العالم
يقف على شفا حفرة من النار، والإنسانية تخطو بسرعة إلى الضلال والشقاء،
ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتم أربعين سنة من عمره.. هنا ظهرت
بشريات الصبح وطلائع السعادة، وآن أوان البعثة، فتم أعظم لقاء في حياة
البشرية، لقاء جبريل عليه السلام مع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلقد
أشرق نور الإسلام، ونزل جبريل عليه السلام بأمر الواحد الأحد، يحمل أعظم
رسالة، إلى أفضل رسول ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ ليغير الحياة، ويأخذ بيد
الإنسانية التائهة، وينشر الإيمان والعدل، والتوحيد والنور .
ولنستمع إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهي تحدثنا عن بداية نزول وإشراق الوحي فتقول: (
أول ما بدئ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الوحي هو الرؤيا
الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِب إليه
الخلوة، وكان يخلو في غار حراء، يتحنث (يتعبد) فيه الليالي ذوات العدد،
قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء،فجاءه الملَكفقال: اقرأ، قلت:
ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني فقال
اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني
فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطنى الثالثة ثم أرسلنيفقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } (العلق3:1)، فرجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجف فؤاده، فدخل على زوجته خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ، فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة : لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَََل، وتكَسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل
ابن عمها، وكان امرًأً تنصر بالجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني من
الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله له أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت
له خديجة : يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة : يا ابن أخي ما ذا ترى؟ فأخبره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما رأى، فقال له ورقة
: هذا الناموس( جبريل عليه السلام) الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني
فيها جذعا (شابا)، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال: أَوَ مُخرجي هم؟،
قال نعم، لم يأت رجل قَط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك
نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي ) ( البخاري ) .
لا شك أن هذا الحدث يحمل في طياته العديد من الدلالات والمعاني التي ينبغي أن نقف معها للتأمل والاعتبار، وهي كثيرة منها:
معجزة
الوحي، فحقيقة الوحي معجزة خارقة للسنن الطبيعية، حيث أُوحي إلى النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ القرآن الذي هو كلام الله، وقد ترتب عليه جميع حقائق
الدين بعقائده وتشريعاته وأخلاقه، ولذلك اهتم المستشرقون والمشركون من
قبلهم بالطعن والتشكيك في حقيقة الوحي، وحاولوا أن يحرفوا ظاهرة الوحي عن
حقيقتها وعما جاءنا في صحاح السنة الشريفة، وحدثنا به المؤرخون الثقات،
فقائل يقول : حديث نفس، وآخر يقول: إشراق روحي وإلهام .
والحقيقة
تقول إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو في غار حراء فوجئ بجبريل
أمامه يراه بعينيه، وهو يقول له اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمراً
ذاتياً داخلياً مرده إلى حديث النفس، وإنما هو استقبال وتلقِ لحقيقة
خارجية لا علاقة لها بالنفس والإلهام، ثم إن ضم جبريل إياه وإرساله ثلاث
مرات قائلاً في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيداً لهذا التلقي الخارجي، ومبالغة
في نفي ما قد يُتصور من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً أو حديث نفس، مما
يدعيه محترفو التشكيك في الإسلام والتلبيس على المسلمين، من أعداء الإسلام
ومن سار وراءهم . . ولقد أصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخوف مما
سمع ورأى، وأسرع إلى بيته يرجف فؤاده ، وهذا يدل على أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - لم يكن متشوقاً للرسالة التي سيُكَلف بثقلها وتبليغها للناس،
وقد قال الله تعالى تأكيداً لهذا المعنى: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ
مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } (الشورى:52) .
ومن دلالات بداية نزول الوحي ومعانيه التي ظهرت بصورة واضحة قيمة العلم ومنزلته في الإسلام، فأول كلمة هي الأمر بالقراءة { اقرأ باسم ربك }،
وفي ذلك إشادة بالعلم وفضله ، والقلم وخطره، فللعلم منزلته في بناء
الأفراد والشعوب والأمم، ومازال الإسلام يحث على العلم ويأمر به ، ويرفع
درجة أهله ، ويميزهم على غيرهم ، قال تعالى :{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير }(المجادلة: من الآية11)، وقال سبحانه :{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ }(الزمر:
من الآية9).. والعلم النافع من الله، الذي علم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم
يعلم ، ومتى حادت البشرية وابتعدت عن منهج الله ، رجع علمها وبالا عليها،
وكان سببا في إبادتها . .
كما ظهر أيضا مع نزول الوحيفضل الرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو تُرى له، فقد كانت الرؤيا الصالحة بداية إشراق شمس النبوة ، ففي حديث عائشة ـ
رضي الله عنها ـ، أن أول ما بدئ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من
الوحي الرؤيا الصالحة ، وتسمي أحيانا الرؤيا الصادقة، والمراد بها الرؤيا
الطيبة التي ينشرح لها الصدر وتزكو بها الروح، والرؤيا الصالحة للمؤمن من
البشرى في الحياة الدنيا، فقد ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه
قال: ( أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تُرَى له )( ابن ماجه )..
ومن
خلال مرحلة بداية نزول الوحي علمنا بركة الخلوة من أجل العبادة، واعتزال
أصحاب السوء والمعاصي، يدل على ذلك قول الله تعالى عن إبراهيم ـ عليه
السلام ـ: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً } (مريم:48)،وقبيل
النبوة حُبِب إلى نفس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخلوة ، فاتخذ غار
حراء مكانا للعبادة، لينقطع عن مشاغل الحياة ومخالطة الخلق، وفي ذلك إشارة
إلى حاجة المسلم إلى بعض الوقت من الخلوة، يتفكر في مظاهر الكون وآياته،
ودلائل عظمة الله، ومحكم تدبيره، وعظيم إبداعه، ولذلك كان من سنن النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ سنة الاعتكاف في المسجد، لتنقية القلب من الشوائب
والآفات، ومحاسبة النفس.. والداعية إلى الله بوجه خاص بحاجة ماسة إلى زاد
يعينه على مواصلة سيره ودعوته، ومواجهة العوائق والعقبات. .
فالتكذيب
والإخراج والإيذاء سنة من سنن الأمم مع من يدعوهم إلى الله عز وجل، وقد
ظهر هذا المعنى بصورة جلية من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أوَ مخرجي هم ؟ )، وقول ورقة بن نوفل : لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي. ولقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى في آيات كثيرة، كما قال تعالى عن قوم لوط:{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }(النمل:56)، وعن قوم شعيب :{
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ
يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } (الأعراف:88)، وقال تعالى:{
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ
أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } (إبراهيم:13) .
كما أن هذا الحدث أشار إلى أهمية وفضل الزوجة الصالحة ( خديجة رضي الله عنها): فالزوجة لها دور عظيم في نجاح زوجها في مهمته في هذه الحياة، وأمنا خديجة ـ
رضي الله عنها ـ كانت مثالا للزوجة الصالحة التي تعين زوجها، وتقف إلى
جانبه، وتفرج همه بكلمة طيبة وموقف حسن، وقد اتضح ذلك في وقوفها ـ رضي الله
عنها ـ بجانب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يواجه الوحي أول مرة، وما
قامت به مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياتها كلها، ومن ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :( الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا الزوجة الصالحة ) ( مسلم ) . وورد في فضل خديجة ـ رضي الله عنها ـ، أن جبريل عليه السلام، قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( هذه خديجة أقرئها السلام من ربها، وأمره أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب (لؤلؤ أو ذهب)، لا صخب فيه ولا نَصَب )(متفق عليه). .
لقد
كانت لحظة بدء نزول الوحي حدثا ضخما بحقيقته وآثاره في حياة البشرية، وهذه
اللحظة تُعد ـ بغير مبالغة ـ أعظم لحظة مرت على الأرض في تاريخها الطويل،
فقد تكرم الله عز وجل على البشرية باختيار محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ
ليكون نوره ورسوله إليها..