الحكمة من صيام شعبان :
ـ عن أُسَامَة بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ ؟ قَالَ : ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ )[1] .وفي هذا الحديث فوائد عظيمة[2] :
1ـ "أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب و رمضان" يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام و شهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولاً عنه و كثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام و ليس كذلك 2ـ فيه إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه و يفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم
3ـ و فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة و أن ذلك محبوب لله عز وجل ولذلك فُضِلَ القيام في وسط الليل لغفلة أكثر الناس فيه عن الذكر .
4ـ في إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد : منها : أنه يكون أخفى و إخفاء النوافل وإسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد و ربه ، ومنها : أنه أشق على النفوس : وأفضل الأعمال أشقها على النفوس .
5ـ ومنها إحياء السنن المهجورة خاصة في هذا الزمان وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( بدأ الإسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ))
وفي صحيح مسلم [ من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( العبادة في الهرج كالهجرة إلي )) وخرجه الإمام أحمد ولفظه : [ العباد في الفتنة كالهجرة إلي ] و سبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم و لا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه و يعبد ربه و يتبع مراضيه و يجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه و منها أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي و الغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم و يدافع عنهم
قال بعض السلف : ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس .
و قد قيل في تأويل قوله تعالى : (( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )) أنه يدخل فيها دفعة عن العصاة بأهل الطاعة .
وجاء في الأثر : أن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذريته ومن حوله .
و قد قيل : في صوم شعبان معنى آخر : أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة و كلفة بل قد تمرن على الصيام و اعتاده و وجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام و لذته فيدخل في صيام رمضان بقوة و نشاط و لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام و قراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان و ترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن .
قال سلمة بن كهيل : كان يقال شهر شعبان شهر القراء و كان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال : هذا شهر القراء و كان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته و تفرغ لقراءة القرآن 6 ـ أنه شهر ترفع فيه الأعمال فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفع العمل لله تعالى والعبد على أفضل حال وأحسنه وأطيبه لما في الصوم من فضائل عظيمة وليكون ذلك سببًا في تجاوز الله تعالى عن ذنوب العبد حال توسله بلسان الحال في هذا المقام .
[1] رواه النسائي في الصيام باب صوم النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2317) ، وأحمد في مسند الأنصار (20758) ، وصححه الحافظ في الفتح (4/253) وقال : وصححه ابن خزيمة ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع(3711).
[2] باختصار وتصرف من كتاب لطائف المعارف لابن رجب