رسالة إلى كل من يعمل للإسلام
استعذاب طريق الحق
.
إن طريق الحق - رغم وعورته وصعوبته - إلا أن المؤمن يستعذب هذا الطريق ويحبه، ويجد للسير فيه حلاوة تجل عن الوصف! إذ لا يعرفها إلا من ذاقها، ومهما وصفت لكم هذه الحلاوة والسعادة، فلن أوفِّيها حقها في الوصف - أسأل الله أن يرزقنيها وإياكم والمسلمين أجمعين -
وهذه الحلاوة تُهوِّن عليه كل صعب، وتُيَسِّر عليه كل عسير، وتذلل أمامه كل عقبة، وتجعله راضياً عن مولاه وخالقه حتى وهو يمر بأحلك ساعاته وأشد أيامه.
ألم تر إلى الصحابي الجليل حرام بن ملحان حينما طعن غدراً بالحربة، فلما أنْفِذَتِ الحربةُ ورأى الدم قال: (فزت ورب الكعبة).
وكذلك الصحابي الجليل عثمان بن مظعون الذي فقئت عينه في سبيل الله بعد أن رد جوار المشرك الذي كان في جواره، ورضي بجوار الله، فقال له الوليد بن المغيرة: (أما والله يا ابن أخي! إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة)، فقال له عثمان: (بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك).
بل ألم تسمع إلى قولة خالد بن الوليد التي يقول فيها: (ما من ليلة يهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام، أحب إليَّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد، في سرية أصَبِّح فيها العدو).
بل إن صلاح الدين الأيوبي - من فرط حبه للجهاد، واستعذابه الموت والجراحة والتعب في سبيل الله - كره حياة القصور والترف، وأحب حياة الخيام والصحراء، حتى قال عنه المؤرخون: "إنه ما عاد له حديثُ إلا عن الجهاد والمجاهدين، ولا نظرٌ إلا في آلته، ورضي أن يعيش في خيمة في الصحراء".
وهذا عمير بن الحمام رضي الله عنه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر؛ أن الله أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله، فقام قائلاً: (يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟!)، قال: (نعم)، قال: (بخٍ، بخٍ)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قولك "بخٍ بخٍ")؟! قال: (لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها)، قال: (فإنك من أهلها)، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: (إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة)، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل.
إنه استعذب الطريق وشعر بحلاوته، فاستبطأ هذه الدقائق التي كان سيأكل فيها عدة تمرات، واستبطأ تلك اللحظات التي ستؤخره عن الجنة، وكأنها دهر.
وهذا خبيب بن عدي يقول عند قتله:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
وهذا عمير بن أبي وقاص - شقيق سعد بن أبي وقاص الصغير، الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره - يوم بدر، يذهب إلى حيث المعركة ويختبئ من الرسول صلى الله عليه وسلم خشية أن يَرُدَّه، فلما علم الرسول الكريم، رغبته وإصراره على القتال أجازه، وقاتل وقتل في سبيل الله.
وهذا الصحابي عبد الله بن جحش ينتحي جنباً مع سعد بن أبي وقاص قبل غزوة أحد، واتفقا على أن يدعو كل واحد منهما دعاءً ويؤمن الآخر، فكان دعاء عبد الله بن جحش: (اللهم ارزقني رجلاً شديداً حَرْده شديداً بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذنيَّ، فإذا لقيتك غداً قلتَ: يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت).
ما أعظم هذا الدعاء وما أروعه! إنها نفوس باعت كل شيء لربها وتحول المُرُّ عندها حلواً، إنه لا يصدر إلا من رجل استعذب الطريق وذاق حلاوته، فلا يهمه شيء سوى مرضاة ربه، ولا يهمه سوى أن يلقى الله وهو طائع له مقتول في سبيله، إن هؤلاء وأمثالهم جديرون حقاً بتمكين الله لهم ونصر الله لهم واصطفائه لهم سبحانه.
وقد تحقق لعبد الله بن جحش ما أراد؛ فمات شهيداً في أحد وجدع المشركون أنفه - ولعل البعض لا يعرف أن الصحابي الجليل عبد الله بن جحش من أعظم بيوتات قريش، وهو ابن عمة الرسول -
إنهم قوم أحسوا أن سعادتهم لا تكون إلا في سيرهم في هذا الطريق، ولو مزقوا إرباً، ولو حاربوا الأبيض والأسود، ولو رماهم الناس جميعاً عن قوس واحدة، وإن فارقوا أوطانهم وأهليهم.
ولعلك تستشعر ذلك في تلك الرغبة الجارفة في الشهادة في سبيل الله التي كانت تملأ نفس سعد بن معاذ، فقد قال سعد بعد أن حكم في بني قريظة - وكان وقتها جريحاً من غزوة الخندق - قال: (اللهم إنك تعلم أنه ليس أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك، من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت قد وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها، فانفجرت من لُبَّتِه)، فلم يرع الناس وهم في المسجد إلا الدم يسيل من خيمة سعد - وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وضعه في خيمة يعالج فيها في المسجد - فقال الناس: (يا أهل الخيمة! ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟!)، فإذا سعد ينزف دماً، فمات منها.
وهذا المنذر بن عمير كان يسمى بين الصحابة "المُعنِقَ للموت" - أي المسرع للشهادة في سبيل الله والمبادر إليها - وقد لقب بذلك لأنه أسرع للشهادة، وقتل شهيداً في بئر معونة.
وهذا خالد رحمه الله حينما أُخِذَ للقتل كان سعيداً ومبتهجاً أيما ابتهاج، ولما رأى الحزن على وجه أحد إخوانه - وهو يسلم عليهم مودعاً - قال له خالد: (لا تحزن، إني ذاهب إلى ربي).
وهذا أخ كريم بعد أن أصيبت يده اليمنى في القتال إصابة بالغة - قطعت كفه اليمنى تماماً - أخذ يردد وهو بين الحياة والموت: {وعجلت إليك ربِّ لترضى}.
وهذا أخ كريم آخر يبكي بكاءً شديداً لما رُدَّ عن الجهاد - لنحول جسمه وضعف بنيته - إذ إنه كان يُمَنِّي نفسه أن يرزقه الله الشهادة، ولما علم قائده ببكائه، قال: (هذا الذي أريده، وضمَّه إلى جنده)، وحينما أخذه الأعداء للقتل - بعد أسره - أخذ يدعو دعاءً كثيراً وطويلاً عليهم، وكان يردد مراراً وتكراراً وقتها بصوت عال جداً: (قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار).
وقد رأيت بنفسي أفاضل الأخوة - والذين يعدون قادة للرشاد وأئمة للهدى - رأيتهم وهم ينامون على الأرض، أو على بطانية واحدة، ولا يملكون من حطام الدنيا شيئاً من طعام أو شراب أو ملبس سوى ما يستر عوراتهم، وبعضهم يتوسد يده بالليل أو حذاءه، أو يتوسد الطبق الذي يأكل فيه نهاراً، أو يتوسد قالباً من الطوب، وهم مع ذلك في سعادة غامرة لطاعتهم ربَّهم وما وفقهم إليه من الثبات على الحق والعبادة والطاعة، وما فتح عليهم من المعرفة الحقة بالله وأسمائه وصفاته، وهم في سعادتهم تلك كأنما حيزت إليهم الدنيا بما عليها، وتشعر وكأنهم يرددون قول القائل: "نحن في نعمة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"، لا يهمهم من أمر الدنيا شيء، ولا يشغلهم إلا هَمُّ العمل للإسلام وتمكينه في الأرض، فتهتف قلوبهم: "في سبيل الله ما أحلى المنون".
وهؤلاء الذين ذكرناهم، استعذبوا الطريق ووجدوا له حلاوة أذهبت ألم الطريق ووعورته وصعوبته وعذابه، بل حولت، العذاب عذباً، والمر حلواً، والصعب سهلاً، والغالي رخيصاً، فرضاهم في رضا مولاهم الحق، ومحبتهم للشيء هي من محبته سبحانه له، فهم يسارعون إلى ما يحبه ربهم ويرضاه، وإن كان في ذلك فقدُ الدنيا بأسرها.
إن كان رضاكم في سهري
فسلام الله على وسني
وبعد...
فهذه درجة عظيمة، من وفقه الله إليها فقد وُفِّقَ إلى خير عظيم، وأسأل الله أن يجعلنا من أهلها، إنه سميع مجيب.
-----------------------------
منقول