لقد أمر ربنا - سبحانه وتعالى - بإيفاء الحقوق وإيصالها إلى أصحابها، وتكميلها وإتمامها، وحذرنا من بخسها ونقصها، وغمط أهلها، وهذا من أُسس دعوات الأنبياء، وقد قال شعيب - عليه السلام - لقومه: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}(سورة الأعراف:85) بعد أن أمرهم بالتوحيد، ونهاهم عن الشرك فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}(سورة الأعراف:85)، وأنذرهم بإرساله إليهم فقال: {قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}(سورة الأعراف:85)، وأمرهم بإكمال الحق فقال: {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}(سورة الأعراف:85)، ونهاهم عن النقص فقال: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}(سورة الأعراف:85).
وهكذا فإن قضية إعطاء الحقوق، وتكميلها؛ هي من أسس دعوات الأنبياء، وقد جاءت في القرآن بأسلوب النهي عن الإنقاص فقال تعالى: {وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ}(سورة هود:84)، وجاءت بأسلوب الأمر بالتوفية والإتمام {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}(سورة الأعراف:85) وفي آية أخرى: {أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}(سورة هود:85)، وهذا لتمكُّن جريمة التطفيف في مجتمعهم.
حقيقة البخس وصوره
والبخس هو الإنقاص على سبيل الظلم والتعييب، أو التزهيد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيُّد في الكيل والنقصان منه.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}(سورة الأعراف:85) تشمل الأشياء المادية والمعنوية وليست مقصورة على البيع والشراء فقط، بل تدخل فيها الأعمال والتصرفات، وكذلك تقييم مجهودات الناس، ومعرفة منازلهم، وإنزالهم إياها.
والبخس يشمل النقص والعيب في كل شيء، فهو يشمل بخس الحق، وبخس المال، وبخس العلم، وبخس الفضل، ويشمل أيضاً المساومة والغش والحيَل التي تُنتقص بها الحقوق، ومنه بخس الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل.
وصور بخس الحقوق في زماننا كثيرة، وهي من أسباب المحق، وزوال البركة.
بخس حق الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام
فيأتي على رأس جرائم البخس: بخس الله تعالى حقه، فإن المشركين الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويشركون معه غيره، ويزعمون له الولد كقول اليهود: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ}(سورة التوبة:30) وكقول النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ}(سورة التوبة:30) وكقول من قال من المشركين: الملائكة بنات الله، وسبّ اليهود لله بقولهم: {إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}(سورة آل عمران:181) وقولهم: {يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ}(سورة المائدة:64) كل هذا من بخس الله حقه.
ومن ذلك أيضاً ما يفعله أهل الإلحاد في أسمائه من تعطيلها وجحدها، وصرفها عن معانيها التي أنزلها الله - عز وجل - عليها، ومن بخس الرب - سبحانه وتعالى - نسبة النعم إلى غيره.
ويعتبر بخس حق الأنبياء من بخس حق الله تعالى؛ لأنه هو الذي أرسلهم، وسواء كان بخسهم بمحاربتهم، أو جحد رسالتهم، وإلصاق التهم الكاذبة بهم كما قالت قريش عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -: ساحر.. كاهن.. كذاب.. مجنون.. به جِنَّة.. ركبته الجنّ ونحو ذلك كما قال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}(سورة الأنعام:26).
ومن ذلك أذيتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - حسياً كخنقه وضربه، ووضع سلا الجزور على ظهره وبين كتفيه قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون}(سورة يس:30).
بخس حق الصحابة والعلماء
وبخس حق الصحابة من بخس حق محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم نصروه، واختارهم الله لصحبته، فسبُّهم وشتهم، وعيبهم وإلصاق التهم الباطلة بهم كما فعل الضُّلَّال الفجرة الكفرة الذين بخسوا التسعة حقهم، وافتروا عليهم أنهم كتموا النص على أن العاشر منهم خليفة، وكذلك رموا عائشة بما برأها الله منه، فويل لهم مما كسبت ألسنتهم وأيديهم.
وبخس العلماء من أفعال المنافقين خصوصاً في هذه الأيام برميهم بأبشع التهم، وأنهم متحجرون ومنغلقون، ورجعيون، وأغبياء، ووصمهم بأنهم علماء الحيض والنفاس ونحو ذلك؛ فهذا مما يحشده مكرُ المنافقين حول أهل العلم، ويسطرون به المقالات {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(سورة البقرة:79).
ومن بخس العلماء أن يظن الشخص العادي أن بإمكانه أن يفتي كما يفتون، ويفهم كما يفهمون، ويستنبط كما يستنبطون، فيقول: هم رجال ونحن رجال، والله - عز وجل - قد اصطفى العلماء فجعلهم ورثة الأنبياء، وجعل حيتان البحر وكذلك النمل في جحورها - من أكبر مخلوقاته إلى أصغرها - يثنون على العلماء، وهؤلاء المنافقين يطعنون فيهم، فصارت الدواب واللهِ خير منهم.
ومن بخس العالم الزهد فيه، وفي علمه، وعدم إتيانه، وترك استفتائه، وهم يرحلون ويموتون، وبعض الناس لا يعرفون أن في الأمة فلاناً إلا عند موته، فما أشدَّ تقصير هذه الأمة في حق علمائها، وما أشد ما بخستهم حقهم، ولو سألت مراهقاً عن أسماء عشرة لاعبين للكرة لأعطاك أسماء ثلاثين، ولو سألته عن أسماء عشرة من العلماء ما أعطاك خمسة! قال أبو حنيفة: ربما ذهبت بأمي إلى مجلس عمر بن ذر، وربما أمرتني أن اسأله عن مسألة، فآتيه وأقول له: إن أمي أمرتني أن أسألك عن كذا، فيقول: أنت تسألني عن هذا؟ - يعني أنت أعلم مني - فأقول: هي أمرتني، فيقول لي: كيف الجواب حتى أخبرك؟ فأخبره بالجواب، فيخبرني به، فآتي أمي فأخبرها إياه!!
ومن بخس الدين أن يبخس حقِّ دعاته، وطلاب العلم فيه، فلا ينزلون منازلهم، وهذا هو الواقع اليوم حيث تشن الهجمات عليهم، ثم يعظَّم ويُكبَّر، ويُفخَّم ويُضخَّم الرويبضاتُ التافهون من الممثلين، وكُتَّاب قلة الأدب في الروايات المستبشعة، وقد أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - أن من أشراط الساعة أن ينطق الرويبضة، وعرَّفه بأنه الرجل التافه الفويسق يتكلم في أمر العامة، ولذلك تجد الواحد منهم اليوم تفرد له حلقات في القنوات، وتفسح له المجالات في المقالات للكتابات التافهات.
البخس للحقوق المادية والمعنوية
ومن صور البخس عدم نسبة الفضل إلى أهله؛ كأن يسرق الشخص جهود الآخرين وينسبها إلى نفسه، والله يقول: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ}(سورة آل عمران:188).
ومن البخس هضم الحقوق المعنوية والفكرية بالاعتداء على محفوظات أهلها الذين حفظوها لأنفسهم، ونسخ محتوياتها، وقد أفتى أهل العلم المعاصرين بحفظ حقوق الملكية الفكرية، وأن ما حصل من اختراع أو ابتكار، أو تأليف أو جمع على نحوٍ غير مسبوق؛ فإن حقوقه محفوظة لصاحبه لا يجوز الاعتداء عليها.
ومن بخس الحقوق نكران فضل الغير ومعروفه؛ خصوصاً عند الخصومة، ومعلوم أن من بالغ في الخصومة أثم، والخصومة بالباطل تؤدي إلى كشف الأستار، وبخس حق الصحبة، والتشهير بالكذب.
ومن بخس حق الأخوة أن يخطب الإنسان على خطبة أخيه، أو أن يشتري على شرائه، أو يبيع على بيعه، أو يسوم على سومه.
بخس حق الأزواج
ومن البخس المتفشي في زماننا بخس الزوجةِ حقَّ زوجها، وبخس الزوج حق زوجته، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق الزوجة كفران العشير فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن)) قيل: أيكفرن بالله؟ قال: ((يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط))[رواه البخاري]، فالإصرار على هذا الكفران من أسباب دخول النار، وفي الحديث: ((لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه))[حديث صحيح] ومن بخس حقه كتمان خيره، وإذاعة ما بدر منه من شر.
ويوجد من النساء من تبخس حق زوجها، وتستطيل عليه؛ لأنها أنجبت له ذكوراًً، وتقول: بخيل ظالم أذاقني الأمرَّين - وهو محسن إليها -، وهذا وإن كان في الظاهر نقص عليه؛ لكن في الحقيقة يقلبه الله إلى ذيوع خير بعد ذلك، حيث إن كثيراً من الافتراءات تظهر، ويبطلها الله بعد حين، ويُظهِر فضل أهلها.
عجبت لمن تعمد بخس حقي
فعلمني به إعزاز نفسي
نوى قصري به فازداد طولي
ونبهني على طيب الخمول
والخمول هنا هو خمول الذكر (أي الابتعاد عن الشهرة).
فأين هذه الزوجة من تلك التي كانت تقول: زوجي عوني في الشدائد، وعائدي دون كل عائد - يعني يصلني أكثر من أي شخص آخر - إذا غضب لطف، وإذا مرضت عطف، وأين هي من قول الأخرى: إذا دخل الدار دخل ضحّاكاً، فإذا خرج منها خرج بسّاماً.
ومن صور البخس في المقابل: بخس الزوج لحق زوجته كأن يقلل من شأن تعبها، وخدمتها، ورعايتها له ولأبنائه؛ كي لا تطلب منه شيئاً؛ تقول إحداهن: اشتريت له سيارة جديدة للنقل، وأخذ مني عشرين ألفاً لإصلاح الشقة، وشاركته سداد الفواتير والمصروفات، ثم اكتشفت أنه تزوج بالعشرين ألفاً امرأة أخرى، وينفق من الراتب الذي يتقاضاه على التوصيل عليها!!
وأقول: ينبغي على الزوج إذا أخذ من زوجته مالاً ألا يستعمله في نكاحه عليها؛ لأن في ذلك إغاظة لها أيَّما إغاظة، لكن لو تزوج بماله هو فلا عيب ولا حرام.
أين هؤلاء الأزواج من أحمد - رحمه الله - الذي يقول: أقامت معي زوجتي - أمُّ صالح - ثلاثين سنة فما اختلفت أنا وهي في كلمة، وقول القاضي شريح عن امرأته: مكثت معي عشرين سنة لم أعتب عليها في شيء إلا مرَّة واحدة، وكنت لها ظالماً.
ومن البخس للزوجات أن يميل إلى زوجة على حساب الأخرى أو الأخريات فلا يعدل بينهن في النفقة والسكنى والمبيت، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل)) وفي رواية: ((وشقه ساقط))، والميل الممنوع هنا هو ميل غير القلب؛ لأن ميل القلب يُعذر فيه إذا لم يؤدِّ إلى تركها كالمعلقة؛ تقول إحداهن: أصيب زوجي بفشل كلوي، وتقاعد عن العمل، ويئس من الحياة، وفجأة رأى بصيص أمل بتبرعي له بإحدى كليتيَّ، ونجحت العملية بعد المطابقات، وبعد مدة وجيزة تزوج بأخرى؛ فشعرت بألم، لكن الذي وقع عليَّ وقوع الصاعقة أن زوجته الثانية اشترطت عليه طلاقي لبقائها معه، وفعلاً أعطاني ورقتي.. فأنا أعطيته كليتي وهو سلمني ورقة طلاقي!!
فهل هكذا يكون الجزاء، والله يقول: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}(سورة الرحمن:60)؟ ثم إن اشتراط امرأة طلاق الأخرى حرام لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها - يعني ضرتها - لستفرغ صحفتها فإن لها ما قُدر لها))[رواه البخاري ومسلم]، فهذه حظوظ الدنيا يقسمها الله تعالى، ولا يجوز لإنسان أن يعتدي على حق آخر.
بخس الضعفاء من الكبائر
ومن البخس أن بعضهم إذا مات أحد أقربائه كادوا لزوجته وأولادها الصغار، وحاولوا الاستيلاء على إرثهم بدراهم معدودة، وثمن بخس، وهذا مع أن بخس اليتامى من أكبر الكبائر، وويل لصاحبه من النار؛ لأن {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(سورة النساء:10).
وبخس الضعيف الذي لا يستطيع المحاماة عن حقه، وبخس المستضعف الذي لا يستطيع الدفاع ولا البيان، وبخس المسكين الذي لا يستطيع أن يذهب ليقيم دعوى، أو يطالب؛ لا شك أن هذا أشنع من بخس من يستطيع المحاماة والدفاع، والكل حرام.
البخس في المعاملات
وإذا نظرنا إلى التعليم وجدنا بخساً مشتركاً في بعض الأحيان، فهل يكون من جزاء المعلم مثلاً السبّ أو الشتم، أو الإيذاء سواء كان في بدنه، أو سيارته، أو ثوبه، أو سمعته ونحو ذلك؟ أهكذا يكون جزاء معلم الجيل؟
ومن البخس في المقابل بخس الطالب حقه في الدرجات، وتفضيل غيره عليه مع التساوي، فهذا حرام، وهو مناف للعدل.
وأما بخس الحقوق الوظيفية فهو داخل في قوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}(سورة الأعراف:85)؛ لأن النهي في هذه الجملة العظيمة من كتاب الله شامل وعام، ويدخل في أمور وأحوال كثيرة، فبخس رب العمل لحقوق العمال، واستدراجهم لأخذ العقود، وتغييرها مع أنها قد أبرمت، والمسلمون على شروطهم، وكذلك التقليل من قيمة مجهوداتهم، والحط من أعمالهم، وعدم إيفائهم مقابل ما عملوه سواء بإنقاص عدد الساعات ظلماً، أو إعطائهم جزءاً والمماطلة في الآخر حتى يترك العامل الباقي الذي يستحقه طفشاً، ولا شك أن التطفيش من استلام الحقوق حرام، ومطل الغني ظلم، خاصة أنه بعد ذلك يقول رب العمل: العامل هو الذي ترك حقه، لكن يُقال له: بعد ماذا تركه؟ أبعد المماطلة والتطفيش تقول: هو الذي ترك حقه؟!
هذا يؤخر، وهذا يزيد الأعمال والأعباء على الوقت الذي تعاقد عليه مع العامل، ولا يعطيه مقابل ذلك، ولا يعوضه عن الإضافي، فأعطوا الأجير أجره يا عباد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(سورة المائدة:1).
وفي مقابل ذلك يوجد من العمال من يبخس صاحب الشركة أو المساهمين في الشركة وهم أصحابها، وقد يكونون مليوناً من البشر، فهذا يأخذ راتباً على عمل لا يستحقه، وآخر يأتي متأخراً، ويذهب مبكراً، وهذا يتلف بعض ممتلكات الشركة إهمالاً وتضييعاً، وهذا يسرق، وآخر يبيع أسرار المؤسسة التي هو فيها إلى أخرى منافِسة، أو يحتال من الحيل ما يأخذ به أشياء من حق الشركة، أو يأخذ زبائنها وهو يعمل فيها لعمل خارجي خاص به، فيحولهم عليه، ولا شك أن هذا بخس وظلم.
ومن صور البخس بخس البائع للمشتري والمشتري للبائع قال الطاهر بن عاشور - رحمه الله -: قد يكون البخس متعلقاً بالكمية كأن يقول المشتري: هذا النخل لا يزن أكثر من عشرة وهو يعلم أن مثله يزن اثني عشر، وقد يكون متعلقاً بصفة كأن يقول: هذا البعير شرود، وهو من الرواحل الجيدة ليس بشرود، وقد يكون طريق البخس أن يبذل ثمناً رخيصاً في شيء من شأنه أن يباع غالياً، فيُشعر البائع أن هذا لا يكاد يساوي شيئاً، فيأتي بالسيارة إلى المعرض وصاحب المعرض يقول: ما تساوي القيمة الفلانية، وهي تساويه.
ومن ذلك أن يأتي بالذهب إلى صاحب المحل ويقول: لا يكاد يساوي إلا كذا، وهو مثله ونصف مثلاً، ومن صور ذلك أن يقول للبائع: بيتك ما يساوي إلا كذا - وهو يعلم أنه يساوي أكثر من ذلك - فإذا اشتراه منه باعه بالأكثر الذي كان قبل شرائه لا يساويه، ثم يقول لأصحابه: أقنعناه أن يبيع بكذا، فالمشكلة أنهم يعتبرون هذه الصور من الاحتيال مماكسة وذكاء، والله يقول: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}(سورة الأعراف:85).
ومنهم من يُظهر للبائع أن في سلعته عيوباً وليس ثمة عيوب، أو يضخم العيوب ويبالغ فيها وقد قال جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم"، والنصح لكل مسلم معناه أن تبين له وتعطيه حقه
يا ليتني أبيع الشيء يكسب فيه
أحب شيء إلى نفسي معاملة
المشتري الربح ديناراً بعشرينا
كسب العميل فنأتيه ويأتينا
الشريعة تدعو إلى الكمال
ولما نهى الله عن البخس أمر بالإكمال وهذه قاعدة عظيمة في الشريعة؛ فإنها إذا أمرت بشيء نهت عن ضده؛ لتكتمل الصورة، ويحسن الاحتياط من الجانبين، وليكون الشيء الذي هو مراد الشارع موفوراً كاملاً قال الله - عز وجل -: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}(سورة المطففين:1-2) أي: في حقوقهم {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}(سورة المطففين:3) أي: في حق غيرهم، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - للوزان: ((زِن وأرْجِح)) أي: اجعل كفة الميزان راجحة لصالح المشتري، وقال ابن عباس لأصحاب المكيال والميزان في السوق: "إنكم قد وليتم أمرين هلكت فيهما الأمم السالفة قبلكم: الكيل، والميزان"، وكان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: "اتق الله، وأوف الكيل والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم"، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن التجار هم الفجار)) فقال رجل: يا رسول الله، ألم يحل الله البيع؟ قال: ((بلى ولكنهم يحدثون فيكذبون، ويحلفون فيأثمون))[رواه أحمد وهو حديث صحيح]، فهذا عن نوع معين من هؤلاء التجار الذين يفعلون هذا، والأمناء قليل ما هم.
ولقد أهلك الله - عز وجل - قوم شعيب بأمور منها التطفيف في المكيال والميزان، وبخس الناس أشياءهم، فدل ذلك على أن هذه الجريمة من الكبائر، وحين سئل مالك - رحمه الله - عن رجل جعل في مكياله زفتاً - وهي مادة ثقيلة - ليرفع به الكيل فقال - رحمه الله -: "أرى أن يُعاقَبَ بإخراجه من السوق" وهذا ما يسمى اليوم بسحب الترخيص، وعدم التجديد للسجل، فهكذا كانت فتوى مالك أن يحرم الشخص من البيع بالسوق عند اكتشاف الغش.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يؤدي حقوق الناس يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من الذين يتممون الحقوق ويؤدونها إلى أهلها، ولا تجعلنا من المطففين، ولا من الذين يبخسون الناس أشياءهم، اللهم إنا نسألك العدل في أهلينا وما ولينا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وهكذا فإن قضية إعطاء الحقوق، وتكميلها؛ هي من أسس دعوات الأنبياء، وقد جاءت في القرآن بأسلوب النهي عن الإنقاص فقال تعالى: {وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ}(سورة هود:84)، وجاءت بأسلوب الأمر بالتوفية والإتمام {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}(سورة الأعراف:85) وفي آية أخرى: {أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}(سورة هود:85)، وهذا لتمكُّن جريمة التطفيف في مجتمعهم.
حقيقة البخس وصوره
والبخس هو الإنقاص على سبيل الظلم والتعييب، أو التزهيد، أو المخادعة عن القيمة، أو الاحتيال في التزيُّد في الكيل والنقصان منه.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}(سورة الأعراف:85) تشمل الأشياء المادية والمعنوية وليست مقصورة على البيع والشراء فقط، بل تدخل فيها الأعمال والتصرفات، وكذلك تقييم مجهودات الناس، ومعرفة منازلهم، وإنزالهم إياها.
والبخس يشمل النقص والعيب في كل شيء، فهو يشمل بخس الحق، وبخس المال، وبخس العلم، وبخس الفضل، ويشمل أيضاً المساومة والغش والحيَل التي تُنتقص بها الحقوق، ومنه بخس الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل.
وصور بخس الحقوق في زماننا كثيرة، وهي من أسباب المحق، وزوال البركة.
بخس حق الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام
فيأتي على رأس جرائم البخس: بخس الله تعالى حقه، فإن المشركين الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويشركون معه غيره، ويزعمون له الولد كقول اليهود: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ}(سورة التوبة:30) وكقول النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ}(سورة التوبة:30) وكقول من قال من المشركين: الملائكة بنات الله، وسبّ اليهود لله بقولهم: {إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}(سورة آل عمران:181) وقولهم: {يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ}(سورة المائدة:64) كل هذا من بخس الله حقه.
ومن ذلك أيضاً ما يفعله أهل الإلحاد في أسمائه من تعطيلها وجحدها، وصرفها عن معانيها التي أنزلها الله - عز وجل - عليها، ومن بخس الرب - سبحانه وتعالى - نسبة النعم إلى غيره.
ويعتبر بخس حق الأنبياء من بخس حق الله تعالى؛ لأنه هو الذي أرسلهم، وسواء كان بخسهم بمحاربتهم، أو جحد رسالتهم، وإلصاق التهم الكاذبة بهم كما قالت قريش عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -: ساحر.. كاهن.. كذاب.. مجنون.. به جِنَّة.. ركبته الجنّ ونحو ذلك كما قال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}(سورة الأنعام:26).
ومن ذلك أذيتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - حسياً كخنقه وضربه، ووضع سلا الجزور على ظهره وبين كتفيه قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون}(سورة يس:30).
بخس حق الصحابة والعلماء
وبخس حق الصحابة من بخس حق محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم نصروه، واختارهم الله لصحبته، فسبُّهم وشتهم، وعيبهم وإلصاق التهم الباطلة بهم كما فعل الضُّلَّال الفجرة الكفرة الذين بخسوا التسعة حقهم، وافتروا عليهم أنهم كتموا النص على أن العاشر منهم خليفة، وكذلك رموا عائشة بما برأها الله منه، فويل لهم مما كسبت ألسنتهم وأيديهم.
وبخس العلماء من أفعال المنافقين خصوصاً في هذه الأيام برميهم بأبشع التهم، وأنهم متحجرون ومنغلقون، ورجعيون، وأغبياء، ووصمهم بأنهم علماء الحيض والنفاس ونحو ذلك؛ فهذا مما يحشده مكرُ المنافقين حول أهل العلم، ويسطرون به المقالات {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(سورة البقرة:79).
ومن بخس العلماء أن يظن الشخص العادي أن بإمكانه أن يفتي كما يفتون، ويفهم كما يفهمون، ويستنبط كما يستنبطون، فيقول: هم رجال ونحن رجال، والله - عز وجل - قد اصطفى العلماء فجعلهم ورثة الأنبياء، وجعل حيتان البحر وكذلك النمل في جحورها - من أكبر مخلوقاته إلى أصغرها - يثنون على العلماء، وهؤلاء المنافقين يطعنون فيهم، فصارت الدواب واللهِ خير منهم.
ومن بخس العالم الزهد فيه، وفي علمه، وعدم إتيانه، وترك استفتائه، وهم يرحلون ويموتون، وبعض الناس لا يعرفون أن في الأمة فلاناً إلا عند موته، فما أشدَّ تقصير هذه الأمة في حق علمائها، وما أشد ما بخستهم حقهم، ولو سألت مراهقاً عن أسماء عشرة لاعبين للكرة لأعطاك أسماء ثلاثين، ولو سألته عن أسماء عشرة من العلماء ما أعطاك خمسة! قال أبو حنيفة: ربما ذهبت بأمي إلى مجلس عمر بن ذر، وربما أمرتني أن اسأله عن مسألة، فآتيه وأقول له: إن أمي أمرتني أن أسألك عن كذا، فيقول: أنت تسألني عن هذا؟ - يعني أنت أعلم مني - فأقول: هي أمرتني، فيقول لي: كيف الجواب حتى أخبرك؟ فأخبره بالجواب، فيخبرني به، فآتي أمي فأخبرها إياه!!
ومن بخس الدين أن يبخس حقِّ دعاته، وطلاب العلم فيه، فلا ينزلون منازلهم، وهذا هو الواقع اليوم حيث تشن الهجمات عليهم، ثم يعظَّم ويُكبَّر، ويُفخَّم ويُضخَّم الرويبضاتُ التافهون من الممثلين، وكُتَّاب قلة الأدب في الروايات المستبشعة، وقد أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - أن من أشراط الساعة أن ينطق الرويبضة، وعرَّفه بأنه الرجل التافه الفويسق يتكلم في أمر العامة، ولذلك تجد الواحد منهم اليوم تفرد له حلقات في القنوات، وتفسح له المجالات في المقالات للكتابات التافهات.
البخس للحقوق المادية والمعنوية
ومن صور البخس عدم نسبة الفضل إلى أهله؛ كأن يسرق الشخص جهود الآخرين وينسبها إلى نفسه، والله يقول: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ}(سورة آل عمران:188).
ومن البخس هضم الحقوق المعنوية والفكرية بالاعتداء على محفوظات أهلها الذين حفظوها لأنفسهم، ونسخ محتوياتها، وقد أفتى أهل العلم المعاصرين بحفظ حقوق الملكية الفكرية، وأن ما حصل من اختراع أو ابتكار، أو تأليف أو جمع على نحوٍ غير مسبوق؛ فإن حقوقه محفوظة لصاحبه لا يجوز الاعتداء عليها.
ومن بخس الحقوق نكران فضل الغير ومعروفه؛ خصوصاً عند الخصومة، ومعلوم أن من بالغ في الخصومة أثم، والخصومة بالباطل تؤدي إلى كشف الأستار، وبخس حق الصحبة، والتشهير بالكذب.
ومن بخس حق الأخوة أن يخطب الإنسان على خطبة أخيه، أو أن يشتري على شرائه، أو يبيع على بيعه، أو يسوم على سومه.
بخس حق الأزواج
ومن البخس المتفشي في زماننا بخس الزوجةِ حقَّ زوجها، وبخس الزوج حق زوجته، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق الزوجة كفران العشير فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن)) قيل: أيكفرن بالله؟ قال: ((يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط))[رواه البخاري]، فالإصرار على هذا الكفران من أسباب دخول النار، وفي الحديث: ((لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه))[حديث صحيح] ومن بخس حقه كتمان خيره، وإذاعة ما بدر منه من شر.
ويوجد من النساء من تبخس حق زوجها، وتستطيل عليه؛ لأنها أنجبت له ذكوراًً، وتقول: بخيل ظالم أذاقني الأمرَّين - وهو محسن إليها -، وهذا وإن كان في الظاهر نقص عليه؛ لكن في الحقيقة يقلبه الله إلى ذيوع خير بعد ذلك، حيث إن كثيراً من الافتراءات تظهر، ويبطلها الله بعد حين، ويُظهِر فضل أهلها.
عجبت لمن تعمد بخس حقي
فعلمني به إعزاز نفسي
نوى قصري به فازداد طولي
ونبهني على طيب الخمول
والخمول هنا هو خمول الذكر (أي الابتعاد عن الشهرة).
فأين هذه الزوجة من تلك التي كانت تقول: زوجي عوني في الشدائد، وعائدي دون كل عائد - يعني يصلني أكثر من أي شخص آخر - إذا غضب لطف، وإذا مرضت عطف، وأين هي من قول الأخرى: إذا دخل الدار دخل ضحّاكاً، فإذا خرج منها خرج بسّاماً.
ومن صور البخس في المقابل: بخس الزوج لحق زوجته كأن يقلل من شأن تعبها، وخدمتها، ورعايتها له ولأبنائه؛ كي لا تطلب منه شيئاً؛ تقول إحداهن: اشتريت له سيارة جديدة للنقل، وأخذ مني عشرين ألفاً لإصلاح الشقة، وشاركته سداد الفواتير والمصروفات، ثم اكتشفت أنه تزوج بالعشرين ألفاً امرأة أخرى، وينفق من الراتب الذي يتقاضاه على التوصيل عليها!!
وأقول: ينبغي على الزوج إذا أخذ من زوجته مالاً ألا يستعمله في نكاحه عليها؛ لأن في ذلك إغاظة لها أيَّما إغاظة، لكن لو تزوج بماله هو فلا عيب ولا حرام.
أين هؤلاء الأزواج من أحمد - رحمه الله - الذي يقول: أقامت معي زوجتي - أمُّ صالح - ثلاثين سنة فما اختلفت أنا وهي في كلمة، وقول القاضي شريح عن امرأته: مكثت معي عشرين سنة لم أعتب عليها في شيء إلا مرَّة واحدة، وكنت لها ظالماً.
ومن البخس للزوجات أن يميل إلى زوجة على حساب الأخرى أو الأخريات فلا يعدل بينهن في النفقة والسكنى والمبيت، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل)) وفي رواية: ((وشقه ساقط))، والميل الممنوع هنا هو ميل غير القلب؛ لأن ميل القلب يُعذر فيه إذا لم يؤدِّ إلى تركها كالمعلقة؛ تقول إحداهن: أصيب زوجي بفشل كلوي، وتقاعد عن العمل، ويئس من الحياة، وفجأة رأى بصيص أمل بتبرعي له بإحدى كليتيَّ، ونجحت العملية بعد المطابقات، وبعد مدة وجيزة تزوج بأخرى؛ فشعرت بألم، لكن الذي وقع عليَّ وقوع الصاعقة أن زوجته الثانية اشترطت عليه طلاقي لبقائها معه، وفعلاً أعطاني ورقتي.. فأنا أعطيته كليتي وهو سلمني ورقة طلاقي!!
فهل هكذا يكون الجزاء، والله يقول: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}(سورة الرحمن:60)؟ ثم إن اشتراط امرأة طلاق الأخرى حرام لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها - يعني ضرتها - لستفرغ صحفتها فإن لها ما قُدر لها))[رواه البخاري ومسلم]، فهذه حظوظ الدنيا يقسمها الله تعالى، ولا يجوز لإنسان أن يعتدي على حق آخر.
بخس الضعفاء من الكبائر
ومن البخس أن بعضهم إذا مات أحد أقربائه كادوا لزوجته وأولادها الصغار، وحاولوا الاستيلاء على إرثهم بدراهم معدودة، وثمن بخس، وهذا مع أن بخس اليتامى من أكبر الكبائر، وويل لصاحبه من النار؛ لأن {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(سورة النساء:10).
وبخس الضعيف الذي لا يستطيع المحاماة عن حقه، وبخس المستضعف الذي لا يستطيع الدفاع ولا البيان، وبخس المسكين الذي لا يستطيع أن يذهب ليقيم دعوى، أو يطالب؛ لا شك أن هذا أشنع من بخس من يستطيع المحاماة والدفاع، والكل حرام.
البخس في المعاملات
وإذا نظرنا إلى التعليم وجدنا بخساً مشتركاً في بعض الأحيان، فهل يكون من جزاء المعلم مثلاً السبّ أو الشتم، أو الإيذاء سواء كان في بدنه، أو سيارته، أو ثوبه، أو سمعته ونحو ذلك؟ أهكذا يكون جزاء معلم الجيل؟
ومن البخس في المقابل بخس الطالب حقه في الدرجات، وتفضيل غيره عليه مع التساوي، فهذا حرام، وهو مناف للعدل.
وأما بخس الحقوق الوظيفية فهو داخل في قوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}(سورة الأعراف:85)؛ لأن النهي في هذه الجملة العظيمة من كتاب الله شامل وعام، ويدخل في أمور وأحوال كثيرة، فبخس رب العمل لحقوق العمال، واستدراجهم لأخذ العقود، وتغييرها مع أنها قد أبرمت، والمسلمون على شروطهم، وكذلك التقليل من قيمة مجهوداتهم، والحط من أعمالهم، وعدم إيفائهم مقابل ما عملوه سواء بإنقاص عدد الساعات ظلماً، أو إعطائهم جزءاً والمماطلة في الآخر حتى يترك العامل الباقي الذي يستحقه طفشاً، ولا شك أن التطفيش من استلام الحقوق حرام، ومطل الغني ظلم، خاصة أنه بعد ذلك يقول رب العمل: العامل هو الذي ترك حقه، لكن يُقال له: بعد ماذا تركه؟ أبعد المماطلة والتطفيش تقول: هو الذي ترك حقه؟!
هذا يؤخر، وهذا يزيد الأعمال والأعباء على الوقت الذي تعاقد عليه مع العامل، ولا يعطيه مقابل ذلك، ولا يعوضه عن الإضافي، فأعطوا الأجير أجره يا عباد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(سورة المائدة:1).
وفي مقابل ذلك يوجد من العمال من يبخس صاحب الشركة أو المساهمين في الشركة وهم أصحابها، وقد يكونون مليوناً من البشر، فهذا يأخذ راتباً على عمل لا يستحقه، وآخر يأتي متأخراً، ويذهب مبكراً، وهذا يتلف بعض ممتلكات الشركة إهمالاً وتضييعاً، وهذا يسرق، وآخر يبيع أسرار المؤسسة التي هو فيها إلى أخرى منافِسة، أو يحتال من الحيل ما يأخذ به أشياء من حق الشركة، أو يأخذ زبائنها وهو يعمل فيها لعمل خارجي خاص به، فيحولهم عليه، ولا شك أن هذا بخس وظلم.
ومن صور البخس بخس البائع للمشتري والمشتري للبائع قال الطاهر بن عاشور - رحمه الله -: قد يكون البخس متعلقاً بالكمية كأن يقول المشتري: هذا النخل لا يزن أكثر من عشرة وهو يعلم أن مثله يزن اثني عشر، وقد يكون متعلقاً بصفة كأن يقول: هذا البعير شرود، وهو من الرواحل الجيدة ليس بشرود، وقد يكون طريق البخس أن يبذل ثمناً رخيصاً في شيء من شأنه أن يباع غالياً، فيُشعر البائع أن هذا لا يكاد يساوي شيئاً، فيأتي بالسيارة إلى المعرض وصاحب المعرض يقول: ما تساوي القيمة الفلانية، وهي تساويه.
ومن ذلك أن يأتي بالذهب إلى صاحب المحل ويقول: لا يكاد يساوي إلا كذا، وهو مثله ونصف مثلاً، ومن صور ذلك أن يقول للبائع: بيتك ما يساوي إلا كذا - وهو يعلم أنه يساوي أكثر من ذلك - فإذا اشتراه منه باعه بالأكثر الذي كان قبل شرائه لا يساويه، ثم يقول لأصحابه: أقنعناه أن يبيع بكذا، فالمشكلة أنهم يعتبرون هذه الصور من الاحتيال مماكسة وذكاء، والله يقول: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}(سورة الأعراف:85).
ومنهم من يُظهر للبائع أن في سلعته عيوباً وليس ثمة عيوب، أو يضخم العيوب ويبالغ فيها وقد قال جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم"، والنصح لكل مسلم معناه أن تبين له وتعطيه حقه
يا ليتني أبيع الشيء يكسب فيه
أحب شيء إلى نفسي معاملة
المشتري الربح ديناراً بعشرينا
كسب العميل فنأتيه ويأتينا
الشريعة تدعو إلى الكمال
ولما نهى الله عن البخس أمر بالإكمال وهذه قاعدة عظيمة في الشريعة؛ فإنها إذا أمرت بشيء نهت عن ضده؛ لتكتمل الصورة، ويحسن الاحتياط من الجانبين، وليكون الشيء الذي هو مراد الشارع موفوراً كاملاً قال الله - عز وجل -: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}(سورة المطففين:1-2) أي: في حقوقهم {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}(سورة المطففين:3) أي: في حق غيرهم، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - للوزان: ((زِن وأرْجِح)) أي: اجعل كفة الميزان راجحة لصالح المشتري، وقال ابن عباس لأصحاب المكيال والميزان في السوق: "إنكم قد وليتم أمرين هلكت فيهما الأمم السالفة قبلكم: الكيل، والميزان"، وكان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: "اتق الله، وأوف الكيل والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم"، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن التجار هم الفجار)) فقال رجل: يا رسول الله، ألم يحل الله البيع؟ قال: ((بلى ولكنهم يحدثون فيكذبون، ويحلفون فيأثمون))[رواه أحمد وهو حديث صحيح]، فهذا عن نوع معين من هؤلاء التجار الذين يفعلون هذا، والأمناء قليل ما هم.
ولقد أهلك الله - عز وجل - قوم شعيب بأمور منها التطفيف في المكيال والميزان، وبخس الناس أشياءهم، فدل ذلك على أن هذه الجريمة من الكبائر، وحين سئل مالك - رحمه الله - عن رجل جعل في مكياله زفتاً - وهي مادة ثقيلة - ليرفع به الكيل فقال - رحمه الله -: "أرى أن يُعاقَبَ بإخراجه من السوق" وهذا ما يسمى اليوم بسحب الترخيص، وعدم التجديد للسجل، فهكذا كانت فتوى مالك أن يحرم الشخص من البيع بالسوق عند اكتشاف الغش.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يؤدي حقوق الناس يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من الذين يتممون الحقوق ويؤدونها إلى أهلها، ولا تجعلنا من المطففين، ولا من الذين يبخسون الناس أشياءهم، اللهم إنا نسألك العدل في أهلينا وما ولينا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.