اختلاف الطباع و التوجهات
التي أفرزها تناقض التنشئة التربوية والبيئية
إن الاختلافات بين الناس بعضهم البعض والمتعلقة في
كينونتهم أمر ملاحظ شرعًا وعقلاً، وهذا بُين في قول النبي صلى الله عليه
وسلم: " تَجِدُ النَّاس معادِن؛ خِيَارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلامِ
إذا فَقِهُوا ". [متفق عليه. أخرجه البخاري (3494) كتاب المناقب، باب قول
الله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر" ومسلم(2526) كتاب فضائل
الصحابة، باب خيار الناس].
انظر وتأمل تجد الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، تجد أحدهم أصله يبدو أنه
ذهب وآخر أصله ماس، وثالث فضة، ورابع صفيح، وخامس، وسادس.. هكذا تجد الناس
في أصول؛ ولهذه الأصول تأثير على الثبات، تأثير على العبادة، تأثير على
العلاقة مع الله، المعادن الأصيلة أصيلة في أصل الخلقة. ليس المقياس بالمال
أو المظهر أو السكن ولا محل الولادة، إنما نتكلم عن الأصل، أصل الأب، أصل
الأم، إذا كان كريم الأصل والعنصر يكون إنسانًا كبير القلب، كبير الهمة،
عظيم الأخلاق، ثابت العلاقة مع الله عز وجل، كل هذا إذا فقه الإسلام.
انظر الى كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الفَخرُ والخُيَلاءُ في
الفَّدادِينَ أهلِ الوَبَر، والسكينة في أهل الغنم، والإيمان يمان،
والحكمة يمانية" خاري (3499) كتاب المناقب، باب قوله
تعالى: : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر" ومسلم رقم (52) كتاب الإيمان،
باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه.
إنك تجد إنسانًا يلتزم وهو أصلاً كان قبل الالتزام شيئاً آخر، صاحب أخلاق
رديئة، فإنه بعد الالتزام يحاول أن يتغير، ولكن غالباً تغلب طباعه القديمة،
فإن أعانه الله على نفسه تغير طبعه، وتخلص من نفسه القديمة، وولد قلبه
ولادة جديدة، صار إنساناً جديداً لا يمتُ للماضي بصلة، وإن ظل معه أصله
القديم-فإن العرق دساس، والإنسان ينزع إلى أصله،ويعود إلى فصله ومحتده-
فإنه حينذاك يظل يتراجع، ويتراجع حتى يعود من حيث بدأ.
انظر إلى هذا الحديث، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول:"والسكينة في أهل الغنم، الفخر والخيلاء في الفدادين أهل
الخير والوبر".[هذا لفظ مسلم. والمتقدم هو لفظ البخاري في صحيحه، بهذا
التقديم والتأخير].
- الفدادين: قال الإمام النووي:" إن الفديد هو الصوت الشديد، فهم الذين تعلو أصواتهم في خيلهم وإبلهم وحرثهم".
- عندما يلتزم الأخ يحدث نفس الشيء، عندما يلمس أخ رجله برجله وقت الصلاة- و لصق الكعب بالكعب سنة- يقول لك : "إني أتقزز من ذلك" .
- التزام " الخمس نجوم":-
قد يدعوك البعض إلى مسجد فيقول لك: "إن هذا المسجد سوف يعجبك، فهو مكيف
الهواء، وفيه ثريات ملونة"،وقد تستغرب مما يقول لك، ولكنه اعتاد حياة
"الخمس نجوم"، ويريد أن تكون المساجد كذلك.
الشاهد: هكذا يختلف الناس من حيث أصل المعدن؛ من حيث البيئة، فلكل منهما
تأثير، ولكن لا شك أن تأثير الإيمان أقوى، ولكن النزعات تختلف، فيتصارع
الإيمان مع الأصل والمعدن، فأيهما يغلب غلب، تختلف النزعات فتعود وتلح،
تظهر كل مدة تجذب إلى الخلف.
إننى أريد أن نكون صرحاء مع بعضنا البعض. إن المسلم ليس معزولاً عن أبناء
مجتمعه وموازين التقويم عندهم، فهو واقع تحت أنظارهم، دائر في محيط
عباراتهم ومديحهم، متأثر بكلمات الإطراء التى كان يسمعها من مجتمعه
الجاهلي، والآن لا يسمعها من الذين يحيطون به من إخوانه الملتزمين، فتجد
أحد الإخوة قد يكون مديرًا عامًّا في إحدى الشركات، أو عمل من الأعمال،
يدخل المسجد فيفاجأ بأخ يقول له: "جزاك الله خيرًا، شرح الله صدرك، ويبارك
فيك إذا قصرت هذه العباءة قليلاً": "أتعلم مع من تتحدث؟ إنني أرأس فريقًا
أقل من فيهم أفضل منك"، هذا لأنه إذا ذهب إلى العمل بالعباءة يقولون له:"ما
هذا الذي ترتديه، إنها عباءة جميلة، إنك تشبه الملاك وأنت ترتديها"، ثم
يسمع الأخ يقول له: "قصر العباءة". فهكذا يظل الأمر ينزع إلى كيف يتلقى
هنا، وكيف يتلقى هناك، فينفر من المسجد.
إن الأمر يحتاج إلى شيء من اللطف والتلطف، أولاً أن
تقول له: "إنني أصْدقك القول، إنك منذ حضرت إلى المسجد استنار وجهك. ربنا
ثبتْ قلوبنا على الإيمان." وبعد الصلاة قل له : "ماشاء الله، إن هذه
العباءة غالية الثمن، بارك الله لك فيها، إنني كنت أود أن أشتري لك واحدة
ولكن كنت أنت السابق، ولكنني كنت سأحضرها لك قصيرة من أجل قول الرسول صلى
الله عليه وسلم : "ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار"[أخرجه البخاري
رقم (5787) كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار]. لذا أود أن
تحاذر من هذا الموضوع.."
هكذا تكون دعوتك قائمة على الحكمة والموعظة الحسنة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما استأذن عليه رجل قال: "بئس أخو العشيرة!
وبئس ابن العشيرة!" [متفق عليه أخرجه البخاري(6032) كتاب الأدب، باب لم يكن
النبي فاحشًا ولا متفحشا، ومسلم(2591) باب البر والصلة والآداب، باب
مداراة من يتقى لفحشه].
فلما دخل الرجل تلطف معه وأحسن إليه وأكرمه، فعتبت عليه السيدة عائشة،
وكلكم يعرف القصة عندما رد عليها بأن "شر الناس من يُتقى لفحشه".
فنحن نحتاج إلى المداراة، ليس طول الوقت، ولكن في بعض الأحيان. الشاهد: أنك
تجد الشخص متعودًا على الثناء العاطر والمجاملات ثم تفاجئه أنت بهذه
المواجهات الساخنة!! وأضرب لك مثالاً من الواقع:
كان لأحد الإخوة أخ حليق، كان يقول دائما: "والله يا فلان إنك تذكرني
بالفأر المسلوخ، إنني أكره أن أراك". حتى قدر الله وكان أحد الإخوة يزور
هذا الأخ، وسمع الأخ وهو ينهر أخاه فتأذى من قوله: "تذكرني بالفأر"، وحدث
أن خرج مع هذا الحليق ومشى معه يرطب قلبه ويكلمه كلامًا طيبًا، فقال له:
"والله كلما هممت أن أعفي لحيتي تذكرت كلمته، فامتنعت أن أفعل بسبب تنفيره
لي وأذاه لي، فأنا لا ألتزم لأجل خاطره".
فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس إنَّ مِنْكُمْ
مُنَفِّرِينَ" [متفق عليه أخرجه البخاري(704) كتاب الأذان، باب من شكا
إمامه إذا طَوَّل. ومسلم (466) كتاب الصلاة. باب أمرالأمة بتخفيف الصلاة في
تمام].
إنه قد يجلس في المسجد بين الإخوة أحد أصحاب الملايين، فيمر الأخ فيطأ
رقبته، ولا يكلف الأخ نفسه أن يلتفت فيعتذر، والرجل هو من هو، فينبغي علينا
أو نحتاط لهذه الأمور، فلا ننفر أمثال هؤلاء من الإخوة.
تجد أن أختا من الأخوات تدخل المسجد لأول مرة وهي ترتدي "إيشاربًا"، فتفاجأ
بالأخوات ينظرن إليها شزرًا، فنقول للأخوات: "إن من دخلت مسجدنا نكرمها،
وندعوها إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة".
ولنذكر قول رسولنا صلى الله عليه وسلم:"من غدا إلى المسجد أو راح، أعَدَّ
الله له في الجنة نزلاً كُلما غدا أو راح" [متفق عليه أخرجه البخاري(662)
كتاب الأذان، باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح، ومسلم (669) كتاب المساجد
ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات].
ونقول للأخوات: إنه حق على المزور أن يكرم زائره بالكلمة اللطيفة،
الابتسامة اللطيفة، النظرة الحنون، واللمسة المشفقة، الدعوة الصادقة،
الدعاء الحار، والهدية الصغيرة.. كل ذلك يؤلف القلوب.
تجد الأخ يأتي إلى المسجد أول مرة ليحضر مجلس علم،
وبعد الدرس يقبل الإخوة بعضهم على بعض، هذا يصافح هذا، وهذا يحتضن هذا،
وهذا يمازح الآخر، وهذا الوافد قد ترك وحيداً شريداً منبوذاً لا أحد
يصافحه، فينكسر قلبه، يستوحش ويحس بالغربة وسط الإخوة.
أو تلام الأخت الحديثة الالتزام على أنها ترتدي ملابس قصيرة أو ملونة تحت
عباءتها، وكل هذا ينفر الأخوات حديثات الالتزام من حضور مجالس العلم، وهن
أحوج ما يَكُنَّ إلى تلكم المجالس التي ترطب القلوب، وتعرف بالله وبسنة
رسوله عليه الصلاة والسلام.
إن هذه المقابلات التى تترك أسوأ الأثر في نفوس حديثي الالتزام قد تحدث
شرخًا كبيرًا في حائط التزامهم، وقد تمنعهم من الاستمرار، وهذا الشرخ يعمل
الزمن على توسعته، ومع تكرار الهزات وعدم الصلابة في جدار الإيمان يحصل
التصدع والانهيار.
ليس معنى ما سبق أننا نشجع التزام "الخمس نجوم"، أو أنَّنا نشجع الطبقية في
الإسلام، فهذا النموذج مرفوض، وخير الأمور الوسط، فلا نتردى إلى مرتبة
الهمجية، ولا نترفع على عباد الله المسلمين، وأسوتنا في ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم حيث قال: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع
أحدٌ لله إلا رفعه الله" [أخرجه مسلم (2588) كتاب البر والصلة والآداب، باب
استحباب العفو والتواضع]. وقال مجاهد في قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ} [الفتح :29] قال: التواضع.
وعلاج هذه القضية يتمثل في الأمر التالية:
- التخلص من رواسب الجاهلية.
- فهم ميزان الإسلام للأشخاص.
- التواضع وذم النفس.
- الالتزام مع مجموعة متناسبة والحب في الله لا للهوى
أولاً: التخلص من رواسب الجاهلية:
أيها الإخوة:
لا بد أن كُلاَّ منا مر في فترة الشباب بفترة جاهلية، أي: جهل فيها وعصى
الله وابتعد، وأن الإنسان مهما سار في طريق الالتزام فإنه -وإن طال سيره-
تظل فيه بقايا من رواسب الجاهلية في تصوراته، أو في آرائه، أو في مفاهيمه،
أو في أخلاقه، أو في تطلعاته وآماله.
ومن أخطر هذه الرواسب على الإطلاق:
* تعلق القلب بالدنيا.
إن الإنسان في بداية الالتزام- مع فرحه وسعادته بالتزامه وانشغاله بهموم
الآخرة، وأيضًا مع حماس البداية وسخونة القرارات – قد ينشغل بكل ذلك عن
موضوع الدنيا و المال. فإذا فتر حماسه، وهدأ حاله، وتبين الوضع، ودب إليه
شيء من الفتور، بدأ يتراجع وينظر مرة أخرى إلى الدنيا.
هنا يستيقظ ذئبان جائعان فيفسدان دينه أيما إفساد؛ قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أُرْسِِِِِلا في غَنَمٍ بأفْسَدَ لها من
حِرْصِِِ المرءِ على الماِل، والشرف لِدِينه" [أخرجه الامام أحمد في
مسنده(15357) والترمذي (2376) كتاب الزهد عن رسول الله، باب ما جاء في أخذ
المال بحقه. وقال: حسن صحيح. والحديث بسط الكلام عليه العلامة ابن رجب
الحنبلي في رسالته"ذم المال والجاه" وعلَّق عليها شيخنا المفضال د/ أسامة
محمد عبد العظيم. فارجع إليها فإنَّها ثمينة] .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم – بأبي أنت وأمي ونفسي يا رسول الله صلى
الله عليك وسلم، وجزاك عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جازى نبيِّاً عن
أمته ورسولاً عن قومه، لقد نصحت وبلغت وما كتمت ولا غششت – .فهذا وصف دقيق
واضح، وهو مشاهد واقعيّا، يزيدنا إيماناً بأن الحرص على المال والجاه يفسد
الدين أيما فساد.
أيها الإخوة:
إننا لسنا بمنأى عن الواقع ولا بمعزل عن المجتمع، إنني أقر أننا نعيش في
عصر مادي بحت، عم فيه الطمع والجشع، والتنافس على الازدياد من حطامها، وقد
قال الله عز وجل:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا َلا يُبْخَسُونَ}
[هود:15] .
نعم، جشع، وأي جشع! قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا
لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} {الإسراء:18}
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فوالله ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن
أخْشَى أن تُبْسط عليكم الدنيا كما بُسطت على مَنْ كان قبلكم فتنافسوها كما
تَنَافسُوها، فتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُم".[متفق عليه. أخرجه
البخاري(4015) كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدراً. ومسلم (2961) كتاب
الزهد والرقائق].
إن هذا السبب الخطير هو الذي يؤدي إلى السقوط والتردي والتراجع والفتور،
والحور بعد الكور.[ الحور بعد الكور؛ قيل هو النقصان بعد الزيادة. وقيل: هو
فساد الأمور بعد صلاحها. انظر النهاية(ح و ر). وقال صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وفِتْنَةُ أُمَّتِي المالُ". [أخرجه
الترمذي(2336) كتاب الزهد عن رسول الله، باب ما جاء أنَّ فتنة هذه الأمة في
المال، وقال: حسن صحيح غريب].
إن الإنسان بعد فترة من الالتزام يجد نفسه قد تراجع دنيوياًّ خطوات، قل ماله أو فسد جاهه أو.. أو.. إلخ.
فيسارع مرة أخرى لإعادة ما ضاع واسترجاع ما فات، فينغمس في الدنيا، والدنيا فخ، والجاهل من أول نظرة يقع.
بداية الانزلاق في فتنة المال هو الشعور أن التزامه بالدين سيضيع عليه مستوى أفضل من الحياة.
حينها يبدأ التحرك لجمع المال، وجمع المال يحتاج إلى وقت، وكلما طال الوقت
شغل القلب، فإذا كان الإنسان يعمل من الثامنة صباحًا حتى الثامنة مساءً..
فأين قلبه حينئذ..؟ أين دينه يومئذ..؟ ماذا بقي منه..؟
إنه سيصبح كما وصفه عبد الله بن مسعود رضى الله عنه
:"والمفتون بالمال لا يشبع": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان
لابن آدم واديَان منْ مالِ لابْتَغَى ثالثاً، ولا يمَلأ جَوفَ ابْنٍ آدَمَ َ
إلا الترابُ، ويتوب الله على من تاب".[متفق عليه أخرجه البخاري(6436) كتاب
الرقاق، باب ما يتقى في فتنة المال. واللفظ له. ومسلم (1050) كتاب الزكاة،
باب لو أنَّ لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً].
العـلاج
علاج تعلق القلب بالدنيا أمور منها:
أولاً : أن يكون عند الإنسان استعداد تام للتضحية ولو بالدنيا وما فيها من أجل رضا الله عز وجل.
كان لبشير الطبري أربعمائة من جاموس في عبيد كثير يرعونها، فأغار الروم
يوماً على مزرعته فأخذوا الجواميس كلها، وفر عبيده وأرسلوا إليه فركب مع
ابن له حتى دخل المزرعة، فلقيه العبيد يبكون قائلين:
"يا سيدنا، يا مولانا، أخذت الجواميس!"
قال: "وأنتم أيضًا اذهبوا، فأنتم أحرار لوجه الله".
قال له ابنه: "يا أبت أفقرتنا!"
فقال: "اسكت يابني، إن ربي أراد أن يختبر رضائي به فأحببت أن أزيده".
أظن أنه ينبغي ألا نعلق بعد هذا المثال، ولكن لكل مقام مقال.. ما يضرك إن فقدت الدنيا وما فيها ووجدت الله..؟
ماذا فقدت حينئذ؟؟!!
أخي: الجمع بين الأضداد غير ممكن، فمن أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه.
إن الأخ حين يضطر إلى ترك بعض الكماليات والتخلي عن بعض الرفاهيات يَعُدُّ
هذا ضرَّا، وليس بضر إن تركت بعض الضروريات أيضًا في سبيل الله، وإن تخليت
عن بعض الحاجيات، لا بأس أيضًا، لابد أن يكون في بداية الطريق عندك
الاستعداد لهذا:
أ- أن تلبس ملابسك القديمة سنين، وأن تتنازل عن المنطقة الراقية التي تسكن
فيها، والشقة الواسعة، والسيارة الفارهة، وإلا ستتخلف عن ركب الإيمان:
{سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا
وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11]
ب- أن يكون عندك الاستعداد لترك كل ما يخالف دينك أو يعطلك عن الجنة ولو لحظة.
انظر إلى مصعب بن عمير، وقد كان أشد الناس رفاهية في مكة؛ يُستورد له
الطيب، وله ملابس لا يلبسها غيره، فجأة بعد إسلامه يضيع عليه هذا كله،
وتتنوع عليه الضغوط من أمه:
أولاً: تحرمه من الميراث بعد موتها.. فلا يتراجع.
ثانيًا: تمنعه المال في حياتها حتى لا يجد طعامًا ولا ملبسًا.. فلا يتراجع.
ثالثًا: تمتنع عن الطعام لتموت فيعير بها.. فلا يتراجع.
بل ينطلق أول سفير في الإسلام داعية إلى الله مهاجرًا إلى يثرب، ليفتحها
بالدعوة، والأعجب من كل هذا يستشهد في سبيل الله فلا يجدون له كفنًا إلا
قميصه القصير إن غُطِّي رأسه بدت رجلاه ، وإن غُطِّي رجلاه بدت رأسه،
فيغطون رجليه بشيء من نبات الإذخر.
والعجب العجاب أن يغبطه على هذه الحياة و على تلك النهاية الأغنياء، فهذا
عبد الرحمن بن عوف أحد الأغنياء في الإسلام يغبطه على هذا، ويتمنى لو كان
لنفسه.
فوا عجبًا ما تكابد! يا من أشقاه حب المال وجمع المال.
قال علي بن أبي طالب:
"الدنيا مثل الحية: لين مسها، قاتل سمها، فأعرض عما أعجبك منها لقلة ما
يصحبك منها، ودع عنك همومها لما أيقنت من فواتها، وكن أحذر ما تكون لها
وأنت آنس ما تكون بها، فإن صاحبها كلما طمأنه منها سرور أشخصه عنها مكروه،
وإن سكن منها إلى إيناس أزله عنها إيحاش".
وقال أبو العتاهية:
أَرَى الدنيا لمن هي في يَدَيْهِ *** عـذابًا كُلمَا كثـُرَتْ لَدَيْــــه
تُهينُ المكرِمِينَ لها بصُغْـــرِ *** وتُكْرمُ كُلَّ مَنْ هانَت عَلَيهِ
إِذا استَغْنَيْتَ عَنْ شَيءِ فَدَعْـهُ *** وخُذْ ما أنْتَ مُحْتَـاج إِليْــهِ
العلاج الثاني: فهم الدنيا:
قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} {الكهف:7} وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة ة وإيتاء
الزكاة" [أخرجه الإمام أحمد في مسنده(21399). وصححه الشيخ الألباني في
صحيح الجامع(781)].
إن فقدان الفهم الصحيح لزينة الحياة الدنيا من المال والبنين، المنصب والجاه، مُؤْذِن بفقدان الالتزام.
وقد سبق معنا في علاج السبب الأول من أسباب الفتور ذكر نظرة الإسلام
للحياة، وهذه الآية أجعلها دومًا إشارة مضيئة مع هذا الحديث ابتلاء لحسن
العمل.
تأمل معي هذا الحديث: إن سر إنزال المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولكن
لو كان ابن آدم لا يريد المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإنما لينعم
بالدنيا، ويلتذ بالعيش، وينافس في عز الدنيا، فكيف يكون الحال..؟ يطلب
الزيادة ليطغى { إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى(*) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى}.
{العلق}. وإن من أسباب الفتنة بالدنيا النظر إلى مال الأغنياء، ولذا نهى
الله عنه فقال:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"
انظرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ولا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هَوَ
فَوْقَكُم،فَهُوَ أَجْدَرُ ألا تزدَرُوا نِعْمَةَ الله".[أخرجه مسلم (2963)
كتاب الزهد والرقائق].
فالنظر إلى متاع الدنيا والإعجاب به سبب للفتنة به، وقد ابتلي شباب اليوم
بالتجول في الشوارع والتطلع إلى معروضات الثياب والكماليات ومشاهدة
السيارات في الشوارع وغيرها، وتطلعه إلى ذلك مفسد لقلبه، مضيع لدينه.
إنَّ غضَّ البصر المأمور به ليس عن المتبرجات فحسب، ولكن عن زينة الدنيا كذلك كما هي أوامر الله في تلك الآية.
يقول ابن الجوزي: "ثم إن صاحب المال خائف عليه محاسب لمعامليه، مذموم إن
أسرف، مذموم إن قتر، ولده يرصد موته، وجاريته لا ترضى بشخصه، وهو مشغول
بحفظ حواشيه، وقد مضى زمانُه في محن، واللذات فيها خُلس معتادة، لا لذة
فيها، ثم في القيامة يحشر الأمير والتاجر خزايا إلا من رحم الله، فإياك أن
تنظر إلى صورة نعيمهم، فإنك تَسْتَطِيبُه لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته".
صدق والله: "إنك تستطيبه لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته".
تنظر إلى راكب "المرسيدس" وساكن المناطق الراقية، وصاحب الأموال أنهم
سعداء، ولو علمت الحقيقة لعلمت أنهم المعذبون في الأرض إن لم يكونوا ممن
أسعد الله قلوبهم بمحبته وطاعته.
ومن فَهْمِ الدنيا أن تعرف قيمتها بالنسبة إلى الآخرة.
قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}[ التوبة:38].
وقال تعالى: {وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى
وقال تعالى:{وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} {الأعلى:17}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل
أحدكم أُصْبُعَهُ في اليَمِّ فلينظر بماذا يَرْجِعُ".[أخرجه الترمذي (2323)
كتاب الزهد. وقال: حسن صحيح. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي(1892).
و أصله في صحيح مسلم (2858) كتاب الجنة وصفة نعيمها بغير هذا اللفظ].
إن الذي يؤمل نعيم الآخرة لا يضره أن يعيش في الدنيا كيفما اتفق؛ لما انقطع
شسع نعل الإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- قيل له: "لو أتيناك بنعلين
خير من هذين؟" فقال الإمام: " يا بني إنما هو طعام دون طعام ولباس دون
لباس، و إنما هي أيام قلائل".
وقد سبق الكل سيد الكل محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له عمر: "بأبي أنت
وأمي يا رسول الله، كسرى وقيصر يتقلبان في الحرير والديباج،وأنت رسول الله
تنام على حصير يؤثر في جنبك؟!" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا
تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرة ولهم الدنيا" . [جزء من حديث طويل أخرجه مسلم
(1479) كتاب الطلاق، باب في الإيلاء].
ففي الآخرة عزاء، وفيها الغناء، وفيها العوض، وفيها النعيم المقيم.
· عزى فقير فقال: "ما ضرهم ما أصابهم، جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة".
العلاج الثالث: الزهد والرضى والقناعة:
* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أَسْلَمَ ورُزِقَ
كَفَافًا، وقَنَّعَهُ اللهُ بما آتاه" [أخرجه مسلم (1054) كتاب الزكاة، باب
في الكفاف والقناعة].
* دخل بعضُ الناس على زاهد وعنده خبز يابس، فقيل له: "كيف تشتهي هذا..؟" قال: "أتركه حتى أشتهيه".
* قال ابن الجوزي: "ويحك! إنما يكون الجهاد بين الأمثال، فأي قدر للدنيا
حتى يحتاج قلبك إلى محاربة لها؟ أما علمت أن شهواتها جيف ملقاة؟.
* يا هذا، الآخرة أمامك، والدنيا وراءك، والطلب لما وراءك هزيمة.
* يا مهلكًا نفسه التي لا قيمة لها؛ لأجل دنيا لا وقع لها.
* إلى كم هذا الحرص، وما تنال غير المقدور، قل للنفس الحريصة: "لقد بعتِ الآخرة رخيصة" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ كل فيها إلا ذكرَ الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً".[أخرجه
الترمذي (2322) كتاب الزهد عن رسول الله. وقال حسن غريب، وابن ماجة(4112)
كتاب الزهد. باب مثل الدنيا، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي(1891) ]
. قال المباركفوري: قوله: "وما والاه" أي ما أحبه الله من أعمال البر
وأفعال القرب.
إن القناعة بما أعطاك الله والرضا بالقليل سبيل لتقليل هَمِّ الدنيا ثم
القضاء عليه. إن المشغولين بالدنيا ليل نهار لابد أن تخطفهم الدنيا من
الآخرة فيعقب ذلك النفاق الواضح؛
أن يصير ملتزمًا شكلاً لا موضوعًا، وظاهرًا لا باطنًا، وقولاً لا عملاً، وادعاءً لا حقيقة قال تعالى:{وَ
َمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ{*} فَلَمَّا آتَاهُم
مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ{*}
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا
أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}[التوبة]. و في ختام هذا العلاج يتحتم سؤال : هل المطلوب من المسلم أن يكون غنيَّا أو يكون فقيراً..؟
والإجابة عنه بمنتهى الصراحة والوضوح والحسم:
إن المطلوب من المسلم أن يكون راضيًا عن الله، دائم العمل في إرضاء الله،
مشغولاً بالله غير مشغول عن الله، ثم لا يضره بعد ذلك أن يكون غنيًّا أو
فقيرًا.
المهم أن يكون الله راضيًا عنه، وأن يكون هو راضيًا عن الله، وليكن بعد ذلك ما يكون.
ثانيًا: فهم ميزان الإسلام للأشخاص:
ثم يأتي العلاج الثاني لمسألة اختلاف الطباع والتوجهات بسبب اختلاف التربية
والبيئة "وهو أن ندرك المقياس الإسلامي الذي به نزن النَّاس".
قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات :13].
إن القيم والأقدار وآثارها الحسان الممتدة على مسارب الزمن لاتقوم بالجاه
والمنصب ولا بالألقاب والمدائح الممنوحة، وإنما قوامها بالفضل والجهاد،
وربط العلم بالعمل، ونبل النفس، والأدب الجم والسمت الحسن، فهذه وأمثالها
هي التي يوزن بها الرجال وتوزن بها الأعمال،و إلى هذا التراث المبارك تشخص
أبصار العالم، ولكل نبأ مستقر.
بعض الناس يجتذبه الشرف والرياسة، فترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، يستعبده
من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يلومه ولو بالحق، فهذا سرعان ما يعود
فنقول له: اتق الله! إن أكرمكم عند الله أتقاكم. قال ربنا عز وجل: {
ْالمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
قال بعض المفسرين: قال ربنا: زينة، فهما زينة وليسا قيمة، فلا يُقَوَّم
بهما الناس، بمعنى أن قَدْرَك لا يقدر بالملابس التي ترتدي، ولا نوع
السيارة التي تستقل، ولا نوع المسكن الذي فيه تعيش، إنما التقويم بالتقوى،
والتقوى في الصدر، لا يعلمها إلا الله، فلعل من تحتقر يكون أفضل منك عند
الله، فلذلك يكون العلاج بفهم ميزان الإسلام للأشخاص.
عن أبي هريرة- رضى الله عنه- أنَّه قال: قيل: يا رسول الله، من أكرم
النَّاس؟ قال: " أتقاهم.."متفق عليه. أخرجه البخاري (3353) في أحاديث
الأنبياء. باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا}. ومسلم (2378)
في الفضائل. باب من فضائل يوسف].
و عن أبي سعيد الخدري قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال
يا رسول الله، أي النَّاس خير؟ قال: "رجلٌ جاهد بنفسه وماله، ورجلٌ في شعب
من الشعاب يعبد ربه ويدع النَّاس من شرّه". 6494) في
الرقاق. باب العزلة راحة من خلاط السوء. ومسلم (1888) في الإمارة. باب فضل
الجهاد والرباط
ومن خيار النَّاس أحاسنهم أخلاقًا، مُعَلِّم النَّاس الخير، متعلم القرآن ومعلمه، المجاهد في سبيل الله..إلخ.
هذه هي المقاييس الإسلامية التى يوزن النَّاس في ظلها، فلا بالغنى ولا
بالجاه، ولا بالصيت ولا بالمركز الاجتماعي، ولا بمثل هذا يكرم المرء، ليتنا
نُقدر النَّاس بطاعتهم لله جل وعلا لا بمالهم من الدنيا، ويترتب على هذا
أصل عظيم من أصول هذا الدين القويم "الولاء والبراء" "الحب والبغض في
الله".
ثالثا: التواضع وذم النفس ومجاهدتها على ذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ حقَّا على الله أن لا يرفع شيئًا
من الدنيا إلا وضعه" [أخرجه البخاري (6501) كتاب الرقاق، باب التواضع].
* قال الحافظ: "فيه إشارة إلى الحث على عدم الترفع، والحث على التواضع، والإعلام بأنَّ أمور الدنيا ناقصة غير كاملة".
* قال ابن بطال: "فيه هوان الدنيا على الله، والتنبيه على ترك المباهاة
والفخر، وأنَّ كل شيء هان على الله فهو في محل الضعة، فحق على كل ذي عقل أن
يزهد فيه، ويقل منافسته في طلبه".
* قال الطبري: "في التواضع مصلحة الدين والدنيا؛ فإنَّ النَّاس لو استعملوه
في الدنيا لزالت بينهم الشحناء، ولاستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة".
اهـ.
وقد قالوا: "تاج المرء التواضع".
حَقيقّ بالتواضع مَن يموتُ ويكفي المرءَ من دنياه قوتُ
فيا هذا سترحلُ عن قريبٍ إلـى قـومٍ كـلامُهــمُ سكــوتُ
يا أخي، إنَّ من أعجبته نفسه وأحوالها لا يثبت له قدم العبودية؛ لأنَّه
مراءِ في أفعاله وأحواله، فهو واقف مع وجوده وإيجاده وعزة في نفسه؛ لذلك لا
ينتفع بعلم ولا ينفعه عمل.
أدريت من أين أُتيت؟ لقد تغافلت عن شهود نعمة الله عليك واشتغلت بعيوب
النَّاس، ورأيت نفسك بعين المدح، وحقها القدح فلا تأمن مكر الله، وألن
جانبك للنَّاس، فإنَّ : "الكبر بطر الحق وغمط النَّاس"[أخرجه مسلم (91)
كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه]. وراقب نفسك بعين الازدراء.
من أخمل النَّفس أحياها ورَوّحها ولـم يبــت طاويًـا منها على ضجـر
إنَّ الرياح إذا اشتدت عواصفهـا فليس ترمي سوى العالي من الشجر
رابعا:الالتزام مع مجموعة متناسبة والحب في الله لا للهوى.
لا شك أنَّ المرء بطبعه يميل لمن يشترك معه في صفة من الصفات؛ ولذلك تنشأ الألفة بين تلك الأرواح المتعارفة.
فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" [أخرجه
مسلم (2638) كتاب البر والصلة والآداب، باب الأرواح جنود مجندة، وعلقه
الإمام البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء. باب الأرواح جنود مجندة].
ولذلك قال أهل العلم: "ما ترى اثنين يتحابان إلا وبينها اتفاق في الصفات الطبيعية، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة".
ولذلك اغتمَّ بعضهم لما علم أنَّ رجلاً من أهل النقصان يحبه، فسُئل عن ذلك فقال: "لا يكون ذلك إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه".
فالتجانس أمر فطري، لكننا نقول هنا إنَّ ذلك لابد له من ضبط وهو الاشتراك
في طاعة الله، فتحب المرء لا تحبه إلا لله، إلا لاجتهاده في مرضاة الله،
فترتبط بمجموعة من الإخوة شأنهم التعاون على الطاعة، تتذاكرون العلم،
تذهبون معًا إلى دروس العلم،و تواظبون على أداء الجماعة في المسجد، كلَّ
منكم يأخذ بيد أخيه.
إخوتاه
لما فقدنا معاني الأخوة، لمَّا افتقدنا أعوان الطاعة تسبب ذلك فيما نشعر به
من الفتور، فهلا عودة إلى سابق العهد! قال صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا
الجنة حتى تؤمنوا، ولاتؤمنون حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيْء إذا فعلتموه
تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" [أخرجه مسلم (54) كتاب الإيمان. باب بيان
أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. وأنَّ محبة المؤمنين من الإيمان، وأنَّ
إفشاء السلام سبب لحصولها].
الى كل من يقرأ مواضيعى
الرجاء الدعاء لى ولأهلى بهذا الدعاء
اللهم فك كربنا وسدد ديونا
وارزقنا بالرزق الحلال ووسعه علينا
ومتعنا بالصحة والعافية
آمين يارب
التي أفرزها تناقض التنشئة التربوية والبيئية
إن الاختلافات بين الناس بعضهم البعض والمتعلقة في
كينونتهم أمر ملاحظ شرعًا وعقلاً، وهذا بُين في قول النبي صلى الله عليه
وسلم: " تَجِدُ النَّاس معادِن؛ خِيَارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلامِ
إذا فَقِهُوا ". [متفق عليه. أخرجه البخاري (3494) كتاب المناقب، باب قول
الله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر" ومسلم(2526) كتاب فضائل
الصحابة، باب خيار الناس].
انظر وتأمل تجد الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، تجد أحدهم أصله يبدو أنه
ذهب وآخر أصله ماس، وثالث فضة، ورابع صفيح، وخامس، وسادس.. هكذا تجد الناس
في أصول؛ ولهذه الأصول تأثير على الثبات، تأثير على العبادة، تأثير على
العلاقة مع الله، المعادن الأصيلة أصيلة في أصل الخلقة. ليس المقياس بالمال
أو المظهر أو السكن ولا محل الولادة، إنما نتكلم عن الأصل، أصل الأب، أصل
الأم، إذا كان كريم الأصل والعنصر يكون إنسانًا كبير القلب، كبير الهمة،
عظيم الأخلاق، ثابت العلاقة مع الله عز وجل، كل هذا إذا فقه الإسلام.
انظر الى كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الفَخرُ والخُيَلاءُ في
الفَّدادِينَ أهلِ الوَبَر، والسكينة في أهل الغنم، والإيمان يمان،
والحكمة يمانية" خاري (3499) كتاب المناقب، باب قوله
تعالى: : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر" ومسلم رقم (52) كتاب الإيمان،
باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه.
إنك تجد إنسانًا يلتزم وهو أصلاً كان قبل الالتزام شيئاً آخر، صاحب أخلاق
رديئة، فإنه بعد الالتزام يحاول أن يتغير، ولكن غالباً تغلب طباعه القديمة،
فإن أعانه الله على نفسه تغير طبعه، وتخلص من نفسه القديمة، وولد قلبه
ولادة جديدة، صار إنساناً جديداً لا يمتُ للماضي بصلة، وإن ظل معه أصله
القديم-فإن العرق دساس، والإنسان ينزع إلى أصله،ويعود إلى فصله ومحتده-
فإنه حينذاك يظل يتراجع، ويتراجع حتى يعود من حيث بدأ.
انظر إلى هذا الحديث، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول:"والسكينة في أهل الغنم، الفخر والخيلاء في الفدادين أهل
الخير والوبر".[هذا لفظ مسلم. والمتقدم هو لفظ البخاري في صحيحه، بهذا
التقديم والتأخير].
- الفدادين: قال الإمام النووي:" إن الفديد هو الصوت الشديد، فهم الذين تعلو أصواتهم في خيلهم وإبلهم وحرثهم".
- عندما يلتزم الأخ يحدث نفس الشيء، عندما يلمس أخ رجله برجله وقت الصلاة- و لصق الكعب بالكعب سنة- يقول لك : "إني أتقزز من ذلك" .
- التزام " الخمس نجوم":-
قد يدعوك البعض إلى مسجد فيقول لك: "إن هذا المسجد سوف يعجبك، فهو مكيف
الهواء، وفيه ثريات ملونة"،وقد تستغرب مما يقول لك، ولكنه اعتاد حياة
"الخمس نجوم"، ويريد أن تكون المساجد كذلك.
الشاهد: هكذا يختلف الناس من حيث أصل المعدن؛ من حيث البيئة، فلكل منهما
تأثير، ولكن لا شك أن تأثير الإيمان أقوى، ولكن النزعات تختلف، فيتصارع
الإيمان مع الأصل والمعدن، فأيهما يغلب غلب، تختلف النزعات فتعود وتلح،
تظهر كل مدة تجذب إلى الخلف.
إننى أريد أن نكون صرحاء مع بعضنا البعض. إن المسلم ليس معزولاً عن أبناء
مجتمعه وموازين التقويم عندهم، فهو واقع تحت أنظارهم، دائر في محيط
عباراتهم ومديحهم، متأثر بكلمات الإطراء التى كان يسمعها من مجتمعه
الجاهلي، والآن لا يسمعها من الذين يحيطون به من إخوانه الملتزمين، فتجد
أحد الإخوة قد يكون مديرًا عامًّا في إحدى الشركات، أو عمل من الأعمال،
يدخل المسجد فيفاجأ بأخ يقول له: "جزاك الله خيرًا، شرح الله صدرك، ويبارك
فيك إذا قصرت هذه العباءة قليلاً": "أتعلم مع من تتحدث؟ إنني أرأس فريقًا
أقل من فيهم أفضل منك"، هذا لأنه إذا ذهب إلى العمل بالعباءة يقولون له:"ما
هذا الذي ترتديه، إنها عباءة جميلة، إنك تشبه الملاك وأنت ترتديها"، ثم
يسمع الأخ يقول له: "قصر العباءة". فهكذا يظل الأمر ينزع إلى كيف يتلقى
هنا، وكيف يتلقى هناك، فينفر من المسجد.
إن الأمر يحتاج إلى شيء من اللطف والتلطف، أولاً أن
تقول له: "إنني أصْدقك القول، إنك منذ حضرت إلى المسجد استنار وجهك. ربنا
ثبتْ قلوبنا على الإيمان." وبعد الصلاة قل له : "ماشاء الله، إن هذه
العباءة غالية الثمن، بارك الله لك فيها، إنني كنت أود أن أشتري لك واحدة
ولكن كنت أنت السابق، ولكنني كنت سأحضرها لك قصيرة من أجل قول الرسول صلى
الله عليه وسلم : "ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار"[أخرجه البخاري
رقم (5787) كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار]. لذا أود أن
تحاذر من هذا الموضوع.."
هكذا تكون دعوتك قائمة على الحكمة والموعظة الحسنة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما استأذن عليه رجل قال: "بئس أخو العشيرة!
وبئس ابن العشيرة!" [متفق عليه أخرجه البخاري(6032) كتاب الأدب، باب لم يكن
النبي فاحشًا ولا متفحشا، ومسلم(2591) باب البر والصلة والآداب، باب
مداراة من يتقى لفحشه].
فلما دخل الرجل تلطف معه وأحسن إليه وأكرمه، فعتبت عليه السيدة عائشة،
وكلكم يعرف القصة عندما رد عليها بأن "شر الناس من يُتقى لفحشه".
فنحن نحتاج إلى المداراة، ليس طول الوقت، ولكن في بعض الأحيان. الشاهد: أنك
تجد الشخص متعودًا على الثناء العاطر والمجاملات ثم تفاجئه أنت بهذه
المواجهات الساخنة!! وأضرب لك مثالاً من الواقع:
كان لأحد الإخوة أخ حليق، كان يقول دائما: "والله يا فلان إنك تذكرني
بالفأر المسلوخ، إنني أكره أن أراك". حتى قدر الله وكان أحد الإخوة يزور
هذا الأخ، وسمع الأخ وهو ينهر أخاه فتأذى من قوله: "تذكرني بالفأر"، وحدث
أن خرج مع هذا الحليق ومشى معه يرطب قلبه ويكلمه كلامًا طيبًا، فقال له:
"والله كلما هممت أن أعفي لحيتي تذكرت كلمته، فامتنعت أن أفعل بسبب تنفيره
لي وأذاه لي، فأنا لا ألتزم لأجل خاطره".
فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس إنَّ مِنْكُمْ
مُنَفِّرِينَ" [متفق عليه أخرجه البخاري(704) كتاب الأذان، باب من شكا
إمامه إذا طَوَّل. ومسلم (466) كتاب الصلاة. باب أمرالأمة بتخفيف الصلاة في
تمام].
إنه قد يجلس في المسجد بين الإخوة أحد أصحاب الملايين، فيمر الأخ فيطأ
رقبته، ولا يكلف الأخ نفسه أن يلتفت فيعتذر، والرجل هو من هو، فينبغي علينا
أو نحتاط لهذه الأمور، فلا ننفر أمثال هؤلاء من الإخوة.
تجد أن أختا من الأخوات تدخل المسجد لأول مرة وهي ترتدي "إيشاربًا"، فتفاجأ
بالأخوات ينظرن إليها شزرًا، فنقول للأخوات: "إن من دخلت مسجدنا نكرمها،
وندعوها إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة".
ولنذكر قول رسولنا صلى الله عليه وسلم:"من غدا إلى المسجد أو راح، أعَدَّ
الله له في الجنة نزلاً كُلما غدا أو راح" [متفق عليه أخرجه البخاري(662)
كتاب الأذان، باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح، ومسلم (669) كتاب المساجد
ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات].
ونقول للأخوات: إنه حق على المزور أن يكرم زائره بالكلمة اللطيفة،
الابتسامة اللطيفة، النظرة الحنون، واللمسة المشفقة، الدعوة الصادقة،
الدعاء الحار، والهدية الصغيرة.. كل ذلك يؤلف القلوب.
تجد الأخ يأتي إلى المسجد أول مرة ليحضر مجلس علم،
وبعد الدرس يقبل الإخوة بعضهم على بعض، هذا يصافح هذا، وهذا يحتضن هذا،
وهذا يمازح الآخر، وهذا الوافد قد ترك وحيداً شريداً منبوذاً لا أحد
يصافحه، فينكسر قلبه، يستوحش ويحس بالغربة وسط الإخوة.
أو تلام الأخت الحديثة الالتزام على أنها ترتدي ملابس قصيرة أو ملونة تحت
عباءتها، وكل هذا ينفر الأخوات حديثات الالتزام من حضور مجالس العلم، وهن
أحوج ما يَكُنَّ إلى تلكم المجالس التي ترطب القلوب، وتعرف بالله وبسنة
رسوله عليه الصلاة والسلام.
إن هذه المقابلات التى تترك أسوأ الأثر في نفوس حديثي الالتزام قد تحدث
شرخًا كبيرًا في حائط التزامهم، وقد تمنعهم من الاستمرار، وهذا الشرخ يعمل
الزمن على توسعته، ومع تكرار الهزات وعدم الصلابة في جدار الإيمان يحصل
التصدع والانهيار.
ليس معنى ما سبق أننا نشجع التزام "الخمس نجوم"، أو أنَّنا نشجع الطبقية في
الإسلام، فهذا النموذج مرفوض، وخير الأمور الوسط، فلا نتردى إلى مرتبة
الهمجية، ولا نترفع على عباد الله المسلمين، وأسوتنا في ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم حيث قال: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع
أحدٌ لله إلا رفعه الله" [أخرجه مسلم (2588) كتاب البر والصلة والآداب، باب
استحباب العفو والتواضع]. وقال مجاهد في قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ} [الفتح :29] قال: التواضع.
وعلاج هذه القضية يتمثل في الأمر التالية:
- التخلص من رواسب الجاهلية.
- فهم ميزان الإسلام للأشخاص.
- التواضع وذم النفس.
- الالتزام مع مجموعة متناسبة والحب في الله لا للهوى
أولاً: التخلص من رواسب الجاهلية:
أيها الإخوة:
لا بد أن كُلاَّ منا مر في فترة الشباب بفترة جاهلية، أي: جهل فيها وعصى
الله وابتعد، وأن الإنسان مهما سار في طريق الالتزام فإنه -وإن طال سيره-
تظل فيه بقايا من رواسب الجاهلية في تصوراته، أو في آرائه، أو في مفاهيمه،
أو في أخلاقه، أو في تطلعاته وآماله.
ومن أخطر هذه الرواسب على الإطلاق:
* تعلق القلب بالدنيا.
إن الإنسان في بداية الالتزام- مع فرحه وسعادته بالتزامه وانشغاله بهموم
الآخرة، وأيضًا مع حماس البداية وسخونة القرارات – قد ينشغل بكل ذلك عن
موضوع الدنيا و المال. فإذا فتر حماسه، وهدأ حاله، وتبين الوضع، ودب إليه
شيء من الفتور، بدأ يتراجع وينظر مرة أخرى إلى الدنيا.
هنا يستيقظ ذئبان جائعان فيفسدان دينه أيما إفساد؛ قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أُرْسِِِِِلا في غَنَمٍ بأفْسَدَ لها من
حِرْصِِِ المرءِ على الماِل، والشرف لِدِينه" [أخرجه الامام أحمد في
مسنده(15357) والترمذي (2376) كتاب الزهد عن رسول الله، باب ما جاء في أخذ
المال بحقه. وقال: حسن صحيح. والحديث بسط الكلام عليه العلامة ابن رجب
الحنبلي في رسالته"ذم المال والجاه" وعلَّق عليها شيخنا المفضال د/ أسامة
محمد عبد العظيم. فارجع إليها فإنَّها ثمينة] .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم – بأبي أنت وأمي ونفسي يا رسول الله صلى
الله عليك وسلم، وجزاك عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جازى نبيِّاً عن
أمته ورسولاً عن قومه، لقد نصحت وبلغت وما كتمت ولا غششت – .فهذا وصف دقيق
واضح، وهو مشاهد واقعيّا، يزيدنا إيماناً بأن الحرص على المال والجاه يفسد
الدين أيما فساد.
أيها الإخوة:
إننا لسنا بمنأى عن الواقع ولا بمعزل عن المجتمع، إنني أقر أننا نعيش في
عصر مادي بحت، عم فيه الطمع والجشع، والتنافس على الازدياد من حطامها، وقد
قال الله عز وجل:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا َلا يُبْخَسُونَ}
[هود:15] .
نعم، جشع، وأي جشع! قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا
لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} {الإسراء:18}
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فوالله ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن
أخْشَى أن تُبْسط عليكم الدنيا كما بُسطت على مَنْ كان قبلكم فتنافسوها كما
تَنَافسُوها، فتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُم".[متفق عليه. أخرجه
البخاري(4015) كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدراً. ومسلم (2961) كتاب
الزهد والرقائق].
إن هذا السبب الخطير هو الذي يؤدي إلى السقوط والتردي والتراجع والفتور،
والحور بعد الكور.[ الحور بعد الكور؛ قيل هو النقصان بعد الزيادة. وقيل: هو
فساد الأمور بعد صلاحها. انظر النهاية(ح و ر). وقال صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وفِتْنَةُ أُمَّتِي المالُ". [أخرجه
الترمذي(2336) كتاب الزهد عن رسول الله، باب ما جاء أنَّ فتنة هذه الأمة في
المال، وقال: حسن صحيح غريب].
إن الإنسان بعد فترة من الالتزام يجد نفسه قد تراجع دنيوياًّ خطوات، قل ماله أو فسد جاهه أو.. أو.. إلخ.
فيسارع مرة أخرى لإعادة ما ضاع واسترجاع ما فات، فينغمس في الدنيا، والدنيا فخ، والجاهل من أول نظرة يقع.
بداية الانزلاق في فتنة المال هو الشعور أن التزامه بالدين سيضيع عليه مستوى أفضل من الحياة.
حينها يبدأ التحرك لجمع المال، وجمع المال يحتاج إلى وقت، وكلما طال الوقت
شغل القلب، فإذا كان الإنسان يعمل من الثامنة صباحًا حتى الثامنة مساءً..
فأين قلبه حينئذ..؟ أين دينه يومئذ..؟ ماذا بقي منه..؟
إنه سيصبح كما وصفه عبد الله بن مسعود رضى الله عنه
:"والمفتون بالمال لا يشبع": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان
لابن آدم واديَان منْ مالِ لابْتَغَى ثالثاً، ولا يمَلأ جَوفَ ابْنٍ آدَمَ َ
إلا الترابُ، ويتوب الله على من تاب".[متفق عليه أخرجه البخاري(6436) كتاب
الرقاق، باب ما يتقى في فتنة المال. واللفظ له. ومسلم (1050) كتاب الزكاة،
باب لو أنَّ لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً].
العـلاج
علاج تعلق القلب بالدنيا أمور منها:
أولاً : أن يكون عند الإنسان استعداد تام للتضحية ولو بالدنيا وما فيها من أجل رضا الله عز وجل.
كان لبشير الطبري أربعمائة من جاموس في عبيد كثير يرعونها، فأغار الروم
يوماً على مزرعته فأخذوا الجواميس كلها، وفر عبيده وأرسلوا إليه فركب مع
ابن له حتى دخل المزرعة، فلقيه العبيد يبكون قائلين:
"يا سيدنا، يا مولانا، أخذت الجواميس!"
قال: "وأنتم أيضًا اذهبوا، فأنتم أحرار لوجه الله".
قال له ابنه: "يا أبت أفقرتنا!"
فقال: "اسكت يابني، إن ربي أراد أن يختبر رضائي به فأحببت أن أزيده".
أظن أنه ينبغي ألا نعلق بعد هذا المثال، ولكن لكل مقام مقال.. ما يضرك إن فقدت الدنيا وما فيها ووجدت الله..؟
ماذا فقدت حينئذ؟؟!!
أخي: الجمع بين الأضداد غير ممكن، فمن أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه.
إن الأخ حين يضطر إلى ترك بعض الكماليات والتخلي عن بعض الرفاهيات يَعُدُّ
هذا ضرَّا، وليس بضر إن تركت بعض الضروريات أيضًا في سبيل الله، وإن تخليت
عن بعض الحاجيات، لا بأس أيضًا، لابد أن يكون في بداية الطريق عندك
الاستعداد لهذا:
أ- أن تلبس ملابسك القديمة سنين، وأن تتنازل عن المنطقة الراقية التي تسكن
فيها، والشقة الواسعة، والسيارة الفارهة، وإلا ستتخلف عن ركب الإيمان:
{سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا
وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11]
ب- أن يكون عندك الاستعداد لترك كل ما يخالف دينك أو يعطلك عن الجنة ولو لحظة.
انظر إلى مصعب بن عمير، وقد كان أشد الناس رفاهية في مكة؛ يُستورد له
الطيب، وله ملابس لا يلبسها غيره، فجأة بعد إسلامه يضيع عليه هذا كله،
وتتنوع عليه الضغوط من أمه:
أولاً: تحرمه من الميراث بعد موتها.. فلا يتراجع.
ثانيًا: تمنعه المال في حياتها حتى لا يجد طعامًا ولا ملبسًا.. فلا يتراجع.
ثالثًا: تمتنع عن الطعام لتموت فيعير بها.. فلا يتراجع.
بل ينطلق أول سفير في الإسلام داعية إلى الله مهاجرًا إلى يثرب، ليفتحها
بالدعوة، والأعجب من كل هذا يستشهد في سبيل الله فلا يجدون له كفنًا إلا
قميصه القصير إن غُطِّي رأسه بدت رجلاه ، وإن غُطِّي رجلاه بدت رأسه،
فيغطون رجليه بشيء من نبات الإذخر.
والعجب العجاب أن يغبطه على هذه الحياة و على تلك النهاية الأغنياء، فهذا
عبد الرحمن بن عوف أحد الأغنياء في الإسلام يغبطه على هذا، ويتمنى لو كان
لنفسه.
فوا عجبًا ما تكابد! يا من أشقاه حب المال وجمع المال.
قال علي بن أبي طالب:
"الدنيا مثل الحية: لين مسها، قاتل سمها، فأعرض عما أعجبك منها لقلة ما
يصحبك منها، ودع عنك همومها لما أيقنت من فواتها، وكن أحذر ما تكون لها
وأنت آنس ما تكون بها، فإن صاحبها كلما طمأنه منها سرور أشخصه عنها مكروه،
وإن سكن منها إلى إيناس أزله عنها إيحاش".
وقال أبو العتاهية:
أَرَى الدنيا لمن هي في يَدَيْهِ *** عـذابًا كُلمَا كثـُرَتْ لَدَيْــــه
تُهينُ المكرِمِينَ لها بصُغْـــرِ *** وتُكْرمُ كُلَّ مَنْ هانَت عَلَيهِ
إِذا استَغْنَيْتَ عَنْ شَيءِ فَدَعْـهُ *** وخُذْ ما أنْتَ مُحْتَـاج إِليْــهِ
العلاج الثاني: فهم الدنيا:
قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} {الكهف:7} وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة ة وإيتاء
الزكاة" [أخرجه الإمام أحمد في مسنده(21399). وصححه الشيخ الألباني في
صحيح الجامع(781)].
إن فقدان الفهم الصحيح لزينة الحياة الدنيا من المال والبنين، المنصب والجاه، مُؤْذِن بفقدان الالتزام.
وقد سبق معنا في علاج السبب الأول من أسباب الفتور ذكر نظرة الإسلام
للحياة، وهذه الآية أجعلها دومًا إشارة مضيئة مع هذا الحديث ابتلاء لحسن
العمل.
تأمل معي هذا الحديث: إن سر إنزال المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولكن
لو كان ابن آدم لا يريد المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإنما لينعم
بالدنيا، ويلتذ بالعيش، وينافس في عز الدنيا، فكيف يكون الحال..؟ يطلب
الزيادة ليطغى { إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى(*) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى}.
{العلق}. وإن من أسباب الفتنة بالدنيا النظر إلى مال الأغنياء، ولذا نهى
الله عنه فقال:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"
انظرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ولا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هَوَ
فَوْقَكُم،فَهُوَ أَجْدَرُ ألا تزدَرُوا نِعْمَةَ الله".[أخرجه مسلم (2963)
كتاب الزهد والرقائق].
فالنظر إلى متاع الدنيا والإعجاب به سبب للفتنة به، وقد ابتلي شباب اليوم
بالتجول في الشوارع والتطلع إلى معروضات الثياب والكماليات ومشاهدة
السيارات في الشوارع وغيرها، وتطلعه إلى ذلك مفسد لقلبه، مضيع لدينه.
إنَّ غضَّ البصر المأمور به ليس عن المتبرجات فحسب، ولكن عن زينة الدنيا كذلك كما هي أوامر الله في تلك الآية.
يقول ابن الجوزي: "ثم إن صاحب المال خائف عليه محاسب لمعامليه، مذموم إن
أسرف، مذموم إن قتر، ولده يرصد موته، وجاريته لا ترضى بشخصه، وهو مشغول
بحفظ حواشيه، وقد مضى زمانُه في محن، واللذات فيها خُلس معتادة، لا لذة
فيها، ثم في القيامة يحشر الأمير والتاجر خزايا إلا من رحم الله، فإياك أن
تنظر إلى صورة نعيمهم، فإنك تَسْتَطِيبُه لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته".
صدق والله: "إنك تستطيبه لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته".
تنظر إلى راكب "المرسيدس" وساكن المناطق الراقية، وصاحب الأموال أنهم
سعداء، ولو علمت الحقيقة لعلمت أنهم المعذبون في الأرض إن لم يكونوا ممن
أسعد الله قلوبهم بمحبته وطاعته.
ومن فَهْمِ الدنيا أن تعرف قيمتها بالنسبة إلى الآخرة.
قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}[ التوبة:38].
وقال تعالى: {وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى
وقال تعالى:{وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} {الأعلى:17}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل
أحدكم أُصْبُعَهُ في اليَمِّ فلينظر بماذا يَرْجِعُ".[أخرجه الترمذي (2323)
كتاب الزهد. وقال: حسن صحيح. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي(1892).
و أصله في صحيح مسلم (2858) كتاب الجنة وصفة نعيمها بغير هذا اللفظ].
إن الذي يؤمل نعيم الآخرة لا يضره أن يعيش في الدنيا كيفما اتفق؛ لما انقطع
شسع نعل الإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- قيل له: "لو أتيناك بنعلين
خير من هذين؟" فقال الإمام: " يا بني إنما هو طعام دون طعام ولباس دون
لباس، و إنما هي أيام قلائل".
وقد سبق الكل سيد الكل محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له عمر: "بأبي أنت
وأمي يا رسول الله، كسرى وقيصر يتقلبان في الحرير والديباج،وأنت رسول الله
تنام على حصير يؤثر في جنبك؟!" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا
تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرة ولهم الدنيا" . [جزء من حديث طويل أخرجه مسلم
(1479) كتاب الطلاق، باب في الإيلاء].
ففي الآخرة عزاء، وفيها الغناء، وفيها العوض، وفيها النعيم المقيم.
· عزى فقير فقال: "ما ضرهم ما أصابهم، جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة".
العلاج الثالث: الزهد والرضى والقناعة:
* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أَسْلَمَ ورُزِقَ
كَفَافًا، وقَنَّعَهُ اللهُ بما آتاه" [أخرجه مسلم (1054) كتاب الزكاة، باب
في الكفاف والقناعة].
* دخل بعضُ الناس على زاهد وعنده خبز يابس، فقيل له: "كيف تشتهي هذا..؟" قال: "أتركه حتى أشتهيه".
* قال ابن الجوزي: "ويحك! إنما يكون الجهاد بين الأمثال، فأي قدر للدنيا
حتى يحتاج قلبك إلى محاربة لها؟ أما علمت أن شهواتها جيف ملقاة؟.
* يا هذا، الآخرة أمامك، والدنيا وراءك، والطلب لما وراءك هزيمة.
* يا مهلكًا نفسه التي لا قيمة لها؛ لأجل دنيا لا وقع لها.
* إلى كم هذا الحرص، وما تنال غير المقدور، قل للنفس الحريصة: "لقد بعتِ الآخرة رخيصة" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ كل فيها إلا ذكرَ الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً".[أخرجه
الترمذي (2322) كتاب الزهد عن رسول الله. وقال حسن غريب، وابن ماجة(4112)
كتاب الزهد. باب مثل الدنيا، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي(1891) ]
. قال المباركفوري: قوله: "وما والاه" أي ما أحبه الله من أعمال البر
وأفعال القرب.
إن القناعة بما أعطاك الله والرضا بالقليل سبيل لتقليل هَمِّ الدنيا ثم
القضاء عليه. إن المشغولين بالدنيا ليل نهار لابد أن تخطفهم الدنيا من
الآخرة فيعقب ذلك النفاق الواضح؛
أن يصير ملتزمًا شكلاً لا موضوعًا، وظاهرًا لا باطنًا، وقولاً لا عملاً، وادعاءً لا حقيقة قال تعالى:{وَ
َمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ{*} فَلَمَّا آتَاهُم
مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ{*}
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا
أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}[التوبة]. و في ختام هذا العلاج يتحتم سؤال : هل المطلوب من المسلم أن يكون غنيَّا أو يكون فقيراً..؟
والإجابة عنه بمنتهى الصراحة والوضوح والحسم:
إن المطلوب من المسلم أن يكون راضيًا عن الله، دائم العمل في إرضاء الله،
مشغولاً بالله غير مشغول عن الله، ثم لا يضره بعد ذلك أن يكون غنيًّا أو
فقيرًا.
المهم أن يكون الله راضيًا عنه، وأن يكون هو راضيًا عن الله، وليكن بعد ذلك ما يكون.
ثانيًا: فهم ميزان الإسلام للأشخاص:
ثم يأتي العلاج الثاني لمسألة اختلاف الطباع والتوجهات بسبب اختلاف التربية
والبيئة "وهو أن ندرك المقياس الإسلامي الذي به نزن النَّاس".
قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات :13].
إن القيم والأقدار وآثارها الحسان الممتدة على مسارب الزمن لاتقوم بالجاه
والمنصب ولا بالألقاب والمدائح الممنوحة، وإنما قوامها بالفضل والجهاد،
وربط العلم بالعمل، ونبل النفس، والأدب الجم والسمت الحسن، فهذه وأمثالها
هي التي يوزن بها الرجال وتوزن بها الأعمال،و إلى هذا التراث المبارك تشخص
أبصار العالم، ولكل نبأ مستقر.
بعض الناس يجتذبه الشرف والرياسة، فترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، يستعبده
من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يلومه ولو بالحق، فهذا سرعان ما يعود
فنقول له: اتق الله! إن أكرمكم عند الله أتقاكم. قال ربنا عز وجل: {
ْالمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
قال بعض المفسرين: قال ربنا: زينة، فهما زينة وليسا قيمة، فلا يُقَوَّم
بهما الناس، بمعنى أن قَدْرَك لا يقدر بالملابس التي ترتدي، ولا نوع
السيارة التي تستقل، ولا نوع المسكن الذي فيه تعيش، إنما التقويم بالتقوى،
والتقوى في الصدر، لا يعلمها إلا الله، فلعل من تحتقر يكون أفضل منك عند
الله، فلذلك يكون العلاج بفهم ميزان الإسلام للأشخاص.
عن أبي هريرة- رضى الله عنه- أنَّه قال: قيل: يا رسول الله، من أكرم
النَّاس؟ قال: " أتقاهم.."متفق عليه. أخرجه البخاري (3353) في أحاديث
الأنبياء. باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا}. ومسلم (2378)
في الفضائل. باب من فضائل يوسف].
و عن أبي سعيد الخدري قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال
يا رسول الله، أي النَّاس خير؟ قال: "رجلٌ جاهد بنفسه وماله، ورجلٌ في شعب
من الشعاب يعبد ربه ويدع النَّاس من شرّه". 6494) في
الرقاق. باب العزلة راحة من خلاط السوء. ومسلم (1888) في الإمارة. باب فضل
الجهاد والرباط
ومن خيار النَّاس أحاسنهم أخلاقًا، مُعَلِّم النَّاس الخير، متعلم القرآن ومعلمه، المجاهد في سبيل الله..إلخ.
هذه هي المقاييس الإسلامية التى يوزن النَّاس في ظلها، فلا بالغنى ولا
بالجاه، ولا بالصيت ولا بالمركز الاجتماعي، ولا بمثل هذا يكرم المرء، ليتنا
نُقدر النَّاس بطاعتهم لله جل وعلا لا بمالهم من الدنيا، ويترتب على هذا
أصل عظيم من أصول هذا الدين القويم "الولاء والبراء" "الحب والبغض في
الله".
ثالثا: التواضع وذم النفس ومجاهدتها على ذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ حقَّا على الله أن لا يرفع شيئًا
من الدنيا إلا وضعه" [أخرجه البخاري (6501) كتاب الرقاق، باب التواضع].
* قال الحافظ: "فيه إشارة إلى الحث على عدم الترفع، والحث على التواضع، والإعلام بأنَّ أمور الدنيا ناقصة غير كاملة".
* قال ابن بطال: "فيه هوان الدنيا على الله، والتنبيه على ترك المباهاة
والفخر، وأنَّ كل شيء هان على الله فهو في محل الضعة، فحق على كل ذي عقل أن
يزهد فيه، ويقل منافسته في طلبه".
* قال الطبري: "في التواضع مصلحة الدين والدنيا؛ فإنَّ النَّاس لو استعملوه
في الدنيا لزالت بينهم الشحناء، ولاستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة".
اهـ.
وقد قالوا: "تاج المرء التواضع".
حَقيقّ بالتواضع مَن يموتُ ويكفي المرءَ من دنياه قوتُ
فيا هذا سترحلُ عن قريبٍ إلـى قـومٍ كـلامُهــمُ سكــوتُ
يا أخي، إنَّ من أعجبته نفسه وأحوالها لا يثبت له قدم العبودية؛ لأنَّه
مراءِ في أفعاله وأحواله، فهو واقف مع وجوده وإيجاده وعزة في نفسه؛ لذلك لا
ينتفع بعلم ولا ينفعه عمل.
أدريت من أين أُتيت؟ لقد تغافلت عن شهود نعمة الله عليك واشتغلت بعيوب
النَّاس، ورأيت نفسك بعين المدح، وحقها القدح فلا تأمن مكر الله، وألن
جانبك للنَّاس، فإنَّ : "الكبر بطر الحق وغمط النَّاس"[أخرجه مسلم (91)
كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه]. وراقب نفسك بعين الازدراء.
من أخمل النَّفس أحياها ورَوّحها ولـم يبــت طاويًـا منها على ضجـر
إنَّ الرياح إذا اشتدت عواصفهـا فليس ترمي سوى العالي من الشجر
رابعا:الالتزام مع مجموعة متناسبة والحب في الله لا للهوى.
لا شك أنَّ المرء بطبعه يميل لمن يشترك معه في صفة من الصفات؛ ولذلك تنشأ الألفة بين تلك الأرواح المتعارفة.
فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" [أخرجه
مسلم (2638) كتاب البر والصلة والآداب، باب الأرواح جنود مجندة، وعلقه
الإمام البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء. باب الأرواح جنود مجندة].
ولذلك قال أهل العلم: "ما ترى اثنين يتحابان إلا وبينها اتفاق في الصفات الطبيعية، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة".
ولذلك اغتمَّ بعضهم لما علم أنَّ رجلاً من أهل النقصان يحبه، فسُئل عن ذلك فقال: "لا يكون ذلك إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه".
فالتجانس أمر فطري، لكننا نقول هنا إنَّ ذلك لابد له من ضبط وهو الاشتراك
في طاعة الله، فتحب المرء لا تحبه إلا لله، إلا لاجتهاده في مرضاة الله،
فترتبط بمجموعة من الإخوة شأنهم التعاون على الطاعة، تتذاكرون العلم،
تذهبون معًا إلى دروس العلم،و تواظبون على أداء الجماعة في المسجد، كلَّ
منكم يأخذ بيد أخيه.
إخوتاه
لما فقدنا معاني الأخوة، لمَّا افتقدنا أعوان الطاعة تسبب ذلك فيما نشعر به
من الفتور، فهلا عودة إلى سابق العهد! قال صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا
الجنة حتى تؤمنوا، ولاتؤمنون حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيْء إذا فعلتموه
تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" [أخرجه مسلم (54) كتاب الإيمان. باب بيان
أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. وأنَّ محبة المؤمنين من الإيمان، وأنَّ
إفشاء السلام سبب لحصولها].
الشيخ محمد حسين يعقوب
الى كل من يقرأ مواضيعى
الرجاء الدعاء لى ولأهلى بهذا الدعاء
اللهم فك كربنا وسدد ديونا
وارزقنا بالرزق الحلال ووسعه علينا
ومتعنا بالصحة والعافية
آمين يارب