغتب بعضكم بعضاً)) فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرها
الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قيل
يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: (ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في
أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن
لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).[1]
أيها الإخوة: لقد شبه الله تعالى من يغتاب أخاه كأنه أكل لحمه وهو ميت. هل يستطيع أحدنا أن يأكل من جيفة ميت؟!
قال ابن
كثير: وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المختار عن أنس بن مالك رضي
الله عنه قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهئ لهما طعاماً
فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه. فقالا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقل له إن أبابكر وعمر يقرئانك السلام ويستأدمانك، فقال صلى الله عليه
وسلم: (إنهما قد ائتدما) فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا؟ فقال
صلى الله عليه وسلم: (بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين
ثناياكما) فقالا رضي الله عنهما: استغفر لنا يا رسول الله. فقال صلى الله
عليه وسلم: ((مراه فليستغفر لكما).[2]
عباد الله:
كلمة بسيطة لا يعيرها أحد أي اهتمام (نؤوم) أي كثير النوم. ولكنها غيبة
وأكل لحم مسلم. وفي حديث ماعز الصحابي الجليل الذي زنا وهو محصن وأراد أن
يطهره النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه فأمر برجمه فرجم - فسمع
النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر هذا الذي ستر
الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟ ثم سار النبي صلى الله عليه
وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال: أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا
الحمار. قالا: غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا؟ قال صلى الله عليه
وسلم: فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه. والذي نفسي بيده إنه الآن
لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)[3]. وفي مسند أحمد عن جابر رضي الله عنه: قال:
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفه منتنة. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب الله إليه لحمه في الآخرة فيقال له كله
ميتاً كما أكلته حياً قال: فيأكله ويكلح ويصيح)[4]. عباد الله: أرأيتم
بشاعة الغيبة، بشاعة ذكر الناس بما يكرهون.
إن الغيبة
هي: ذكر العيب بظهر الغيب. وقال الكفوي: أن يتكلم خلف إنسان مستور بكلام هو
فيه. وقال التهانوى: الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره لو بلغه سواء ذكرت
نقصاناً في بدنه أو في لبسه، أو خُلُقه، أو في فعله، أو في قوله، أو في
دينه، أو في دنياه، أو في ولده، أو في ثوبه، أو داره، أو دابته.
أيها
الإخوة: قد يظن ظان أن الغيبة تكون بالقول فقط. والصحيح أنها لا تقتصر على
القول فقط؛ بل تجري في الفعل كالحركة والإشارة والكناية لما ورد عن عائشة
رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا
تعني أنها قصيرة فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بما البحر لمزجته. وقالت:
وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا)[5].
لا إله إلا
الله!! كلمة بسيطة (قصيرة) من دنسها لو مزجت بما البحر العظيم لمزجته،
أتدرون ما البحر؟إن السفن والطائرات والمجاري وغيرها تفرغ مخلفاتها في
البحار ولا تستطيع أن تغير البحر لعظمه وسعته وانظروا هذه الكلمة التي هي
في نظر الكثير بسيطة لو مزجت بما البحر لمزجته.
أيها
المسلمون: لو نظرنا إلى مجالسنا اليوم فإن كثيراً منها مجالس سوء تكسوها
المنكرات وعلى رأسها الغيبة، لا يكاد يجتمع رجال أو نساء إلا وتكلموا في
الناس وتكلموا في أعراضهم وفلان كذا، وطبعه كذا، وهم لا يدركون أنهم
يرتكبون كبيرة من الكبائر وعظيمة من العظائم، التي تغضب الله تعالى.
أيها
المسلمون: إن الشيطان يمر على المجالس فيرى فيها الغيبة ويزينها للناس،
ويحبب الحديث لهم حتى يزدادوا إثماً. إن المغتاب للناس لهو رجل مغفل أحمق.
لأنه يهدي الرجل الذي اغتابه يهديه حسناته. وإن الذي اغتيب لفي نعمة فإنه
تصله حسنات بلا جهد وعناء.
قال الغزالي وهو يذكر أسباب وبواعث الغيبة وفيما يلي خلاصتها:
أول باعث
على الغيبة: شفاء المغتاب غيظه بذكر مساوئ من يغتابه. وثاني باعث: مجاملة
الأقران والرفاق ومشاركتهم فيما يخوضون فيه من الغيبة. ومن البواعث: ظن
المغتاب في غيره ظناً سيئاً فذلك مدعاة لغيبته. ومن البواعث على الغيبة: أن
يبرئ المغتاب نفسه من شيء وينسبه إلى غيره أو يذكر غيره بأنه مشارك له.
ومن البواعث: رفع النفس وتزكيتها بتنقيص الغير، ومن البواعث أيضاً: حسد من
يثنى عليه من قبل الناس أو يذكرونه بخير. ومن البواعث: الاستهزاء والسخرية
وتحقير الآخرين. ومن البواعث أيضاً: قلة إيمان المغتاب وقلة ورعه وغفلته.
ومن البواعث وقد ذكرناه سابقاً الشيطان فإنه وراء كل معصية يرتكبها
الإنسان.
أيها
المسلمون: إن الغيبة مرض خطير وداء فتاك، ومعول هدام، وسلوك يفرق بين
الأحباب، وبهتان يغطي محاسن الآخرين، وبذرة تنبت شروراً بين المجتمع
المسلم، وتقلب موازين العدالة والإنصاف إلى الكذب والجور وعلاج هذا المرض
لا يكون إلا بالعلم والعمل، فإذا عرف المغتاب أنه تعرض لسخط الله يوم
القيامة بإحباط عمله، وإعطاء حسناته من يغتابه في الدنيا، وقد يسلطه الله
عليه, إذا علم هذا وعمل بمقتضاه من خير فقد وفق للعلاج.
أي شعور
يصيب المغتاب عندما يرى حسناته التي عملها في الدنيا من صلاة وصوم وزكاة
وصدقة وتلاوة للقرآن وحج وجهاد ودعوة.. إلخ. توزع هذه الأجور العظيمة
والحسنات الكثيرة لأناس كان قد اغتابهم في الدنيا؟ أي شعور يصاب به ذلك
المغتاب وأي موقف ذلك الموقف إنها حسرة إنها ندامة إنه قهر ما بعده قهر.
وأشبَّه
ذلك برجل تعب زمناً طويلاً حتى جمع ثروة هائلة جداً، ثم بعد ذلك لم يتمتع
بها وإنما أعطيت لغيره ماذا سيصنع؟ إن الكثير اليوم يصابون بأزمة قلبية أو
جلطة أو ينتحر عندما يحدث له ذلك كمداً أو غيظاً وقهراً فكيف بذلك يوم
القيامة.
ألا فلنتق الله في ألسنتا وأقوالنا وأعمالنا، وليسلم الناس منا نسلم منهم.
بارك الله
لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما
تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله:
خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم النحر فقال: يا أيها الناس أي يوم
هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام؟ قال: فأي شهر
هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة
يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مراراً ثم رفع رأسه، فقال:
اللهم هل بغلت؟ اللهم هل بلغت؟ والحديث في الصحيحين.
لقد حرم
الرسول صلى الله عليه وسلم أعراض الناس فلا يجوز لأحد العبث بها أو المساس
بها، ومن العبث والمساس بها غيبتها وبهتانها. بل بين النبي صلى الله عليه
وسلم عاقبة الذي يتتبع عورات المسلمين فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل
الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولاتتبعوا عوراتهم فإنه من اتبع
عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) أخرجه أبو
داود.
فالواجب علينا أن إذا وجدنا في أحد المسلمين عيباً سترناه، ونقصاً كملناه, لا أن نجعل منه حديث مجالسنا، ومنتدى مسامرنا.
أتعلمون
أيها المسلمون: أن الذي يغتاب الناس يفضحه الله في جوف داره، وليس ذلك فقط
بل يناله العذاب في القبر قبل الآخرة فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: مر
النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير.
أما أحدهما فيعذب في البول وأما الآخر فيعذب في الغيبة)[6]. وقد بين حديث
أنس بن مالك رضي الله عنه ما هو العذاب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم
فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في
أعراضهم)[7].
قال عمر
رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه
داء، وقال الحسن البصري رحمه الله: ذكر الغير ثلاثة: الغيبة، والبهتان
والإفك، وكل في كتاب الله عز وجل. فالغيبة ما تقول فيه, والبهتان أن تقول
ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك, وقال أيضاً: والله للغيبة أسرع في دين
الرجل من الأكلة في الجسد والأكلة السرطان. وقال: يا ابن آدم إنك لن تصيب
حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب
فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان شغلك فيك خاصة، وأحب العباد إلى الله من
كان هكذا. وروي عن الحسن أن رجلاً قال له: إن فلاناً قد اغتابك فبعث إليه
رطباً على طبق، وقال: قد بلغني أنك أهديت إليَّ من حسناتك فأردت أن أكافئك
عليها فاعذرني فإني لا أقدر أكافئك على التمام.[8] والغيبة ليست مذمومة على
الإطلاق فلقد أجاز أهل العلم الغيبة في بعض الأحيان وذلك في ستة أسباب: أولاً:المتظلم
فيجوز للمتظلم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي فيقول ظلمني فلان بكذا.
ثانياً: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول فلان يعمل
كذا، ويكون مقصوده إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراماً. وثالثاً:
الاستفتاء فيقول للمفتي: ظلمني أبي وأخي أو زوجي... إلخ. فهذا جائز للحاجة
والأحوط أن يقول: ما تقول في رجل كان من أمره كذا... إلخ.
رابعاً:
تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من
الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع بل واجب للحاجة. ومنها: المشاورة في
مصاهرة إنسان وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأما معاوية
فصعلوك لا مال له... الحديث)رواه مسلم. أو المشاورة في مشاركة إنسان أو
إيداعه أو معاملته أو غير ذلك أو مجاورته ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله
بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة، ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى
مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم فعليه نصيحته وتحذيره منه.
خامساً: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر وما أشبه ذلك فيجوز ذكره بما يجاهر به.
سادساً:
التعريف به، فإذا كان معروف بلقب كالأعمش، والأعرج والأصم والأحول جاز
تعريضهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة النقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك لكان
أولى.[9]
هذه هي المواطن التي تجوز فيها الغيبة وأما ما سواها فلا تجوز أبداً.
أخيراً: اعلموا عباد الله أن الغيبة سرطان المجتمع وسبب تفككه وتمزقه فاجتنبوها تفوزوا برضوان الله ثم برضوان المسلمين.
وصلوا وسلموا على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين