عتيرة رجب ما لها وما عليها
خالد سعد النجار
صار متحيرا في هذا الشأن، هل نتقرب بها إلى المولى - عز وجل -؟ أم أن
الأمر على خلاف ذلك؟ أسئلة تفرض نفسها وتبحث لها عن إجابة شافية!
قال الحافظ في الفتح:
العتيرة بوزن عظيمة، قال القزاز: سميت عتيرة بما يفعل من الذبح وهو
[العتر] فهي فعيلة بمعنى مفعولة. والعتيرة شاة تذبح عن أهل بيت في رجب،
وقال أبو عبيدة: العتيرة هي الرجبية، ذبيحة كانوا يذبحونها في الجاهلية في
رجب يتقربون بها لأصنامهم، وقال غيره: العتيرة نذر كانوا ينذرونه من بلغ
ماله كذا أن يذبح من كل عشرة منها رأسا في رجب. وذكر ابن سيدة أن
العتيرة أن الرجل كان يقول في الجاهلية: إن بلغ إبلي مائة عترت منها
عتيرة، زاد في الصحاح في رجب ونقل أبو داود تقييدها بالعشر الأول من رجب
(1)
فلما جاء الإسلام بنوره
وأمر الناس بالذبح لله - تعالى -بطل فعل أهل الجاهلية واختلف الفقهاء في
حكم ذبيحة رجب في الإسلام على قولين للعلماء:
• فذهب الجمهور من
الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن فعل العتيرة منسوخ واستدلوا بحديث
أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة)
(2)
• وذهب الشافعية إلى عدم نسخ حكم العتيرة وقالوا تستحب العتيرة وهو قول ابن سيرين
قال ابن رجب: وحكاه الإمام أحمد عن أهل البصرة ورجحه طائفة من أهل الحديث المتأخرين (3)
ومما استدل به القائلون
باستحباب العتيرة، ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بسند حسن عن مخنف
بن سليم الغامدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعرفة: (إن على كل
أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة وهي التي يسمونها الرجبية) (4)، وفي سنن
النسائي بسند صحيح عن نبيشة بن عمرو الصحابي - رضي الله عنه - أنهم
قالوا: يا رسول الله إنا كنا نعتر فيه في الجاهلية، يعني في رجب. قال -
صلى الله عليه وسلم -: (اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا الله وأطعموا)
(5) قال ابن حجر في الفتح: فلم يبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
العتيرة من أصلها وإنما أبطل خصوص الذبح في شهر رجب. وروى الحارث بن عمرو
- رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفرع
والعتائر فقال: (من شاء فرع ومن شاء لم يفرع، ومن شاء عتر ومن شاء لم
يعتر) (6) وفي حديث آخر بسند حسن قال - صلى الله عليه وسلم - (العتيرة حق)
(7)
قال ابن رجب رحمة الله -
تعالى -عليه: وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديث وبين حديث أبي هريرة (لا
فرع ولا عتيرة) بأن المنهي عنه هو ما كان يفعله أهل الجاهلية من الذبح
لغير الله وحمله سفيان بن عيينة على أن المراد به نفي الوجوب (
قال الحافظ ابن حجر في
تعليقه على حديث البخاري [(لا فرع ولا عتيرة) والفرع أول النتاج كانوا
يذبحونه لطواغيتهم والعتيرة في رجب]: قوله: (كانوا يذبحونه لطواغيتهم)
زاد أبو داود عن بعضهم (ثم يأكلونه ويلقى جلده على الشجر) فيه إشارة إلى
علة النهى، واستنبط الشافعي منه الجواز إذا كان الذبح لله جمعا بينه وبين
حديث (الفرع حق) وهو حديث أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم من رواية
داود بن قيس عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، كذا في رواية
الحاكم (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفرع قال: الفرع حق،
وأن تتركه حتى يكون بنت مخاض أو ابن لبون فتحمل عليه في سبيل الله أو
تعطيه أرملة خير من أن تذبحه يلصق لحمه بوبره وتوله ناقتك) وللحاكم من
طريق عمار بن أبى عمار عن أبى هريرة - رضي الله عنه - من قوله: (الفرعة
حق، ولا تذبحها وهى تلصق في يدك، ولكن أمكنها من اللبن حتى إذا كانت من
خيار المال فاذبحها)، قال الشافعي فيما نقله البيهقي من طريق المزني عنه:
الفرع شيء كان أهل الجاهلية ويذبحونه يطلبون به البركة في أموالهم، فكان
أحدهم يذبح بكر ناقته أو شاته رجاء البركة فيما يأتي بعده، فسألوا النبي
- صلى الله عليه وسلم - عن حكمها فأعلمهم أنه لا كراهة عليهم فيه،
وأمرهم استحبابا أن يتركوه حتى يحمل عليه في سبيل الله. وقوله [حق] أي
ليس بباطل، وهو كلام خرج على جواب السائل، ولا مخالفة بينه وبين حديث
الآخر [لا فرع ولا عتيرة] فإن معناه لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة. وقال
غيره معنى قوله [لا فرع ولا عتيرة] أي ليسا في تأكد الاستحباب كالأضحية،
والأول أولى. وقال النووي: نص الشافعي في حرملة على أن الفرع والعتيرة
مستحبان، ويؤيده ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم وابن
المنذر عن نبيشة - رضي الله عنه – قال: (نادى رجل رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال:
اذبحوا لله في أي شهر كان. قال: إنا كنا نفرع في الجاهلية. قال: في كل
سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه، فإن ذلك خير)
وفى رواية أبى داود عن أبى قلابة (السائمة مائة) ففي هذا الحديث أنه -
صلى الله عليه وسلم - لم يبطل الفرع والعتيرة من أصلهما، وإنما أبطل صفة
من كل منهما، فمن الفرع كونه يذبح أول ما يولد، ومن العتيرة خصوص الذبح
في شهر رجب. وأما الحديث الذي أخرج أصحاب السنن من طريق أبى رملة عن محنف
بن محمد بن سليم قال: (كنا وقوفا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
بعرفة، فسمعته يقول: يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية
وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي يسمونها الرجبية) فقد ضعفه الخطابي،
لكن حسنه الترمذي. ويمكن رده إلى ما حمل عليه حديث نبيشة. وروى النسائي
وصححه الحاكم من حديث الحارث بن عمرو أنه (لقي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في حجة الوداع، فقال رجل: يا رسول الله العتائر والفرائع؟ قال: من
شاء عتر ومن شاء لم يعتر، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع) وهذا صريح في
عدم الوجوب لكن لا ينفى الاستحباب ولا يثبته، فيؤخذ الاستحباب من حديث
آخر. وقد أخرج أبو داود من حديث أبى العشراء عن أبيه (أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - سئل عن العتيرة فحسنها) وأخرج أبو داود والنسائي وصححه
ابن حبان من طريق وكيع بن عديس عن عمه أبى رزين العقيلى قال: (قلت يا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنا كنا نذبح ذبائح في رجب فنأكل ونطعم
من جاءنا، فقال: لا بأس به قال وكيع بن عديس: فلا أدعه) وجزم أبو عبيد
بأن العتيرة تستحب، وفى هذا تعقب على من قال: إن ابن سيرين تفرد بذلك.
ونقل الطحاوى عن ابن عون أنه كان يفعله، ومال ابن المنذر إلى هذا وقال:
كانت العرب تفعلهما وفعلهما بعض أهل الإسلام بالإذن، ثم نهى عنهما،
والنهى لا يكون إلا عن شيء كان يفعل، وما قال أحد إنه نهى عنهما ثم أذن
في فعلهما ثم نقل عن العلماء تركهما إلا ابن سيرين، وكذا ذكر عياض أن
الجمهور على النسخ، وبه جزم الحازمى، وما تقدم نقله عن الشافعي يرد عليهم،
وقد أخرج أبو داود والحاكم والبيهقي - واللفظ له - بسند صحيح عن عائشة -
رضي الله عنه - (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفرعة في كل
خمسين واحدة) (9)
أما الجمهور من الحنفية
والمالكية والحنابلة والذين ذهبوا إلى أن فعل العتيرة منسوخ أجابوا عن
أقوال الفريق القائل بالاستحباب بعدة أدلة وتنوعت أساليبهم في عرضها..
ــ فمن العلماء من قال: حديث أبي هريرة أصح وأثبت من هذه الأحاديث فيكون العمل عليه دونها وهذه طريقة الإمام أحمد (10)
ــ وقال ابن المنذر: ثبت
أن عائشة - رضي الله عنها - قالت [أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في
الفرعة من كل خمسين بواحدة] قال: وروينا عن نبيشة الهذلي قال [سئل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله إنا كنا نعتر عتيرة في
الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ فقال: في كل سائمة فرع] وخبر عائشة وخبر
نبيشة ثابتان وقد كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية وفعله بعض أهل الإسلام
فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما ثم نهى عنهما - صلى الله عليه
وسلم - فقال (لا فرع ولا عتيرة) فانتهى الناس عنهما لنهيه إياهم عنهما،
ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل ولا نعلم أحدا من أهل
العلم يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نهاهم عنهما ثم أذن
فيهما والدليل على أن الفعل كان قبل النهي قوله - صلى الله عليه وسلم -
في حديث نبيشة (إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية وإنا كنا نفرع فرعا في
الجاهلية) وفي إجماع عوام علماء الأمصار على عدم استعمالهم ذلك وقوف عن
الأمر بهما مع ثبوت النهي عن ذلك بيان لما قلنا (11)
ــ وقال أصحاب الإمام أحمد: لا يسن شيء من ذلك وهذه الأحاديث منسوخة، قال الشيخ أبو محمد: ودليل النسخ أمران:
أحدهما: أن أبا هريرة -
رضي الله عنه - هو الذي روى حديث (لا فرع ولا عتيرة) وهو حديث متفق عليه
وأبو هريرة متأخر الإسلام أسلم في السنة السابعة من الهجرة.
والثاني: أن الفرع
والعتيرة كان فعلهما أمراً متقدما على الإسلام فالظاهر بقاؤهم عليه إلى
حين نسخه واستمرار النسخ من غير رافع له ولو قدرنا تقدم النهي على الأمر
بهما لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها وهذا خلاف الظاهر.
قال ابن القيم: فإذا ثبت
هذا فإن المراد بالخبر نفي كونها سنة لا تحريم فعلها ولا كراهته فلو ذبح
إنسان ذبيحة في رجب، أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو للصدقة به أو
إطعامه لم يكن ذلك مكروها (12) وهذا الكلام من ابن القيم رحمة الله عليه
كلاما جامعا حاسما للأمر، به شفى وكفى..
-------------
الهوامش والمصادر:
(1) فتح الباري ـ كتاب العقيقة ـ باب العتيرة ج9 ص 510 ط دار الريان ـ مصر.
(2) رواه البخاري 5473 في كتاب العقيقة باب الفرع، ومسلم 1976 في كتاب الأضاحي باب الفرع والعتيرة عن أبي هريرة.
(3) لطائف المعارف ـ ابن رجب الحنبلي ص 205.
(4) حديث حسن أخرجه أبو
داود 2788 في كتاب الأضاحي، باب ما جاء في إيجاب الأضاحي، والترمذي 1523
في كتاب الأضاحي باب رقم 19، والنسائي 7/ 167 في كتاب الفرع والعتيرة باب
رقم 1، وابن ماجة 3125 في كتاب الأضاحي باب الأضاحي واجبة أم لا؟ وقال
الحافظ ابن حجر في الفتح 10/6 سنده قوي وقال الألباني في صحيح سنن ابن
ماجة 2533 حديث حسن.
(5) حديث صحيح أخرجه أبو
داود 2830 في كتاب الأضاحي باب في العتيرة والنسائي 7/169-171 في كتاب
الفرع والعتيرة باب تفسير العتيرة وابن ماجة 3167 في كتاب الذبائح باب
الفرعة والعتيرة وقال الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2565حديث صحيح.
(6) حديث ضعيف أخرجه النسائي (7/168، 169) في كتاب الفرع والعتيرة باب رقم 1 وقال الألباني في ضعيف سنن النسائي 282 ضعيف.
(7) حديث حسن خرجه النسائي (7/168) في كتاب الفرع والعتيرة باب رقم 1 وقال الألباني في صحيح الجامع 4122 حسن.
( لطائف المعارف ـ ابن رجب الحنبلي ص 206.
(9) فتح الباري ج كتاب العقيقة 9 ص 512 / دار الريان ـ مصر.
(10) لطائف المعارف ـ ابن رجب الحنبلي ص 206.
(11) نقلا عن تعليق ابن القيم على سنن أبي داود من عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي / دار الفكر ج 7 ـ ص380.
(12) تعليق ابن القيم على سنن أبي داود من عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي / دار الفكر ج 7 ـ ص382
خالد سعد النجار
صار متحيرا في هذا الشأن، هل نتقرب بها إلى المولى - عز وجل -؟ أم أن
الأمر على خلاف ذلك؟ أسئلة تفرض نفسها وتبحث لها عن إجابة شافية!
قال الحافظ في الفتح:
العتيرة بوزن عظيمة، قال القزاز: سميت عتيرة بما يفعل من الذبح وهو
[العتر] فهي فعيلة بمعنى مفعولة. والعتيرة شاة تذبح عن أهل بيت في رجب،
وقال أبو عبيدة: العتيرة هي الرجبية، ذبيحة كانوا يذبحونها في الجاهلية في
رجب يتقربون بها لأصنامهم، وقال غيره: العتيرة نذر كانوا ينذرونه من بلغ
ماله كذا أن يذبح من كل عشرة منها رأسا في رجب. وذكر ابن سيدة أن
العتيرة أن الرجل كان يقول في الجاهلية: إن بلغ إبلي مائة عترت منها
عتيرة، زاد في الصحاح في رجب ونقل أبو داود تقييدها بالعشر الأول من رجب
(1)
فلما جاء الإسلام بنوره
وأمر الناس بالذبح لله - تعالى -بطل فعل أهل الجاهلية واختلف الفقهاء في
حكم ذبيحة رجب في الإسلام على قولين للعلماء:
• فذهب الجمهور من
الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن فعل العتيرة منسوخ واستدلوا بحديث
أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة)
(2)
• وذهب الشافعية إلى عدم نسخ حكم العتيرة وقالوا تستحب العتيرة وهو قول ابن سيرين
قال ابن رجب: وحكاه الإمام أحمد عن أهل البصرة ورجحه طائفة من أهل الحديث المتأخرين (3)
ومما استدل به القائلون
باستحباب العتيرة، ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بسند حسن عن مخنف
بن سليم الغامدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعرفة: (إن على كل
أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة وهي التي يسمونها الرجبية) (4)، وفي سنن
النسائي بسند صحيح عن نبيشة بن عمرو الصحابي - رضي الله عنه - أنهم
قالوا: يا رسول الله إنا كنا نعتر فيه في الجاهلية، يعني في رجب. قال -
صلى الله عليه وسلم -: (اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا الله وأطعموا)
(5) قال ابن حجر في الفتح: فلم يبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
العتيرة من أصلها وإنما أبطل خصوص الذبح في شهر رجب. وروى الحارث بن عمرو
- رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفرع
والعتائر فقال: (من شاء فرع ومن شاء لم يفرع، ومن شاء عتر ومن شاء لم
يعتر) (6) وفي حديث آخر بسند حسن قال - صلى الله عليه وسلم - (العتيرة حق)
(7)
قال ابن رجب رحمة الله -
تعالى -عليه: وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديث وبين حديث أبي هريرة (لا
فرع ولا عتيرة) بأن المنهي عنه هو ما كان يفعله أهل الجاهلية من الذبح
لغير الله وحمله سفيان بن عيينة على أن المراد به نفي الوجوب (
قال الحافظ ابن حجر في
تعليقه على حديث البخاري [(لا فرع ولا عتيرة) والفرع أول النتاج كانوا
يذبحونه لطواغيتهم والعتيرة في رجب]: قوله: (كانوا يذبحونه لطواغيتهم)
زاد أبو داود عن بعضهم (ثم يأكلونه ويلقى جلده على الشجر) فيه إشارة إلى
علة النهى، واستنبط الشافعي منه الجواز إذا كان الذبح لله جمعا بينه وبين
حديث (الفرع حق) وهو حديث أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم من رواية
داود بن قيس عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، كذا في رواية
الحاكم (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفرع قال: الفرع حق،
وأن تتركه حتى يكون بنت مخاض أو ابن لبون فتحمل عليه في سبيل الله أو
تعطيه أرملة خير من أن تذبحه يلصق لحمه بوبره وتوله ناقتك) وللحاكم من
طريق عمار بن أبى عمار عن أبى هريرة - رضي الله عنه - من قوله: (الفرعة
حق، ولا تذبحها وهى تلصق في يدك، ولكن أمكنها من اللبن حتى إذا كانت من
خيار المال فاذبحها)، قال الشافعي فيما نقله البيهقي من طريق المزني عنه:
الفرع شيء كان أهل الجاهلية ويذبحونه يطلبون به البركة في أموالهم، فكان
أحدهم يذبح بكر ناقته أو شاته رجاء البركة فيما يأتي بعده، فسألوا النبي
- صلى الله عليه وسلم - عن حكمها فأعلمهم أنه لا كراهة عليهم فيه،
وأمرهم استحبابا أن يتركوه حتى يحمل عليه في سبيل الله. وقوله [حق] أي
ليس بباطل، وهو كلام خرج على جواب السائل، ولا مخالفة بينه وبين حديث
الآخر [لا فرع ولا عتيرة] فإن معناه لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة. وقال
غيره معنى قوله [لا فرع ولا عتيرة] أي ليسا في تأكد الاستحباب كالأضحية،
والأول أولى. وقال النووي: نص الشافعي في حرملة على أن الفرع والعتيرة
مستحبان، ويؤيده ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم وابن
المنذر عن نبيشة - رضي الله عنه – قال: (نادى رجل رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال:
اذبحوا لله في أي شهر كان. قال: إنا كنا نفرع في الجاهلية. قال: في كل
سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه، فإن ذلك خير)
وفى رواية أبى داود عن أبى قلابة (السائمة مائة) ففي هذا الحديث أنه -
صلى الله عليه وسلم - لم يبطل الفرع والعتيرة من أصلهما، وإنما أبطل صفة
من كل منهما، فمن الفرع كونه يذبح أول ما يولد، ومن العتيرة خصوص الذبح
في شهر رجب. وأما الحديث الذي أخرج أصحاب السنن من طريق أبى رملة عن محنف
بن محمد بن سليم قال: (كنا وقوفا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
بعرفة، فسمعته يقول: يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية
وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي يسمونها الرجبية) فقد ضعفه الخطابي،
لكن حسنه الترمذي. ويمكن رده إلى ما حمل عليه حديث نبيشة. وروى النسائي
وصححه الحاكم من حديث الحارث بن عمرو أنه (لقي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في حجة الوداع، فقال رجل: يا رسول الله العتائر والفرائع؟ قال: من
شاء عتر ومن شاء لم يعتر، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع) وهذا صريح في
عدم الوجوب لكن لا ينفى الاستحباب ولا يثبته، فيؤخذ الاستحباب من حديث
آخر. وقد أخرج أبو داود من حديث أبى العشراء عن أبيه (أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - سئل عن العتيرة فحسنها) وأخرج أبو داود والنسائي وصححه
ابن حبان من طريق وكيع بن عديس عن عمه أبى رزين العقيلى قال: (قلت يا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنا كنا نذبح ذبائح في رجب فنأكل ونطعم
من جاءنا، فقال: لا بأس به قال وكيع بن عديس: فلا أدعه) وجزم أبو عبيد
بأن العتيرة تستحب، وفى هذا تعقب على من قال: إن ابن سيرين تفرد بذلك.
ونقل الطحاوى عن ابن عون أنه كان يفعله، ومال ابن المنذر إلى هذا وقال:
كانت العرب تفعلهما وفعلهما بعض أهل الإسلام بالإذن، ثم نهى عنهما،
والنهى لا يكون إلا عن شيء كان يفعل، وما قال أحد إنه نهى عنهما ثم أذن
في فعلهما ثم نقل عن العلماء تركهما إلا ابن سيرين، وكذا ذكر عياض أن
الجمهور على النسخ، وبه جزم الحازمى، وما تقدم نقله عن الشافعي يرد عليهم،
وقد أخرج أبو داود والحاكم والبيهقي - واللفظ له - بسند صحيح عن عائشة -
رضي الله عنه - (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفرعة في كل
خمسين واحدة) (9)
أما الجمهور من الحنفية
والمالكية والحنابلة والذين ذهبوا إلى أن فعل العتيرة منسوخ أجابوا عن
أقوال الفريق القائل بالاستحباب بعدة أدلة وتنوعت أساليبهم في عرضها..
ــ فمن العلماء من قال: حديث أبي هريرة أصح وأثبت من هذه الأحاديث فيكون العمل عليه دونها وهذه طريقة الإمام أحمد (10)
ــ وقال ابن المنذر: ثبت
أن عائشة - رضي الله عنها - قالت [أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في
الفرعة من كل خمسين بواحدة] قال: وروينا عن نبيشة الهذلي قال [سئل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله إنا كنا نعتر عتيرة في
الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ فقال: في كل سائمة فرع] وخبر عائشة وخبر
نبيشة ثابتان وقد كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية وفعله بعض أهل الإسلام
فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما ثم نهى عنهما - صلى الله عليه
وسلم - فقال (لا فرع ولا عتيرة) فانتهى الناس عنهما لنهيه إياهم عنهما،
ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل ولا نعلم أحدا من أهل
العلم يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نهاهم عنهما ثم أذن
فيهما والدليل على أن الفعل كان قبل النهي قوله - صلى الله عليه وسلم -
في حديث نبيشة (إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية وإنا كنا نفرع فرعا في
الجاهلية) وفي إجماع عوام علماء الأمصار على عدم استعمالهم ذلك وقوف عن
الأمر بهما مع ثبوت النهي عن ذلك بيان لما قلنا (11)
ــ وقال أصحاب الإمام أحمد: لا يسن شيء من ذلك وهذه الأحاديث منسوخة، قال الشيخ أبو محمد: ودليل النسخ أمران:
أحدهما: أن أبا هريرة -
رضي الله عنه - هو الذي روى حديث (لا فرع ولا عتيرة) وهو حديث متفق عليه
وأبو هريرة متأخر الإسلام أسلم في السنة السابعة من الهجرة.
والثاني: أن الفرع
والعتيرة كان فعلهما أمراً متقدما على الإسلام فالظاهر بقاؤهم عليه إلى
حين نسخه واستمرار النسخ من غير رافع له ولو قدرنا تقدم النهي على الأمر
بهما لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها وهذا خلاف الظاهر.
قال ابن القيم: فإذا ثبت
هذا فإن المراد بالخبر نفي كونها سنة لا تحريم فعلها ولا كراهته فلو ذبح
إنسان ذبيحة في رجب، أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو للصدقة به أو
إطعامه لم يكن ذلك مكروها (12) وهذا الكلام من ابن القيم رحمة الله عليه
كلاما جامعا حاسما للأمر، به شفى وكفى..
-------------
الهوامش والمصادر:
(1) فتح الباري ـ كتاب العقيقة ـ باب العتيرة ج9 ص 510 ط دار الريان ـ مصر.
(2) رواه البخاري 5473 في كتاب العقيقة باب الفرع، ومسلم 1976 في كتاب الأضاحي باب الفرع والعتيرة عن أبي هريرة.
(3) لطائف المعارف ـ ابن رجب الحنبلي ص 205.
(4) حديث حسن أخرجه أبو
داود 2788 في كتاب الأضاحي، باب ما جاء في إيجاب الأضاحي، والترمذي 1523
في كتاب الأضاحي باب رقم 19، والنسائي 7/ 167 في كتاب الفرع والعتيرة باب
رقم 1، وابن ماجة 3125 في كتاب الأضاحي باب الأضاحي واجبة أم لا؟ وقال
الحافظ ابن حجر في الفتح 10/6 سنده قوي وقال الألباني في صحيح سنن ابن
ماجة 2533 حديث حسن.
(5) حديث صحيح أخرجه أبو
داود 2830 في كتاب الأضاحي باب في العتيرة والنسائي 7/169-171 في كتاب
الفرع والعتيرة باب تفسير العتيرة وابن ماجة 3167 في كتاب الذبائح باب
الفرعة والعتيرة وقال الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2565حديث صحيح.
(6) حديث ضعيف أخرجه النسائي (7/168، 169) في كتاب الفرع والعتيرة باب رقم 1 وقال الألباني في ضعيف سنن النسائي 282 ضعيف.
(7) حديث حسن خرجه النسائي (7/168) في كتاب الفرع والعتيرة باب رقم 1 وقال الألباني في صحيح الجامع 4122 حسن.
( لطائف المعارف ـ ابن رجب الحنبلي ص 206.
(9) فتح الباري ج كتاب العقيقة 9 ص 512 / دار الريان ـ مصر.
(10) لطائف المعارف ـ ابن رجب الحنبلي ص 206.
(11) نقلا عن تعليق ابن القيم على سنن أبي داود من عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي / دار الفكر ج 7 ـ ص380.
(12) تعليق ابن القيم على سنن أبي داود من عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي / دار الفكر ج 7 ـ ص382