هل القول بأن الملائكة لا تأكل ولا تشرب تشبيه لهم بالله عز وجل ؟
السؤال:
بعض الناس يقول إن القول بأن الملائكة لا تأكل ولا تشرب هو تشبيه لهم بالله عز وجل ، هل هذا صحيح ؟
أرجو توضيح ذلك .
جزاكم الله خيرا .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
أشار القرآن الكريم إلى أن الملائكة من شأنها ألا تأكل ولا تشرب ، وذلك في قول الله
تعالى – في حكاية ضيف إبراهيم عليه السلام - : ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا
تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ) هود/70.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله :
" كفّوا عن أكله لأنهم لم يكونوا ممن يأكله " انتهى من " جامع البيان " (15/387)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه " انتهى من " تفسير
القرآن العظيم " (4/333)
وقد نقل الفخر الرازي اتفاق العلماء على هذا المعنى السابق ، فقال رحمه الله :
" اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، يسبحون الليل والنهار
لا يفترون . وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون ويشربون " انتهى من " مفاتيح الغيب "
(1/76)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ... وهم لا يأكلون ولا يشربون ، بل هم صُمْدٌ ، ليسوا جُوْفا كالإنسان ، وهم
يتكلمون ويسمعون ويبصرون ويصعدون وينزلون - كما ثبت ذلك بالنصوص الصحيحة - وهم مع
ذلك لا تماثل صفاتهم وأفعالهم صفات الإنسان وفعله ؛ فالخالق تعالى أعظم مباينة
لمخلوقاته من مباينة الملائكة للآدميين ؛ فإن كليهما مخلوق ، والمخلوق أقرب إلى
مشابهة المخلوق من المخلوق إلى الخالق سبحانه وتعالى " انتهى من " مجموع الفتاوى "
(5/354)
ثانيا :
ليس في القول بأن الملائكة لا تأكل ولا تشرب تشبيه لها بالله عز وجل ، وذلك من أوجه
عدة دقيقة تتعلق بفهم مسألة التشبيه نفسها :
الوجه الأول :
أن استغناء الملائكة عن الطعام والشراب ليس على وجه الغنى التام عن كل شيء ، الثابت
لله جل جلاله ؛ وإنما على وجه الهيئة الخَلقية التي خلقهم الله عليها ، فاستغناء
الملائكة ناقص لأنه استغناء جائز قام بخَلق الخالق سبحانه وتعالى ، وليس وصفا ذاتيا
واجبا كما هو في حق الرب عز وجل .
الوجه الثاني :
أن كثيرا من المخلوقات لا تحتاج إلى الطعام والشراب ، كالجمادات مثلا ، وظاهر أنه
لا يقال إن في ذلك تشبيها لها بالله عز وجل ، لأن استغناء الجمادات عن الطعام
والشراب استغناء نقص وليس استغناء كمال ، إذ لا شك أنها لنقصها عن المخلوقات الأعلى
درجة منها - وهي النبات والحيوان والإنسان - لم تحتج إلى الطعام والشراب ، وفي هذا
دليل على أن مجرد الاستغناء عن الطعام والشراب ليس دليلا على التشبه بالخالق سبحانه
وتعالى .
الوجه الثالث :
- وهو الوجه الأهم والأدق - أن نفي المثيل عن الله عز وجل ، الوارد في قوله تعالى :
( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الشورى/11، لا يلزم منه
نفي كل قدر ذهني مشترك بين الخالق والمخلوق ، وإنما يعني :
1- نفي اشتراك الخالق والمخلوق في أوصاف الربوبية الخاصة ، كالإلهية ، والأحدية ،
والخالقية ، وغيرها .
2- ويعني نفي اشتراكهما في أوصاف المخلوق الخاصة ، كالموت والحدوث .
3- وتعني نفي مماثلة الخالق والمخلوق في الصفات الكاملة .
4- وتعني نفي مشابهة الخالق والمخلوق في حقيقة هذه الصفات ، وهو " الوجود الخارجي
لها" .
أما أن يستلزم ذلك نفي كل قدر ذهني مشترك في أصل بعض الصفات : فهذا غير صحيح ، وهذا
هو الأصل الذي بنى عليه المعطلة نفي الصفات عن الله جل جلاله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" التشبيه الممتنع إنما هو مشابهة الخالق للمخلوق في :
1- شيء من خصائص المخلوق .
2- أو أن يماثله في شيء من صفات الخالق ، فإن الرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من
خصائص المخلوق .
3- أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله .
4- وكذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه ، بل يمتنع أن يشترك
مخلوقان في شيء موجود في الخارج ، بل كل موجود في الخارج فإنه مختص بذاته وصفاته
القائمة به ، لا يشاركه غيره فيها ألبتة ، وإذا قيل هذان يشتركان في كذا ، كان
حقيقته أن هذا يشابه هذا في ذلك المعنى ، كما إذا قيل هذا الإنسان يشارك هذا في
الإنسانية ، أو يشارك هذا الحيوان في الحيوانية ، فمعناه أنهما يتشابهان في ذلك
المعنى ، وإلا فنفس الإنسانية التي لزيد لا يشاركه فيها غيره ، وإنما يشتركان في
نوع الإنسانية المطلقة ، لا في الإنسانية القائمة به . والإنسانيةُ المشتركةُ
المطلقة هي في الأذهان ، لا تكون في الأعيان مشتركة مطلقة ، فما هو موجود في الخارج
لا اشتراك فيه ، وما وقع فيه الاشتراك هو الكلي المطلق الذي لا يكون كليا مطلقا إلا
في الذهن ، فإذا كان المخلوق لا يشاركه غيره فيما له من ذاته وصفاته وأفعاله ،
فالخالق أولى أن لا يشاركه غيره في شيء مما هو له تعالى .
لكن المخلوق قد يماثل المخلوق ويكافئه ويساميه ، والله سبحانه وتعالى ليس له كفؤ
ولا مثيل ولا سمي " انتهى من " الصفدية " (1/100-101)
وبمثال يسير نقول : الله عز وجل وصف نفسه بأنه ( سميع
بصير )، ووصف الإنسانَ أيضا بأنه سميع بصير في قوله سبحانه : ( إِنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا
) الإنسان/2. وذلك لا يستلزم تماثل صفتي السمع والبصر ما بين الخالق والمخلوق ،
وإنما يعني أن ذهن الإنسان يفهم من معنى السمع قدرا يتصوره في حق الخالق والمخلوق ،
وإن كان يجهل حقيقة ما يناسب الخالق من هذا السمع ، كما أنه يجهل ما يناسب كل مخلوق
من السمع ، حتى يرى هذا المخلوق ، أو يوصف له .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ليس مطلق الموافقة في بعض الأسماء والصفات الموجبة نوعا من المشابهة تكون مقتضية
للتماثل والتكافؤ ، بل ذلك لازم لكل موجودين ، فإنهما لا بد أن يتفقا في بعض
الأسماء والصفات ويشتبها من هذا الوجه ، فمن نفى ما لا بد منه كان معطلا ، ومن جعل
شيئا من صفات الله مماثلا لشيء من صفات المخلوقين كان ممثلا .
والحق هو نفي التمثيل ونفي التعطيل ، فلا بد من إثبات صفات الكمال المستلزمة نفى
التعطيل ، ولا بد من إثبات اختصاصه بما له على وجه ينفي التمثيل .
ولكن طائفة من الناس يجعلون التمثيل والتشبيه واحدا ويقولون يمتنع أن يكون الشيء
يشبه غيره من وجه ويخالفه من وجه ، بل عندهم كل مختلفين كالسواد والبياض فإنهما لم
يشتبها من وجه ، وكل مشتبهين كالأجسام عندهم يقولون بتماثلها فإنها مماثلة عندهم من
كل وجه لا اختلاف بينهما إلا في أمور عارضة لها ، وهؤلاء يقولون كل من أثبت ما
يستلزم التجسيم في اصطلاحهم فهو مشبه ممثل ، وهذه طريقة كثير من أهل الكلام من
المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى في المعتمد وغيره ، وأما جمهور
الناس فيقولون إن الشيء قد يشبه غيره من وجه دون وجه ، وهذا القول هو المنقول عن
السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره " انتهى باختصار يسير من " الصفدية " (1/101-102)
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب