السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
---
طُوبى للناصحين !
عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمهُ الله
-----
ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدين النصيحة". (ثلاثاً).
قالوا: لمن يا رسول الله ؟
قال: "لله،ولكتابه ورسوله،وأئمة المسلمين وعامتهم".
أخبر صلى الله عليه وسلم خبراً متضمناً للحث على النصيحة والترغيب فيها: أن الدين كله منحصر في النصيحة.
يعني: ومن قام بالنصيحة،فقد قام بالدين ، وفسره تفسيراً يزيل
الإشكال ، ويعم جميع الأحوال ؛ وأن موضوع النصيحة خمسة
أمور ، باستكمالها يكمل العبد.
أما النصيحة لله:
فهي القيام بحقه وعبوديته التامة.
وعبوديتُه
تعم ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان كلها،وأعمال القلوب والجوارح،وأقوال
اللسان من الفروض والنوافل،وفعل المقدور منها،ونية القيام بما يعجز عنه.
قال
تعالى في حق المعذورين: { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى
الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ }.[النور:61].
وذلك: { إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ }.[9: 91].
فاشترك في نفي الحرج عن هؤلاء أن يكونوا ناصحين لله ورسوله،وذلك بالنيات الصادقة،والقيام بالمقدور لهم.
ومن أعظم النصيحة لله: الذب
عن الدين ، وتفنيد شبه المطلين ، وشرح محاسن الدين الظاهرة والباطنة ؛
فإنَّ شرح محاسن الدين،وخصوصاً في هذه الأوقات التي طغت فيها الماديَّات ،
وجرفت بزخارفها وبهرجتها أكثر البشر ، وظنوا بعقولهم الفاسدة أنها هي
الغاية ، ومنتهى الحسن والكمال ، واستكبروا عن آيات الله وبيناته ودينه.
ولم
يخطر بقلوب أكثرهم أن محاسن الدين الإسلامي فاقت بكمالها وجمالها كل شيء ،
وأن محاسن غيرها ، إن فرض فيه محاسن ، فإنه يتلاشى ويضمحل ، إذا قيس بنور
الدين وعظمته وبهائه ، وأنه الطريق الوحيد إلى صلاح البشر وسعادتهم،ومُحالٌ
أن تحصل السعادة بدونه.
أما سعادة الدين فواضحة لكل أحد منصف. وأما سعادة الدنيا فإن الأمور المادية المحضة ، إذا خلت من روح الدين ، فإنها شقاء على أهلها ودمار. والمشاهدة أكبر شاهد على هذا ، فإن أمور المادة قد
ارتقت في هذه الأوقات ارتقاء هائلاً ، يعجز الفصيح عن التعبير عنه ، ومع
ذلك فهل عاش هؤلاء مع أنفسهم ومع غيرهم ومع بقية الأمم عيشة سعيدة هنيئة طيبة ؟ أم الأمر بالعكس ؟
وما يخرجون من طامة ، إلا تلقتهم طامة أخرى أكبر منها! ولا خلصوا من كوارث وعذاب ، إلا دخلوا في عذاب أفظع منه!
ولا -والله- ينجيهم من هذا غير الدِّين الصحيح ، وسيعلمون ويعلم غيرهم عواقبهم الوخيمة.
وأما النصيحة لكتاب الله:
فهي
الإقبال بالكلية على تلاوته وتدبُّره ، وتعلم معانيه وتعليمها ، والتخلق
بأخلاقه وآدابه،والعمل بأحكامه،واجتناب نواهيه،والدعوة إلى ذلك.
وأما النصيحة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم:
فهي
الإيمان الكامل به ، وتعظيمه ، وتوقيره ، وتقديم محبته واتباعه على الخلق
كلهم. وتحقيق ذلك وتصديقه باتباعه ظاهرا وباطنا في العقائد والأخلاق
والأعمال،قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ}. [آل عمران:31].
والحرص
على تعلم سنته وتعليمها ، واستخراج معانيها وفوائدها الجليلة ، وهي شقيقة
الكتاب . قال الله تعالى: { شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ}. [النساء: 113].
وجملة ما تقدم أن النصيحة لله ورسوله ، هي الإيمان بالله ورسوله ، وطاعة الله ورسوله. وهذا يعم كل ما تقدم.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين:
وهم ولاتهم- من السلطان الأعظم إلى الأمير ، إلى القاضي ، إلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة-.
فهؤلاء
لما كانت مهماته وواجباتهم أعظم من غيرهم ، وجب لهم من النصيحة بحسب
مراتبهم ومقاماتهم ، وذلك باعتقاد إمامتهم ، والاعتراف بولايتهم ، ووجوب
طاعتهم بالمعروف ، وعدم الخروج عليهم،وحث الرعية على طاعتهم،ولزوم أمرهم
الذي لا يخالف أمر الله ورسوله ، وبذل ما يستطيع الإنسان من نصيحتهم ،
وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم ، كل أحد بحسب حاله ،
والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق ، فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم ، واجتناب سبهم
والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم ، فإنَّ في ذلك شرًّا وضرراً وفساداً كبيراً.
فمن نصيحتهم: الحذر
والتحذير من ذلك ، وعلى من رأى منهم ما لا يحل ، أن ينبههم سراً ، لا
علناً ، بلطف،وعبارة تليق بالمقام ، ويحصل بها المقصود ، فإنَّ هذا مطلوب
في حقِّ كلِّ أحد ، وبالأخص وُلاة الأمور ، فإنَّ تنبيههم على هذا الوجه
فيه خير كثير ، وذلك علامة الصدق والإخلاص.
واحذر-أيها الناصح لهم ، على هذا الوجه المحمود- أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس ، فتقول لهم: إني نصحتهم وقلتُ و قلتُ: فإنَّ هذا من الرياء ، وعلامة ضعف الإخلاص ، وفيه أضرار أخر معروفة.
وأما النصيحة لعامة المسلمين:
فقد وضحها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وذلك
بمحبة الخير لهم ، والسعي في إيصاله إليهم ، بحسب الإمكان ، وكراهة الشر
والمكروه لهم ، والسعي في دفع ذلك ودفع أسبابه ، وتعليم جاهلهم ، ووعظ
غافلهم ، ونصحهم في أمور دينهم ودنياهم ، وكل ما تحب أن يفعلوه معك من
الإحسان فافعله معهم ، ومعاونتهم على البر والتقوى ، ومساعدتهم على كل ما
يحتاجون.
فمن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته.
والله في عون العبد ، ما كان العبد في عون أخيه المسلم.
وهذه الأمور كلها بحسب القدرة ، قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. [التغابن:16].
فعلمت
مما تقدم أن الأمر كما ذكره صلى الله عليه وسلم: أنَّ النصيحة تشمل الدين
كله: أصوله وفروعه ، حقوق الله وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحقوق
الخلق كلهم ، أهل الحقوق العامة والخاصة.
فمن قام بالنصيحة على هذا الوجه ، فقد قام بالدين . ومن أخلَّ بشيء مما تقدم فقد ضيع من دينه بقدر ما ترك.
فأين النصيحة ممن تهاون بحقوق ربه فضيعها ، وعلى محارمه فتجرأ عليها؟
وأين النصيحة ممن قدم قول غير الرسول على قوله ، وآثر طاعة المخلوق على طاعة الله ورسوله؟
وأين النصيحة من أهل الخيانات والغش في المعاملات؟
وأين النصيحة ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وممن يتبعون عورات المسلمين وعثراتهم ؟
وأين النصيحة ممن يسعى في تفريق المسلمين ، وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم؟
وأين النصيحة ممن يتعلقون عند اللقاء بالمدح والثناء ، ويقولون خلاف ذلك في الغيبة عند الأعداء وعند الأصدقاء؟
وأين النصيحة ممن لا يحترم أعراض المسلمين ، ولا يرقب فيهم إلاًّ ولا ذمة؟
وأين النصيحة من المتكبرين على الحق ، والمتكبرين على الخلق ، المعجبين بأنفسهم ، المحتقرين لغيرهم؟
فهؤلاء
كلهم عن النصيحة بمعزل ، ومنزلهم فيها أبعد منزل . وكل هؤلاء قد اختل
إيمانهم،واستقوا العقوبات المتنوعة ، وحُرِموا من الخير الذي رتب على النصح
، حرموا من الأخلاق الفاضلة ، وابتلوا بالأخلاق السافلة.
أولئك هم الخاسرون.
طُوبى للناصحين !
حقيقة ما أعظم توفيقهم ، وما أهدى طريقهم !.
لا
تجد الناصح إلا مشتغلاً بفرض يؤديه ، وفي جهاد نفسه عن محارم ربه و نواهيه
، وفي دعوة غيره إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وفي التخلق
بالأخلاق الجميلة والآداب المستحسنة !.
إن رأى من أخيه خيراً أذاعه ونشره ، وإن اطلع منه على عيب كتمه وستره !
إن
عاملته وجدته ناصحاً صدوقاً ، وإن صاحبته رأيته قائماً بحقوق الصحبة على
التمام ، مأموناً في السر والعلانية ، مباركاً على الجليس كحامل المسك: إما
أن يحذيك،أو تجد منه رائحة طيبة.
إذا
وجدت الناصح فاغتنم صحبته ، وإذا تشابهت عليك المسالك فاستعن بمشاورته.
جاهد نفسك على التخلق بخلق النصح ، تجد حلاوة الإيمان ، وتكن من أولياء
الرحمن ، أهل البر والإحسان . لو اطلعت على ضمير الناصح ، لوجدته ممتلئاً
نوراً وأمنا ، ورحمة وشفقة. ولو شاهدتَ أفكاره ، لرأيتها تدور حول مصالح
المسلمين ، مجملة ومفصلة. ولو تأملتَ أعمالَه وأقوالَه ، لرأتَها كلها
صريحة متفقة.
أولئك السادة الأخيار ، وأولئك الصفوة الأبرار.
لقد نالوا الخير الكثير ، بالنيات الصالحة والعمل اليسير ! .
المصدر:
الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في الحدائق والفنون المتنوعة الفاخرة للسعدي. [الفصل الثامن].
موقع صيد الفوائد
بسم الله الرحمن الرحيم
---
طُوبى للناصحين !
عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمهُ الله
-----
ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدين النصيحة". (ثلاثاً).
قالوا: لمن يا رسول الله ؟
قال: "لله،ولكتابه ورسوله،وأئمة المسلمين وعامتهم".
أخبر صلى الله عليه وسلم خبراً متضمناً للحث على النصيحة والترغيب فيها: أن الدين كله منحصر في النصيحة.
يعني: ومن قام بالنصيحة،فقد قام بالدين ، وفسره تفسيراً يزيل
الإشكال ، ويعم جميع الأحوال ؛ وأن موضوع النصيحة خمسة
أمور ، باستكمالها يكمل العبد.
أما النصيحة لله:
فهي القيام بحقه وعبوديته التامة.
وعبوديتُه
تعم ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان كلها،وأعمال القلوب والجوارح،وأقوال
اللسان من الفروض والنوافل،وفعل المقدور منها،ونية القيام بما يعجز عنه.
قال
تعالى في حق المعذورين: { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى
الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ }.[النور:61].
وذلك: { إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ }.[9: 91].
فاشترك في نفي الحرج عن هؤلاء أن يكونوا ناصحين لله ورسوله،وذلك بالنيات الصادقة،والقيام بالمقدور لهم.
ومن أعظم النصيحة لله: الذب
عن الدين ، وتفنيد شبه المطلين ، وشرح محاسن الدين الظاهرة والباطنة ؛
فإنَّ شرح محاسن الدين،وخصوصاً في هذه الأوقات التي طغت فيها الماديَّات ،
وجرفت بزخارفها وبهرجتها أكثر البشر ، وظنوا بعقولهم الفاسدة أنها هي
الغاية ، ومنتهى الحسن والكمال ، واستكبروا عن آيات الله وبيناته ودينه.
ولم
يخطر بقلوب أكثرهم أن محاسن الدين الإسلامي فاقت بكمالها وجمالها كل شيء ،
وأن محاسن غيرها ، إن فرض فيه محاسن ، فإنه يتلاشى ويضمحل ، إذا قيس بنور
الدين وعظمته وبهائه ، وأنه الطريق الوحيد إلى صلاح البشر وسعادتهم،ومُحالٌ
أن تحصل السعادة بدونه.
أما سعادة الدين فواضحة لكل أحد منصف. وأما سعادة الدنيا فإن الأمور المادية المحضة ، إذا خلت من روح الدين ، فإنها شقاء على أهلها ودمار. والمشاهدة أكبر شاهد على هذا ، فإن أمور المادة قد
ارتقت في هذه الأوقات ارتقاء هائلاً ، يعجز الفصيح عن التعبير عنه ، ومع
ذلك فهل عاش هؤلاء مع أنفسهم ومع غيرهم ومع بقية الأمم عيشة سعيدة هنيئة طيبة ؟ أم الأمر بالعكس ؟
وما يخرجون من طامة ، إلا تلقتهم طامة أخرى أكبر منها! ولا خلصوا من كوارث وعذاب ، إلا دخلوا في عذاب أفظع منه!
ولا -والله- ينجيهم من هذا غير الدِّين الصحيح ، وسيعلمون ويعلم غيرهم عواقبهم الوخيمة.
وأما النصيحة لكتاب الله:
فهي
الإقبال بالكلية على تلاوته وتدبُّره ، وتعلم معانيه وتعليمها ، والتخلق
بأخلاقه وآدابه،والعمل بأحكامه،واجتناب نواهيه،والدعوة إلى ذلك.
وأما النصيحة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم:
فهي
الإيمان الكامل به ، وتعظيمه ، وتوقيره ، وتقديم محبته واتباعه على الخلق
كلهم. وتحقيق ذلك وتصديقه باتباعه ظاهرا وباطنا في العقائد والأخلاق
والأعمال،قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ}. [آل عمران:31].
والحرص
على تعلم سنته وتعليمها ، واستخراج معانيها وفوائدها الجليلة ، وهي شقيقة
الكتاب . قال الله تعالى: { شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ}. [النساء: 113].
وجملة ما تقدم أن النصيحة لله ورسوله ، هي الإيمان بالله ورسوله ، وطاعة الله ورسوله. وهذا يعم كل ما تقدم.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين:
وهم ولاتهم- من السلطان الأعظم إلى الأمير ، إلى القاضي ، إلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة-.
فهؤلاء
لما كانت مهماته وواجباتهم أعظم من غيرهم ، وجب لهم من النصيحة بحسب
مراتبهم ومقاماتهم ، وذلك باعتقاد إمامتهم ، والاعتراف بولايتهم ، ووجوب
طاعتهم بالمعروف ، وعدم الخروج عليهم،وحث الرعية على طاعتهم،ولزوم أمرهم
الذي لا يخالف أمر الله ورسوله ، وبذل ما يستطيع الإنسان من نصيحتهم ،
وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم ، كل أحد بحسب حاله ،
والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق ، فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم ، واجتناب سبهم
والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم ، فإنَّ في ذلك شرًّا وضرراً وفساداً كبيراً.
فمن نصيحتهم: الحذر
والتحذير من ذلك ، وعلى من رأى منهم ما لا يحل ، أن ينبههم سراً ، لا
علناً ، بلطف،وعبارة تليق بالمقام ، ويحصل بها المقصود ، فإنَّ هذا مطلوب
في حقِّ كلِّ أحد ، وبالأخص وُلاة الأمور ، فإنَّ تنبيههم على هذا الوجه
فيه خير كثير ، وذلك علامة الصدق والإخلاص.
واحذر-أيها الناصح لهم ، على هذا الوجه المحمود- أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس ، فتقول لهم: إني نصحتهم وقلتُ و قلتُ: فإنَّ هذا من الرياء ، وعلامة ضعف الإخلاص ، وفيه أضرار أخر معروفة.
وأما النصيحة لعامة المسلمين:
فقد وضحها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وذلك
بمحبة الخير لهم ، والسعي في إيصاله إليهم ، بحسب الإمكان ، وكراهة الشر
والمكروه لهم ، والسعي في دفع ذلك ودفع أسبابه ، وتعليم جاهلهم ، ووعظ
غافلهم ، ونصحهم في أمور دينهم ودنياهم ، وكل ما تحب أن يفعلوه معك من
الإحسان فافعله معهم ، ومعاونتهم على البر والتقوى ، ومساعدتهم على كل ما
يحتاجون.
فمن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته.
والله في عون العبد ، ما كان العبد في عون أخيه المسلم.
وهذه الأمور كلها بحسب القدرة ، قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. [التغابن:16].
فعلمت
مما تقدم أن الأمر كما ذكره صلى الله عليه وسلم: أنَّ النصيحة تشمل الدين
كله: أصوله وفروعه ، حقوق الله وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحقوق
الخلق كلهم ، أهل الحقوق العامة والخاصة.
فمن قام بالنصيحة على هذا الوجه ، فقد قام بالدين . ومن أخلَّ بشيء مما تقدم فقد ضيع من دينه بقدر ما ترك.
فأين النصيحة ممن تهاون بحقوق ربه فضيعها ، وعلى محارمه فتجرأ عليها؟
وأين النصيحة ممن قدم قول غير الرسول على قوله ، وآثر طاعة المخلوق على طاعة الله ورسوله؟
وأين النصيحة من أهل الخيانات والغش في المعاملات؟
وأين النصيحة ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وممن يتبعون عورات المسلمين وعثراتهم ؟
وأين النصيحة ممن يسعى في تفريق المسلمين ، وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم؟
وأين النصيحة ممن يتعلقون عند اللقاء بالمدح والثناء ، ويقولون خلاف ذلك في الغيبة عند الأعداء وعند الأصدقاء؟
وأين النصيحة ممن لا يحترم أعراض المسلمين ، ولا يرقب فيهم إلاًّ ولا ذمة؟
وأين النصيحة من المتكبرين على الحق ، والمتكبرين على الخلق ، المعجبين بأنفسهم ، المحتقرين لغيرهم؟
فهؤلاء
كلهم عن النصيحة بمعزل ، ومنزلهم فيها أبعد منزل . وكل هؤلاء قد اختل
إيمانهم،واستقوا العقوبات المتنوعة ، وحُرِموا من الخير الذي رتب على النصح
، حرموا من الأخلاق الفاضلة ، وابتلوا بالأخلاق السافلة.
أولئك هم الخاسرون.
طُوبى للناصحين !
حقيقة ما أعظم توفيقهم ، وما أهدى طريقهم !.
لا
تجد الناصح إلا مشتغلاً بفرض يؤديه ، وفي جهاد نفسه عن محارم ربه و نواهيه
، وفي دعوة غيره إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وفي التخلق
بالأخلاق الجميلة والآداب المستحسنة !.
إن رأى من أخيه خيراً أذاعه ونشره ، وإن اطلع منه على عيب كتمه وستره !
إن
عاملته وجدته ناصحاً صدوقاً ، وإن صاحبته رأيته قائماً بحقوق الصحبة على
التمام ، مأموناً في السر والعلانية ، مباركاً على الجليس كحامل المسك: إما
أن يحذيك،أو تجد منه رائحة طيبة.
إذا
وجدت الناصح فاغتنم صحبته ، وإذا تشابهت عليك المسالك فاستعن بمشاورته.
جاهد نفسك على التخلق بخلق النصح ، تجد حلاوة الإيمان ، وتكن من أولياء
الرحمن ، أهل البر والإحسان . لو اطلعت على ضمير الناصح ، لوجدته ممتلئاً
نوراً وأمنا ، ورحمة وشفقة. ولو شاهدتَ أفكاره ، لرأيتها تدور حول مصالح
المسلمين ، مجملة ومفصلة. ولو تأملتَ أعمالَه وأقوالَه ، لرأتَها كلها
صريحة متفقة.
أولئك السادة الأخيار ، وأولئك الصفوة الأبرار.
لقد نالوا الخير الكثير ، بالنيات الصالحة والعمل اليسير ! .
المصدر:
الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في الحدائق والفنون المتنوعة الفاخرة للسعدي. [الفصل الثامن].
موقع صيد الفوائد