الإبداع والتربية
إنّ الإبداع الفني أو
الأدبي له تأثيره المتميز على نفسية المتلقي وفكره سواء أدرك المتلقي ذلك
أو لم يدركه، إن البهجة أو المتعة التي يخلفها الأثر الأدبي، أو استئناف
التفكير في المشاكل أو الصراعات التي يطرحها الفنان، أو اتخاذ موقف من
المواقف، إنما ينبع ذلك كله مما نسميه بالتأثير، حتى ولو افترضنا أن الفنان
كان جمالياً صرفا، وتلك المصطلحات التي نقرأ عنها في التراث المسرحي
القديم عند الإغريق أو الرومان كالتطهير أو التعاطف أو التسامي وما إلى
ذلك، إنما ترمز في جملتها إلى الأثر التربوي للإبداع، كما تعبر عن التفاعل
الوجداني بين ذلك الأثر والمتلقي، ولا نستطيع أن نفصل المضمون الفكري عن
الشكل الفني في هذا التصور، فكلاهما ترجمة متلاحمة للإبداع الصحيح.
والأدب الإسلامي يتمثل ذلك المفهوم، ويوظف إمكاناته المختلفة في إحداث
الأثر الإيجابي، المرتبط بذات الأديب المسلم وتصوراته وتطلعاته، ويأتي هذا
تلقائياً دون تصنع أو زيف، لأن التكلف يوهي من عرى الإبداع، ويعطل من
تأثيره الفعال، ويهبط بمنزلة الأديب إلى مرتبة تجعله قاصراً عن القيام
بدوره، في تخليص الإنسان من الوثنية والانحراف والتخبط، وتعزله عن دوره
الحضاري والاجتماعي.
يقول الدكتور منير بشور: إن العلاقة بين الإبداع والتربية قد بدىء الاهتمام
بها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهي تنقسم إلى
فترتين رئيستين الأولى يمكن تسميتها بالفترة الانطباعية أو الاستنباطية
وهذه تبدأ مع العالم "فرنسيس جالتي" الذي كتب عام 1869 حول موضوع الإبداع
واعتبره عملية وراثة، أما الفترة الثانية فهي الفترة التجريبية أو
الاستقرائية التي بدأت مع السلوكيين، وبلغت ذروتها بعد تجارب العالم
الامريكي "جلفورد" وهي التجارب المشهورة في أوائل الخمسينيات... ولا شك أن
الفترة الانطباعية تختلف عن التجريبية، وذلك بأن الذين بحثوا في عملية
الإبداع ودوافعه استندوا إلى قراءاتهم الخاصة (بالنسبة للانطباعيين)
لشخصيات أبطالهم، واستخدموا وسائل الاستنباط والمنطق الداخلي للتوصل إلى
خلاصاتهم دون استقراء آراء وأفكار هؤلاء الأبطال أنفسهم بشكل مباشر، بينما
_على العكس من ذلك _ توصلت الفترة التجريبية إلى خلاصاتها استناداً
لاستجابات أشخاص محددين على أساس دوائر وامتحانات ذكاء أو امتحانات إبداع
واستجابات على أنواع.
ومن الضروري التأكيد على أن الطريقة الثانية التي تستخدم الدوائر
والامتحانات لم تؤد بالضرورة إلى نتائج أهم أو حتى أقرب إلى الصحة والقبول،
فالمسألة تعود إلى اختلاف فلسفي عميق بين طريقتين في المنهج...
وعلى جانب آخر في هذه الفئة (النظرية الاستنباطية أو الجماعة التي تنظر في
مسائل الذات وعلم النفس) هناك العالم الفرنسي "برجسون" المتوفى عام 1941
وقد استعمل المنهجية الانطباعية أو الاستنباطية نفسه كما استعملها جالتي،
ولكن المادة التي استخدمها "برجسون" كانت مختلفة، فبدلاً من مراجعة حياة
الأشخاص، أي تاريخ حياتهم الخاصة، عكف برجسون على الغوص في أعماق ذاته بشكل
انطوائي (أو شخصي) ليستخلص منها أهم أفكاره عن طبيعة النفس البشرية وعن
عمليات المعرفة والإبداع، وتوصل إلى نظريته في "الحدس" ونظريته في إثبات
الوجود، وقد اعتبر برجسون أن الناس لا يمارسون هذا الشعور، وهو شعور الوحدة
مع العالم، إلا في ظروف معينة، كما أن الناس يختلفون في القدرة على هذه
الممارسة التي يعتبرها "برجسون" قدرة فطرية، وبهذه الطريقة يلتقي مع جالتي.
ويؤكد برجسون هنا على أهمية الانفعال العميق (لا السطحي) ازاء عملية
الإبداع حيث يقول: "الابتكار وإن كان عقلياً، فإن الانفعال جوهره الثاوي في
أعماقنا" بمعنى أن الانفعال هو الذي يعطي الشرارة للإبداع..
ويرى "فرويد" أن الإبداع عملية تسامي أو إعلاء عن دافع رغبة جنسية، في حين
يظن "أدرلر" أن الإبداع هو عملية تعويض عن شعور بالنقص، أما "كارل يونج"
فقد وسع دائرة اهتمامه أكثر حين انتقل من الشخص الفرد إلى "الشخص الجماعة"،
حيث كرس جهوده إلى توضيح اللاشعور الجمعي أو السلالي الذي ينتقل إلى الفرد
حاملاً آثار خبرة الأسلاف وتجاربهم، وهذا الشعور الجمعي عند "يونج" هو
مصدر الأعمال الفنية العظيمة، لكن العالم الألماني النفسي الفيلسوف "هايمر"
يتجه إلى ناحية اخرى، ليس باتجاه الباطن أو الداخل، كما فعل "الفرويدون"
و"برجسون"، إنما باتجاه الخارج، فحاول أن يربط بين الباطن وبين مؤثرات
الخارج بشكل جديد يتلخص بأن قوى معينة في الباطن تثير اضطراباً أو قلقاً أو
انعداماً في الاستقرار يؤدي إلى إدراك خصائص الأشياء بكليتها، والدافع إلى
هذا هو قوة "الأنا" من الداخل.
ويرى التجريبيون _خلافاً للانطباعيين _ أن الإبداع صفة عامة يمتلكها جميع
الناس، وأنه خاضع كغيره من الخصائص التي يمتلكها الناس للتأثير وبالتالي
إلى التغيير عن طريق التدريب.
إن هذه الدراسات أو المدارس الفكرية نظرت إلى "المبدع" والإبداع من عدة
زوايا، ولا نستطيع أن نخطّىء هذه المدرسة أو تلك بصورة كاملة، كما أننا لا
نستطيع أن نؤيد إحداها تأييداً مطلقاً، والسبب في ذلك لا يبدو غامضاً أو
مختلفاً عليه إذا نظرنا إلى الامور نظرة واقعية محايدة، لأن العوامل
المؤثرة في الشخصية _ومنها شخصية المبدع بالذات _ شاملة ومتنوعة، فهناك
العوامل الوراثية التي لا يمكن علمياً تجاهلها، وهناك العوامل المكتسبة من
ثقافة وقيم دينية واجتماعية وأخلاقية، وهناك الظروف البيئية والنفسية
والشخصية، وهناك أيضاً العلاقات "النفس بدنية" أو السيكوسوماتية، وكون
القدرات الإبداعية قابلة للتطوير لا ينفي المؤثرات الوراثية أو المكتسبة.
والقارىء لفلسفة الشاعر الفيلسوف "محمد إقبال" _فلسفة الذات _ يدرك بعض
النقاط التي يلتقي فيها مع "برجسون" إذ أن إقبال يشير دائماً إلى نمو
"الذات" وجهادها ونموها الدائب نحو الكمال، وانفعالها بما يسميه العشق الذي
يتسم بالنقاء والطهر والتفاني والتضحية وخاصة حب الله والمصطفى، وله في
ذلك قصائد طوال تنبض بالقوة والحرارة، فالذات المؤمنة العاشقة المجاهدة
تتحدى الفناء، وتقهر الصعاب، وتتأبى على الهزيمة.
والأديب المسلم يعايش عقيدة وفكراً وسلوكاً من نوع خاص، وهي تؤثر في
مكوناته النفسية والعقلية، وفي قدراته الإبداعية، ومن الطبيعي أن تكون
علاقاته الخارجية، وانفعالاته الداخلية، متسمة بلون من الصراعات أو
التساؤلات التي تنبعث أساساً من موقفه من الحياة وحركتها وما تموج به من
تناقضات وصراعات، وليس من المنطقي أن تكون نفس المؤمن خالية من هذه الحركة
الموارة، فهو يرفض ويقبل، ويحب ويكره، ويحلم ويأمل، وينفعل ويعبر، إنه ليس
بحيرة ساكنة هادئة نائمة، ومن يتصور غير ذلك فهو واهم، ثم إن هذا الوضع لا
يتناقض مع قوة اليقين، واطمئنان النفس، وعمق الإيمان، وعظمة التسليم لله.
إن صورة الحياة الهائجة المائجة المضطربة تنعكس على فكر المؤمن ونفسه فتحرك
عواطفه ووجدانه، وتثير فكره، فيبدع صوراً أدبية جميلة تتسم بالحيوية
والصدق، وبديهي أن استقراره العقائدي يعصمه من الزيف والزيغ والانحراف،
فنحن نقبل من الانطباعيين ما يوافق تصورنا، ونرفض ما يتناقض مع مفاهيمنا،
ونحترم جهود التجريبيين ونحتفظ بالنسبة لبعض تحليلاتهم واستنتاجاتهم، فليس
من المعقول أن نقبل وجهة نظر فرويد في الفن على عواهنها، أو نقر تفسيرات
"ادرلر" و"يونج"، فلن يكون الكبت الجنسي دافعاً للإبداع، أو ترجمة لما يحدث
في الفن من تسامٍ، ولن يكون تعويضاً عن مركب نقص كامن في الإنسان، وإذا
جاز ذلك في بعض الأحوال، فليس من السهل منطقياً قبوله كقاعدة عامة.
ولقد كان الإسلام أصدق تعبيراً وتحليلاً للنفس الإنسانية، حين جلى صفات
القوة والضعف فيها، وحين أوضح العوامل المختلفة التي تحركها سلباً
وإيجاباً، وحين ضرب الأمثلة الحية على صدق التصور الإلهي وعظمته، والإنسان
كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بأمر ربها، أو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق
الأرض مالها من قرار.. وعطاء المؤمن الحق حينما يبدع ما هو إلاّ ثمر طيب
لشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن ثم فإن الأدب الإسلامي وفق
هذا التصور يمكن أن ينحو بالتربية المنحى الصحيح المؤثر..
ولابد من اساليب تربوية، ومناهج دراسية، تلتزم بالقيم العليا التي نزلت من
السماء مطهرة صافية منزهة عن جشع الإنسان، ورغباته الذاتية، وأنانيته
المفرطة، وأمانة الكلمة لا تتحقق إلا في ظل العقيدة السمحاء، والحرية
الأصيلة، فقد ولد الناس أحراراً بالفطرة، لكن الغرور الإنساني، والانحراف
الأخلاقي، قد مهد لصنع القيود والأغلال.
ولا يستطيع ناقد أن ينكر ما تحلى به الشعر العربي عندنا من قيم رائدة جعلت
أحد النقاد الفرنسيين المعاصرين يقول: "إن الشعر العربي في مجال الإحساس
والشعور أنقى شعر عرفه الإنسان: فالأمانة والصدق والشهامة والصداقة واحترام
المرأة، وقرى الضيف والكرم، وعظمة النفس والبطولة والفخر، هي بعض ما يتغنى
به هذا الشعر، وهو يسمو به فوق شعر الامم فحولة ونبلاً".
ولهذا كان أسلافنا المسلمون في العصور الإسلامية الأولى يجعلون الشعر
عنصراً من أهم عناصر التربية لأبنائهم، إلى جانب السير والمغازي والقرآن
الكريم والأحاديث، وليس في القيم العليا قديم وحديث.
هل نستطيع أن نجرد الإبداع من القيم؟؟ وإذا كان الإبداع خاوياً من القيم
العليا فكيف يؤدي دوره التربوي؟؟ وهل رسوخ القيم الإسلامية وقدمها يقف
حائلاً دون جدواها وفعاليتها؟؟
إن اليقين المستمر في قلب المؤمن. يدفع عنه أذى التصورات الخاطئة والأوهام
الفلسفية الجانحة، فهو بمأمن من الخلل النفسي والفكري الذي يتعرض له
المتحللون من قيم السماء ومبادئها، ولنتساءل عن أي شيء انجلت تلك المعارك
الطاحنة بين الفلاسفة القدامى والمحدثين؟؟ إن جدلهم الصاخب سيظل محتدماً
عبر العصور، إلى أن يتبيّنوا أن الحق كل الحق في منهج الله.
ثم.. إن الأدب الإسلامي لا يستسلم لوهم الغرور حينما يعتقد أن الإبداع
الفني أو الأدبي هو الوسيلة المثلى للتربية، فالتربية الصحيحة تترعرع في ظل
القدوة الحسنة أولاً، وتنمو في إطار الأسرة المسلمة، المدرسة، والمسجد
أيضاً، وما الفن والأدب إلا وسيلة من الوسائل المكملة أو المدعمة لعملية
التربية السليمة متى استقام له الطريق، واتضحت أمامه الرؤية، وسار في ركب
الدعوة الإلهية التي تنشد السعادة والخير للجميع، ولا قيمة لإبداع يثير
التمزق والتشتت في الشخصية، أو يورثها مزيداً من العلل والأسقام.. والله
سبحانه وتعالى هو المبدع الأعظم.. هو البديع
..
إنّ الإبداع الفني أو
الأدبي له تأثيره المتميز على نفسية المتلقي وفكره سواء أدرك المتلقي ذلك
أو لم يدركه، إن البهجة أو المتعة التي يخلفها الأثر الأدبي، أو استئناف
التفكير في المشاكل أو الصراعات التي يطرحها الفنان، أو اتخاذ موقف من
المواقف، إنما ينبع ذلك كله مما نسميه بالتأثير، حتى ولو افترضنا أن الفنان
كان جمالياً صرفا، وتلك المصطلحات التي نقرأ عنها في التراث المسرحي
القديم عند الإغريق أو الرومان كالتطهير أو التعاطف أو التسامي وما إلى
ذلك، إنما ترمز في جملتها إلى الأثر التربوي للإبداع، كما تعبر عن التفاعل
الوجداني بين ذلك الأثر والمتلقي، ولا نستطيع أن نفصل المضمون الفكري عن
الشكل الفني في هذا التصور، فكلاهما ترجمة متلاحمة للإبداع الصحيح.
والأدب الإسلامي يتمثل ذلك المفهوم، ويوظف إمكاناته المختلفة في إحداث
الأثر الإيجابي، المرتبط بذات الأديب المسلم وتصوراته وتطلعاته، ويأتي هذا
تلقائياً دون تصنع أو زيف، لأن التكلف يوهي من عرى الإبداع، ويعطل من
تأثيره الفعال، ويهبط بمنزلة الأديب إلى مرتبة تجعله قاصراً عن القيام
بدوره، في تخليص الإنسان من الوثنية والانحراف والتخبط، وتعزله عن دوره
الحضاري والاجتماعي.
يقول الدكتور منير بشور: إن العلاقة بين الإبداع والتربية قد بدىء الاهتمام
بها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهي تنقسم إلى
فترتين رئيستين الأولى يمكن تسميتها بالفترة الانطباعية أو الاستنباطية
وهذه تبدأ مع العالم "فرنسيس جالتي" الذي كتب عام 1869 حول موضوع الإبداع
واعتبره عملية وراثة، أما الفترة الثانية فهي الفترة التجريبية أو
الاستقرائية التي بدأت مع السلوكيين، وبلغت ذروتها بعد تجارب العالم
الامريكي "جلفورد" وهي التجارب المشهورة في أوائل الخمسينيات... ولا شك أن
الفترة الانطباعية تختلف عن التجريبية، وذلك بأن الذين بحثوا في عملية
الإبداع ودوافعه استندوا إلى قراءاتهم الخاصة (بالنسبة للانطباعيين)
لشخصيات أبطالهم، واستخدموا وسائل الاستنباط والمنطق الداخلي للتوصل إلى
خلاصاتهم دون استقراء آراء وأفكار هؤلاء الأبطال أنفسهم بشكل مباشر، بينما
_على العكس من ذلك _ توصلت الفترة التجريبية إلى خلاصاتها استناداً
لاستجابات أشخاص محددين على أساس دوائر وامتحانات ذكاء أو امتحانات إبداع
واستجابات على أنواع.
ومن الضروري التأكيد على أن الطريقة الثانية التي تستخدم الدوائر
والامتحانات لم تؤد بالضرورة إلى نتائج أهم أو حتى أقرب إلى الصحة والقبول،
فالمسألة تعود إلى اختلاف فلسفي عميق بين طريقتين في المنهج...
وعلى جانب آخر في هذه الفئة (النظرية الاستنباطية أو الجماعة التي تنظر في
مسائل الذات وعلم النفس) هناك العالم الفرنسي "برجسون" المتوفى عام 1941
وقد استعمل المنهجية الانطباعية أو الاستنباطية نفسه كما استعملها جالتي،
ولكن المادة التي استخدمها "برجسون" كانت مختلفة، فبدلاً من مراجعة حياة
الأشخاص، أي تاريخ حياتهم الخاصة، عكف برجسون على الغوص في أعماق ذاته بشكل
انطوائي (أو شخصي) ليستخلص منها أهم أفكاره عن طبيعة النفس البشرية وعن
عمليات المعرفة والإبداع، وتوصل إلى نظريته في "الحدس" ونظريته في إثبات
الوجود، وقد اعتبر برجسون أن الناس لا يمارسون هذا الشعور، وهو شعور الوحدة
مع العالم، إلا في ظروف معينة، كما أن الناس يختلفون في القدرة على هذه
الممارسة التي يعتبرها "برجسون" قدرة فطرية، وبهذه الطريقة يلتقي مع جالتي.
ويؤكد برجسون هنا على أهمية الانفعال العميق (لا السطحي) ازاء عملية
الإبداع حيث يقول: "الابتكار وإن كان عقلياً، فإن الانفعال جوهره الثاوي في
أعماقنا" بمعنى أن الانفعال هو الذي يعطي الشرارة للإبداع..
ويرى "فرويد" أن الإبداع عملية تسامي أو إعلاء عن دافع رغبة جنسية، في حين
يظن "أدرلر" أن الإبداع هو عملية تعويض عن شعور بالنقص، أما "كارل يونج"
فقد وسع دائرة اهتمامه أكثر حين انتقل من الشخص الفرد إلى "الشخص الجماعة"،
حيث كرس جهوده إلى توضيح اللاشعور الجمعي أو السلالي الذي ينتقل إلى الفرد
حاملاً آثار خبرة الأسلاف وتجاربهم، وهذا الشعور الجمعي عند "يونج" هو
مصدر الأعمال الفنية العظيمة، لكن العالم الألماني النفسي الفيلسوف "هايمر"
يتجه إلى ناحية اخرى، ليس باتجاه الباطن أو الداخل، كما فعل "الفرويدون"
و"برجسون"، إنما باتجاه الخارج، فحاول أن يربط بين الباطن وبين مؤثرات
الخارج بشكل جديد يتلخص بأن قوى معينة في الباطن تثير اضطراباً أو قلقاً أو
انعداماً في الاستقرار يؤدي إلى إدراك خصائص الأشياء بكليتها، والدافع إلى
هذا هو قوة "الأنا" من الداخل.
ويرى التجريبيون _خلافاً للانطباعيين _ أن الإبداع صفة عامة يمتلكها جميع
الناس، وأنه خاضع كغيره من الخصائص التي يمتلكها الناس للتأثير وبالتالي
إلى التغيير عن طريق التدريب.
إن هذه الدراسات أو المدارس الفكرية نظرت إلى "المبدع" والإبداع من عدة
زوايا، ولا نستطيع أن نخطّىء هذه المدرسة أو تلك بصورة كاملة، كما أننا لا
نستطيع أن نؤيد إحداها تأييداً مطلقاً، والسبب في ذلك لا يبدو غامضاً أو
مختلفاً عليه إذا نظرنا إلى الامور نظرة واقعية محايدة، لأن العوامل
المؤثرة في الشخصية _ومنها شخصية المبدع بالذات _ شاملة ومتنوعة، فهناك
العوامل الوراثية التي لا يمكن علمياً تجاهلها، وهناك العوامل المكتسبة من
ثقافة وقيم دينية واجتماعية وأخلاقية، وهناك الظروف البيئية والنفسية
والشخصية، وهناك أيضاً العلاقات "النفس بدنية" أو السيكوسوماتية، وكون
القدرات الإبداعية قابلة للتطوير لا ينفي المؤثرات الوراثية أو المكتسبة.
والقارىء لفلسفة الشاعر الفيلسوف "محمد إقبال" _فلسفة الذات _ يدرك بعض
النقاط التي يلتقي فيها مع "برجسون" إذ أن إقبال يشير دائماً إلى نمو
"الذات" وجهادها ونموها الدائب نحو الكمال، وانفعالها بما يسميه العشق الذي
يتسم بالنقاء والطهر والتفاني والتضحية وخاصة حب الله والمصطفى، وله في
ذلك قصائد طوال تنبض بالقوة والحرارة، فالذات المؤمنة العاشقة المجاهدة
تتحدى الفناء، وتقهر الصعاب، وتتأبى على الهزيمة.
والأديب المسلم يعايش عقيدة وفكراً وسلوكاً من نوع خاص، وهي تؤثر في
مكوناته النفسية والعقلية، وفي قدراته الإبداعية، ومن الطبيعي أن تكون
علاقاته الخارجية، وانفعالاته الداخلية، متسمة بلون من الصراعات أو
التساؤلات التي تنبعث أساساً من موقفه من الحياة وحركتها وما تموج به من
تناقضات وصراعات، وليس من المنطقي أن تكون نفس المؤمن خالية من هذه الحركة
الموارة، فهو يرفض ويقبل، ويحب ويكره، ويحلم ويأمل، وينفعل ويعبر، إنه ليس
بحيرة ساكنة هادئة نائمة، ومن يتصور غير ذلك فهو واهم، ثم إن هذا الوضع لا
يتناقض مع قوة اليقين، واطمئنان النفس، وعمق الإيمان، وعظمة التسليم لله.
إن صورة الحياة الهائجة المائجة المضطربة تنعكس على فكر المؤمن ونفسه فتحرك
عواطفه ووجدانه، وتثير فكره، فيبدع صوراً أدبية جميلة تتسم بالحيوية
والصدق، وبديهي أن استقراره العقائدي يعصمه من الزيف والزيغ والانحراف،
فنحن نقبل من الانطباعيين ما يوافق تصورنا، ونرفض ما يتناقض مع مفاهيمنا،
ونحترم جهود التجريبيين ونحتفظ بالنسبة لبعض تحليلاتهم واستنتاجاتهم، فليس
من المعقول أن نقبل وجهة نظر فرويد في الفن على عواهنها، أو نقر تفسيرات
"ادرلر" و"يونج"، فلن يكون الكبت الجنسي دافعاً للإبداع، أو ترجمة لما يحدث
في الفن من تسامٍ، ولن يكون تعويضاً عن مركب نقص كامن في الإنسان، وإذا
جاز ذلك في بعض الأحوال، فليس من السهل منطقياً قبوله كقاعدة عامة.
ولقد كان الإسلام أصدق تعبيراً وتحليلاً للنفس الإنسانية، حين جلى صفات
القوة والضعف فيها، وحين أوضح العوامل المختلفة التي تحركها سلباً
وإيجاباً، وحين ضرب الأمثلة الحية على صدق التصور الإلهي وعظمته، والإنسان
كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بأمر ربها، أو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق
الأرض مالها من قرار.. وعطاء المؤمن الحق حينما يبدع ما هو إلاّ ثمر طيب
لشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن ثم فإن الأدب الإسلامي وفق
هذا التصور يمكن أن ينحو بالتربية المنحى الصحيح المؤثر..
ولابد من اساليب تربوية، ومناهج دراسية، تلتزم بالقيم العليا التي نزلت من
السماء مطهرة صافية منزهة عن جشع الإنسان، ورغباته الذاتية، وأنانيته
المفرطة، وأمانة الكلمة لا تتحقق إلا في ظل العقيدة السمحاء، والحرية
الأصيلة، فقد ولد الناس أحراراً بالفطرة، لكن الغرور الإنساني، والانحراف
الأخلاقي، قد مهد لصنع القيود والأغلال.
ولا يستطيع ناقد أن ينكر ما تحلى به الشعر العربي عندنا من قيم رائدة جعلت
أحد النقاد الفرنسيين المعاصرين يقول: "إن الشعر العربي في مجال الإحساس
والشعور أنقى شعر عرفه الإنسان: فالأمانة والصدق والشهامة والصداقة واحترام
المرأة، وقرى الضيف والكرم، وعظمة النفس والبطولة والفخر، هي بعض ما يتغنى
به هذا الشعر، وهو يسمو به فوق شعر الامم فحولة ونبلاً".
ولهذا كان أسلافنا المسلمون في العصور الإسلامية الأولى يجعلون الشعر
عنصراً من أهم عناصر التربية لأبنائهم، إلى جانب السير والمغازي والقرآن
الكريم والأحاديث، وليس في القيم العليا قديم وحديث.
هل نستطيع أن نجرد الإبداع من القيم؟؟ وإذا كان الإبداع خاوياً من القيم
العليا فكيف يؤدي دوره التربوي؟؟ وهل رسوخ القيم الإسلامية وقدمها يقف
حائلاً دون جدواها وفعاليتها؟؟
إن اليقين المستمر في قلب المؤمن. يدفع عنه أذى التصورات الخاطئة والأوهام
الفلسفية الجانحة، فهو بمأمن من الخلل النفسي والفكري الذي يتعرض له
المتحللون من قيم السماء ومبادئها، ولنتساءل عن أي شيء انجلت تلك المعارك
الطاحنة بين الفلاسفة القدامى والمحدثين؟؟ إن جدلهم الصاخب سيظل محتدماً
عبر العصور، إلى أن يتبيّنوا أن الحق كل الحق في منهج الله.
ثم.. إن الأدب الإسلامي لا يستسلم لوهم الغرور حينما يعتقد أن الإبداع
الفني أو الأدبي هو الوسيلة المثلى للتربية، فالتربية الصحيحة تترعرع في ظل
القدوة الحسنة أولاً، وتنمو في إطار الأسرة المسلمة، المدرسة، والمسجد
أيضاً، وما الفن والأدب إلا وسيلة من الوسائل المكملة أو المدعمة لعملية
التربية السليمة متى استقام له الطريق، واتضحت أمامه الرؤية، وسار في ركب
الدعوة الإلهية التي تنشد السعادة والخير للجميع، ولا قيمة لإبداع يثير
التمزق والتشتت في الشخصية، أو يورثها مزيداً من العلل والأسقام.. والله
سبحانه وتعالى هو المبدع الأعظم.. هو البديع
..