هل خلق الله الأشياء وقدَّر فيها خواصها وطبائعها أم إنه تعالى يخلقها عند الحدث ؟
السؤال:أخبرنا أستاذ المعهد
الشرعي : أن الله لم يخلق في الأجسام خواصها ، فمثلاً : المغناطيس لا يحتوي
جاذبية ، والنار لا تحتوي صفة الإحراق ، لكن الله سبحانه وتعالى عندما يقع
الحدث يخلق الصفة إن أراد ، فمثلاً عند تقريب مغناطيسين لمسافة معينة يخلق
الله فعل الجذب ، وعند اقتراب يدك من النار يخلق الله فعل الإحراق ، ودليل
ذلك : أن إبراهيم عليه السلام دخل النار ولم يخف لأنه على يقين بأن الله
لن يخلق فعل الإحراق ، وأيضاً كما حدث مع الصحابة في الحرب مع الفرس عندما
اجتازوا النهر ولم يخلق الله فعل الغرق أو حتى فعل البلل بالماء فاجتازوا
النهر دون أن يبتل أي شيء منهم ، وقال : لذلك على المسلم أن لا يخاف من
الأشياء أي مثلا لا نخاف من الأدوات الحادة ؛ لأن الله قادر على أن لا يخلق
فعل الذبح .
وأنا غير مقتنع بهذا الكلام ، لأنني متذكر أن الله خلق الأجسام وخلق فيها
خواصها وجعل للكون سنناً يسير عليها ، لكني لم أجد له دليلاً شرعيّاً ، ولم
أجد كلاماً يرد عليه ، فلو توضحون لي الأمر مع الدليل ، وجزاكم الله خيراً
.
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
ما نقلتَه - أخي السائل – عن ذاك الأستاذ هو ما يقول به الأشاعرة موافقة للجبرية !
وهذه المسألة يسمونها " السببية " وخلاصتها : نفي تأثير الأسباب بمسبَّباتها ، فلا
ارتباط لسبب بمسبَّب ، وإنما العلاقة بينهما علاقة اقتران ، فالنار – عندهم – لا
تحرق بطبعها ولا هي علة الإحراق ، وإنما يخلق الله تعالى فيها الإحراق عند التقائها
بشيء قابل للاحتراق ، فالذي يحرق هو الله ، والنار ليس لها أي تأثير ، والسكين –
عندهم - لا تقطع بطبعها ولا هي علة القطع ، إنما يخلق الله تعالى فيها القطع عند
مرورها على الشيء القابل للقطع ، فالذي يقطع هو الله ، والسكين ليس لها أي تأثير ،
وهكذا يقولون إن الإنسان لا يشبع بالأكل بل عند الأكل ! ولا يروى بالشرب بل عند
الشرب ! وقد جعلوا ذلك من التوحيد ، وحكموا على المخالف بالبدعة والضلالة والكفر .
قال أحمد بن محمد العدوي الأشعري المشهور بـ " الدردير " :
تَخَالُفٌ للغيْرِ وحدانيةْ *** في الذَّاتِ أو صِفَاتِهِ العليَّةْ
والفِعلِ فالتأثيرُ ليسَ إلا ** للواحِدِ القَهَّار جلَّ وعَلا
ومن يَّقُل بالطَّبعِ أو بالعلَّةْ *** فذاكَ كُفرٌ عند أهلِ المِلَّةْ
ومَن يَقُل بِالقُوَّةِ المُودَعَةِ *** فَذَاكَ بِدْعِيٌّ فلا تَلتَفِتِ
وقال في شرحه :
يعني أنَّهُ تعَالى مُتَّصفٌ بوحدانيَّةِ الأفعالِ ، فليس ثمَّ مَن له فعلٌ من
الأفعال سِوَاهُ تعالَى ، إذ كُلُّ ما سِوَاهُ عاجزٌ لا تأثيرَ له في شيءٍ من
الأشياء ... .
إلى أن قال :
فلا تأثيرَ للنار في الإحراقِ ، ولا للطَّعامِ في الشَّبَعِ ولا للماء في الرّيِّ ،
ولا في إنباتِ الزَّرعِ ، ولا للكواكبِ في إنضَاجِ الفواكِه وغيرِهَا ، ولا
للأفلاكِ في شيءٍ من الأشياء ، ولا للسِّكِّين في القطعِ ، ولا لشيءٍ في دفع حَرٍّ
أو بردٍ أو جلبِهِمَا وغيرِ ذلك ، لا بالطَّبعِ ولا بالعلَّةِ ولا بقُوَّةٍ
أودَعَهَا اللهُ فِيها ، بل التأثيرُ في ذلك كُلُّهُ لله تعالى وحدَهُ بمحضِ
اختيارِهِ عند وُجُودِ هذه الأشيَاءِ .
انتهى باختصار من" الخريدة البهية وشرحها " ( ص 59 - 63 ).
ثانيا :
قد ردَّ أئمة السنَّة على مثل هذا القول المتهافت ، وبيَّنوا أن الله تعالى خلق
الأشياء وخلق تأثيرها فيها ، فليس ثمة خالق مع الله ، والتأثيرات ليست خارجة عن
إرادة الله تعالى ، والأسباب ليست فاعلة بذاتها ، بل هي فاعلة بأمر الله وقدرته .
قال ابن القيم - رحمه الله - :
"وأما الوقوف مع الأسباب واعتقاد تأثيرها فلا نعلم من أتباع الرسل من قال إنها
مستقلة بأنفسها حتى يحتاج إلى نفي هذا المذهب ، وإنما قالت طائفة من الناس وهم
القدرية : إن أفعال الحيوان خاصة غير مخلوقة لله ولا واقعة بمشيئة ، وهؤلاء هم
الذين أطبق الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على ذمِّهم وتبديعهم وتضليلهم وبيَّن
أئمة السنة أنهم أشباه المجوس وأنهم مخالفون العقول والفطر ونصوص الوحي ، فالتلبيس
في الحقيقة حصل لهؤلاء ولمنكري الأسباب في القوى والطبائع والحكم ، ولُبس على
الفريقين الحق بالباطل ... .
إلى أن قال :
ولا تكن ممن غلظ حجابه وكثف طبعه فيقول : لا نقف معها وقوف من يعتقد أنها مستقلة
بالإحداث والتأثير وأنها أرباب من دون الله ، فإن وجدتَ أحداً يزعم ذلك ويظن أنها
أرباب وآلهة مع الله مستقلة بالإيجاد ، أو إنها عون لله يحتاج في فعله إليها ، أو
إنها شركاء له : فشأنَك به ؛ فمزِّق أديمَه ، وتقرَّب إلى الله بعداوته ما استطعت ،
وإلا فما هذا النفي لما أثبته الله ، والإلغاء لما اعتبره ، والإهدار لما حققه ،
والحط والوضع لما نصبه ، والمحو لما كتبه والعزل لما ولاه ؟! فإن زعمت أنك تعزلها
عن رتبة الإلهية ؛ فسبحان الله ، من ولاها هذه الرتبة حتى تجعل سعيك في عزلها عنها
؟! .
والله ما أجهل كثيراً من أهل الكلام والتصوف حيث لم يكن عندهم تحقيق التوحيد إلا
بإلغائها ومحوها وإهدارها بالكلية ، وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوى ولا طبائع
ولا غرائز لها تأثير موجبة ما ، ولا في النار حرارة ولا إحراق ، ولا في الدواء قوة
مُذْهِبة للداء ، ولا في الخبز قوة مشبعة ، ولا في الماء قوة مروية ، ولا في العين
قوة باصرة ، ولا في الأنف قوة شامَّة ، ولا في السم قوة قاتلة ، ولا في الحديد قوة
قاطعة ، وأن الله لم يفعل شيئاً بشيء ، ولا فعل شيئاً لأجل شيء ! فهذا غاية توحيدهم
الذي يحومون حوله ويبالغون في تقريره ، فلعمْر الله لقد أضحكوا عليهم العقلاء
وأشمتوا بهم الأعداء ، ونهجوا لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم وجنوا على الإسلام
والقرآن أعظم جناية ، وقالوا : نحن أنصار الله ورسوله ، الموكَلون بكسر أعداء
الإسلام وأعداء الرسل ، ولعمْر الله لقد كسروا الدِّين ، وسلطوا عليه المبطلين ،
وقد قيل : " إياك ومصاحبة الجاهل فإنه يريد أن ينفعك فيضرك" .
فقف مع الأسباب حيث أُمرت بالوقوف معها ، وفارقها حيث أمرت بمفارقتها ، كما فارقها
الخليل .. حيث عَرض له جبريل أقوى الأسباب فقال : " ألك حاجة ؟ " فقال : " أما إليك
فلا "
انتهى من" مدارج السالكين " ( 3 / 402 – 409 ) .
ثالثاً:
الذي دعا الأشاعرة للقول بهذا القول المبتدع والذي يخالف الشرع والفطرة والعقل :
أمران ، إثبات المعجزات ، وإثبات قدرة الله الشاملة .
قال الشيخ عبد الرحمن المحمود – حفظه الله – عند الكلام على اعتقاد أبي حامد
الغزالي - :
"تأكيده لإنكار السببيَّة ، وهي مسألة مشهورة في المذهب الأشعري ، وقد قال بها
الأشاعرة وأكدوها لأمرين :
الأول : إثبات المعجزات ، التي هي في الحقيقة خوارق للعادات المعهودة ، فحتى تربط
هذه المعجزات بالله وقدرته ، بحيث يقلب العصا حيّة ويشق القمر وغيرها من الأمور
الخارقة ، لا بدَّ من ربط هذا بإنكار التلازم الذي يدعيه الفلاسفة وغيرهم بين السبب
والمسبب .
والثاني : إثبات قدرة الله الشاملة ، وإبطال التولد الذي قال به المعتزلة ، فالفاعل
والخالق لكل شيء هو الله تعالى ، وهذا بناء على مذهبهم في القدر الذي يميل إلى
الجبر" انتهى من" موقف ابن تيمية من الأشاعرة " ( 2 / 627 ) .
ثالثاً:
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله - :
"ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنَّة لزاد على عشرة آلاف موضع ،
ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ، ويكفي شهادة الحس والعقل والفِطَر ، ولهذا قال مَن
قال مِن أهل العلم : تكلم قوم في إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم ،
وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الرب ونعوت
كماله وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لملائكته وعباده ،
وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد ، فما أفادهم إلا تكذيب الله ورسله وتنزيهه عن كل
كمال ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل ، ... .
ثم مِن أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد : إيهام الناس أن التوحيد لا
يتم إلا بإنكار الأسباب ، فإذا رأى العقلاء أنه لا يمكن إثبات توحيد الرب سبحانه
إلا بإبطال الأسباب ، ساءت ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به ، وأنت لا تجد كتاباً من
الكتب أعظم إثباتاً للأسباب من القرآن .
ويا لله العجب ؛ إذا كان الله خالق السبب والمسبَّب ، وهو الذي جعل هذا سبباً لهذا
، والأسباب والمسبَّبات طوع مشيئته ، وقدرته منقادة لحكمه إن شاء أن يبطل سببية
الشيء أبطلها كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم ، وإغراق الماء على كليمه
وقومه ، وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها ، وإن شاء
خلَّى بينها وبين اقتضائها لآثارها ، فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا ، فأي قدح يوجب
ذلك في التوحيد ؟! وأي شرك يترتب على ذلك بوجه من الوجوه ؟! ولكن ضعفاء العقول إذا
سمعوا أن النار لا تحرق ، والماء لا يُغرق ، والخبز لا يُشبع ، والسيف لا يَقطع ،
ولا تأثير لشيء من ذلك البتة ، ولا هو سبب لهذا الأثر ، وليس فيه قوة ، وإنما
الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا : قالت هذا هو
التوحيد وإفراد الرب بالخلق والتأثير ! ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن
بالتوحيد ، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به كما تراه عِيانا في كتبهم ينفِّرون
به الناس عن الإيمان"
انتهى من" شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل " ( ص 189 ) .
وبما ذكرنا يتبين لك – أخي السائل – ضعف هذا القول ،
وبطلان ما بنوه عليه ؛ فعسى أن يكون ذلك المدرس قد قرأه في بعض الكتب ، ولم يدر
حقيقته ولوازمه .
وما ذكره من إلقاء إبراهيم عليه السلام يرد عليه ؛ حيث إن الأصل أن النار فيها
الإحراق ولذا أعدَّها قومه له عليه السلام ولم يعدوا له ماء ليحرقوه به ! وقد بيَّن
الله تعالى أنه عطَّل تلك الصفة في تلك النار فخاطبها بأن تكون برداً وسلاماً على
إبراهيم ، وهذا ليس لكل نار بل لتلك المخاطَبة ، ولا يملك أحد أن ينزع تلك الصفة
منها إلا الله تعالى .
ومثله يقال في صفة الإغراق لماء البحر لمن شاء الله تعالى أن يعطلها في حقه ، فهو
تعالى مالك الأسباب ومسبباتها ، وتلك الحوادث تدل على وجود حاصية الإحراق في النار
والإغراق في الماء ، لكن الله تعالى هو الذي نزعها منهما في الحالتين ، وهذا يدل
على وجود تلك الصفات في تلك الأشياء .
فأهل السنَّة هم أسعد الناس بالأدلة وهم أوفر الناس عقولاً وأقومهم فطرة ، لذا لم
ينكروا نصوص الشرع ، ولم يأتوا بما يَضحك منه العقلاء ، ولم يقولوا بما يخالف
الفطرة ، بل وقفوا مع الأسباب الموقف الشرعي الموافق لكل ذلك ، ولذا فمن أراد أن
يزيد في الإحراق أجَّج ناره وزاد من لهيبها ، ومن أراد دقة القطع رقَّق حد السكين ،
ومن أراد قوة القطع صلَّب الحديد في السيف ، وكل ذلك أخذاً بما جعله الله تعالى من
خاصيات في تلك الأشياء التي خلقها على كيفية معينة ، ومن يقول بأن الزجاج الرقيق
انكسر مع رمي الحجر العظيم لا بسببه : فقد خالف الشرع وناقض العقل والفطرة .
وإليك ملخصاً نافعاً في موقف الفرق من الأسباب والقوى والطبائع في الأشياء :
قال ابن القيم – رحمه الله - :
"والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام :
1. منهم مَن بالغ في نفيها وإنكارها ، فأضحك العقلاء على عقله ، وزعم أنه بذلك ينصر
الشرع فجنى على العقل والشرع وسلط خصمه عليه .
2. ومنهم مَن ربط العالم العلوي والسفلي بها ، بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار
ومدبر لها يصرفها كيف أراد فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه ويكف قوة هذا
عن التأثير مع بقائها ويتصرف فيها كما يشاء ويختار .
وهذان طرفان جائران عن الصواب .
3. ومنهم مَن أثبتها خلقاً وأمراً قدراً وشرعاً ، وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله
به من كونها تحت تدبيره ومشيئته وهي طوع المشيئة والإرادة ومحل جريان حكمه عليها
فيقوي سبحانه بعضها ببعض ، ويبطل إن شاء بعضها ببعض ، ويسلب بعضها قوته وسببيته
ويعريها منها ويمنعه من موجبها ، مع بقائها عليه ؛ ليعلم خلقُه أنه الفعَّال لما
يريد ، وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته ، وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق
ببيت العنكبوت مع كونه سبباً .
وهذا باب عظيم نافع في التوحيد وإثبات الحكم ، يوجب للعبد إذا تبصر فيه الصعود من
الأسباب إلى مسبِّبها ، والتعلق به دونها ، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه ، وأنه
إذا شاء جعل نافعها ضارّاً ، وضارَّها نافعاً ، ودواءها داءً ، وداءها دواء ،
فالإلتفات إليها بالكلية : شرك مناف للتوحيد ، وإنكار أن تكون أسباباً بالكلية :
قدح في الشرع والحكمة ، والإعراض عنها مع العلم بكونها أسباباً : نقصان في العقل ،
وتنزيلها منازلها ومدافعة بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض وشهود الجمع في تفرقها
والقيام بها : هو محض العبودية والمعرفة وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة ،
والله أعلم" انتهى من" مدارج السالكين " ( 1 / 243 ، 244 ) .
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب