الملتزمون والإباحية .!
( وقفة في وجه الغزو الإباحي )
لا شكَّ أنَّ هذا العنوانَ " الملتزمون والإباحيَّة " يصيبُ القارئَ عند قراءته لأوَّل وهلة بمشاعرَ مختلطةٍ مختلفة، مَشاعِر يغلب عليها الحزنُ والأَسَى لما وصل إليه حالُ كثيرٍ من المُنتَسِبين للالتِزام؛ بل وطلبِ العلم الشرعي والدعوة إلى الله أحيانًا.
هي انتِكاسة أخرى وانحِدار كبير في واقع الملتَزِمين، انحِدار يدْعو العلماءَ والمربِّين لإعادة النظر في خِطابهم الدعوي وأولويَّات الطَّرْحِ.
وربما لا يُوافِقني بَعْضٌ على هذا العنوان؛ ربَّما لاعتِبارات دعويَّة تَقتَضِي ألاَّ يَتصدَّر الخِطاب الدعوي الإصلاحي عَناوين يُساء فهمُها، أو يستغلُّها أصحاب الأهواء استِغلالاً سيِّئًا، لكنَّنا لم نقل يومًا للناس: نحن معصومون من معصيَة دون غيرها، فلا يقع مِنَّا نوعٌ مُعَيَّن من المعاصي، كما أنَّنا نتحدَّث عن فئة معيَّنة ابتُلِيَتْ بمعصِيَة يرى أفرادُها أنهم من أهل الالتِزام والاستِقامة، وليس حديثنا عن كلِّ الملتزِمين، أو بتعبير أدق عمَّن صحَّتْ له استِقامته.
نماذج من الواقع:
• تقول فتاةٌ: أنا مُلتَزِمة، حافِظَة للقرآن الكريم كامِلاً، لكنَّني وقعتُ في معصِيَة كبيرة، وكلَّما تُبتُ منها رجعت إليها مرَّة أخرى، وهي مشاهدة الصُّوَر والأفلام الإباحية!
• ويقول شابٌّ: أشعر أنَّني منافق؛ فكلُّ مَن حولي يَشهَد لي بالالتزام، ويَضرِب بي المثل في الصلاح والفلاح، لكنَّني كلَّما خلوت بالإنترنت أو القنوات الإباحيَّة شاهدتها واستمنَيْتُ!
• ويقول آخَر: أشعر بتَناقُضات في نفسي كبيرة؛ فأنا أُحافِظ على الصلوات في جماعةٍ، وأقرأ القرآن كلَّ يوم، ومع ذلك مُدمِن مشاهدة الأفلام الإباحية!
• ويقول شابٌّ آخر: مَنَّ الله عليَّ بالهداية والمحافظة على الطاعات، لكنَّني أصبحت مدمنًا لمشاهدة المواقع الإباحيَّة على الإنترنت، علمًا أنَّني لم أكن أشاهدها قبل الالتزام!
• ويَقول آخر: بعد خمس سنوات التِزامًا طلبتُ فيها العلم وحفظت فيها القرآن، رجعت مرَّة أخرى أُشاهِد الصور والأفلام الإباحية على شبكة الإنترنت، وكأني لم أكن يومًا ملتزمًا!
• ويقول آخَر: لا أستطيع أن أواجِه أخي في البيت بعد أن رآني أُشاهِد تلك الأفلام الإباحية وأنا الملتزم طالب العلم!
نماذج ونماذج، تحمِل كلُّها في النهاية رسالةً واحدة، رسالة استِغاثة وإنقاذ من خطر كبير ينخر في جسد الأمَّة وشبابها الملتزم المحبِّ لدينه.
لماذا يُشاهِد الملتزم الموادَّ الإباحية؟
دَوافِع وقوع الملتزم في هذه المعصية كثيرة، أساسها خلوُّ القلب من الخوف من الله - تعالى - وضعف مقام المراقبة وتفعيل ذلك في واقِع الفِتَن والشهوات، وقد سبَق حديثُنا عن بعض هذه الأسباب في مقالات " الإباحية وخراب البيوت "، فلا داعي من إعادتها وهي مشتركة؛ بل أكتفي هنا بذكر عناوينها والإشارة إليها إجمالاً فقط، مع العلم أن هذه الأسباب مُتداخِلة مرتبطة في بعضها.
• فالغفلة من أسباب الوقوع في تلك المحرَّمات، والملتزم المستَقِيم يسير إلى الله - عزَّ وجلَّ - كالماشي في طريق فيه شَوْكٌ يَحْذَرُه ويترقَّب مخاطرَه، فالتعامُل مثلاً مع شبكة الإنترنت بغفلة تَقُود إلى ما حرَّم الله - تعالى - تدريجيًّا.
• مُشاهَدة هذه المحرَّمات قبل الالتِزام، فلا يستَقوِي الالتِزام بعد ذلك عليها، أو مع ضعف الالتِزام وحضور الفتور، تستَسلِم النفسُ للمُغريات فتُعاوِد المشاهدة مرَّة أخرى، والنفس بطبيعتها تحنُّ لعاداتها الحسنة أو القبيحة بين الفَيْنَة والأخرى.
ومن الأسباب التي تُوقِع الملتزم في بَراثِن الإباحيَّة كذلك:
• كثرة التعرُّض للفِتَن، كمُطالَعة المَواقِع التي تَحوِي صور نساء، وإطلاق البَصَر في الشوارع والطرقات، وقراءة الأخبار المُثِيرة للغرائز... وهكذا، فالتعرُّض للمُغريات يفتَح باب الخَواطِر للشيطان، ويملأ النفس والقلب فتنة، فيتصوَّر المفتون أنه بمشاهدة الأفلام والصُّوَر الإباحية يرتَوِي؛ فيقع فريسة الإباحية، ومع قليلٍ من الوقت يُدمِنها.
وحتى بعد أن يُعِفَّه الله بالزواج أو بتجنُّب المغريات، فإن تعلُّق نفسه بمشاهدة تلك الإباحيَّات يخلق فيه حنينًا وشوقًا إليها من وقتٍ لآخَر.
ويحك لا تفتحْه:
يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( ضرَب الله - تعالى - مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سُورَانِ فيهما أبوابٌ مُفتَّحة، وعلى الأبواب سُتُور مُرخَاة، وعلى باب الصِّراط داعٍ يقول: يا أيُّها الناس، ادخُلوا الصِّراط جميعًا ولا تتعوَّجوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أَراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتَحْه؛ فإنك إن تفتَحْه تلِجْه، فالصِّراط الإسلام، والسُّوران حدود الله - تعالى - والأبواب المُفَتَّحة محارم الله - تعالى - وذلك الداعي على رأس الصراط كتابُ الله، والداعي من فوق واعِظ الله في قلب كلِّ مسلم )) ؛ أخرجه أحمد وغيره من حديث النوَّاس بن سمعان - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في " صحيح الجامع ".
فمَحارِم الله هي ما حرَّمه الله - عزَّ وجلَّ - على عباده، وما أن يفتح العبد أبواب هذه المَحارِم على نفسه، كأن لا يتوقَّى وسائل المعصِيَة ولا يخشى فِتنَتَها، كمَن يُطالِع المجلاَّت والمواقع التي فيها صُوَر نساء، أو لا يُبالِي بالتجمُّعات المُختَلطة التي تعجُّ بالمُخالَفات الشرعيَّة... وهكذا، فكلُّ هذه الأبواب ما أن يفتحها العبد إلا ويلجها، فيدخلها ولو تدريجيًّا، فيقع مع الوقت في المحرَّم الذي سهَّل طريقه بدل أن يُغلِق أبوابه، وهذه نتيجةٌ حتميَّة لا تَتغيَّر، وشرط حاضرٌ جوابُه لا يَتَخلَّف (( إن تفتحه تلجه)).
ويقول ربُّنا - تبارك وتعالى -: ﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ﴾[الحديد: 14]، فالمنافقون فتَنُوا أنفسهم بأنفسهم، وكلُّ عاصٍ لله - تعالى - له نصيبٌ من معنى ﴿ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾، وذلك بفتحه أبواب المعاصي على نفسه.
هل مشاهدة الموادِّ الإباحيَّة ناقِضٌ من نواقض الالتزام؟
نلحظ في خِطاب كلِّ ملتزم ابتُلِي بهذه المعصية شكواه من شعوره بالنِّفاق أو الكذب، والخداع والتلوُّن، وهذا الشعور مع كونه علامةً لوجود الحياة في قلب صاحبه، ومع كونه كذلك أحيانًا دافعًا للتوبة والرجوع عنه - إلا أنَّ هذا الشعور في الحقيقة من التصوُّر الخاطِئ عن طَبائِع النفس البشرية، وعن حدود الالتزام ومعنى الاستقامة، كما أنَّ هذا الشعور كثيرًا ما يَقُود لترك الأعمال الصالحة بدعوى رفض النفاق!
والمؤمن يَحزَن إذا عصَى الله - تعالى - كما يفرح إذا أطاعَه؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( إذا سرَّتْك حسنَتُك وساءَتْك سيِّئتُك، فأنت مُؤمِن ))؛ أخرجه أحمد والحاكم والطبراني وغيرهم من حديث أبي أمامة - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في " صحيح الجامع "، وهذا السُّرور بالطاعة يحفِّز على المزيد منها، كما أنَّ الحزن من وقوع السيِّئة يَقُود لتركها.
والملتزم أو المستقيم على أمر الله - تعالى - وارِدٌ عليه المعصية، أيُّ معصية كانت؛ يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يَعتادُه الفَيْنَةَ بعد الفَيْنَةَ، أو ذنب هو مُقِيمٌ عليه لا يُفارِقه حتى يُفارِق الدنيا، إنَّ المؤمن خُلِق مُفتَّنًا توَّابًا نسيًّا، إذا ذُكِّر ذَكَر ))؛ أخرجه الطبراني عن ابن عباس - رضِي الله عنهما - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع".
فالمؤمن يقع منه الذنب وربَّما اعتادَه، وإذا ذُكِّر بالله ونظره إليه، والموت والنار وأهوال القيامة، تذكَّر فتاب ورَجَع، وربَّما عاد للذنب وجدَّد التوبة ثانية منه... وهكذا، فالعبد لا يَزال بخيرٍ ما كان رَجَّاعًا إلى الله من أخطائه، والجمع بين الحسنة والسيِّئة - أي سيئة كانت - ليس من النِّفاق؛ بل من طبيعة كلِّ أحدٍ، والعبرة عدم استِمراء المعصية؛ إذ السيِّئة لا تَعقُب إلا سيِّئة بعدها.
ثم من مَداخِل الشيطان على العبد العاصِي أن يُسَوِّل له أنَّه يُنافِق بفعل الحسنة بعد السيِّئة، أو السيِّئة ثم الحسنة، فيُوَسْوِس إليه بترك الحسنة حتى لا يكون مُنافِقًا ومُخادِعًا، فيصرُّ الإنسان على المعصية ويترك العمل الصالح.
وسيأتي الكلام مفصَّلاً - إن شاء الله تعالى - في موضوع مُنفَرِد عن العلاج وأسباب المُعافَاة من مشاهدة تلك المحرَّمات.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين
/
واحرص على نشر الموضوع , قال جل وعلا : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (104) سورة آل عمران
منقول للفائده
( وقفة في وجه الغزو الإباحي )
لا شكَّ أنَّ هذا العنوانَ " الملتزمون والإباحيَّة " يصيبُ القارئَ عند قراءته لأوَّل وهلة بمشاعرَ مختلطةٍ مختلفة، مَشاعِر يغلب عليها الحزنُ والأَسَى لما وصل إليه حالُ كثيرٍ من المُنتَسِبين للالتِزام؛ بل وطلبِ العلم الشرعي والدعوة إلى الله أحيانًا.
هي انتِكاسة أخرى وانحِدار كبير في واقع الملتَزِمين، انحِدار يدْعو العلماءَ والمربِّين لإعادة النظر في خِطابهم الدعوي وأولويَّات الطَّرْحِ.
وربما لا يُوافِقني بَعْضٌ على هذا العنوان؛ ربَّما لاعتِبارات دعويَّة تَقتَضِي ألاَّ يَتصدَّر الخِطاب الدعوي الإصلاحي عَناوين يُساء فهمُها، أو يستغلُّها أصحاب الأهواء استِغلالاً سيِّئًا، لكنَّنا لم نقل يومًا للناس: نحن معصومون من معصيَة دون غيرها، فلا يقع مِنَّا نوعٌ مُعَيَّن من المعاصي، كما أنَّنا نتحدَّث عن فئة معيَّنة ابتُلِيَتْ بمعصِيَة يرى أفرادُها أنهم من أهل الالتِزام والاستِقامة، وليس حديثنا عن كلِّ الملتزِمين، أو بتعبير أدق عمَّن صحَّتْ له استِقامته.
نماذج من الواقع:
• تقول فتاةٌ: أنا مُلتَزِمة، حافِظَة للقرآن الكريم كامِلاً، لكنَّني وقعتُ في معصِيَة كبيرة، وكلَّما تُبتُ منها رجعت إليها مرَّة أخرى، وهي مشاهدة الصُّوَر والأفلام الإباحية!
• ويقول شابٌّ: أشعر أنَّني منافق؛ فكلُّ مَن حولي يَشهَد لي بالالتزام، ويَضرِب بي المثل في الصلاح والفلاح، لكنَّني كلَّما خلوت بالإنترنت أو القنوات الإباحيَّة شاهدتها واستمنَيْتُ!
• ويقول آخَر: أشعر بتَناقُضات في نفسي كبيرة؛ فأنا أُحافِظ على الصلوات في جماعةٍ، وأقرأ القرآن كلَّ يوم، ومع ذلك مُدمِن مشاهدة الأفلام الإباحية!
• ويقول شابٌّ آخر: مَنَّ الله عليَّ بالهداية والمحافظة على الطاعات، لكنَّني أصبحت مدمنًا لمشاهدة المواقع الإباحيَّة على الإنترنت، علمًا أنَّني لم أكن أشاهدها قبل الالتزام!
• ويَقول آخر: بعد خمس سنوات التِزامًا طلبتُ فيها العلم وحفظت فيها القرآن، رجعت مرَّة أخرى أُشاهِد الصور والأفلام الإباحية على شبكة الإنترنت، وكأني لم أكن يومًا ملتزمًا!
• ويقول آخَر: لا أستطيع أن أواجِه أخي في البيت بعد أن رآني أُشاهِد تلك الأفلام الإباحية وأنا الملتزم طالب العلم!
نماذج ونماذج، تحمِل كلُّها في النهاية رسالةً واحدة، رسالة استِغاثة وإنقاذ من خطر كبير ينخر في جسد الأمَّة وشبابها الملتزم المحبِّ لدينه.
لماذا يُشاهِد الملتزم الموادَّ الإباحية؟
دَوافِع وقوع الملتزم في هذه المعصية كثيرة، أساسها خلوُّ القلب من الخوف من الله - تعالى - وضعف مقام المراقبة وتفعيل ذلك في واقِع الفِتَن والشهوات، وقد سبَق حديثُنا عن بعض هذه الأسباب في مقالات " الإباحية وخراب البيوت "، فلا داعي من إعادتها وهي مشتركة؛ بل أكتفي هنا بذكر عناوينها والإشارة إليها إجمالاً فقط، مع العلم أن هذه الأسباب مُتداخِلة مرتبطة في بعضها.
• فالغفلة من أسباب الوقوع في تلك المحرَّمات، والملتزم المستَقِيم يسير إلى الله - عزَّ وجلَّ - كالماشي في طريق فيه شَوْكٌ يَحْذَرُه ويترقَّب مخاطرَه، فالتعامُل مثلاً مع شبكة الإنترنت بغفلة تَقُود إلى ما حرَّم الله - تعالى - تدريجيًّا.
• مُشاهَدة هذه المحرَّمات قبل الالتِزام، فلا يستَقوِي الالتِزام بعد ذلك عليها، أو مع ضعف الالتِزام وحضور الفتور، تستَسلِم النفسُ للمُغريات فتُعاوِد المشاهدة مرَّة أخرى، والنفس بطبيعتها تحنُّ لعاداتها الحسنة أو القبيحة بين الفَيْنَة والأخرى.
ومن الأسباب التي تُوقِع الملتزم في بَراثِن الإباحيَّة كذلك:
• كثرة التعرُّض للفِتَن، كمُطالَعة المَواقِع التي تَحوِي صور نساء، وإطلاق البَصَر في الشوارع والطرقات، وقراءة الأخبار المُثِيرة للغرائز... وهكذا، فالتعرُّض للمُغريات يفتَح باب الخَواطِر للشيطان، ويملأ النفس والقلب فتنة، فيتصوَّر المفتون أنه بمشاهدة الأفلام والصُّوَر الإباحية يرتَوِي؛ فيقع فريسة الإباحية، ومع قليلٍ من الوقت يُدمِنها.
وحتى بعد أن يُعِفَّه الله بالزواج أو بتجنُّب المغريات، فإن تعلُّق نفسه بمشاهدة تلك الإباحيَّات يخلق فيه حنينًا وشوقًا إليها من وقتٍ لآخَر.
ويحك لا تفتحْه:
يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( ضرَب الله - تعالى - مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سُورَانِ فيهما أبوابٌ مُفتَّحة، وعلى الأبواب سُتُور مُرخَاة، وعلى باب الصِّراط داعٍ يقول: يا أيُّها الناس، ادخُلوا الصِّراط جميعًا ولا تتعوَّجوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أَراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتَحْه؛ فإنك إن تفتَحْه تلِجْه، فالصِّراط الإسلام، والسُّوران حدود الله - تعالى - والأبواب المُفَتَّحة محارم الله - تعالى - وذلك الداعي على رأس الصراط كتابُ الله، والداعي من فوق واعِظ الله في قلب كلِّ مسلم )) ؛ أخرجه أحمد وغيره من حديث النوَّاس بن سمعان - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في " صحيح الجامع ".
فمَحارِم الله هي ما حرَّمه الله - عزَّ وجلَّ - على عباده، وما أن يفتح العبد أبواب هذه المَحارِم على نفسه، كأن لا يتوقَّى وسائل المعصِيَة ولا يخشى فِتنَتَها، كمَن يُطالِع المجلاَّت والمواقع التي فيها صُوَر نساء، أو لا يُبالِي بالتجمُّعات المُختَلطة التي تعجُّ بالمُخالَفات الشرعيَّة... وهكذا، فكلُّ هذه الأبواب ما أن يفتحها العبد إلا ويلجها، فيدخلها ولو تدريجيًّا، فيقع مع الوقت في المحرَّم الذي سهَّل طريقه بدل أن يُغلِق أبوابه، وهذه نتيجةٌ حتميَّة لا تَتغيَّر، وشرط حاضرٌ جوابُه لا يَتَخلَّف (( إن تفتحه تلجه)).
ويقول ربُّنا - تبارك وتعالى -: ﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ﴾[الحديد: 14]، فالمنافقون فتَنُوا أنفسهم بأنفسهم، وكلُّ عاصٍ لله - تعالى - له نصيبٌ من معنى ﴿ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾، وذلك بفتحه أبواب المعاصي على نفسه.
هل مشاهدة الموادِّ الإباحيَّة ناقِضٌ من نواقض الالتزام؟
نلحظ في خِطاب كلِّ ملتزم ابتُلِي بهذه المعصية شكواه من شعوره بالنِّفاق أو الكذب، والخداع والتلوُّن، وهذا الشعور مع كونه علامةً لوجود الحياة في قلب صاحبه، ومع كونه كذلك أحيانًا دافعًا للتوبة والرجوع عنه - إلا أنَّ هذا الشعور في الحقيقة من التصوُّر الخاطِئ عن طَبائِع النفس البشرية، وعن حدود الالتزام ومعنى الاستقامة، كما أنَّ هذا الشعور كثيرًا ما يَقُود لترك الأعمال الصالحة بدعوى رفض النفاق!
والمؤمن يَحزَن إذا عصَى الله - تعالى - كما يفرح إذا أطاعَه؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( إذا سرَّتْك حسنَتُك وساءَتْك سيِّئتُك، فأنت مُؤمِن ))؛ أخرجه أحمد والحاكم والطبراني وغيرهم من حديث أبي أمامة - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في " صحيح الجامع "، وهذا السُّرور بالطاعة يحفِّز على المزيد منها، كما أنَّ الحزن من وقوع السيِّئة يَقُود لتركها.
والملتزم أو المستقيم على أمر الله - تعالى - وارِدٌ عليه المعصية، أيُّ معصية كانت؛ يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يَعتادُه الفَيْنَةَ بعد الفَيْنَةَ، أو ذنب هو مُقِيمٌ عليه لا يُفارِقه حتى يُفارِق الدنيا، إنَّ المؤمن خُلِق مُفتَّنًا توَّابًا نسيًّا، إذا ذُكِّر ذَكَر ))؛ أخرجه الطبراني عن ابن عباس - رضِي الله عنهما - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع".
فالمؤمن يقع منه الذنب وربَّما اعتادَه، وإذا ذُكِّر بالله ونظره إليه، والموت والنار وأهوال القيامة، تذكَّر فتاب ورَجَع، وربَّما عاد للذنب وجدَّد التوبة ثانية منه... وهكذا، فالعبد لا يَزال بخيرٍ ما كان رَجَّاعًا إلى الله من أخطائه، والجمع بين الحسنة والسيِّئة - أي سيئة كانت - ليس من النِّفاق؛ بل من طبيعة كلِّ أحدٍ، والعبرة عدم استِمراء المعصية؛ إذ السيِّئة لا تَعقُب إلا سيِّئة بعدها.
ثم من مَداخِل الشيطان على العبد العاصِي أن يُسَوِّل له أنَّه يُنافِق بفعل الحسنة بعد السيِّئة، أو السيِّئة ثم الحسنة، فيُوَسْوِس إليه بترك الحسنة حتى لا يكون مُنافِقًا ومُخادِعًا، فيصرُّ الإنسان على المعصية ويترك العمل الصالح.
وسيأتي الكلام مفصَّلاً - إن شاء الله تعالى - في موضوع مُنفَرِد عن العلاج وأسباب المُعافَاة من مشاهدة تلك المحرَّمات.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين
/
واحرص على نشر الموضوع , قال جل وعلا : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (104) سورة آل عمران
منقول للفائده