نصّ الحديث
عن أبي بن كعب
رضي الله عنه قال : انتسب رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقال أحدهما : " أنا فلان بن فلان ، فمن أنت لا أم لك ؟ " ، فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - : ( انتسب رجلان على عهد موسى
عليه السلام ، فقال أحدهما : " أنا فلان بن فلان - حتى عد تسعة - ، فمن
أنت لا أم لك ؟ " ، قال : " أنا فلان بن فلان بن الإسلام " ، فأوحى الله
إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين :
أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار ، فأنت عاشرهم ، وأما
أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة ، فأنت ثالثهما في الجنة ) رواه الإمام أحمد .
معاني المفردات
لا أم لك: كلام جرى مجرى المثل، ومعناه : أنت عندي ممن يستحق أن يدعى عليه بفقد أمه
تفاصيل القصة
{ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا }
( الحجرات : 13 ) ، خطابٌ إلهيٌّ يهتف بالبشريّة كلّها على اختلاف مشاربها
وتنوّع مجتمعاتها ، ليبيّن أن اختلافها في الأجناس والألوان ، وفي الأعراق
والأوطان ، إنما هو سنّة من سنن الحياة ، وتقديرٌ من الحكيم الخبير ،
ليجعل من ذلك التنوّع سبيلاً إلى تآلف الشعوب وتعارفها ، وتوثيق الصلات بين
أفرادها.
والله
سبحانه وتعالى أقام التقوى أساساً للمفاضلة بين الناس دون غيرها من
الأسباب ، ويأبى البعض إلا أن يطرح هذا الميزان الذي اختاره الله جانباً ،
ويرفع لواء الجاهليّة ، وتفاخرها الباطل بالآباء والأجداد ، ويجمع إليه
تحقير الآخرين وذمّهم ، واستصغار شأنهم .
وتاريخ
هذه العصبيات المَقيتة طويل ، يمتدّ جذروه إلى الأمم السابقة ، فقد رصد
لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحد المواقف التي جرت وقائعها في
الأمة اليهوديّة ، وكان فيها الافتخار بالنسب على حساب الدين والأخلاق ،
وقد أخبر بها عليه الصلاة والسلام في معرض تحذيره المسلمين من ذلك الخلق
الذميم .
ومدار
هذه القصّة على رجلين ، افتخر أحدهما بسلالة آبائه وأجداده ، ولم يكن
اعتزازه بهم مبنياً على صلاحٍ ودين عُرفوا به ، أو قيمٍ أخلاقيّةٍ ومباديء
نبيلةٍ اتّصفوا بها ، بل جعل أساسها علوّ النسب ، ولذلك نجد – بنصّ الحديث –
تجاهله لكفر أسلافه الذين افتخر بهم .
ومما
زاد من شناعة موقفه وعظم خطيئته ما صدر منه من ألفاظ الاحتقار والازدراء ،
فقد قال لصاحبه : " فمن أنت لا أم لك ؟ " ، وفي المقابل جاء جواب الآخر
وردّه دالاًّ على حكمته ورجاحة عقله ، فقد أجابه إجابةً ذكيّة تذكّر بحقيقة
المفاضلة بين الناس : " أنا فلان بن فلان بن الإسلام " ، ونلحظ اكتفاءه
بذكر اثنين من آبائه لأنهما عاشا مؤمنين ، ثم نسبة نفسه إلى الإسلام ، وهو
الوصف الأهمّ الذي تتوارى عنده بقيّة الأوصاف الأخرى .
وهنا ينزل الوحي الإلهي على سيّدنا موسى
عليه السلام ليفصل في القضيّة ويبيّن المكانة الحقيقيّة لكل منهما : " أما
أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار ، فأنت عاشرهم ، وأما أنت
يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة ، فأنت ثالثهما في الجنة " .
وقفات مع القصّة
إن
القضيّة الأساسيّة التي أراد الحديث النبويّ تحقيقها وتثبيتها في قلوب
المؤمنين هي تعميق رابطة الأخوة بينهم ، وجعلها أوثق العُرى وآكد الصلات ،
ولا يكون الحفاظ على تلك الأخوة إلا بالنهي عن كلّ ما يُضعف بنيانها
الإيماني ويُوهي نسيجها الاجتماعي ، وذلك من خلال قطع التفاخر بالأنساب
والتعصّب للقبيلة ، لما يسبّبانه من إشعالٍ للعداوات ، وتفريق للجماعات ،
وإثارة للنعرات والخصومات .
من أجل ذلك ، أولى النبي – صلى الله عليه وسلم – اهتمامه بهذه القضيّة في عددٍ من الأحاديث ، منها قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن الله أوحى إلي أن توضعوا حتى لايبغي أحد على أحد ، ولا يفخر أحد على أحد ) رواه مسلم ، وعدّ النبي – صلى الله عليه وسلم – التفاخر بالأنساب من أخلاق الجاهلية فقال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ) رواه مسلم .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ( إنَّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد ، وإنَّما أنتم ولد آدم ، ليس لأحد على أحد فضل إلاَّ بالدين أو عمل صالح ) رواه أحمد .
ويوم فتح مكة خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قائلاً :
( يا أيها الناس ، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية – أي تفاخرها -
وتعاظمها بآبائها ؛ فالناس رجلان : برٌّ تقي كريم على الله ، وفاجر شقي
هيّن على الله ، والناس بنو آدم ، وخلق الله آدم من تراب ) رواه الترمذي .
بل شدّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في التحذير من هذا المسلك فقال :
( ليدعنَّ رجالٌ فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكوننّ أهون
على الله من الجعلان – وهي نوعٌ من أنواع الحشرات - التي تدفع بأنفها
النتن ) رواه أبو داود .
وحين
اختصم رجلٌ من المهاجرين مع آخرين من الأنصار ، فقال الأنصاري : "
ياللأنصار " ، وقال المهاجري : " ياللمهاجرين " ، وبلغ ذلك النبي – صلى
الله عليه وسلم – فقال : ( ما بال دعوى الجاهلية ؟ ، دعوها فإنها منتنة ) متفق عليه .
على
أن تلك الأحاديث لا تعني الدعوة إلى إهمال الأنساب وتضييعها ، إنما
المذموم هو ما تؤول إليه من ممارسات جاهليّة وعصبيّاتٍ قبليّةٍ تعكّر صفو
الأخوة بين المؤمنين وتُحدث الكراهيّة والشحناء بينهم ، فتعلّم الأنساب شيء
، والتفاخر بها شيءٌ آخر ، وقد صحّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله :
( تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ) رواه الترمذي .
ومن
اللفتات اللطيفة التي تحسن الإشارة إليها هنا ، أن النبي – صلى الله عليه
وسلم – كان يعتمد تقسيم جيوشه أحيانا على أساسٍ قبليّ ، ليكون عاملاً من
عوامل إذكاء روح المنافسة الشريفة والحماسة في القتال ، كما حدث في غزوة
بدرٍ حينما قسّم الصحابة إلى ثلاثة ألوية ، لواءٌ للأوس و لواءٌ للخزرج
ولواءٌ للمهاجرين ، وكما حدث كذلك يوم فتح مكّة ، فهو إذاً توجيهٌ نبوي
متميّز للانتماء القبلي وتوظيفٌ له على أحسن الوجوه .
وأخيراً
: فإنّ أمّة محمد – صلى الله عليه وسلم – نالت عزّتها ومكانتها بالإسلام
فحسب ، ومن ابتغى العزة بغير هذا الدين أذلّه الله ، وصدق الشاعر إذ قال :
إن لم تكن بفعال نفسك ساميـا لم يغن عنك سمـو من تسمـو به
ليس القديم على الجديد براجـع إن لـم تجـده آخـذاً بنصـيبه