شبهات
المشككين في الإسلام عمومًا وفي القرآن الكريم على وجه أخص، لا تكاد
تنتهي، وقد بدأت مع بداية هذه الدعوة، واستمرت عبر عصور الإسلام، وما زالت
أصداؤها تُسمع هنا وهناك، دون كلل أو ملل .
ومما
يطالعنا به أصحاب الشبهات القرآنية، شبهة يرددونها بين حين وآخر، تقول تلك
الشبهة: إن في القرآن كثير من الكلمات الغريبة على لسان العرب، من ذلك
الكلمات التالية: ( استبرق ) ( مدهامتان ) ( فاقرة ) ( الناقور ) ( سجِّيل )
( عسعس ) ( المسجور ) وغير ذلك من الكلمات، التي يدعي أصحاب هذه الشبهة
أنها كلمات غريبة على لسان العرب، ويطعنون بذلك في لغة القرآن، توصلاً
للطعن في الإسلام !!
والواقع،
فإن المتأمل فيما يقول هؤلاء القوم، لا يخفي عليه تهافت شبهتم، وتساقط
أدلتهم، وركاكة علمهم بكلام العرب، وهشاشة معرفتهم بلسانه؛ ولو أنهم كانوا
طلاب حق وحقيقة، لرجعوا إلى مصادر كلام العرب، ولتبين لهم الحق فيما ادعوه
وأثاروه .
بعد
هذا، نقول ردًا على شبهتهم: إن العالِم بلغة القرآن ولسان العرب، يعلم علم
اليقين أنه لا يوجد في القرآن الكريم ما يسميه أصحاب الشبهات ( كلامًا
غريبًا ) بل كل ما في القرآن من كلام لا يخرج عن أن يكون، إما كلامًا
عربيًا أصيلاً، وإما أن يكون كلامًا معرَّبًا، دخل على اللغة العربية،
وتفاعل معها، وأصبح جزءًا منها؛ فليس في كلام العرب سوى هذين النوعين من
الكلام: كلام عربي أصيل، وكلام معرَّب .
لا
يقال هنا إن ( غريب القرآن ) هو هذا النوع الثاني من الكلام، لأنا نقول:
إن استعارة اللغات من بعضها البعض من سُنَن الاجتماع البشري، وهي دليل على
حيوية اللغة وتفاعلها؛ وهذه الظاهرة - ظاهرة استعارة اللغات من بعضها -
شائعة في لغات الناس اليوم، وليس في هذا ما يُنكر أو يُستنكر، ومن كان على
علم أو إلمام بتاريخ اللغات العالمية اليوم، كالفرنسية، والألمانية،
والإنكليزية، والعربية، تبين له مصداق هذه الحقيقة .
فإذا
عُرِف هذا، فلْيُعْرف أنه لا وجود في القرآن الكريم لما يسمى ( كلام غريب )
إذ الكلام الغريب في عُرْف النقاد واللغويين، هو كل ما يُعدُّ عيبًا في
الكلام، ويخالف أساليب الفصاحة والبيان، وكذلك كل ما لم يكن له وجود في
معاجم اللغة؛ أما ما لم يكن كذلك، فلا يُسمى كلامًا غريبًا .
ثم
يضاف إلى هذا فنقول: إن الكلمات التي دخلت على العربية، ثم أصبحت كلمات
مألوفة الاستعمال، تصبح كلمات عربية في لسان العرب، وعرفهم اللغوي. وبناء
على هذا يقال: إن ما يسمى ( كلامًا غريبًا ) في القرآن، وإن لم يكن كلامًا
عربي الأصل، فهو بالإجماع كلام عربي الاستعمال، إذ إن تواتر استعماله جعله
من جملة نسيج تلك اللغة، ومن ضمن نَسَقِهَا العام. وما أكثر الكلمات غير
العربية، التي قد هُجر أصلها، وصارت كلمات عربية بالاستعمال، فهي إذن ليست
غريبة، لأن الغريب ما ليس له معنى أصلاً، وما لم يكن كذلك فلا يسمى غريبًا،
ويدل على دخولها في كلام العرب إدراجها في معاجم اللغة العربية، واستخدمها
في كلام الناس، وهذا كاف للتدليل على أنها أصبحت من لسان العرب، وليست
غريبة عنه .
ولا
ريب فإن اللغة العربية قد دخلها العديد من الكلمات التي وفدت إليها من
اللغات القديمة، وقد اهتم بهذا علماء الإسلام المتقدمون، وأسموه الكلام (
المعُرَّب ) وألَّفوا في ذلك كتبًا، واتفقوا على أن ذلك الكلام، بعد أن دخل
لغة العرب، وتفاعل معها، وشاع استعماله على لسان أهل العربية، قد أصبح
كلامًا عربيًا، ولا يسمى كلامًا غريبًا، ما دام ذلك الكلام قد تلقاه أهل
العربية بالقبول والاستحسان .
وإضافة
لما تقدم وتبين، فإن كثيرًا من الكلمات التي يدعي أصحاب هذه الشبهة أنها
كلمات غريبة على لغة العرب، ليست هي في الواقع كذلك، بل هي كلمات عربية
الأصل، وأصيلة في لسان العرب. ولكن لجهل هؤلاء القوم بلسان العرب، فإنهم
يقولون ما يقولون، ويدَّعون ما يدَّعون .
ولقائل
أن يقول: فما بالكم تنكرون ( الكلام الغريب ) في القرآن، وهو موجود
باعتراف العلماء أنفسهم، أَوَ ليس قد ألَّفوا في ذلك المؤلَّفات، وصنفوا في
ذلك المصنفات، وسموها ( غريب القرآن ) فكيف يقال بعد هذا كله: إنه لا يوجد
( كلام غريب ) في القرآن ؟ ألا يُعدُّ هذا اعترافًا صريحًا، ودليلاً
صحيحًا، على وجود كلمات غريبة في القرآن الكريم .
والحق،
فإن هذا السؤال وارد، والجواب عنه بأن يقال: إن الكلام الغريب الذي تحدث
عنه العلماء، ووضعوا له الكتب والمؤلفات، إنما هو غريب نسبي لا حقيقي.
وبيان هذا أن القرآن الكريم في عصر الرسالة، وعصر الخلفاء الراشدين، بل عند
كل العرب السابقين، كان مفهومًا لجميعهم، من غير استغراب أو استنكار. وما
جاء من استفسار من بعض الصحابة، أو تصريح من بعضهم بعدم العلم ببعض الكلمات
القرآنية، فإن هذه وقائع فردية، لا يحكم من خلالها ولا على ضوئها على ما
يسميه أصحاب هذه الشبهة ( غريب القرآن ) وبالتالي فلا يُستنتج من تلك
الوقائع أحكام عامة، ولا قضايا كلية .
على
أن من الجدير ذكره في سياق الجواب على هذا السؤال، أن ثمة مؤلَّفات في
غريب القرآن، لما كتبها العلماء كان القصد منها مخاطبة أبناء الشعوب غير
العربية التي دخلت في الإسلام، وأعلنت ولائها له، فكان من أمر هذا أن
استجاب العلماء لتلك التطورات، وتفاعلوا معها، فكتبوا في ذلك ما كتبوا بقصد
توعيه تلك الشعوب بكتاب ربها؛ أما المسلمون الأوائل، ونقصد بهم المسلمين
الذين عاشوا إلى النصف الأول من القرن الثالث، فلم يكن في عهدهم، ما يسمى
كتب ( غريب القرآن ) لكن لما تقادم الزمن على نزول القرآن، وبَعُدَ عهد
الناس بلغة القرآن، ولسان العرب، وضعفت سليقة اللغة عند من جاء بعد، هُرع
العلماء للتصنيف والكتابة في ( غريب القرآن، ومبهمه، ومشكله ) استجابة
لتطورات عصرهم، وتلبية لواقع الناس وحاجتهم؛ قاصدين في كل ذلك، ومن وراء
ذلك، تيسير فهم كتاب الله، وبيان بعض المفردات التي غابت معانيها عن
الأجيال المتعاقبة، وكان من هذه المفردات ما هو عربي أصيل، وكان منها ما هو
معرَّب .
ومحصَّل
القول في هذه الشبهة: إن ما يطلق عليه ( غريب القرآن ) في بعض المؤلفات
الإسلامية، ومنها كتب علوم القرآن، وكتب التفاسير أيضًا، إنما هو غريب
نسبي، لا غريب مطلق؛ فما يكون غريبًا على بعض الناس، قد لا يكون كذلك على
غيرهم، وهذا أمر واضح لا مرية فيه .