حســن الخلــــق
الخطيب:::: فضيلة الشيخ محمد حسانإن الحمد لله نحمده ونستعينه
ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من
يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله وصفية من خلقه وخليله
أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة ، وجاهد فى الله
حق جهاده حتى أتاه اليقين ، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن امته
ورسولا عن دعوته ورسالته ، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه
وأحبابه واتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بستنه واقتفى اثره إلى يوم
الدين.
أما بعد .. فحياكم الله جميعا أيها الإخوة الفضلاء ، وطبتم وطاب ممشاكم
وتبوأتم من الجنة منزلاً ، وأسأل الله العظيم الحليم الكريم - جلا وعلا -
الذى جمعنا فى هذا البيت المبارك الطيب على طاعته أن يجمعنا فى الآخرة مع
سيد الدعاة المصطفى فى جنته ودار كرامته إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أحبتى فى الله ... حُسن الخُلق يُحَب لذاته ، فكيف لو اجتمع مع حسن الخلق
حُسنُ الخَلق ؟! ذلكم هو المصطفى . وفى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم
من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال : بعث رسول الله خيلاً قبل نجد ،
فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له : ثُمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربط
الصحبة ثمامة بن اثار فى سارية – أى عمود من أعمدة المسجد النبوى – وهو من
أعدى أعداء النبى يتفنن فى إيذاء رسول الله وفى الكيد للإسلام والمسلمين ،
فلما دخل النبى ورآه مربوطا فى المسجد اقترب منه وقال له : " ما عندك يا
ثمامة ؟" قال : عندى خير يا محمد إن تقتل تقل ذا دم – يعنى أنتبه إن
قتلتنى قتلت رجلا له قبيلة وعشيرة ولن تترك قبيلته وعشيرته دمَه يضيع
هدراً ابدا – إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنْعِم تنعم على شاكر ، وإن أحسنت
إلىَ وأطلقت سراحى لن أنسى جميلك ومعروفك أبدا ما حييت وإن كنت تريد المال
فَسَل تُعطَ من المال ما شئت فتركه النبى .
وفى غير رواية فى الصحيحين أمر النبى الصحابة أن يحسنوا إليه ، وأراد
النبى أن يظل ثمامة فى المسجد ، ليسمع القرآن وليرى النبى بين أصحابه
وليسمع حديثه ، فدخل عليه فى اليوم الثانى وقال : " ماذا عندك يا ثمامة ؟
" قل : عندى ما قلت لك : إن تقتلْ تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط
من المال ما شئت فتركه النبى ، ودخل عليه فى اليوم الثالث وقال : " ماذا
عندك يا ثمامة ؟ " فأخبره بما قاله فقال النبى للصحابة : "أطلقوا ثمامة أى
لا نريد مالا ولا جزاء ولا شكورا ولا نلزمه بالإسلام ولا نكرهه على
الإيمان أطلقوا ثمامة " ففكوا قيده.
هذا الرجل الأصيل اغتسل فى حائط – أى فى بستان – بجوار المسجد وعاد إلى
المسجد النبوى ؛ ليقف بين يدى الحبيب ليقول : أشهد أن لا إله إلا الله
واشهد إنك لرسول الله. تدبر هذا الحوار الصريح قال ثمامة : يا رسول الله
والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلىّ من وجهك ، فأصبح وجهك الآن أحب
الوجوه كلها إلىّ ، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلىّ من دينك ،
فأصبح دينُك أحبَّ الدين كله إلىّ ، والله ما كان على وجه الأرض بلدٌ أبغض
إلىّ من بلدك فأصبحت بلدك أحبَّ البلاد كلها إلىّ ، يا رسول الله لقد
اخذتنى خيلك وأنا أريد العمرة( ) أو وهو الشرك والكفر فقد كانوا يحجون
ويعتمرون إلى البيت وهم على الكفر والشرك.
كان أحدهم يلبى فيقول : لبيك اللهم ، لبيك لبيك لا شريك لك ، فإذا سمع
النبى هذا النداء يقول : " قط قط " أى قفوا عند هذا الحد لا تزيدوا عليه ،
ثم يزيد أحدهم فيقول : لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه
وما ملك – ولو تدبر أحدهم فى الإضافة بتعقل لوجد الملك (هو لك تملكه وما
ملك) أى ولا يملك لنفسه شيئاً.
ورحم الله من رأى يوما على صنمه بولا فنظر حواليه فوجد ثعلبا يلعب بالقرب
من معبوده فعلم أن الذى فعل هذه الفعلة الشنعاء هو هذا الثعلب ، فنظر إلى
إلهه والنجاسة تنسال من على وجهه ففكر وتدبر فى الأمر وقال بعقل راجح راشد
:
ربٌ يبول الثُعلبان برأسه
لو كان رباً كان يمنع نفسه
برئت من الأصنام فى الأرض كلها
فقد ذل من بالت عليه الثعالب
فلا خير فى رب نأته المطالب
وآمنت بالله الذى هو غالب
يقول ثمامة : يارسول الله لقد أخذتنى خيلك وانا أريد العمرة فماذا ترى ؟
فبشره رسول الله – قال الحافظ ابن حجر : أى بشرة بخيرى الدنيا والآخرة ،
أو بشره بالجنة أو بشره بمحو الذنوب والسيئات – ياله من فضل !! فبشره رسول
الله وأمره أن يعتمر ، فانطلق ثمامةُ أول من رفع صوته بالتلبية فى مكة
فقال قريش من هذا الذى اجترأ علينا – أى جهر بالتلبية بين أظهرنا – ؟ من
هذا الذى أجترأ علينا ؟ فهو أولُ من جهر بالتلبية فى مكة فأخذته قريش
وقالوا : من هذا الذى اجترأ علينا ؟ فأخذوه وضربوه ضربا شديدا حتى قال
قائلهم : دعوه فإنه فلان فأنتم تحتاجون من الميرة اليمامة وعرفوا ثمامة.
وفى رواية ابن اسحاق : لما جهر ثمامةُ بالتلبية فأقبل عليه المشركون
فضربوه وقال أبو سفيان : ألا تعرفون الرجل ؟ إنه ثمامة سيد أهل اليمامة
فأنتم تحتاجون إلى الحنطة – أى القمح – والميرة من اليمامة ، فلما جلس
ثمامة قال : والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة – أى حبة قمح – إلا أن
يأذن رسول الله ،خلع الرجل رداء الكفر على عتبة الإيمان
أقول من أول لحظة دخل فيها ثمامة الإسلام جعل كل طاقاته وكل قدراته
وإمكانياته فى خدمة التوحيد والإسلام ، وضع كل ما يملك من قدراته وطاقاته
وإمكانياته فى خدمة الدين الذى أعتنقه وأنار الله قلبه به ، وبالفعل أدى
العمرة.
وأود أن أقف أيضا مع جزئية أخرى فريدة ألا وهى أن أسر ثمامة كان سببا
لنجاته ، وكان سبب سعادته فى الدنيا والآخرة ، لو علم أن أسره سيكون سبب
سعادته فى الدنيا والآخرة لرحب به ، فلقد خرج ليؤدى العمرة على الشرك فأبى
الله غلا أن يؤدى العمرة على التوحيد ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، إذا
لابد أن تسلم لكل أقدار الله ، ولابد أن تعلم يقيناً أن قدر الله دائما هو
الخير ، وقد ينظر أحدنا إلى قدر من وجهة نظره ، فيراه شرا عليه لكن الله
جل وعلا يقول : وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة - 216]
كن عن همومك معرضا
وانعم بطول سلامة
فلربما اتسع المضيقُ
الله يفعل ما يريد
وكل الأمور إلى القضا
تُسليك عما قد مضى
وربما ضاق الفضا
فلا تكن متعرضا
قال تعالى : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ
إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ [الأنعام : 17] انطلق ثمامة إلى اليمامة فمنع الميرة عن قريش
وقال: والله لا تصل إليكم حتى اليوم حبة قمح حتى يأذن فيها رسول الله ،
إنه الولاء والبراء
لله ولرسوله وللمؤمنين - والله لا تصل إليكم حتى اليوم حب قمح حتى يأذن فيها
رسول الله – أنه البراء المعلن من الشرك والمشركين ، لابد من هذه المفاضلة
، لابد من هذا الفرقان ، إن عشت طوال حياتك حالة الغبش التى يحياها كثير
من المسلمين اليوم لن تنصر دينا ولن تنصر سنتة ، لا تكن مذبذباً بين هؤلاء
وهؤلاء ، فهناك صنفان من الناس ، صنف كالشاة الحائرة بين غنمين تيعر إلى
هذه مرة ، وتيعر إلى هذه مرة ، هذا شأن النفاق وأهله المذبذبين بين ذلك ،
لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فتراه إن جلس مع المسلمين إن جلس مع أهل
الالتزام وأهل السنة قال : الله جل وعلا ، قال النبى ، أنا والله احب
اللحية واحب الحجاب وأنا الزم بناتى بذلك ، فإن جلس مع غير هذا الصنع
الكريم ، فإذا جلس مع العلمانيين ، ممن يعزفون على وتر التحرر والمدنية
والبعد عن الرجعية ، والتخلف إلى آخر هذه التهم المعلبة قال : أعوذ بالله
، عقول متجمدة متخلفون رجعيون متنطعون أصوليون وصوليون فوضويون وَإِذَا
لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ [البقرة : 14 ، 15]
إن قلت : قال الله قال رسوله
أو قلت : قال الصحابة والأولى
أو قلت : قال الشافعى وأحمد
صدوا عن وحى الإله ودينه
همزوك همز المنكر المتغال
نبعٌ لهم فى القول والأعمال
وأبو حنيفة والإمام الغالى
واحتالوا على حرام الله بالحلال
يا أمة لعبت بدين نبيها
حاشا رسول الله يحكم بالهوى
كتلاعب الصبيان فى الأوحال
تلك حكومة الضلال
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ
الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة : 204 ،
205]
أعلن ثمامة المفاصلة الحاسمة ، أعلنها الآن بصدق لا تعش حالة الغبش حالة
التذبذب بين الإيمان والنفاق بين أهل الإيمان تارة وأهل النفاق تارة بين
أهل السنة تارة وأهل البدع تارة ، لا تصح لك حياة بهذه الشاكلة وبهذا
الغبش الذى يحياه كثير من الناس ، لابد أن نعلن المفاصلة ، لابد أن تستبين
سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين ، لابد من إقامة الفرقان الإسلامى الآن ،
والتخلى عن التلون وركوب كل موجة ! فمنهم من يتغنى بالاشتراكية ، إن كان
الحاكمُ اشتراكياً ويرقصون ويعزفون على الديمقراطية المزعومة إن كان
الحاكم ديقراطيا ،فهم يركبون كل موجة ويعيشون فى كل بيئة ، ويتلونون بلون
كل أرض حالة غبش وتذبذب لا ينبغى لمسلم صادق يحترم نفسه أن يعيش هذه
الحياة أبداً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نداء لأهل إيمان يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا
جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة : 1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
[ أل عمران : 118]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة : 51]
أتحب أعداء وتدعى حبا له حبيب حبيبى حبيبى ، وعدو حبيبى عدوى هذا هو
الولاء ، هذا قاعدة الولاء والبراء : حبيب حبيبى حبيبى وعدو حبيبى عدوى ،
من أحب الله ورسوله فهو حبيبى فى أى ارض وتحت أى سماء ومن عادى الله
ورسوله فهو عدوى فوق أى ارض وتحت أى سماء !!
أتحسبُ أعداءَ الحبيب وتَدَّعى
وكذا تعادى جاهدا أحبابه
شرط المحبة أن توافق من تحب
فإن ادعيت له المحبة على خلافك
لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت
وواليت أهلَ الحقِ سراً
لما كل من قد قال ما قلت مسلمٌ
مباينة الكفار فى كل موطن
وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم
هذا هو الدين الحنيفى والهدى
حباً له ما ذاك فى الإمكان
أين المحبة يا أخا الشيطان
على محبته بلا نقصان
ما يحبُ فأنت ذو بهتان
من باله ويحك يكفر
وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر
ولكن بأشراطِ هُنالك تُذكر
بذا جاءنا النص الصحيح المقرر
وتدعوهم سرا لذلك وتجهر
وملة إبراهيم لو كانت تشعر
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [أل
عمران : 68] فنحن أولى الناس بإبراهيم هذا هو الدين الحنيفى والهدى وملة
إبراهيم. أعلن ثمامة الفرقان ، أعلن ثمامة المفاصلة قلا : والله لا تصل
إليكم حتى اليوم حبة قمح حتى يأذن فيها رسول الله ( )
روى الطبرانى بسند حسن أن النبى نادى عبد الله بن عبد الله بن أبى ابن
سلول فقال له : " أو ماسمعت ما قال أبوك يا عبد الله ؟ فقال له : وماذا
قال بأبى أنت وأمى يا سول الله ؟ قال له المصطفى : " يقول أبوك : لئن
رجعنا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " وهو الذى قال قولته الخبيثة :
سمن كلبك يأكلك فماذا قال عبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول ؟ فقال عبد
الله بن عبد الله بن أبى بن سلول : صدق والله أبى يا رسول الله بأبى أنت
وأمى يا رسول الله فوالله أنت الأعز وهو الأذل"
قفوا على هذه المفاصلة وقفوا على الفرقان لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة : 22] قال : يا رسول الله
بأبى أنت وأمى يا رسول الله فوالله أنت الأعز وهو الأذل ، ثم قال يا رسول
الله ، والله لقد قدمت يثرب ولا يعلم أحد بيثرب أبر بأبيه منى ، أما وقد
قال ما قال ، لتسمعن ما يقر عينك يا رسول الله ، ثم خرج على قارعة الطريق
، فوقف أمام أبيه وقال له : إلى أين ؟ فقال له أبوه : إلى بيتى . فقال
ولده : والله لا يأويك ظلها ولا تبيت الليلة فى بيتك إلا بإذن من رسول
الله لتعلم من الأعز ومن الأذل فصرخ عبد الله بن أبى سلول : يا أهل الخزرج
يا أهل الخزرج ابنى يمنعنى بيتى وذهبوا إلى خير الرسل وقالوا : يا رسول
الله قد حصل كيت وكيت وكذا وكذا ، فأرسل صاحب الخُلق إلى عبد الله بن عبد
الله بن سلول وقال : " مروا عبد الله أن يأذن لأبيه ويحسن عشرته " فذهب
الأمر من رسول الله إلى عبد الله فالتفت إلى أبيه فقال : أما الآن لتدخل
ولتعلم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولتعلم من الأعز ومن الأذل.
إننا فى أمس الحاجة الآن إلى الفرقان لا تكن مذبذباً كن على سنة ولا تحد
عن الطريق، لا تطلق اللحية مرة وإذا وقفت أمام المرآة تجد نفسك تحتاج
حلقها بالمرة ، لا تواظب على مجالس العلم مرة إذا ما تعرضت لفتنة مرة تركت
مجالس العلم بالمرة ، لا تجلس أمام كتاب الله مرة ثم تتخلى عن كتاب الله
بالمرة ، لا ترتدى النقاب ثم إذا تعرضت لمحنة تجردت من لباس العزة والشرف
، لا تكن مذبذبا بل كن مستقيما فاستقم كما أمرت كما قال الله للمصطفى :
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ
[الشورى : 15] ولا تكن كالثعالب كما قال عمر رضى الله عنه :
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت :
30] أى استقاموا على دين الله ولم يروغوا روغان الثعالب ، لا تكن كل يوم
على حال إذا جلست مع المتبعين قانت متبع وإن جلست مع العلمانيين فهو كذلك
، لا
قال ثمامة : والله لا تصل إليكم بعد اليوم حنطة – أى حبة قمح – إلى أن
يأذن فيها رسول الله . فلما عاد شكل حصاراً اقتصاديا على مكة كلها ومنع
الميرة – منع القمح – فكل قمح اهل مكة كان يصل من اليمامة وهو سيد اليمامة
فمنع القمح ، اسمع حتى أكل المشركون العِلهز ، !! ما العلهز ؟ وبر الأبل
مع الجلد يشوى ويؤكل فى المجاعة أكلوا العلهز ، وأرسل أبو سفيان لرسول
الله وقال : يا رسول الله إنك تدعو إلى صلة الرحم ، وقد منع ثمامةُ عنا
الميرة فمره أن يخلى بيننا وبين الميرة ، فأرسل الحبيب إلى ثمامة وقال : "
خل بينهم وبين الميرة " فقال : أما وقد جاء الأمر من رسولِ الله ، فلتصل
الميرة من اليوم إلى قريش ، هذا هو الولاء لهذا الدين.
أيها الأخوة : اقر بأننى عاجز عن استخراج الدروس والعظات والعبر من هذا
الحديث الجليل المبارك ، لكننى أود أن اقف وقفات متأنية مع الحديث الغالى
لأبين لحضراتكم أن الرفق والحلم والخلق حول البغض فى قلب ثمامة إلى حب
فياض.
تدبر معى كلمات ثمامة : والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلىّ فأصبح
وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلىّ ، والله ما كان على وجه الارض دين أبغض
إلىّ من دينك فاصبح دينك الآن أحب الأديان إلىّ ، والله ما كان على الأرض
أبغض إلىّ من بلدك فأصبحت بلدك الآن أحب البلاد كلها إلىّ لماذا ؟ إنه
الحلم ، إنه الرفق ، إنه الخلق ، إنه الأدب ولقد تعمد النبىُ أن يظل ثمامة
مربوطاً فى المسجد وهذا دليل آخر على جواز دخول المشرك المسجد إن دخل
لحاجة أو لغاية إن لم يدخل للإفساد أو للنجاسة أو لامتهان مقدسات
المسلمين. ظل ثمامة فى المسجد ثلاثة أيام ، ولقد تعمد رسول الله أن يكرم
ثمامة وهو داخل المسجد ، ليسمع القرآن غضا طريا بأذنه من فم المصطفى كيف
يعاملونه ؟ وكيف يتأدبون فى حضرته ؟ وكيف إذا أمرهم ابتدروا أمره ؟ وكيف
يسمعون ؟ وكيف رأى ثمامة فى هذه الأيام أن الإسلام يتحول إلى واقع عملى
وإلى منهج حياة فى مسجد النبى فتعلق قلبه بهذا الدين وبهذا النبى
فالكل ينادى بالعودة إلى خلق النبى لكن من منا الذى سيتخلق الليلة بخلق
النبى ؟ كلنا يعرف كرمه ، كلنا يعرف رقته ، كلنا يعرف أدبه ، كلنا يعرف
تواضعه ، كلنا يعرف فضله ، كلنا يعرف رفقه ، كلنا يعرف جماله ،كلنا يعرف
حسن خلقه وخلقه ، لكن من منا سيشهد الليلة أو من الليلة لدين النبى
شهادة عملية على أرض الواقع ، ليحول شيئا فشيئاً من خلق النبى فى حياته
إلى واقع عملى ومنهج حياة ؟ قال ربنا جل وعلا لسيدنا رسول الله :
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم : 4] بل قال الله تعالى :
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء : 107]
قال ابن عباس رضى الله
عنه : إن رسول الله رحمة للبر والفاجر ، إن رسول الله رحمة للبر والفاجر ،
إن رسول الله رحمة للبر والفاجر فمن آمن من به تمت له الرحمة فى الدنيا
والآخرة ، ومن كفر به نجى من العقوبة أو أجلت له العقوبة فى الآخرة مصداقا
لقول الله جل وعلا :
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال : 33]
قال ابن عباس رضى الله عنه : والله ما درأ الله وما برأ نفسا أكرم عليه من
محمد ، والله ما ذرأ الله ، وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد ، والله
ما ذرأ الله وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد .
روى ملم فى صحيحه من قول أنس ، بل والحديث فى البخارى أيضا ، لما أوتى
بالبراق - اللفظ المسلم - : لما أوتى بالبراق للنبى ليركبه ليلة المعراج
انتفض البراق - أى لم يمكن رسول الله من ظهره – فقال جبريل للبراق :
بمحمد تفعل هذا ؟ بمحمد تفعل هذا ؟ فوالله ما ركبك قط رجل أفضل عند الله
من محمد( ) . فأرفض البراق عرقا ، ما من نبى ولا رسول إلا وله مكانة عند
الله ، لكن تتجلى مكانة سيد رسل الله فى الأرض حينما نقف مع آيات القرآن
الكريم فنرى أن الله جل وعلا يخاطب كل الأنبياء والرسل بأسمائهم المجردة
إلا المصطفى ، فيقول رب العزة جل جلاله : وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ
أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة : 35] ، يَا نُوحُ اهْبِطْ
بِسَلامٍ مِنَّا [هود : 48] ، يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا [الصافات : 104 ، 105] ، يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّه
[القصص : 30] يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل
عمران : 55] يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ [هود : 81]
يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ، [ص : 26] يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ
[مريم : 7 ] ، يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم : 12 ]
فما أراد أن ينادى على المصطفى قال يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى
اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [الأحزاب : 45 ، 46] ، يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
[المائدة : 41] ، ونادى عليه بهذه الصفات الكريمة يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [المزمل : 1 ، 2 ] ،
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر : 1 ، 2]
هذه هى مكانة النبى عند الله هذه هى مكانة النبى عند الرب العلى جل فى
علاه ، فمن منا سيشهد الليلة عملياً للنبى ودينه ؟ ما أيسر التنظير كما
ذكرت اليوم فى خطبة الجمعة لمن يدعى حب النبى هو بعيد عن حب النبى ، ما
أيسر التنظير ، أى ما أيسر أن نتكلم كلاماً نظرياً جميلاً لكن من منا
ستحلى فى مظهره بشكل النبى ؟ من منا سيسير على منهج النبى فيمتثل فى
أمره ويجتنب نهيه ؟ ومن منا سيتخلق بأخلاق رسول الله ؟ فما أحوج الأمة
الآن بحكامها وعلماءه ودعاتها ورجالها ونسائها وأطفالها إلى أن ترجع من
جديد إلى أخلاق النبى .
أيها الأحبة : روى البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة – رضى الله عنه –
وجلكم يحفظ الحديث ، بل وكلكم سمع الحديث بلا نزاع : أن أعرابيا قام فى
طائفة المسجد النبوى - أى فى جانب من جوانب المسجد النبوى - فى حضرة النبى
وبال ، فقال الصحابة : مه مه ، وقال الحبيب صاحب الخلق : " دعوه لا
تذرموه اتركوه يكمل بوله فى المسجد " .. يعنى لو صمت النبى وسكت فحسب
والله لكان هذا الفعل
خلقاً كريماً لكنه يقول : " دعوه لا تذرموه اتركوه يكمل بوله " .. يعنى
دعوه يكمل بوله فى المسجد ماذا لو تبول جمع كبير كهذا الجمع ، وتبول ؟!
لكن صاحب الخلق
يقول : " دعوه لا تذرموه اتركوه يكمل بوله " .. يعنى لا تقطعوا عليه بوله
واكملَ الأعرابىُ بوله تماما بطمأنينة كاملة ، كأنه فى خلاء بيته ثم نادى
علي رسولُ الله فقال له : " إن المساجد لا تصلح لشئ من هذا وإنما جُعلت
للصلاة لذكر الله ولقراءة القرآن"( )
فقال رسول الله : " أئتونى بدلو ماء " فأخذ الماء وسكبه على مكان البول
فطهر المكان وأنهى الإشكال كله ، فانفعل الأعرابى ، انفعل بهذا الحلم
وبهذا الخلق ، وهذه الرحمة فدخل الصلاة ، وهذا فى غير رواية الصحيحين وظل
يقول : اللهم ارحمنى ومحمداً ، ولا ترحكم معنا أحدا ، فقال له المصطفى "
لقد تحجرت واسعا ، قال الله : ورحمتى وسعت كل شئ فلماذا ضيقت ما وسع الله
" ( )
وروى مسلم فى صحيحه من حديث معاوية بن أبى الحكم السلمى : بينما أنا اصلى
يوما مع رسول الله إذا عطس رجل من القوم قلت له : يرحمك الله . يقول :
فرمانى القوم بأبصارهم ، نظروا عليه بحدة وشدة – الرجل لا يعلم أن الحكم
نسخ فلقد كان الصحابة قبل ذلك يسلمون على النبى فى الصلاة ، فيرد النبى
عليه السلام ، ثم نسخ النبى هذا الحكم ونهى عن الكلام فى الصلاة ، وجاء
هذا الرجل ولا يعرف أن الحكم قد نسخ فوقف فى الصلاة فلما عطس رجل فى
الصلاة فقال له : يرحمك الله فرماه القوم بأبصارهم. يقول معاوية بن أبى
الحكم السلمى : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلى ؟! كل هذا فى الصلاة !!!
قلا فرأيت الناس يضربون بأيديهم على أفخاذهم يسكتوننى فسكت . يقول : فلما
أنهى النبىُ بأبيه وأمه قال : بأبى هو وأمى ، والله ما رأيت معلما قبله
ولا بعده أحسن منه ، والله ما نهرنى ولا ضربنى ولا شتمنى إنما قال لى : "
إن الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هو التسبيح والذكر وقراءة
القرآن " ( ).وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم : 4]
أيها الأحبة : إنه الخلق ، فوالله ثم والله لو ظللت اتحدث بالغرم من جهلى
وقلة بضاعتى ، لتحدثت طوال الليل كله عن خلق النبى ، فما أحوج الأمة
الآن أن تحول خلق النبى إلى منهج حياة وإلى واقع يتجلى سموا وروعة
وجلالا ، فما أيسر أن تختلف وأن تختفى الأمة بالمولد تارة وبالهجرة تارة
وبليلة النصف من شعبان تارة إلى آخره ، هذه الاحتفالات والأعياد التى كثرت
فى أمتنا. أسأل الله أن يكثر أعيادها على السنة. ما أحوج الأمة التى تجيد
الكلام والاحتفالات والقصائد والأشعار – إلى تحول خلق النبى المختار إلى
واقع عملى ومنهج حياة ، فلو ظللنا الدهر كله نتغنى بخلق النبى من قصائد
وأمسيات ومحاضرات واحتفالات التى يحضرها سادة القوم وعلية الناس ، بل
ويكلمون الأمة جميلاً عن خلق النبى ، لو ظللنا نتحدث الدهر كله ونحن لم
نمتثل أمره ونجتنب نهيه ولم نقف عند حده ، ولم نذب وندافع عن سنته ونحمل
هم دعوته ، والله لن نغير من الواقع شيئا ، فما أحوج الأمة فى هذا الشهر
الذى تحتفل فيه برسول الله أن تحول خلق النبى إلى واقع عملى وإلى منهج
حياة . أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة إلى القرآن وغليه وإلى النبى
رداً جميلاً ، إنه ولى ذلك والقادر عليه ، وصلى اللهم وسلم وزد وبارك على
سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.