سيرة هذا الإمام الفذ يصعب حصرها بل يتعذر الإتيان عليها ، وفيما يلي ذكر بعض تلك الجوانب :
الصبر: فللإمام رحمه الله قدح معلى، ونصيب أو في من تلك الخصلة الكريمة.
وجوانب الصبر فيه كثيرة جدا ، فالشيخ صبور على التعليم والتعلم حتى بعد أن
كبر وأصبح مرجع المسلمين الأول ، فلا تراه إلا مكبا على العلم متزودا من
الفائدة سواء من بين طلابه أو في سيارته وهو في طريقه إلى العمل ونحو ذلك ،
والشيخ صبور في تصديقه للناس وحله لمشكلاتهم وإجابته عن أسئلتهم وسعيه في
الإصلاح بينهم ، وحرصه على الشفاعة لهم حتى إن الزائر للشيخ قد يصيبه الضجر
والملل من جراء مضايقة الناس له وكثرة إلحاحهم عليه وسوء الأدب الذي يصدر
من بعض الناس أحيانا تجاه الشيخ ، والشيخ لا يفارقه الهدوء ولا السكينة بل
يستقبلهم بوجه طلق ونفس راضية وسكينة عجيبة .
والشيخ صبور بل محب لمن يقصده بالزيارة حتى إن الزائر ليستحي من تكرار
الزيارة، خشية من إحراج الشيخ أو إضاعة وقته، ولكن الشيخ يفرح بذلك أيما
فرح ويذكر زائريه بفضل الزيارة والمحبة في الدين.
والشيخ صبور على الألم والمرض فربما بلغ به الألم مبلغه ومع ذلك لا يلاحظ
عليه تكدر أو تغير مع أن المرض – كما هو معلوم – تتغير به الطباع فلا تبقى
الأخلاق على اعتدال ولا يقدر معه على احتمال ، ولسان حال الشيخ يقول:
لست ممن يفقد الأنس إما *** أصبح الروض كئيبا أغبرا
لزوم الاعتدال : فالاعتدال سمة ملحوظة في سيرة الشيخ وذلك في شتى الأمور :
في أحكامه ، وفتاويه ، وتعامله ، بل في تبسمه وضحكه ، فلا هو بالكز الغليظ
ولا هو بالمسرف بالضحك من القهقهة ، بل هو معتدل في مأكله ومشربه ، فلا
يمتنع من طعام ولا يكثر من الأكل والشرب منطلقا بذلك من قوله تعالى :"
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " ، ولهذا متعه الله بالصحة والعافية ، عدا ما
يعرض له من الأمراض العارضة ، وعدا ما أصابه قبيل وفاته .
أما غير ذلك فإن الشيخ قد سلم من كثير من الأمراض التي تعتري أكثر الناس
خصوصا ممن هم في سنة أو في مكانته ممن يتصدون للناس فالشيخ لم يصب بالضغط
ولا بالسكر ولا بغيرها من تلك الأمراض.
الأدب الجم : فالشيخ لا يؤذي أحدا بكلمة ولا يجرح مشاعر الآخرين بأذية ،
وحتى إن المخالفين له ليكبرون فيه هذه الخصلة ،فتراه لا يزيد على من يميل
عن الحق ولا يخرج عن طروه إذا أراد الرد على أحد ، بل تراه ينبه المخطئ
بألطف عبارة وأحسن إشارة ، ربما استدعى المخالف أو اتصل به فيدنيه وينصح له
ويأخذ بيده ويشير عليه فلا يكاد المخالف بعد ذلك أن يخرج عن إشارة الشيخ
ورأيه وإذا لج المخالف في الخصومة ومشى في غلوائه بعد استبانه الحق له وخشي
الشيخ أن يصل الناس بسبب ذلك – أخذ بالتي هي أرضى لله – ورد على المخالف
بما يناسب حاله ومقامة .
قيامه بصغار الأمور وكبارها : فذلك من أسرار عظمته وتميزه ففي الوقت الذي
قوم فيه بحلائل الأعمال ، من مراسلات لكبار المسؤولين ومناصحة لرؤساء الدول
، واستقبال للوفود من أعلى المستويات وقيام بالدروس والفتوى والرد على
الأسئلة المتتابعة وترؤس الاجتماعات ، سواء في الرابطة أو في هيئة كبار
العلماء أو غيرها – تجده لا يهمل دقائق الأمور وصغارها بحجة اشتغاله بما هو
أهم ، بل تراه يعطي كل ذي حق حقه ، فتراه يمازح الصغار ويداعب قائد سيارته
والعاملين معه ويسألهم عن أحوالهم وأحوال ذويهم بل تراه لا يغفل عن الثناء
على الوجبات التي يعملها طباخ المنزل ، وهكذا حاله مع الناس .
ولم يكن أحد يلهيه عن أحد *** كأنه والد والناس أطفال
وهذا سر من أسرار عظمته وحلوله في سواد العين وسواد القلب عن الخاصة والعامة، فكل له كيانه الخاص وكل له شأنه عند نفسه.
إقبال على المتحدث: حتى إنه ليخيل إليك والشيخ يحدثك أنه لا يعرف غيرك وليس لديه قضية إلا قضيتك.
لا يحمل أحد ذنب أحد : فلا تحمل مشكلات العمل للمنزل أو للزائرين فإذا جلس
إلى أحد ظن أن الشيخ خلي من الهموم ، وهذا من أعظم ما يعني على القيام
بمسؤولياته بخلاف الكثير من الناس ممن إذا كدر عليهم فكدر نال الغضب كل من
حولهم وكل من يتصل بهم .
سلامة الصدر : فلا يعرف الحقد طريقه إلى قلب الشيخ بل قلبه مفعم بالحب
والرحمة والرغبة في إسداء الخير للآخرين فالشيخ يصل من قطعه ويعطي من حرمه
ويعفوا عمن ظلمه ويحسن إلى من أساء إليه ، وهذا أمر يعرفه القاصي والداني .
الثقة والسرعة في إنجاز الأعمال : فإذا حضرت مجلس الشيخ سواء في " الرياض "
أو الطائف أو مكة في أوقات الحج أو غير ذلك رأيت الجمع الغفير من الناس
ممن قدموا للسلام على الشيخ أو من ذوي الحاجات والمشكلات أو ممن وقع منهم
الطلاق أو ممن يريدون الفتوى فيضيق المجلس بهم ، ويتقدمون إلى الشيخ ما
يريدون ويكون في أغلب الأحيان اثنان من كتاب الشيخ أحدهما عن يمينه والآخر
عن شماله وكل واحد منهما قد ملأ جعبته من الأسئلة والمعاملات التي تعرض على
الشيخ ويكون بجانب الشيخ هاتفان لا يتوقف رنينهما .
فإذا رأيت هذا المشهد أيقنت أن هذا الجمع لن ينفل ، وأن تلك المعاملات
تحتاج إلى أسبوع على الأقل ، ليتم التخلص من بعضها ، وما هي إلا فترة يسيرة
ثم تنفل تلك الجموع وكل قد أخذ نصيبه من الشيخ إما بتوجيه معين أو برد علي
سؤال أو استجابة لطلب مع أن الشيخ في ذلك الوقت يستمع ممن على يمينه ومن
عن شماله من الكتاب ومن أمامه من المراجعين أو المستفتين ويرد السلام على
من يسلم ولو أدى ذلك إلى قطع القراءة ولو كانت طويلة ويرد في الوقت نفسه
على الهاتف ثم يعود إلى القارئ أو يرد السلام على من يسلم ممن يأتي من فوره
إلى مجلس الشيخ فيختفي به الشيخ ويلح عليه بتناول طعام الغداء أو العشاء
لديه ، وما أن تنتهي الجلسة إلا وقد قام الشيخ بأعمال عظيمة لا يقوم بها
أولوا القوة من الرجال مع أن الشيخ كفيف البصر كبير السن ومع أن كلمته هي
الفصل التي يتوقف عليها أمور عظيمة ومع ما يلقاه من كزازة بعض المراجعين
فهذا هو نظامه اليومي في الظهر وبعد المغرب وقبل الظهر زيادة على ذلك يوم
الخميس .
قوة الذاكرة : فلقد متعه الله عزوجل بذاكرة تستوعب كافة القضايا ومع تقادم
سن الشيخ إلا أن ذاكرته تزداد قوة سنة بعد سنة, وقد حدثني الشيخ الموسى –
حفظه الله – فمنذ سنوات عديدة إلى أن توفي الشيخ وهو يحدث بذلك ، كلما
سألته عن ذاكرته عن ذاكرة الشيخ قال : إن ذاكرة الشيخ هذا العام أقوى من
العام الذي قبله .
إن من أعظم نعم الله على الشيخ وعلى الأمة أن حفظ الله على الشيخ ذاكرته وعقله، فلم يصبه الخرف ولم يفقد عقله حتى فارق الدنيا.
الكرم المتناهي: كريم في خلقه، كريم في عفوه وصفحه، كريم في علمه ووقته وراحته، ولا يخلص زائره منه إلا بعد لأي وجهد.
ثم إن الذي بيد الشيخ ليس له ولو سئل ما سئل لأعطي فريما سئل مالا بل ربما
سئل عباءته التي يلبسها فأعطاها من سأل ، وربما أتته الهدية في المجلس
فسأله أحد الحاضرين إياها فأعطاها إياه ، وقد أهدي إليه مرة عود فاخر فسأله
أحدهم إياها فقدمها الشيخ له ، كل ذلك بنفس راضية فهو يتلذذ بالعطاء أكثر
من تلذذه بالأخذ .
تراه إذا ما جئت متهللا *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه *** لجاد بها فليتق الله سائله
والحديث عن كرمه يبدأ ولا يكاد وينتهي ..
الوفاء: فالوفاء سمة بارزة في الشيخ فهو وفي مع مشايخه وزملائه، فلا يكاد
ويذكر شيخه سماحة الإمام محمد بن إبراهيم – رحمه الله – إلا وتغرورق عيناه
بالدموع، وربما ذكر زميله سماحة الإمام عبد الله بن حميد فبكى.
ومن وفائه تذكره لأبناء أصحابه وحبه لهم وعنايته بهم ومن ذلك سؤاله المتكرر عن معارفه واتصاله بهم.
المحافظة على الوقت : وهذا من أعجب ما يلحظ في سيرته فلا تضيع لحظة من
لحظات حياته من غير فائدة سواء كانت شفاعة أو نصيحة أو إجابة لسؤال أو
كتابة لمستفت أو ردا على الهاتف أو مطالعة في كتاب أو إلقاء الدرس أو تعليق
على كلمة .
وإذا خلا من ذلك أو وجد فرصة يفرغ منها من أعماله لهج بذكر الله مسبحا
مهللا محوقلا مكبرا ، والعجيب في سيرة الشيخ وقته في المواعيد حتى إن الناس
لتعرف نظامه اليومي طوال العام سواء كان في " الرياض " أو " مكة " أو "
الطائف " أو " المدينة " عدا ما يكون من إخلال بسبب بعض العوارض ، والشيخ
دقيق في معرفة أوقات الصلوات ،فإذا تأخر المؤذن أقل من الدقيقة تنبه الشيخ
لذلك ، ولقد بارك الله في وقته أيما بركة .
طيب النفس وحسن الخلق : وهذه الخصلة يبدأ الحديث عنها ولا ينتهي فلا تجد
عند الشيخ ضيقا ولا تبرما حتى إن الشيخ إذا أتى من الدوام قبيل العصر منهكا
مكدودا قد بلغ به الإعياء مبلغه ، ودخل مجلسه والناس ينتظرونه للسلام عليه
أو سؤاله أو طلب الشفاعة منه أو عرض بعض المشكلات عليه أقبل عليهم بجبين
طلق ونفس كريمة وابتسامة مشرقة مع أنه قد أتى من الدوام وقام بأعمال يعجز
عن القيام بها الرجال الأفذاذ ، ومع أنه قد قام منذ آخر الليل يتهجد إلى أن
يؤذن الفجر ثم يصلي الفجر ويبدأ بإلقاء دروسه إلى قريب الثامنة صباحا ثم
يذهب إلى المنزل ويمكث فيه قليلا ثم يذهب إلى الدوام ، فما الظن بمن هذه
حاله هل يلام إذا تكدر أو تبرم ؟ .. لا ، فماذا يقال إذا كان الأمر عكس ذلك
تماما الجواب :
" وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " .
العدل في الأحكام : ومن أمثلة ذلك أنه إذا قرئ عليه كتاب أو سمع كلاما لأحد
من الناس قرأه أو سمعه وكأنه خالي الذهن عن معرفة ذلك القائل أو الكاتب
فحكم عليه بما يستحق ثناء أو نقدا فلا تأخذه معرفة الإنسان وقربه منه إلى
مجاملته والتغاضي عن أغلاطه ، لا يأخذ الجهل به أو بعده عنه أو كثرة الكلام
الناس فيه أن يرد ما عنده من صواب بل يقبل الحق ويثني عليه ولو كان من
أبعد الأبعدين .
وهذه منزله عالية وتجرد خالص لا يستطيعه كل أحد من الناس.
التشجيع: فلا تكاد تزور الشيخ وتخرج من عنده إلا وتشعر بأن روحا جديدة قد دبت في جسدك.
سعة الأفق : فالشيخ من أوسع الناس أفقا وأبعدهم نظرا وأرحبهم بالخلاف صدرا
أو أكثرهم للمعاذير التماسا والشيخ لا يأنف من سماع الحق ولا يحرج صدره من
قبوله ولا يستنطق من الرجوع إليه والأخذ به .
والشيخ لا يلزم الناس باجتهاداته ولا يضلل كل من خالفه ، ومن خطاه سعة
الأفق عنده أن يستمع من الكبير والصغير والجاهل والعالم والعام والخاص .
هذه بعض الجوانب من سيرة الإمام عبد العزيز ابن باز، والمقام لا يتسع لأكثر من ذلك.
فرحم الله شيخنا ، وأجزل له الأجر والمثوبة .
الشيخ محمد بن ابراهيم الحمد
مجلة الشقائق العدد الحادي والعشرون .
الصبر: فللإمام رحمه الله قدح معلى، ونصيب أو في من تلك الخصلة الكريمة.
وجوانب الصبر فيه كثيرة جدا ، فالشيخ صبور على التعليم والتعلم حتى بعد أن
كبر وأصبح مرجع المسلمين الأول ، فلا تراه إلا مكبا على العلم متزودا من
الفائدة سواء من بين طلابه أو في سيارته وهو في طريقه إلى العمل ونحو ذلك ،
والشيخ صبور في تصديقه للناس وحله لمشكلاتهم وإجابته عن أسئلتهم وسعيه في
الإصلاح بينهم ، وحرصه على الشفاعة لهم حتى إن الزائر للشيخ قد يصيبه الضجر
والملل من جراء مضايقة الناس له وكثرة إلحاحهم عليه وسوء الأدب الذي يصدر
من بعض الناس أحيانا تجاه الشيخ ، والشيخ لا يفارقه الهدوء ولا السكينة بل
يستقبلهم بوجه طلق ونفس راضية وسكينة عجيبة .
والشيخ صبور بل محب لمن يقصده بالزيارة حتى إن الزائر ليستحي من تكرار
الزيارة، خشية من إحراج الشيخ أو إضاعة وقته، ولكن الشيخ يفرح بذلك أيما
فرح ويذكر زائريه بفضل الزيارة والمحبة في الدين.
والشيخ صبور على الألم والمرض فربما بلغ به الألم مبلغه ومع ذلك لا يلاحظ
عليه تكدر أو تغير مع أن المرض – كما هو معلوم – تتغير به الطباع فلا تبقى
الأخلاق على اعتدال ولا يقدر معه على احتمال ، ولسان حال الشيخ يقول:
لست ممن يفقد الأنس إما *** أصبح الروض كئيبا أغبرا
لزوم الاعتدال : فالاعتدال سمة ملحوظة في سيرة الشيخ وذلك في شتى الأمور :
في أحكامه ، وفتاويه ، وتعامله ، بل في تبسمه وضحكه ، فلا هو بالكز الغليظ
ولا هو بالمسرف بالضحك من القهقهة ، بل هو معتدل في مأكله ومشربه ، فلا
يمتنع من طعام ولا يكثر من الأكل والشرب منطلقا بذلك من قوله تعالى :"
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " ، ولهذا متعه الله بالصحة والعافية ، عدا ما
يعرض له من الأمراض العارضة ، وعدا ما أصابه قبيل وفاته .
أما غير ذلك فإن الشيخ قد سلم من كثير من الأمراض التي تعتري أكثر الناس
خصوصا ممن هم في سنة أو في مكانته ممن يتصدون للناس فالشيخ لم يصب بالضغط
ولا بالسكر ولا بغيرها من تلك الأمراض.
الأدب الجم : فالشيخ لا يؤذي أحدا بكلمة ولا يجرح مشاعر الآخرين بأذية ،
وحتى إن المخالفين له ليكبرون فيه هذه الخصلة ،فتراه لا يزيد على من يميل
عن الحق ولا يخرج عن طروه إذا أراد الرد على أحد ، بل تراه ينبه المخطئ
بألطف عبارة وأحسن إشارة ، ربما استدعى المخالف أو اتصل به فيدنيه وينصح له
ويأخذ بيده ويشير عليه فلا يكاد المخالف بعد ذلك أن يخرج عن إشارة الشيخ
ورأيه وإذا لج المخالف في الخصومة ومشى في غلوائه بعد استبانه الحق له وخشي
الشيخ أن يصل الناس بسبب ذلك – أخذ بالتي هي أرضى لله – ورد على المخالف
بما يناسب حاله ومقامة .
قيامه بصغار الأمور وكبارها : فذلك من أسرار عظمته وتميزه ففي الوقت الذي
قوم فيه بحلائل الأعمال ، من مراسلات لكبار المسؤولين ومناصحة لرؤساء الدول
، واستقبال للوفود من أعلى المستويات وقيام بالدروس والفتوى والرد على
الأسئلة المتتابعة وترؤس الاجتماعات ، سواء في الرابطة أو في هيئة كبار
العلماء أو غيرها – تجده لا يهمل دقائق الأمور وصغارها بحجة اشتغاله بما هو
أهم ، بل تراه يعطي كل ذي حق حقه ، فتراه يمازح الصغار ويداعب قائد سيارته
والعاملين معه ويسألهم عن أحوالهم وأحوال ذويهم بل تراه لا يغفل عن الثناء
على الوجبات التي يعملها طباخ المنزل ، وهكذا حاله مع الناس .
ولم يكن أحد يلهيه عن أحد *** كأنه والد والناس أطفال
وهذا سر من أسرار عظمته وحلوله في سواد العين وسواد القلب عن الخاصة والعامة، فكل له كيانه الخاص وكل له شأنه عند نفسه.
إقبال على المتحدث: حتى إنه ليخيل إليك والشيخ يحدثك أنه لا يعرف غيرك وليس لديه قضية إلا قضيتك.
لا يحمل أحد ذنب أحد : فلا تحمل مشكلات العمل للمنزل أو للزائرين فإذا جلس
إلى أحد ظن أن الشيخ خلي من الهموم ، وهذا من أعظم ما يعني على القيام
بمسؤولياته بخلاف الكثير من الناس ممن إذا كدر عليهم فكدر نال الغضب كل من
حولهم وكل من يتصل بهم .
سلامة الصدر : فلا يعرف الحقد طريقه إلى قلب الشيخ بل قلبه مفعم بالحب
والرحمة والرغبة في إسداء الخير للآخرين فالشيخ يصل من قطعه ويعطي من حرمه
ويعفوا عمن ظلمه ويحسن إلى من أساء إليه ، وهذا أمر يعرفه القاصي والداني .
الثقة والسرعة في إنجاز الأعمال : فإذا حضرت مجلس الشيخ سواء في " الرياض "
أو الطائف أو مكة في أوقات الحج أو غير ذلك رأيت الجمع الغفير من الناس
ممن قدموا للسلام على الشيخ أو من ذوي الحاجات والمشكلات أو ممن وقع منهم
الطلاق أو ممن يريدون الفتوى فيضيق المجلس بهم ، ويتقدمون إلى الشيخ ما
يريدون ويكون في أغلب الأحيان اثنان من كتاب الشيخ أحدهما عن يمينه والآخر
عن شماله وكل واحد منهما قد ملأ جعبته من الأسئلة والمعاملات التي تعرض على
الشيخ ويكون بجانب الشيخ هاتفان لا يتوقف رنينهما .
فإذا رأيت هذا المشهد أيقنت أن هذا الجمع لن ينفل ، وأن تلك المعاملات
تحتاج إلى أسبوع على الأقل ، ليتم التخلص من بعضها ، وما هي إلا فترة يسيرة
ثم تنفل تلك الجموع وكل قد أخذ نصيبه من الشيخ إما بتوجيه معين أو برد علي
سؤال أو استجابة لطلب مع أن الشيخ في ذلك الوقت يستمع ممن على يمينه ومن
عن شماله من الكتاب ومن أمامه من المراجعين أو المستفتين ويرد السلام على
من يسلم ولو أدى ذلك إلى قطع القراءة ولو كانت طويلة ويرد في الوقت نفسه
على الهاتف ثم يعود إلى القارئ أو يرد السلام على من يسلم ممن يأتي من فوره
إلى مجلس الشيخ فيختفي به الشيخ ويلح عليه بتناول طعام الغداء أو العشاء
لديه ، وما أن تنتهي الجلسة إلا وقد قام الشيخ بأعمال عظيمة لا يقوم بها
أولوا القوة من الرجال مع أن الشيخ كفيف البصر كبير السن ومع أن كلمته هي
الفصل التي يتوقف عليها أمور عظيمة ومع ما يلقاه من كزازة بعض المراجعين
فهذا هو نظامه اليومي في الظهر وبعد المغرب وقبل الظهر زيادة على ذلك يوم
الخميس .
قوة الذاكرة : فلقد متعه الله عزوجل بذاكرة تستوعب كافة القضايا ومع تقادم
سن الشيخ إلا أن ذاكرته تزداد قوة سنة بعد سنة, وقد حدثني الشيخ الموسى –
حفظه الله – فمنذ سنوات عديدة إلى أن توفي الشيخ وهو يحدث بذلك ، كلما
سألته عن ذاكرته عن ذاكرة الشيخ قال : إن ذاكرة الشيخ هذا العام أقوى من
العام الذي قبله .
إن من أعظم نعم الله على الشيخ وعلى الأمة أن حفظ الله على الشيخ ذاكرته وعقله، فلم يصبه الخرف ولم يفقد عقله حتى فارق الدنيا.
الكرم المتناهي: كريم في خلقه، كريم في عفوه وصفحه، كريم في علمه ووقته وراحته، ولا يخلص زائره منه إلا بعد لأي وجهد.
ثم إن الذي بيد الشيخ ليس له ولو سئل ما سئل لأعطي فريما سئل مالا بل ربما
سئل عباءته التي يلبسها فأعطاها من سأل ، وربما أتته الهدية في المجلس
فسأله أحد الحاضرين إياها فأعطاها إياه ، وقد أهدي إليه مرة عود فاخر فسأله
أحدهم إياها فقدمها الشيخ له ، كل ذلك بنفس راضية فهو يتلذذ بالعطاء أكثر
من تلذذه بالأخذ .
تراه إذا ما جئت متهللا *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه *** لجاد بها فليتق الله سائله
والحديث عن كرمه يبدأ ولا يكاد وينتهي ..
الوفاء: فالوفاء سمة بارزة في الشيخ فهو وفي مع مشايخه وزملائه، فلا يكاد
ويذكر شيخه سماحة الإمام محمد بن إبراهيم – رحمه الله – إلا وتغرورق عيناه
بالدموع، وربما ذكر زميله سماحة الإمام عبد الله بن حميد فبكى.
ومن وفائه تذكره لأبناء أصحابه وحبه لهم وعنايته بهم ومن ذلك سؤاله المتكرر عن معارفه واتصاله بهم.
المحافظة على الوقت : وهذا من أعجب ما يلحظ في سيرته فلا تضيع لحظة من
لحظات حياته من غير فائدة سواء كانت شفاعة أو نصيحة أو إجابة لسؤال أو
كتابة لمستفت أو ردا على الهاتف أو مطالعة في كتاب أو إلقاء الدرس أو تعليق
على كلمة .
وإذا خلا من ذلك أو وجد فرصة يفرغ منها من أعماله لهج بذكر الله مسبحا
مهللا محوقلا مكبرا ، والعجيب في سيرة الشيخ وقته في المواعيد حتى إن الناس
لتعرف نظامه اليومي طوال العام سواء كان في " الرياض " أو " مكة " أو "
الطائف " أو " المدينة " عدا ما يكون من إخلال بسبب بعض العوارض ، والشيخ
دقيق في معرفة أوقات الصلوات ،فإذا تأخر المؤذن أقل من الدقيقة تنبه الشيخ
لذلك ، ولقد بارك الله في وقته أيما بركة .
طيب النفس وحسن الخلق : وهذه الخصلة يبدأ الحديث عنها ولا ينتهي فلا تجد
عند الشيخ ضيقا ولا تبرما حتى إن الشيخ إذا أتى من الدوام قبيل العصر منهكا
مكدودا قد بلغ به الإعياء مبلغه ، ودخل مجلسه والناس ينتظرونه للسلام عليه
أو سؤاله أو طلب الشفاعة منه أو عرض بعض المشكلات عليه أقبل عليهم بجبين
طلق ونفس كريمة وابتسامة مشرقة مع أنه قد أتى من الدوام وقام بأعمال يعجز
عن القيام بها الرجال الأفذاذ ، ومع أنه قد قام منذ آخر الليل يتهجد إلى أن
يؤذن الفجر ثم يصلي الفجر ويبدأ بإلقاء دروسه إلى قريب الثامنة صباحا ثم
يذهب إلى المنزل ويمكث فيه قليلا ثم يذهب إلى الدوام ، فما الظن بمن هذه
حاله هل يلام إذا تكدر أو تبرم ؟ .. لا ، فماذا يقال إذا كان الأمر عكس ذلك
تماما الجواب :
" وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " .
العدل في الأحكام : ومن أمثلة ذلك أنه إذا قرئ عليه كتاب أو سمع كلاما لأحد
من الناس قرأه أو سمعه وكأنه خالي الذهن عن معرفة ذلك القائل أو الكاتب
فحكم عليه بما يستحق ثناء أو نقدا فلا تأخذه معرفة الإنسان وقربه منه إلى
مجاملته والتغاضي عن أغلاطه ، لا يأخذ الجهل به أو بعده عنه أو كثرة الكلام
الناس فيه أن يرد ما عنده من صواب بل يقبل الحق ويثني عليه ولو كان من
أبعد الأبعدين .
وهذه منزله عالية وتجرد خالص لا يستطيعه كل أحد من الناس.
التشجيع: فلا تكاد تزور الشيخ وتخرج من عنده إلا وتشعر بأن روحا جديدة قد دبت في جسدك.
سعة الأفق : فالشيخ من أوسع الناس أفقا وأبعدهم نظرا وأرحبهم بالخلاف صدرا
أو أكثرهم للمعاذير التماسا والشيخ لا يأنف من سماع الحق ولا يحرج صدره من
قبوله ولا يستنطق من الرجوع إليه والأخذ به .
والشيخ لا يلزم الناس باجتهاداته ولا يضلل كل من خالفه ، ومن خطاه سعة
الأفق عنده أن يستمع من الكبير والصغير والجاهل والعالم والعام والخاص .
هذه بعض الجوانب من سيرة الإمام عبد العزيز ابن باز، والمقام لا يتسع لأكثر من ذلك.
فرحم الله شيخنا ، وأجزل له الأجر والمثوبة .
الشيخ محمد بن ابراهيم الحمد
مجلة الشقائق العدد الحادي والعشرون .