أضواء من الآيات
سنةٌ
إسلاميةٌ هجريةٌ جديدة ، تطالعنا والكروب والحروب تلف العالم الإسلامي من
أقصاه إلى أقصاه .. الدماء تسيل بغزارة في كل مكان ، والأشلاء تتناثر هنا
وهناك ، تشرق علينا ذكرى الهجرة النبوية ، ونقف لنستلهم منها ما يضيء لنا
واقعنا الأليم ، ونقترئ من الدروس والعبر ما يحل مشاكلنا المستعصية ، حيث
أنوار الهجرة لا تنقطع ، ودروسها لا تنتهي .
وكما هو الحال في الماضي التليد ، تتنزل الآيات عند كل حدث ، تذكّر بالهجرة وتعيدها إلى الأذهان ، وتلقي أضواءً كاشفةً على ذلك الواقع .
ففي بدر بعد النصر
حيث الشدائد والاضطهاد والتعذيب ، تتنزل الآيات تذكّر بالهجرة وبما صنعه
الأعداء من آلامٍ وإيذاء ، وبما نسجوه من مؤامرةٍ خبيثةٍ للخلاص من صاحب
الرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لكيلا تأخذ المسلمين بالأعداء
شفقةٌ ولا رحمة ، وذلك حمايةً للحياة والأحياء مما يفعله المجرمون الظالمون
.
{وَاذْكُرُواْ
إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم
مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يِا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ
فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة الأنفال 26-30] .
وفي أُحُد حيث مرارة الهزيمة
يأتي الحديث عن الهجرة مبيناً أن هذا الدين ، الذي جاء بالسعادة للعالمين ،
لا يمكن أن يحمله ويحميه الضعاف المهازيل ، بل أولئك الذين يضحون ويخاطرون
، ويتركون الغالي والنفيس ، مهاجرين إلى الله ورسوله .
أما المتعلقون بالدنيا المؤثرون لها فليس باستطاعتهم حمل المبادئ ولا حماية الدين ، قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ
لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ
أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ
مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ
لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ
عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [سورة آل عمران 195].
وهكذا يأتي الحديث عن الهجرة في سورة النساء: {إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ
فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [سورة النساء 97]، وكذلك في سورة الأنفال {وَالَّذِينَ
آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ
آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم
مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
[سورة الأنفال 74]، وفي سورة البقرة والتوبة والنحل والحج والممتحنة
والتغابن والحشر يجيء الحديث عن الهجرة إبرازاً لدرسٍ يستفاد والتقاطاً
لعبرةٍ تكتسب .
والآيات التي نعيش أضواءها جاءت على ذات النسق الذي ألمعنا إليه {إِلاَّ
تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ
تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ}
[سورة التوبة 40]، فهي لم تنزل كما يتصور الكثيرون في وقت الهجرة ، وإن
كانت تتحدث عنها بصراحةٍ ووضوح ، وإنما نزلت بعد تسع سنين من الهجرة ، وذلك
إبان معركة تبوك ، آخر معركةٍ خاضها المسلمون ضد الرومان الذين اغتالوا
الدعاة المسالمين ، واعترضوا طريق الدعوة ، وخططوا للقضاء على صاحب الرسالة
.
هنا
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج في مواجهة الرومان ، والأيام
عصيبةٌ والظروف عسيرةٌ ، عسرةٌ في الماء ، وعسرةٌ في المال ، وعسرةٌ في
الظهر ، جعلت البعض يتثاقل إلى الأرض طلباً للراحة ، لاسيما والمعركة
خطيرةٌ جداً ، لأنها ستكون مع الدولة الأولى في العالم ، حيث انتصر الرومان
على الفرس أيامئذٍ ، وانفردوا بالسطوة والسلطان ، وأمسوا القطب الأوحد في
التحكم في العالم ، وأرجف المنافقون كعادتهم " كيف لمحمدٍ أن يقاوم هذه
الدولة العظمى بسلاحها الأعظم؟!، لقد حانت نهايته ، أيحسب جلاد بني الأصفر
كقتال العرب بعضهم بعضاً؟!، والله لكأنه وأصحابه غداً مقرنين في الحبال " .
وفي
تلك الأحوال المهولة ، تنزلت الآيات تهيب بالمؤمنين أن ينفروا في سبيل
الله ، حمايةً للثمرات التي قطفوها ودفعاً للمعتدين عن النيل من هذا الدين ،
وتخوفهم من عاقبة التقاعس والتثاقل ، وتتهددهم بالاستبدال إذا هم لم
ينفروا إلى قتال الأعداء {إِلاَّ
تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[سورة التوبة 39]، وتذكّر المتثاقلين عن الجهاد والمتخوفين من جيش الرومان
أن النصر لا يخضع لقانون الأرض ، بل هو من عند الله حصراً مهما كانت
الظروف ، ومهما اشتدت الوطأة ، لا يخضع لعددٍ ولا لعتاد ، وإنما يجري وفق
وعدٍ صادق {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}
[سورة الروم 47]، فتذكّر بالهجرة حيث نجّا القدير سبحانه سيدنا محمداً صلى
الله عليه وسلم وصاحبه من موتٍ مؤكّد ، وحقق له النصر المبين في أحلك
الظروف ، وردّ المطارِدين خائبين محسورين {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ} [سورة التوبة 40].
تدبّر
معي آيات الذكر الحكيم ، وانظر كيف يسمي الله سبحانه وتعالى الهجرة نصراً
وهي مطاردةٌ مفزعةٌ لرجلٍ واحدٍ ، ليس معه سوى صاحبه الصديق يؤنسه ويخدمه ،
وغايته هي الوصول إلى مكانٍ آمنٍ يستطيع فيه نشر الفضائل والعدل والحق
والخير .
لقد
تألبت عليه مكة كلها ، وعشرات الفرسان المدججون بالسلاح يبحثون في جنونٍ
موتورٍ؛ عن رجلين قد هصرهما الجوع والتعب؛ حتى اضطروهما إلى الاختباء في
الغار .
وفي منطق قوانين الأرض الخاضع للرؤية المحدودة من الصعب جداً أن يكون ثمة نصرٌ في هذه المطاردة الأليمة ، والمحاصرة الشديدة .
ولكن القرآن الكريم مع كل ما تقدم يسمي ذلك نصراًإشارةً إلى أنه من أكبر ألوان النصر
أن يرجع الأعداء دون أن يحققوا أهدافهم ، فلقد باؤوا بالفشل وأسقط في
أيديهم ولم يستطيعوا القبض على صاحب الرسالة بل واصل طريقه حتى بلغ غايته .
ولأنها كانت باليقين فاتحة الانتصارات من بعدها ، فقد بدأت مرحلةٌ جديدة حتى تحقق الفتح المبين وذاع ذكر الإسلام في العالمين .
ثم
انظر كيف يرسم القرآن الكريم المعركة بوضوحٍ بكل عناصرها ومقوماتها ،
ويبرز النصر المبين بشكلٍ يدفع إلى اليقين ، أجل إنها لمعركةٌ خطيرةٌ ، لو
لم يتحقق فيها النصر لتلاشت السعادة في هذا العالم ، وغاب العدل إلى قيام
الساعة .
لنتصور المعركة
جيشان متقابلان :
جيش الإيمان على قلته وتجرده ( ثاني اثنين ) ، وجيش الكفران على كثرته وتجبره ([b]الذين كفروا) .
هنا عددٌ وعتاد ، وهناك رجلان اثنان لا يحملان سوى قليلٍ من الزاد .
هنا
ساحةٌ وسيعةٌ تسمح بالمناورة والحركة السريعة ، وهناك بقعةٌ ضيقةٌ محصورةٌ
لا تصلح للكر ولا للفر ، بل تمنع حتى مجرد التقلّب والتحرك .
لقد توفرت كل أسباب النصر في هذه المعركة.
فهناك ظلمٌ واعتداء {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [سورة الحج 39].
وهنا الأخذ بالأسباب المادية المتاحة ، من حمل الطعام في النهار ، ونقل الأخبار ، وتعفير الآثار ، والمكث ثلاثة أيامٍ في الغار .
والأخذُ بالأسباب المعنوية " تقوية الروح المعنوية " {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ} {فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}.
واستمرار المدد {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ}.
وعنصر المباغتة {لَّمْ تَرَوْهَا}.
وإرادة الله نصر المؤمنين وإذلال الكافرين {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا}.
تأمل مرةً أخرى
إذ الأولى تنفي الاعتبار للكثرة العددية
وتؤكد على أن النصر هو نصر المدد لا نصر العدد ، نصر السماء لا نصر
الحلفاء ، فمن أراد الله أن ينصره لا يهزم ولو تألبت عليه كل قوى البغي في
العالم .
وإذ الثانية تنفي استراتيجية المكان
وصلاحيته للكر والفر ، وتؤكد أن النصر هو نصر العطية لا نصر الاستراتيجية ،
فالمكان ضيقٌ محصور ، ولو أن أحد الأعداء رفع قدمه لأبصر من في داخله ،
ومن في داخله أعزل بلا عتادٍ ، وبعيدٌ عن الأهل والعشيرة والأصحاب .
وإذ الثالثة تنفي فعل الأحياء والأشياء، وتؤكد فعل خالق الأرض والسماء .. تنفي نصر الإنسان وتؤكد نصر الإيمان .. تنفي نصر الاستعداد وتؤكد نصر الاستمداد .
لقد تحقق النصر في مواطن المعركة كلها ، وأعلن القرآن ذلك بوضوح بكلمة "إذ" ثلاث مرات .
1- فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا .
2- وقد نصره إذ هما في الغار ، فنبتت شجرة الراءة ، ونسجت العنكبوت ، وباض الحمام .
3- وقد نصره إذ يقول لصاحبه لا تحزن ، والأعداء مطبقون ، وسراقة يشتد في المطاردة .
وازدياداً من عبادة التدبر لنعد إلى الآيات مرةً أخرى {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ}
، ولو تخلى عنه الخلق والعبيد ، فالنصر هو نصر التأييد لا نصر العبيد ،
والتقاعس يضر أصحابه ولا يرد النصر ، والنصر قد يتأخر ولكنه لا يتغير {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة آل عمران 126].
{فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ}
نعم النصر صناعة الله ، لقد نصره بالنفر الستة من الخزرج لما أن وجههم
إليه ، ونصره عندما غادر وهو محاصر ، ونصره في الغار وهو محصور ، ونصره في
الطريق وهو ملاحق .
لقد نصره حياً وميتاً ، ونصره هذا باقٍ إلى يوم القيامة .
ولقد كان نصره بالضعف لا بالقوة ، بالخاطر اللطيف وبالحمام الضعيف والعنكبوت الأضعف والنبات الأشد ضعفاً .
{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} إن أصعب ما يلاقي الإنسان هو إخراجه من وطنه لأنه كالموت {وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ
مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [سورة النساء 66] .
أجل لقد تسببوا في خروجه [ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت] ، حيث منعوه من نشر دعوته وتبليغ رسالته ، كما منعوا الناس من الوصول إليه ، فصمم على الخروج حيث يمكنه تأدية رسالة السماء .
لقد كانت هجرته قراراً ولم تكن فراراً ، قرر أن يهاجر فقرروا قتله وليس العكس، وإلا لو كان القرار هو إخراجه وليس قتله لما خرجوا كالمجانين يطلبونه ، ولما جعلوا مائة ناقةٍ لمن يعيده حياً أو ميتاً .
وبعض
المرضى ممن يكتب التاريخ ويُخضعه للهوى ، يزعم أن المؤامرة على قتله كانت
سبباً في هجرته ، وهذا مخالفٌ للتاريخ والواقع ، لأن هجرته كانت سبباً في
مطاردته وإرادة قتله .
{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي ليس معه سوى رجلٍ واحدٍ ولكنه مع الله الواحد {إن الله معنا} .
{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}
حينما تشتد الأمور تؤذن بالانفراج ، وقبيل انبلاج الفجر يشتد الظلام ،
والنصر مع الصبر {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [سورة الشرح 6].
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ} حب القائد لأتباعه ومصاحبته لهم وملاطفته ومؤانسته من أسباب النجاح والنصر .
والصدّيق كان حزيناً ولم يكن خائفاً ، وحزنه على الناس أن لا يسعدوا بالرسالة فيخسروا هذا الكنز العظيم والرسول الكريم .
{إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} هذه علاجٌ ومنهاج ، إذ لا علاج للأحزان إلا أن يكون المرء في معية الرحمن ، ومنهاج المؤمنين هو في تحقيق السعادة في العالمين {إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}.
تلك هي وحدها المفتاح لكل ما استغلق ، والمخرج من كل مأزق .
{فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} الروح المعنوية ألوان ، أعلاها ما يتنزل من السماء ، يصنعها الإيمان وحب الشهادة ولقاء الأحبة محمداً وصحبه .
لقد نزلت السكينة في جميع الأحوال:
1- حينما نام عليٌ كرم الله وجهه وتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم آياتٍ من القرآن ، إذ من لم يسكن لا ينام .
2- حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين المدججين بالسلاح وهو يقرأ القرآن ، حيث تتنزل السكينة .
3- حينما لجأ إلى الغار ، والحمامة رمز السكينة .
4- في الطريق إلى المدينة وسراقة يطارد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ، وفي الجحفة ينزل قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [سورة القصص 85].
تدبر
{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}
النصر هو نصر الجنود التي لا ترى وليس نصر الجند التي تملأ الثرى ، وأقوى
أنواع السلاح وأعتاها في تحصيل الظفر في المعارك ما لا يراه الخصم
كالطائرات التي تحلق على ارتفاعاتٍ واسعة ، وكالأشعة ونحوها .
القرآن وحيٌ وسكينة لا يراه الناس ، والنوم سكينة وهو لا يُرى أيضاً ، والجنود ملائكةٌ وسكينة وهي لا تُرى .
لقد أيده الله بجنودٍ لم تروها:
1- من الملائكة تحرس علياً رضي الله عنه في البيت وسيدنا ومحمداً صلى الله عليه وسلم في خروجه وفي الغار وفي الطريق.
2- ومن الخواطر
حيث كان الإلهام أن يجعل علياً في فراشه وأن يمكث في الغار ، كما صرفت
الخواطر المحاصرين عن اقتحام البيت ، والمطاردين عن دخول الغار ، وسراقة عن
غايته إلى غايةٍ أخرى .
3- والنوم فأرسل الله النوم على عليٍ كرم الله وجهه فنام وتحقق الإيهام ، وعلى المجرمين فصرفهم عن النبي الأمين.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا} الجعل تغييرٌ وتبديل ، والتغيير مرتبطٌ بالتغير ، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد 11] .
كانت
كلمتهم في دار الندوة مدويةً عاليةً اتفقوا عليها ، فتلاشت وسقطت ، وصارت
السفلى ، كما أصبحت رؤوس المتربصين عند الدار مرغمةً بالتراب ، ساقطةً عند
الأقدام ، حيث تساقطوا والتراب الأسفل يعلو رؤوسهم العليا .
ثم
أصبح الغار وهو في الواقع أسفل أقدام المشركين ، لو نظر أحدهم أسفل قدميه
لرآنا ، لقد أصبح الغار كأنه هو الأعلى ، لقد تغير الوضع ، فغدا من فيه
يراقب وينظر من علُ .
وأخيراً وقع سراقة على الأرض إلى الأسفل ، وتمرغ رأسه بالتراب .
واستقبل أهل المدينة البدر المنير بهتافٍ سامٍ رفيع (( طلع البدر علينا )) .
{وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لا يغلبه شيءٌ ولا يفوته مقصد .
ومن
ابتغى العزة والنصرة من عند غير الله ذل وانهزم ، ومن طلب الحكمة من غير
مصدرها باء بالفشل ، تلك هي بعض الأضواء ، وشمس الهجرة أنوارها لا تنقطع ،
ولا يمكن أن نصحح المسيرة إلا بدراسةٍ رشيدةٍ للسيرة .
[/b]
بقلم فضيلة الشيخ عبد الهادي بدلة
بسم الله الرحمن الرحيم
إلا تنصروه فقد نصره الله
إلا تنصروه فقد نصره الله
سنةٌ
إسلاميةٌ هجريةٌ جديدة ، تطالعنا والكروب والحروب تلف العالم الإسلامي من
أقصاه إلى أقصاه .. الدماء تسيل بغزارة في كل مكان ، والأشلاء تتناثر هنا
وهناك ، تشرق علينا ذكرى الهجرة النبوية ، ونقف لنستلهم منها ما يضيء لنا
واقعنا الأليم ، ونقترئ من الدروس والعبر ما يحل مشاكلنا المستعصية ، حيث
أنوار الهجرة لا تنقطع ، ودروسها لا تنتهي .
وكما هو الحال في الماضي التليد ، تتنزل الآيات عند كل حدث ، تذكّر بالهجرة وتعيدها إلى الأذهان ، وتلقي أضواءً كاشفةً على ذلك الواقع .
ففي بدر بعد النصر
حيث الشدائد والاضطهاد والتعذيب ، تتنزل الآيات تذكّر بالهجرة وبما صنعه
الأعداء من آلامٍ وإيذاء ، وبما نسجوه من مؤامرةٍ خبيثةٍ للخلاص من صاحب
الرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لكيلا تأخذ المسلمين بالأعداء
شفقةٌ ولا رحمة ، وذلك حمايةً للحياة والأحياء مما يفعله المجرمون الظالمون
.
{وَاذْكُرُواْ
إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم
مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يِا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ
فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة الأنفال 26-30] .
وفي أُحُد حيث مرارة الهزيمة
يأتي الحديث عن الهجرة مبيناً أن هذا الدين ، الذي جاء بالسعادة للعالمين ،
لا يمكن أن يحمله ويحميه الضعاف المهازيل ، بل أولئك الذين يضحون ويخاطرون
، ويتركون الغالي والنفيس ، مهاجرين إلى الله ورسوله .
أما المتعلقون بالدنيا المؤثرون لها فليس باستطاعتهم حمل المبادئ ولا حماية الدين ، قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ
لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ
أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ
مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ
لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ
عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [سورة آل عمران 195].
وهكذا يأتي الحديث عن الهجرة في سورة النساء: {إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ
فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [سورة النساء 97]، وكذلك في سورة الأنفال {وَالَّذِينَ
آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ
آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم
مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
[سورة الأنفال 74]، وفي سورة البقرة والتوبة والنحل والحج والممتحنة
والتغابن والحشر يجيء الحديث عن الهجرة إبرازاً لدرسٍ يستفاد والتقاطاً
لعبرةٍ تكتسب .
والآيات التي نعيش أضواءها جاءت على ذات النسق الذي ألمعنا إليه {إِلاَّ
تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ
تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ}
[سورة التوبة 40]، فهي لم تنزل كما يتصور الكثيرون في وقت الهجرة ، وإن
كانت تتحدث عنها بصراحةٍ ووضوح ، وإنما نزلت بعد تسع سنين من الهجرة ، وذلك
إبان معركة تبوك ، آخر معركةٍ خاضها المسلمون ضد الرومان الذين اغتالوا
الدعاة المسالمين ، واعترضوا طريق الدعوة ، وخططوا للقضاء على صاحب الرسالة
.
هنا
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج في مواجهة الرومان ، والأيام
عصيبةٌ والظروف عسيرةٌ ، عسرةٌ في الماء ، وعسرةٌ في المال ، وعسرةٌ في
الظهر ، جعلت البعض يتثاقل إلى الأرض طلباً للراحة ، لاسيما والمعركة
خطيرةٌ جداً ، لأنها ستكون مع الدولة الأولى في العالم ، حيث انتصر الرومان
على الفرس أيامئذٍ ، وانفردوا بالسطوة والسلطان ، وأمسوا القطب الأوحد في
التحكم في العالم ، وأرجف المنافقون كعادتهم " كيف لمحمدٍ أن يقاوم هذه
الدولة العظمى بسلاحها الأعظم؟!، لقد حانت نهايته ، أيحسب جلاد بني الأصفر
كقتال العرب بعضهم بعضاً؟!، والله لكأنه وأصحابه غداً مقرنين في الحبال " .
وفي
تلك الأحوال المهولة ، تنزلت الآيات تهيب بالمؤمنين أن ينفروا في سبيل
الله ، حمايةً للثمرات التي قطفوها ودفعاً للمعتدين عن النيل من هذا الدين ،
وتخوفهم من عاقبة التقاعس والتثاقل ، وتتهددهم بالاستبدال إذا هم لم
ينفروا إلى قتال الأعداء {إِلاَّ
تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[سورة التوبة 39]، وتذكّر المتثاقلين عن الجهاد والمتخوفين من جيش الرومان
أن النصر لا يخضع لقانون الأرض ، بل هو من عند الله حصراً مهما كانت
الظروف ، ومهما اشتدت الوطأة ، لا يخضع لعددٍ ولا لعتاد ، وإنما يجري وفق
وعدٍ صادق {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}
[سورة الروم 47]، فتذكّر بالهجرة حيث نجّا القدير سبحانه سيدنا محمداً صلى
الله عليه وسلم وصاحبه من موتٍ مؤكّد ، وحقق له النصر المبين في أحلك
الظروف ، وردّ المطارِدين خائبين محسورين {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ} [سورة التوبة 40].
تدبّر
معي آيات الذكر الحكيم ، وانظر كيف يسمي الله سبحانه وتعالى الهجرة نصراً
وهي مطاردةٌ مفزعةٌ لرجلٍ واحدٍ ، ليس معه سوى صاحبه الصديق يؤنسه ويخدمه ،
وغايته هي الوصول إلى مكانٍ آمنٍ يستطيع فيه نشر الفضائل والعدل والحق
والخير .
لقد
تألبت عليه مكة كلها ، وعشرات الفرسان المدججون بالسلاح يبحثون في جنونٍ
موتورٍ؛ عن رجلين قد هصرهما الجوع والتعب؛ حتى اضطروهما إلى الاختباء في
الغار .
وفي منطق قوانين الأرض الخاضع للرؤية المحدودة من الصعب جداً أن يكون ثمة نصرٌ في هذه المطاردة الأليمة ، والمحاصرة الشديدة .
ولكن القرآن الكريم مع كل ما تقدم يسمي ذلك نصراًإشارةً إلى أنه من أكبر ألوان النصر
أن يرجع الأعداء دون أن يحققوا أهدافهم ، فلقد باؤوا بالفشل وأسقط في
أيديهم ولم يستطيعوا القبض على صاحب الرسالة بل واصل طريقه حتى بلغ غايته .
ولأنها كانت باليقين فاتحة الانتصارات من بعدها ، فقد بدأت مرحلةٌ جديدة حتى تحقق الفتح المبين وذاع ذكر الإسلام في العالمين .
ثم
انظر كيف يرسم القرآن الكريم المعركة بوضوحٍ بكل عناصرها ومقوماتها ،
ويبرز النصر المبين بشكلٍ يدفع إلى اليقين ، أجل إنها لمعركةٌ خطيرةٌ ، لو
لم يتحقق فيها النصر لتلاشت السعادة في هذا العالم ، وغاب العدل إلى قيام
الساعة .
لنتصور المعركة
جيشان متقابلان :
جيش الإيمان على قلته وتجرده ( ثاني اثنين ) ، وجيش الكفران على كثرته وتجبره ([b]الذين كفروا) .
هنا عددٌ وعتاد ، وهناك رجلان اثنان لا يحملان سوى قليلٍ من الزاد .
هنا
ساحةٌ وسيعةٌ تسمح بالمناورة والحركة السريعة ، وهناك بقعةٌ ضيقةٌ محصورةٌ
لا تصلح للكر ولا للفر ، بل تمنع حتى مجرد التقلّب والتحرك .
لقد توفرت كل أسباب النصر في هذه المعركة.
فهناك ظلمٌ واعتداء {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [سورة الحج 39].
وهنا الأخذ بالأسباب المادية المتاحة ، من حمل الطعام في النهار ، ونقل الأخبار ، وتعفير الآثار ، والمكث ثلاثة أيامٍ في الغار .
والأخذُ بالأسباب المعنوية " تقوية الروح المعنوية " {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ} {فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}.
واستمرار المدد {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ}.
وعنصر المباغتة {لَّمْ تَرَوْهَا}.
وإرادة الله نصر المؤمنين وإذلال الكافرين {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا}.
تأمل مرةً أخرى
إذ الأولى تنفي الاعتبار للكثرة العددية
وتؤكد على أن النصر هو نصر المدد لا نصر العدد ، نصر السماء لا نصر
الحلفاء ، فمن أراد الله أن ينصره لا يهزم ولو تألبت عليه كل قوى البغي في
العالم .
وإذ الثانية تنفي استراتيجية المكان
وصلاحيته للكر والفر ، وتؤكد أن النصر هو نصر العطية لا نصر الاستراتيجية ،
فالمكان ضيقٌ محصور ، ولو أن أحد الأعداء رفع قدمه لأبصر من في داخله ،
ومن في داخله أعزل بلا عتادٍ ، وبعيدٌ عن الأهل والعشيرة والأصحاب .
وإذ الثالثة تنفي فعل الأحياء والأشياء، وتؤكد فعل خالق الأرض والسماء .. تنفي نصر الإنسان وتؤكد نصر الإيمان .. تنفي نصر الاستعداد وتؤكد نصر الاستمداد .
لقد تحقق النصر في مواطن المعركة كلها ، وأعلن القرآن ذلك بوضوح بكلمة "إذ" ثلاث مرات .
1- فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا .
2- وقد نصره إذ هما في الغار ، فنبتت شجرة الراءة ، ونسجت العنكبوت ، وباض الحمام .
3- وقد نصره إذ يقول لصاحبه لا تحزن ، والأعداء مطبقون ، وسراقة يشتد في المطاردة .
وازدياداً من عبادة التدبر لنعد إلى الآيات مرةً أخرى {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ}
، ولو تخلى عنه الخلق والعبيد ، فالنصر هو نصر التأييد لا نصر العبيد ،
والتقاعس يضر أصحابه ولا يرد النصر ، والنصر قد يتأخر ولكنه لا يتغير {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة آل عمران 126].
{فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ}
نعم النصر صناعة الله ، لقد نصره بالنفر الستة من الخزرج لما أن وجههم
إليه ، ونصره عندما غادر وهو محاصر ، ونصره في الغار وهو محصور ، ونصره في
الطريق وهو ملاحق .
لقد نصره حياً وميتاً ، ونصره هذا باقٍ إلى يوم القيامة .
ولقد كان نصره بالضعف لا بالقوة ، بالخاطر اللطيف وبالحمام الضعيف والعنكبوت الأضعف والنبات الأشد ضعفاً .
{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} إن أصعب ما يلاقي الإنسان هو إخراجه من وطنه لأنه كالموت {وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ
مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [سورة النساء 66] .
أجل لقد تسببوا في خروجه [ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت] ، حيث منعوه من نشر دعوته وتبليغ رسالته ، كما منعوا الناس من الوصول إليه ، فصمم على الخروج حيث يمكنه تأدية رسالة السماء .
لقد كانت هجرته قراراً ولم تكن فراراً ، قرر أن يهاجر فقرروا قتله وليس العكس، وإلا لو كان القرار هو إخراجه وليس قتله لما خرجوا كالمجانين يطلبونه ، ولما جعلوا مائة ناقةٍ لمن يعيده حياً أو ميتاً .
وبعض
المرضى ممن يكتب التاريخ ويُخضعه للهوى ، يزعم أن المؤامرة على قتله كانت
سبباً في هجرته ، وهذا مخالفٌ للتاريخ والواقع ، لأن هجرته كانت سبباً في
مطاردته وإرادة قتله .
{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي ليس معه سوى رجلٍ واحدٍ ولكنه مع الله الواحد {إن الله معنا} .
{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}
حينما تشتد الأمور تؤذن بالانفراج ، وقبيل انبلاج الفجر يشتد الظلام ،
والنصر مع الصبر {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [سورة الشرح 6].
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ} حب القائد لأتباعه ومصاحبته لهم وملاطفته ومؤانسته من أسباب النجاح والنصر .
والصدّيق كان حزيناً ولم يكن خائفاً ، وحزنه على الناس أن لا يسعدوا بالرسالة فيخسروا هذا الكنز العظيم والرسول الكريم .
{إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} هذه علاجٌ ومنهاج ، إذ لا علاج للأحزان إلا أن يكون المرء في معية الرحمن ، ومنهاج المؤمنين هو في تحقيق السعادة في العالمين {إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}.
تلك هي وحدها المفتاح لكل ما استغلق ، والمخرج من كل مأزق .
{فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} الروح المعنوية ألوان ، أعلاها ما يتنزل من السماء ، يصنعها الإيمان وحب الشهادة ولقاء الأحبة محمداً وصحبه .
لقد نزلت السكينة في جميع الأحوال:
1- حينما نام عليٌ كرم الله وجهه وتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم آياتٍ من القرآن ، إذ من لم يسكن لا ينام .
2- حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين المدججين بالسلاح وهو يقرأ القرآن ، حيث تتنزل السكينة .
3- حينما لجأ إلى الغار ، والحمامة رمز السكينة .
4- في الطريق إلى المدينة وسراقة يطارد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ، وفي الجحفة ينزل قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [سورة القصص 85].
تدبر
{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}
النصر هو نصر الجنود التي لا ترى وليس نصر الجند التي تملأ الثرى ، وأقوى
أنواع السلاح وأعتاها في تحصيل الظفر في المعارك ما لا يراه الخصم
كالطائرات التي تحلق على ارتفاعاتٍ واسعة ، وكالأشعة ونحوها .
القرآن وحيٌ وسكينة لا يراه الناس ، والنوم سكينة وهو لا يُرى أيضاً ، والجنود ملائكةٌ وسكينة وهي لا تُرى .
لقد أيده الله بجنودٍ لم تروها:
1- من الملائكة تحرس علياً رضي الله عنه في البيت وسيدنا ومحمداً صلى الله عليه وسلم في خروجه وفي الغار وفي الطريق.
2- ومن الخواطر
حيث كان الإلهام أن يجعل علياً في فراشه وأن يمكث في الغار ، كما صرفت
الخواطر المحاصرين عن اقتحام البيت ، والمطاردين عن دخول الغار ، وسراقة عن
غايته إلى غايةٍ أخرى .
3- والنوم فأرسل الله النوم على عليٍ كرم الله وجهه فنام وتحقق الإيهام ، وعلى المجرمين فصرفهم عن النبي الأمين.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا} الجعل تغييرٌ وتبديل ، والتغيير مرتبطٌ بالتغير ، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد 11] .
كانت
كلمتهم في دار الندوة مدويةً عاليةً اتفقوا عليها ، فتلاشت وسقطت ، وصارت
السفلى ، كما أصبحت رؤوس المتربصين عند الدار مرغمةً بالتراب ، ساقطةً عند
الأقدام ، حيث تساقطوا والتراب الأسفل يعلو رؤوسهم العليا .
ثم
أصبح الغار وهو في الواقع أسفل أقدام المشركين ، لو نظر أحدهم أسفل قدميه
لرآنا ، لقد أصبح الغار كأنه هو الأعلى ، لقد تغير الوضع ، فغدا من فيه
يراقب وينظر من علُ .
وأخيراً وقع سراقة على الأرض إلى الأسفل ، وتمرغ رأسه بالتراب .
واستقبل أهل المدينة البدر المنير بهتافٍ سامٍ رفيع (( طلع البدر علينا )) .
{وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لا يغلبه شيءٌ ولا يفوته مقصد .
ومن
ابتغى العزة والنصرة من عند غير الله ذل وانهزم ، ومن طلب الحكمة من غير
مصدرها باء بالفشل ، تلك هي بعض الأضواء ، وشمس الهجرة أنوارها لا تنقطع ،
ولا يمكن أن نصحح المسيرة إلا بدراسةٍ رشيدةٍ للسيرة .
[/b]
بقلم فضيلة الشيخ عبد الهادي بدلة